حكايات دمشقية 4
القبقاب الدمشقي
أحمد بوبس
مرات كثيرة جلسنا أملم شاشة التلفزيون نشاهد المسلسلات الشامية وشد انتباهنا القبقاب بشكله وقرقعته. فهل خطر ببال أحدنا أن يسائل نفسه عن تاريخ هذا القبقاب وأصله وفصله؟..
منذ نحو نصف قرن وما قبل كان القبقاب أحد أكثر الأغراض الدمشقية استخداماً. فلم يكن أي بيت دمشقي يخلو من عدد منها. وأنا من آخر الأجيال التي استخدمت القبقاب كحذاء رئيسي في المنزل والحارة. وكان للقبقاب ميزة كبيرة، فعندما نخرج به إلى الحارة أيام المطر، يمنع ابتلال أقدامنا بالمياه التي تغمر الطرقات لارتفاعه الكافي عن الأرض.
وكان القبقاب الأكثر شهرة بين الأحذية الأخرى.، حتى استخدم في الأمثال الشعبية، كذاك المثل الذي يقول (لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب)، وإذا تصاحب شخصان واغتاظ ثالث من هذه الصحبة، يقول عنهما (لف السير ع القبقاب). وعلى الرغم من أن القبقاب لا تختص به دمشق دون المدن الأخرى، فإنها غدت الأكثر شهرة به، حتى أصبح القبقاب من الصناعات التقليدية المميزة لدمشق. وأصبح للقبقاب سوق خاص به بعرف بسوق االقباقبية.
يقع سوق القباقبية في وسط دمشق القديمة داخل السور. ويمتد من سوق الحرير موازياً لحمام القيشاني حتى سوق الصاغة القديم ومدخل البزورية. وعندما كنا نمر صغاراً من سوق القباقبية، لم نكن نرى إلا القباقيب مكدسة أمام المحلات ومعلقة على الجدران وحتى في سقف السوق، وكأن جدران السوق وسقفه صنع من القباقيب. أما الآن فلم يعد في سوق القباقبية اكثر من ثلاث دكاكين لصناعة وبيع القباقيب، بينما تحولت الدكاكين الأخرى إلى متاجر لبيع الماكياجات والاكسسوارات النسائية. ويعود تاريخ سوق القباقبية إلى العهد المملوكي (1260 – 1516م).
وتتكون فردة القبقاب من قطعة خشبية واحدة ولا تركب عليها أية قطع أخرى، ويصنع القبقاب في دمشق من خشب الصفصاف أو الحور أو المشمش، ويركب على فردة القبقاب قطعة جلدية تسمى (السير) يكون على شكل قنطرة، تدخل القدم فيها فتمسك القبقاب بالقدم. ويثبت السير على جانبي القبقاب بمسامير خاصة تسمى (مسامير قبلقبية)، ويكون للمسمار طبعة كبيرة حتى لا يتمزق جلد السير. وللقبقاب أنواع كثيرة حسب استعمالاتها. فهناك القبقاب الرجالي الذي يكون له كعب مثل كعب الحذاء ويكون لون (السير) دائماً أسود. وهناك القبقاب النسائي الذي تتنوع أشكاله وألوانه، إذ يراعى في صنعه الناحية الجمالية. وفي الغالب يكون القبقاب النسائي (الزحاف) أي أنه يكون بدون كعب، بل يكون أسفله على سوية واحدة، وهذا يساعد على سرعة الحركة، كما يساعد الفتاة على إظهار بعض الدلع أثناء مشيها بأن تحدث بعض القرعات الجميلة. ويكون القبقاب النسائي مدهوناً بألوان زاهية، وقد يكون عليه بعض الرسوم، والسير يكون ملوناً أيضاً، وقد يكون عليه بعض الرسوم. ومن أنواع القباقيب النسائية القبقاب (الشبراوي) الذي يرتفع من ناحية الكعب شبراً عن الأرض، وتستخدمه الفتيات قصيرات الطول ليزدن من طولهن وبشكل خاص أمام الخاطبات. ويكون القبقاب الشبراوي عادة على درجة من الفخامة، فيرصّع بالصدف، ويكون سيره مطرزاً بخطوط الفضة. وهناك القبقاب الجركسي وهو قبقاب رقيق السماكة، وهو أرخص أنواع القباقيب ثمناً وتستخدمه الطبقة الشعبية. وهناك أخيراً قبقاب الحمام الذي يستخدم في حمامات السوق، ويلبسه العاملون في الحمام والزبائن. وهذا القبقاب يتكون من قطعة خشبية ذات سماكة واحدة ولها شكل الحذاء، وفي أسفلها تجويفان عرضيان يثبت في كل منهما رجل بارتفاع عدة سنتمترات. وهذا القبقاب يمنع لابسه من الانزلاق على أرض الحمام الملساء والمبللة بالمياه.
