حكايات دمشقية 1
ترامواي دمشق..وحكايته
أحمد بوبس
إذا سار أحدنا في شارع المتنبي بدمشق. وهو الشارع الذي يبتدئ من فندق (فور سيزن) باتجاه الشرق ماراً بمحاذاة مقهى الكمال وصالة الكندي، وانتهاء بمقهى الهافانا. وإذا تأمل السائر الأرض بجانب مؤسسة الكهرباء، فسيرى بقايا سكة حديدية لا يزيد طولها عن خمسين متراً. فما هي حكاية هذه السكة؟..
كان في دمشق منذ أكثر من نصف قرن وسيلة مواصلات كهربائية راقية. لا تصدر الأصوات المزعجة ولا تنفث الدخان الذي يسمم البشر والشجر والكائنات الأخرى، ويصبغ الأبنية بهبابه الأسود. وهذه الوسيلة كانت تسمى بالترام أو (الترامواي) أو (الترين) بالتعبير الشعبي. وقد تزداد الدهشة عند المرء عندما يعرف أن هذه الوسيلة الكهربائية الراقية قد بدأت في دمشق عام 1907. فكيف تم ذلك؟..
ففي عام 1904 عهد إلى شركة (الجر والتنوير) البلجيكية بإنشاء خطوط للترام في دمشق. وفي نفس العام بدأت الشركة بعمليات الإنشاء. فأخذت تمد السكك الحديدية اللازمة، وتركب الأعمدة التي ستحمل الأسلاك الكهربائية التي ستمد الترام بالكهرباء لتشغيله. وفي عام 1907 تم تدشين المشروع ليبدأ الترام خدمته على ثلاثة خطوط في دمشق.
كانت ساحة الشهداء (المرجة) المركز الذي تنطلق منه خطوط الترام الثلاثة إلى أنحاء دمشق. أما الخط الأول فكان يذهب إلى حي الميدان، وينتهي عند بوابة الميدان (ساحة الأشمر اليوم)، مروراً بالسنجقدار وسوق الحميدية والدرويشية والسويقة وباب المصلى إلى آخر الخط. والخط الثاني يتجه إلى حي المهاجرين. وعند الجسر الأبيض يتفرع عنه خط إلى حي الشيخ محي الدين، وينتهي خط المهاجرين عند ساحة خورشيد. ويسلك الترام طريق الصالحية إلى عرنوس فالجسر الأبيض فالعفيف، ثم ينعطف غرباً إلى شورى وصولاً إلى آخر الخط. ثم الخط الثالث يتجه إلى حي القصاع مروراً بشارع الملك فيصل فالعمارة ثم إلى شارع برج الروس. وبعدها يتابع طريقه إلى بلدة دوما في الغوطة الشرقية، مروراً بجوبر وزملكا.
وكان الترام الآتي من الأحياء الثلاثة يدخل ساحة الشهداء، فيسير فيها بشكل دائري حسب سكته، ثم يعود من حيث أتى. أما في آخر الخط فلم يكن هناك ساحة يدور فيها ليذهب إلى مركز المدينة ثانية، وإنما كان عليه أن يسير بالاتجاه المعاكس. لذلك كان له غرفتا قيادة. وفي آخر الخط يقوم السائق بأخذ أدوات القيادة، مثل مقبض زيادة السرعة والجرس النحاسي الذي ينبه به المارة للابتعاد عن طريق الترام، ويقوم بتركيبها في غرفة القيادة بالجهة المقابلة. ثم ينتقل الترام إلى السكة الأخرى ليفسح المجال للترامويات الأخرى. فقد كان في كل خط سكتان، واحدة للذهاب والثانية للعودة. وكان خطا السكة يلتقيان في آخر كل خط.
وكان الترام يتغذى بالكهرباء من سلكين غليظين محمولين على عوارض تحملها أعمدة فولاذية على طول الطريق فوق الترام. وكان للترام عمود متحرك مجهز براصورات قوية تدفعه إلى الأعلى ليثبت بقوة على السلك الكهربائي بواسطة بكرة دوراة. وفي آخر الخط كان على المعاون (قاطع التذاكر) أن يقوم بإدارة العمود الذي يسمى (السنكة) إلى الجهة الأخرى. وكنا – نحن الأطفال – نقوم بهذه المهمة نيابة عن المعاون، فيكافئنا بأن نركب موقفين مجاناً. ولما كان الصعود والنزول من اليمين دائما، فقد كان للترام مدخلين من الطرفين، لهما حاجزان متحركان. وفي آخر الخط يقوم المعاون بفتح البابين اللذين أصبحا على اليمين وإغلاق البابين اليساريين. وكان هناك مواقف محددة بشاخصات، يمنع على السائق الوقوف خارجها.
