الحديث السادس عشر
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ يَعْلَمُ النّاسُ مَا في النِّدَاءِ والصّفِّ الأوّلِ ثُمّ لمْ يَجدُوا إلّا أنْ يَسْتَهِمُوا عَليه لاسْتَهَمُوا، ولوْ يعْلَمونَ ما في التَّهْجِيرِ لاسْتَبقُوا إليه، ولوْ يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأَتَوْهُما ولوْ حَبْوًا» أخرجه البخاري ومسلم[].
راوي الحديث:
سبقتْ ترجمته في الحديث الرابع عشر، ويضاف إليها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: «كنتُ أدعو أُمّي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أُمّ أبي هريرة.
فقال رسول الله صلى عليه وسلم: «اللهم أهدِ أُمّ أبي هريرة» فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم- ، فلما جئت فصرتُ إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعتْ أمّي خشف قدميّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلتْ ولبستْ درعها، وعجلتْ عن خمارها، ففتحتِ الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
قال: فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أمّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا. قال: قلت: يا رسول الله ادعُ الله أن يُحبّبني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويُحبّبهم إلينا، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «
اللهم حبِّبْ عُبَيْدك هذا - يعني: أبا هريرة - و
أُمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين» فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني، إلا أحبّني»
[].
معاني الكلمات:
1- النداء: الأذان.
2- يستهموا: يقترعوا.
3- التهجير: التبكير.
4- العتمة: صلاة العشاء.
5- حبوًا: مشيًا على اليدين والركبتين - أوْ زحفًا -.
الشـرح:
يبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بعض الفضائل المتعلقة بالأذان والصلاة، «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول» أي لو يعلمون ما في الأذان، والصف الأول من الأجر العظيم: «ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا..» ثم لم يجدوا حلًا مرضيًا لهم إلا القرعة لفعلوا ذلك.
«ولو يعلمون ما في التهجير..»، وأيضًا لو علموا ما في التبكير إلى الصلاة من الفضل العظيم لاستبقوا إليه، وأيضًا «لو يعلمون ما في العتمة..» أي: صلاة العشاء «والصبح» لأتى إليها الناس ولو زحفًا لعظم ما فيهما من الأجر.
وهما أثقل الصلاة على المنافقين «
ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلًا يؤمّ الناس، ثم آخذ شعلًا من نار فأحرّق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد»
[].
وقد ورد في فضل المذكورات في الحديث أحاديث كثيرة منها: ففي الأذان: قوله - صلى الله عليه وسلم- : «
المؤذنون أطول الناس أعناقْا يوم القيامة»
[.
قال العلماء: والحكمة في طول أعناقهم - والله أعلم - حتى لا يلجمهم العرق. ومنها: «
لا يسمع مدى صوت المؤذّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلا شهدَ له يوم القيامة»
[، ولذا قال عمر - رضي الله عنه -: «لو كنت أطيق الأذان مع الخليفا (
الخلافة) لأذّنت»
[. وقال لرجل:
من مؤذنكم اليوم؟ قال: موالينا وعبيدنا. فقال: إن ذلك بكم لنقص كبير
].
وذكر البخاري في صحيحه تعليقًا: «أن أقوامًا اختلفوا في الأذان فأقرعَ بينهم سعد»
[. يعني ابن أبي وقاص وذلك يوم القادسية. «
والصف الأول» وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم - بأن «
خير صفوف الرجال أولها»
[].
قال العلماء: في الحضّ على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين»
[].
وسبق في شرح الحديث الخامس ذكر بعض القصص عن السلف في حرصهم على المبادرة إلى الصف الأول.
«لاستهموا»، أي: اقترعوا، وفي رواية عند مسلم: «لكانت قرعة».
«ولو يعلمون ما في التهجير»: قيل: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر أول وقتها، لأنه مشتق من الهاجرة وهي شدة الحرّ. وقيل: المراد التبكير إلى الصلاة مطلقًا.
«لاستبقوا إليه» ولم يقل: لاستهموا؛ لأن الاقتراع يكون حيث الاختيار، أما والأمر ميسر للجميع فهنا المبادرة «فاستبقوا الخيرات».
«ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا» أي كما يحبوا الصغير، ولكن غُيّبَ الأجر في هذه الأعمال ليشتدّ الحرص عليها.
ومن العجب أن تجد من حرص الكثير من الناس على أمور الدنيا والسعي لها ما لا تجده منهم عند طلب أمور الآخرة، فالمنبّه يُضبط على وقت الدوام، أمّا صلاة الفجر فعند الاستيقاظ، والله غفور رحيم. وهو جل وعلا كذلك، وأيضًا: شديد العقاب. قال أبو حازم سلمة بن دينار رحمه الله: «
عجبًا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة ويدعون أن يعملوا لدارٍ يرحلون إليها كل يوم مرحلة»
[1].
ما يستفاد من الحديث:
1- فضل الأذان، وعِظَمُ أجر المؤذّن.
2- فضل الصف الأول، والترغيب فيه.
3- الحثّ على التبكير إلى الصلاة.
4- فضل صلاة العشاء، وصلاة الفجر.
5- مشروعية القرعة.
6- تغييب الأجر على بعض الأعمال دليل على عظيم أجرها، وترغيبًا للمبادرة إليها.