وارتبط القبقاب عبر التاريخ بكثير من الحكايات التي لا يخلو بعضها من الطرافة. من أشهرها حكاية شجرة الدر في مصر. فقد كانت شجرة الدر من جواري الملك الصالح (ملك مصر)، واشتراها منه الملك نجم الدين وأطلق عليها اسم شجرة الدر. وعندما تولى الحكم في مصر بعد الملك الصالح أصبحت شجرة الدر شريكة فعلية له في الحكم بعد أن تزوجها وأنجبت له ولداً أسمياه (خليل). وساعدته على الوصول إلى حكم مصر بعد وفاة الملك الصالح. وبعد وفاة الملك نجم الدين تزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك ونصبته ملكاً صورياً على مصر، لتبقى هي الحاكمة الفعلية. وأطلقت عليه لقب (الملك المعز). وبلغها أن زوجها يريد الزواج من ابنة ملك الموصل، فساءت العلاقة بينهما، وقررت سراً التخلص منه. وعندما دخل الحمام ذات يوم، أرسلت خمسة من خدمها إلى الحمام فضربوه بالقباقيب حتى مات. وبعد فترة.. حكم مصر الملك المنصور ابن الملك المعز، فحكم عليها بالموت بنفس الطريقة التي قتلت فيها أباه. فقامت الجواري بضربها بالقباقيب حتى ماتت.
بعد هذا التاريخ الحافل للقبقاب انحسر استخدامه وتراجعت مكانته، حتى أصبح تحفة سياحية يقتنيه السياح، وتراجعت صناعته وتجارته، حتى لم يبق في دمشق إلا محلات قليلة. وأصبح القبقاب مهدداً بالانقراض بسبب تحول الكثير من محلات صنعه وبيعه إلى مهن أخرى.
القبقاب الدمشقي
أحمد بوبس
مرات كثيرة جلسنا أملم شاشة التلفزيون نشاهد المسلسلات الشامية وشد انتباهنا القبقاب بشكله وقرقعته. فهل خطر ببال أحدنا أن يسائل نفسه عن تاريخ هذا القبقاب وأصله وفصله؟..
منذ نحو نصف قرن وما قبل كان القبقاب أحد أكثر الأغراض الدمشقية استخداماً. فلم يكن أي بيت دمشقي يخلو من عدد منها. وأنا من آخر الأجيال التي استخدمت القبقاب كحذاء رئيسي في المنزل والحارة. وكان للقبقاب ميزة كبيرة، فعندما نخرج به إلى الحارة أيام المطر، يمنع ابتلال أقدامنا بالمياه التي تغمر الطرقات لارتفاعه الكافي عن الأرض.
وكان القبقاب الأكثر شهرة بين الأحذية الأخرى.، حتى استخدم في الأمثال الشعبية، كذاك المثل الذي يقول (لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب)، وإذا تصاحب شخصان واغتاظ ثالث من هذه الصحبة، يقول عنهما (لف السير ع القبقاب). وعلى الرغم من أن القبقاب لا تختص به دمشق دون المدن الأخرى، فإنها غدت الأكثر شهرة به، حتى أصبح القبقاب من الصناعات التقليدية المميزة لدمشق. وأصبح للقبقاب سوق خاص به بعرف بسوق االقباقبية.
يقع سوق القباقبية في وسط دمشق القديمة داخل السور. ويمتد من سوق الحرير موازياً لحمام القيشاني حتى سوق الصاغة القديم ومدخل البزورية. وعندما كنا نمر صغاراً من سوق القباقبية، لم نكن نرى إلا القباقيب مكدسة أمام المحلات ومعلقة على الجدران وحتى في سقف السوق، وكأن جدران السوق وسقفه صنع من القباقيب. أما الآن فلم يعد في سوق القباقبية اكثر من ثلاث دكاكين لصناعة وبيع القباقيب، بينما تحولت الدكاكين الأخرى إلى متاجر لبيع الماكياجات والاكسسوارات النسائية. ويعود تاريخ سوق القباقبية إلى العهد المملوكي (1260 – 1516م).