وكانت أجرة الركوب في الترام سبعة قروش ونصف للعامة وخمسة قروش للطلاب والعسكريين. أما إلى دوما فكانت أجرة الركوب عشرة قروش. وكان في الترام تقليد جميل. إذ كانت تخصص ثلاثة مقاعد مزدوجة (ستة مقاعد مفردة) للنساء. ولا يمكن أن يجلس عليها أي رجل ولو امتلأ الترام بالركاب. وكان الترام يتألف من مقطورة واحدة باستثناء خط المهاجرين الذي كان بعضها مزود بمقطورة ثانية.
وكانت ترتبط بالترام حكايات طريفة. فقد كان يقال لنا أنه إذا جمعنا بروات قلم الرصاص بعد بريه بالمبراة، ولففناها بورقة ووضعناها على سكة الترام ليمر فوقها، فإنها تتحول إلى ممحاة. ورغم أننا جربنا كثيراً، لكننا لم نحصل على ممحاة ولا مرة. كما أنه حينما كانت تخرج مظاهرات احتجاجية في الخمسينات من القرن الماضي، كان المتظاهرون يقطعون شارع الميدان الذي يمر منه الترام. وإذا جاء أحدها يمنعونه من متابعة سيره، طالبين منه العودة وهم يهتفون (دوّر السنكة وارجاع).
في مطلع الستينات من القرن العشرين، أوقفت الترامويات، واستعيض عنها بالباصات الديزل التي تنفث السموم وتم دفن سكك الترامواي، إذ رصفت الشوارع التي كان يمر منها الترام بالإسفلت فوق السكة. ولا تزال هذه السكك حتى اليوم مدفونة، تذكرنا بحكاية دمشقية جميلة اسمها (الترام الكهربائي).
ترامواي دمشق..وحكايته
أحمد بوبس
إذا سار أحدنا في شارع المتنبي بدمشق. وهو الشارع الذي يبتدئ من فندق (فور سيزن) باتجاه الشرق ماراً بمحاذاة مقهى الكمال وصالة الكندي، وانتهاء بمقهى الهافانا. وإذا تأمل السائر الأرض بجانب مؤسسة الكهرباء، فسيرى بقايا سكة حديدية لا يزيد طولها عن خمسين متراً. فما هي حكاية هذه السكة؟..
كان في دمشق منذ أكثر من نصف قرن وسيلة مواصلات كهربائية راقية. لا تصدر الأصوات المزعجة ولا تنفث الدخان الذي يسمم البشر والشجر والكائنات الأخرى، ويصبغ الأبنية بهبابه الأسود. وهذه الوسيلة كانت تسمى بالترام أو (الترامواي) أو (الترين) بالتعبير الشعبي. وقد تزداد الدهشة عند المرء عندما يعرف أن هذه الوسيلة الكهربائية الراقية قد بدأت في دمشق عام 1907. فكيف تم ذلك؟..
ففي عام 1904 عهد إلى شركة (الجر والتنوير) البلجيكية بإنشاء خطوط للترام في دمشق. وفي نفس العام بدأت الشركة بعمليات الإنشاء. فأخذت تمد السكك الحديدية اللازمة، وتركب الأعمدة التي ستحمل الأسلاك الكهربائية التي ستمد الترام بالكهرباء لتشغيله. وفي عام 1907 تم تدشين المشروع ليبدأ الترام خدمته على ثلاثة خطوط في دمشق.
