حـــــاتم الطَـــــائي
المهندس جورج فارس رباحية
هو حاتم بن عبد الله بن سَعد بن الحشْرَج بن امرئ القيس بن عَدِيّ بن أخزَم بن أبي أخْزَم _ واسمه هرومة ـــ بن ربيعة بن جَرْوَل بن ثُعَل بن عمرو بن الغَوْث بن طئ الطائي القحطـاني . يُكَنّى أبا سفّانة وأباعدي . وُلِدَ حاتم في أواخر النصف الأول من القرن الســـادس الميلادي أي حوالي عام 544 م وسكن وقومه وعاش على نصرانيته بين جبــلي ( أجا وسلمى) وتـــوفّي في بلدة (توارن) في منطقة حائل شمال السعودية (1) عام 605 م. ولا يُعْرَف شـــيئاً عن أبيه عبد الله ويعود ذلك لكونه توفّي وكان حاتم صغيراً ، فاسـتلمه جدّه سعد بن الحَشْرَج واعتنى بأمـــره ويقي عنده حتى شَبَّ وذهب في الجود مَذهَبه المعروف فاعتزله جدّه وتحوّل عنه لِما رأى من إفراطه .وأمّا أمّــه غَنِيَّة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس بن عدِيّ بن أخزم ، يلتــــــــقي نســبها مع نسـب أبيه امرئ القيس بن عدي ، كانت ســــخيّة اليد لا ترُدّ سائلاً، ولا تُليقُ شيئاً لجودها ، وهــذا ما أغضب إخوتَها ، فمنعوها مالها وحجروا عليها ســـنة يُطعمونها قوتها لا يزيدون ، وإذا مـا وجدوها كفّت عن جودها ، أعطوها عدداً من الإبــل ، لكن تصرّف إخوتها زاد من عزهما أن لا تقصُر ، وكيف تترك الكرَم والجود وقد عانت ما يُقاســــــيه كل أرمـــل محتـاج من ألم الفقر . فقد أتتها امرأةٌ من (هوزان) تطلب حاجـــة منها ، فوهبتـــــها ما أعطاه لها أخوتها من الإبل وقالت :
لَعَمْري لَقِدْ ما عَضّني الجوعُ عضَّةً ***** فآلَيْتُ ألا أمنــــعَ الدَّهـــــرَ جائعا
فماذا عَسَيْتم أن تقـــــولوا لأختِكـــمْ ***** سوى عَذْلِكم أوعَذْلِ مَنْ كانَ مانِعا
فقولا لهذا اللّائمي اليوم : أعفنـي ، ***** وإن أنت لم تفعلْ فعّضِّ الأصابعا
ولا ما تروْنَ اليـــــــومَ إلاّ طبيعـة ً ***** فكيف بتَرْكي يا ابن أُمِّ الطَّبـــائعا
أما امرأته : فلم يُعْرَف لحاتم سوى زوجتين هما : ماوية بنت حجرالغسانية والنوَّار هي بنـــت ثُرْمُلة البحترية من بني سلامان ثُعَل . وهناك أراء متباينــــة حول حاتم هل تزوّج ماوية قبــــل النَّوار أم بالعكس ، ولن ندخل بالتفاصيل لتشعّبها . أما أولاده فهـــم : سفّانة وعّدي ( رُوِي أن عدي كان يُشاهد وفي عنقه صليب من ذهب ) وعبـدا لله وينـفرد ابن كَثِير بذكر ولد رابع عن أقوال بعض المُحَدِّثين اسمه ثَوابة , فابنته سفّانــــــة وابنه عَدِي فقد أدركـا الإسلام ودخلاه أمـا ابنه عبدالله فلم يُعْرَف عنـه بشيء يُذكَرْ . وأيضاً لن ندخـل بالتفاصيل عن الأولاد للتبـــاين في رأي المؤرّخين هل يعودوا إلى ماوية أم إلى النَّـوار أم لكلتيهما إن أول ملك من ملوك الحيرة اتصل به حاتم كان عمرو بن هند ( توفي 578 م ) وكان حـــاتم في مقتبل العمر وهو بـــــهذه