وتتكون فردة القبقاب من قطعة خشبية واحدة ولا تركب عليها أية قطع أخرى، ويصنع القبقاب في دمشق من خشب الصفصاف أو الحور أو المشمش، ويركب على فردة القبقاب قطعة جلدية تسمى (السير) يكون على شكل قنطرة، تدخل القدم فيها فتمسك القبقاب بالقدم. ويثبت السير على جانبي القبقاب بمسامير خاصة تسمى (مسامير قبلقبية)، ويكون للمسمار طبعة كبيرة حتى لا يتمزق جلد السير. وللقبقاب أنواع كثيرة حسب استعمالاتها. فهناك القبقاب الرجالي الذي يكون له كعب مثل كعب الحذاء ويكون لون (السير) دائماً أسود. وهناك القبقاب النسائي الذي تتنوع أشكاله وألوانه، إذ يراعى في صنعه الناحية الجمالية. وفي الغالب يكون القبقاب النسائي (الزحاف) أي أنه يكون بدون كعب، بل يكون أسفله على سوية واحدة، وهذا يساعد على سرعة الحركة، كما يساعد الفتاة على إظهار بعض الدلع أثناء مشيها بأن تحدث بعض القرعات الجميلة. ويكون القبقاب النسائي مدهوناً بألوان زاهية، وقد يكون عليه بعض الرسوم، والسير يكون ملوناً أيضاً، وقد يكون عليه بعض الرسوم. ومن أنواع القباقيب النسائية القبقاب (الشبراوي) الذي يرتفع من ناحية الكعب شبراً عن الأرض، وتستخدمه الفتيات قصيرات الطول ليزدن من طولهن وبشكل خاص أمام الخاطبات. ويكون القبقاب الشبراوي عادة على درجة من الفخامة، فيرصّع بالصدف، ويكون سيره مطرزاً بخطوط الفضة. وهناك القبقاب الجركسي وهو قبقاب رقيق السماكة، وهو أرخص أنواع القباقيب ثمناً وتستخدمه الطبقة الشعبية. وهناك أخيراً قبقاب الحمام الذي يستخدم في حمامات السوق، ويلبسه العاملون في الحمام والزبائن. وهذا القبقاب يتكون من قطعة خشبية ذات سماكة واحدة ولها شكل الحذاء، وفي أسفلها تجويفان عرضيان يثبت في كل منهما رجل بارتفاع عدة سنتمترات. وهذا القبقاب يمنع لابسه من الانزلاق على أرض الحمام الملساء والمبللة بالمياه.
وارتبط القبقاب عبر التاريخ بكثير من الحكايات التي لا يخلو بعضها من الطرافة. من أشهرها حكاية شجرة الدر في مصر. فقد كانت شجرة الدر من جواري الملك الصالح (ملك مصر)، واشتراها منه الملك نجم الدين وأطلق عليها اسم شجرة الدر. وعندما تولى الحكم في مصر بعد الملك الصالح أصبحت شجرة الدر شريكة فعلية له في الحكم بعد أن تزوجها وأنجبت له ولداً أسمياه (خليل). وساعدته على الوصول إلى حكم مصر بعد وفاة الملك الصالح. وبعد وفاة الملك نجم الدين تزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك ونصبته ملكاً صورياً على مصر، لتبقى هي الحاكمة الفعلية. وأطلقت عليه لقب (الملك المعز). وبلغها أن زوجها يريد الزواج من ابنة ملك الموصل، فساءت العلاقة بينهما، وقررت سراً التخلص منه. وعندما دخل الحمام ذات يوم، أرسلت خمسة من خدمها إلى الحمام فضربوه بالقباقيب حتى مات. وبعد فترة.. حكم مصر الملك المنصور ابن الملك المعز، فحكم عليها بالموت بنفس الطريقة التي قتلت فيها أباه. فقامت الجواري بضربها بالقباقيب حتى ماتت.
بعد هذا التاريخ الحافل للقبقاب انحسر استخدامه وتراجعت مكانته، حتى أصبح تحفة سياحية يقتنيه السياح، وتراجعت صناعته وتجارته، حتى لم يبق في دمشق إلا محلات قليلة. وأصبح القبقاب مهدداً بالانقراض بسبب تحول الكثير من محلات صنعه وبيعه إلى مهن أخرى.