الحديث الخامسعنْ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العملِ أحَبُّ إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاةُ على وَقْتِها»، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قالَ: «بِرُّ الوَالِدَيْنِ»، قلتُ: ثمّ أيٌّ؟ قالَ: «الجِهَادُ في سَبِيلِ الله» متفقٌ عليه[26].
راوي الحديث:عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزواته كلها. ومن المكثرين من رواية الحديث، ومن علماء الصحابة الكبار. قال - رضي الله عنه -: «والله الذي لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أُنزلت. ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت ُ إليه»
[27]، وأخذ من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعا وسبعين سورة
[28].
وفي الحديث: «
من سّره أن يقرأ القران غضًّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد»
[29]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «
لَرِجْلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحد»
[30]، وفضائله - رضي الله عنه - كثيرة.
ومن جميل كلامه: «رُبّ شهوة ورَّثتْ حزنًا طويلًا»، «اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة. فإن لم تجده في هذه المواطن فسلْ الله أن يمنّ عليك بقلبٍ؛ فإنّه لا قلبَ لك»
[31]! توفي رحمه الله سنة 32 للهجرة.
معاني الكلمات:على وقتها: أي في وقتها. دون تأخير.
ثم أي؟: ثم ماذا؟.
الشرح:دلّت نصوص الشريعة على تفاضل الأعمال، وهنا ابن مسعود يسأل عن أفضل وأحبّ الأعمال إلى الله فيأتيه الجواب: «
الصلاة على وقتها»، أي: في وقتها المحدد: ﴿
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾
[النساء:١٠٣]، فلا تصح قبل دخول الوقت بالإجماع، ولا بعد خروجه على الصحيح.
والصلاة عمود الدين فمن ضيّعها فهو لما سواها أضيع. ولذا عظمت عناية السلف بأدائها في وقتها، وإقامتها على وجهها الصحيح.
قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: «ما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا مشتاق إليها» وقال: «ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء»
[32]. وقال سعيد بن المسيب: «ما أذّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد»!!
[33]. وقال ابن عيينة: «إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة»
[34]، وقال إبراهيم النخعي: «إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغْسِلْ يدكَ منه»
[35]! وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى
[36](!).
قال الشيخ ابن عثيمين: «حدّثني منْ أثق به أن هذا المسجد
[37] كان لا يؤذن لصلاة الفجر إلا وقد تمّ الصف الأول..»
[38]!.
ثم: «
بِرُّ الوالدين» وهو من أعظم القربات، وجاء الحثّ عليه في القرآن الكريم: ﴿
وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
[النساء:٣٦]، ﴿
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
[الإسراء:٢٣]، ﴿
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾
[الأحقاف:١٥]. فقرن الله جل وعلا بين الأمر بتوحيده وبين برّ الوالدين، وفي المقابل جعل عقوقهما من كبائر الذنوب: «
ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين..»[متفق عليه].
بل أمر بالإحسان إليهما حتى لو كانا مشركيْن، بل ويدعوانه إلى الشرك: ﴿
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾
[لقمان: ١٥]، هذا وهما من دعاة الكفر، ف
كيف إذا كان مسلميْن، بل ومن دعاة الإسلام؟ وجعل برّهما من أسباب دخول الجنة: «
رغِمَ أنف، ثم رغم أنف.. من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أوكليهما فلم يدخل الجنة» [أخرجه مسلم]. وجعل للأمّ حقًّا أعظم. أُمّك.. أُمّك.. أُمّك.. ثم من؟ قال: «
أبوك»
[متفق عليه].
وحمل رجل أُمّه وراء ظهره وجعل يطوف بالكعبة، ثم قال لابن عمر: أتراني جزيتها؟ قال: لا،
ولا بزفرة واحدة[39].
وقد ضرب السلف رحمهم الله أروع الأمثلة في برّهم بوالديهم. قال ابن المسيب: «بلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج
(يعني حج النفل) حتى ماتت أُمّه لصحبتها»
[أخرجه مسلم (11\136) نووي].
وقال الحسن البصري: «
تعشّ العشاء مع أُمّك تقرّ به عينها أحبّ إليّ من حجة تحجها تطوعًا»
[40].
وقال محمد بن المنكدر: «
بات أخي عمر يصلي، وبتُّ أغمزُ رِجْلَ أُمّي، وما أُحبُّ أنّ ليلتي بليلته»
[41].
وكان علي الجراعي (ت859) وهو ابن ستين سنة لا يفعل شيئا حتى يشاور والدته,ولا يروح موضعا إلاّ بإذنها
[42].
وترك غير واحد من العلماء الرحلة للاستزادة من طلب العلم لأجل الأمّ ولزومها وخدمتها، فبورك لهم في علمهم. كما في ترجمة:محمد بشار
(بندار)، وحسن بن عبد الوهاب بن عبد الحكم، وابن عساكر، والذهبي، والشوكاني.