كانت ساحة الشهداء (المرجة) المركز الذي تنطلق منه خطوط الترام الثلاثة إلى أنحاء دمشق. أما الخط الأول فكان يذهب إلى حي الميدان، وينتهي عند بوابة الميدان (ساحة الأشمر اليوم)، مروراً بالسنجقدار وسوق الحميدية والدرويشية والسويقة وباب المصلى إلى آخر الخط. والخط الثاني يتجه إلى حي المهاجرين. وعند الجسر الأبيض يتفرع عنه خط إلى حي الشيخ محي الدين، وينتهي خط المهاجرين عند ساحة خورشيد. ويسلك الترام طريق الصالحية إلى عرنوس فالجسر الأبيض فالعفيف، ثم ينعطف غرباً إلى شورى وصولاً إلى آخر الخط. ثم الخط الثالث يتجه إلى حي القصاع مروراً بشارع الملك فيصل فالعمارة ثم إلى شارع برج الروس. وبعدها يتابع طريقه إلى بلدة دوما في الغوطة الشرقية، مروراً بجوبر وزملكا.
وكان الترام الآتي من الأحياء الثلاثة يدخل ساحة الشهداء، فيسير فيها بشكل دائري حسب سكته، ثم يعود من حيث أتى. أما في آخر الخط فلم يكن هناك ساحة يدور فيها ليذهب إلى مركز المدينة ثانية، وإنما كان عليه أن يسير بالاتجاه المعاكس. لذلك كان له غرفتا قيادة. وفي آخر الخط يقوم السائق بأخذ أدوات القيادة، مثل مقبض زيادة السرعة والجرس النحاسي الذي ينبه به المارة للابتعاد عن طريق الترام، ويقوم بتركيبها في غرفة القيادة بالجهة المقابلة. ثم ينتقل الترام إلى السكة الأخرى ليفسح المجال للترامويات الأخرى. فقد كان في كل خط سكتان، واحدة للذهاب والثانية للعودة. وكان خطا السكة يلتقيان في آخر كل خط.
وكان الترام يتغذى بالكهرباء من سلكين غليظين محمولين على عوارض تحملها أعمدة فولاذية على طول الطريق فوق الترام. وكان للترام عمود متحرك مجهز براصورات قوية تدفعه إلى الأعلى ليثبت بقوة على السلك الكهربائي بواسطة بكرة دوراة. وفي آخر الخط كان على المعاون (قاطع التذاكر) أن يقوم بإدارة العمود الذي يسمى (السنكة) إلى الجهة الأخرى. وكنا – نحن الأطفال – نقوم بهذه المهمة نيابة عن المعاون، فيكافئنا بأن نركب موقفين مجاناً. ولما كان الصعود والنزول من اليمين دائما، فقد كان للترام مدخلين من الطرفين، لهما حاجزان متحركان. وفي آخر الخط يقوم المعاون بفتح البابين اللذين أصبحا على اليمين وإغلاق البابين اليساريين. وكان هناك مواقف محددة بشاخصات، يمنع على السائق الوقوف خارجها.
وكانت أجرة الركوب في الترام سبعة قروش ونصف للعامة وخمسة قروش للطلاب والعسكريين. أما إلى دوما فكانت أجرة الركوب عشرة قروش. وكان في الترام تقليد جميل. إذ كانت تخصص ثلاثة مقاعد مزدوجة (ستة مقاعد مفردة) للنساء. ولا يمكن أن يجلس عليها أي رجل ولو امتلأ الترام بالركاب. وكان الترام يتألف من مقطورة واحدة باستثناء خط المهاجرين الذي كان بعضها مزود بمقطورة ثانية.
وكانت ترتبط بالترام حكايات طريفة. فقد كان يقال لنا أنه إذا جمعنا بروات قلم الرصاص بعد بريه بالمبراة، ولففناها بورقة ووضعناها على سكة الترام ليمر فوقها، فإنها تتحول إلى ممحاة. ورغم أننا جربنا كثيراً، لكننا لم نحصل على ممحاة ولا مرة. كما أنه حينما كانت تخرج مظاهرات احتجاجية في الخمسينات من القرن الماضي، كان المتظاهرون يقطعون شارع الميدان الذي يمر منه الترام. وإذا جاء أحدها يمنعونه من متابعة سيره، طالبين منه العودة وهم يهتفون (دوّر السنكة وارجاع).
في مطلع الستينات من القرن العشرين، أوقفت الترامويات، واستعيض عنها بالباصات الديزل التي تنفث السموم وتم دفن سكك الترامواي، إذ رصفت الشوارع التي كان يمر منها الترام بالإسفلت فوق السكة. ولا تزال هذه السكك حتى اليوم مدفونة، تذكرنا بحكاية دمشقية جميلة اسمها (الترام الكهربائي).