قال الإمام أحمد: «يرحل لطلب العلم إن كان لا يدري كيف يطلّق، وكيف يصلي، وإن كان قد عرف فالمقام عليها
(يعني الوالدة) أحبّ إليّ»
[43].
قال علي بن إبراهيم بن سلمة (ت345): خرجت إلى الرحلة أحفظ مئة ألف حديث ,وأنا اليوم لا أقوم على حفظ مئة حديث!وأُصبتُ ببصري، وأظن أنني عوقبتُ بكثرة بكاء أُمّي أيام فراقي لها في طلب الحديث
[44]! والغالب أنّ من عقّ والديه عقّه أولاده جزاءً وفاقًا.
وفي الأثر: «برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم»
[45]، و«كما تَدِينُ تُدان»
[46].
قال ابن الجوزي: «وكان بعض العاقيّن ضرب أباه وسَحَبَه إلى مكان، فقال له الأب: حَسْبُكَ إلى هاهنا سحبتُ أبي»!
[47] ورأى زيد بن أسلم (ت136) شابًا يخنق شيخًا، وقد اجتمع الناس عليه، وذلك الشيخ والد الشاب!فقال: دَعُوه، فإنّي رأيتُ هذا الشيخ يخنق أباه في هذا الموضع
[48]!.
وبِرُّ الوالدين لا يتوقف على حياتهما بل حتى بعد مماتهما، جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: «
نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»
[أخرجه أبو داود]. وعند مسلم: «
إنّ أبرّ البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه».
ثم: «
الجهاد في سبيل الله»: وهو ذروة سنام الإسلام، وورد في فضله الكثير من الآيات والأحاديث: ﴿
إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾
[التوبة: ١١١].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «
ما اغبرّت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسّه النار»
[أخرجه البخاري]. و: «
الجنة تحت ظلال السيوف»
[أخرجه البخاري ومسلم]. و: «
رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه..»
[أخرجه مسلم]. والأحاديث كثيرة جدًا.
(ولم يَرِدْ في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.. وهو مشتمل على جميع أنواع العبادات الظاهرة والباطنة)[49]، و
(من زعم أن الجهاد شُرع للدفاع فقط فقد أخطأ)[50].
قال النووي
[51]: «الصحيح أن الجهاد لم يزلْ فرض كفاية من حين شُرع، وهذه الآية ظاهرة في ذلك لقوله تعالى: ﴿
وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
[النساء:٩٥].
ويكون الجهاد فرض عين في أربعة مواطن، وما عداها فهو فرض كفاية:(1) إذا استنفر ولي الأمر المسلمين.
(2) إذا حضر العدو بلدةً تعيّن على أهلها.
(3) إذا حضر الصف.
(4) إذا اُحتيج إلى الإنسان، كأنْ يكون سلاحًا لا يعرفه غيره
[52].
ومراتب الجهاد أربع: القلب، واللسان، والمال، والبدن
[53].
والجهاد لا يكون إلا بإذن الأبوين. وقد بوّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بقوله: باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، وأورد حديث عبد الله بن عمرو ب قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أُجاهد. قال: لك أبوان؟ قال: نعم. قال:
ففيهما فجاهد»
[54]. وعنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال: «
ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»
[55]. وجاء رجل فقال: أردتُ أن أغزو وجئت أستشيرك؟ فقال: «
هل لك من أمّ»؟ قال:نعم، قال: «
فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها»
[56].
فها هو - صلى الله عليه وسلم - يبيّن لمن سأله عن الجهاد أن يجاهد في والديه، أي في حاجتهما ومصالحهما، فسماه جهادًا، ونِعْم الجهاد هو، بل قدّم - صلى الله عليه وسلم - حاجة الزوجة أحيانًا على الجهاد، فَعَن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «
لا يخلونّ رجل بامرأة، ولا تسافرنّ امرأة إلا ومعها محرم»، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة، قال: «
اذهب فاحجج مع امرأتك» [متفق عليه]، واللفظ للبخاري
[57].
فلم يأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يذهب ليعيد زوجه ثم يلحق بالجهاد، بل أمره أن يلحق ليحج مع امرأته ويترك اكتتابه في تلك الغزوة. هذا والجهاد في الأحاديث السابقة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -
فكيف لو كان مع غيره؟ وقد أخرج مسلم في صحيحه عن سهل بن حُنيف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «
من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه»
[58].
ما يستفاد من الحديث:1- حرص الصحابة ي على السؤال عما ينفعهم؛ ليعملوا به.
2- فضل أداء الصلاة على وقتها، وأن ذلك من أحبّ الأعمال إلى الله.
3- عِظَمُ حقّ الوالدين، وأنّ برهما من أفضل الأعمال.
4- فضل الجهاد في سبيل الله.