السن حقّق لنفسه مكانة واحترام والدليل على ذلك أنه حين دخــــل على عمرو بن هند، قال له ( بايعني ) ، ولا يُعقَل أن يسأل الملك شخصاً مغمورا من سُـــــوقَة قومه أن يُبايعه ، والأشبه ان يكون من نجباء قومه ، الكلمة بينهم ،فإذا بايع الملك ، سمع قومـه وأطاعوا وألزموا أنفســـهم ما أعطى صاحبهم من العهد والبيعة . هذا وليس لحاتم أخبـــار مع مَنْ خلَفوا عمرو بن هند ، حتى نصل إلى أبي قابوس النعمان بن المنذر ( 580 ـ 602 ) م ، حيث قــال لجلسائه يوماً : لأفسِدن بين حــــاتم الطائي و أوس بن حارثة ـــ وهو ســيد مـن سادات قومه ــ قــالوا لا تقدر على ذلك . قال بلى ، فدخل عليه أوس . فقال : يا أوس ما الذي يقول ؟ قال : وما يقـول؟ قال : إنه أفضل منك وأشــــرف . قال : أَبَيْتَ اللعنَ ، صــدق . والله لو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لأنْهَبَنَا في مجلس واحد . ثم دخل عليه حاتم ، فقـال له النعمان مثلمـا قال لأوس فقـال حاتم : صدق ، وأين أقع من أوس ، له عشرة ذكور أخَسّـهم أفضل مني ، ثم خرج وهــو يقول :
يُسائلني النعمان كي يســـتزلني ***** وهيهات لي أن أُستضام فأُصرعا
كفاني نقصاً أن أُضيم عشيرتي ***** بقول أرى في غيـــــره متوســـعا
فدهش النعمان وتحقّقت له مظاهر هذه السيادة ، وأعطى كل واحد منهم مائة من الإبل .
إن أخبار حاتم مع أمراء المناذرة قليلة على الرغم من الصِــــلات الطيبة التي كانت تربطــهم بطيء ، خاصة في عهد النعمان بن المنذر الذي أصهر إليهم ، كما كانت علاقة طيء بملــــوك الفرس وطيدة ، فالمعروف أن كسرى2" أبرويز ( 590 ـ 628 ) م قرَّبَ سيِّداً من ســــــــادات طيء ، وهو إياس بن قَبِيصة ، و ولاّه على عين التمر وأقطعه ثلاثين قرية على شاطئ الفرات ، ولما مات عمرو بن هند ولاّه الحيرة إلى أن جاء النعمان بن المنذر . ولما قُتِلَ النعمان عَيَّـــن كِســـرى إياس بن قبيصة ملكاً على الحيرة ، وجعله قائد جنده يوم ذي قار ( 610 ) م
وإذا كنّا لا نجد لحاتم شِعْراً في المناذرة ، فإننا نرى له مديحاً في الغساســــنة . وأن حاتماً لم يمدح هؤلاء ولا هؤلاء طمعاً في المال أو مَحبّة للعطاء ، وإنما كان يتشفّع بشِعره لقومـــــــه . فصِلات طيء بالمناذرة كانت قوية يشوبها السلام خلا الغارة التي شنّها عمرو بن هند. فلم يكن لحاتم أن يمدحهم ، حيث لا مُبَرِّر للمديح . أما علاقة طيء بالغساسنة فكانت غير مُستقرّة ، وقد حاول الحارث بن جبلة ( 529 ـ 569 ) م أن يُصْلِح بين عشائرها ليضع حداً للحــــــرب ضد بعضها ، لكن طيئاً عادت للحرب فيما بينها بعد موت الحارث . كما أغارت على الغســـاسنة ، وأغاروا عليها بدورهم وأسروا منهم .
وكان مديح حاتم في ملوك عصره ، فيه ترَفُّع وإباء ، شِعْر رئيس شــــريف ، جاء يفكّ عُناة قومه ، وليس شعر مُجْتَد عافٍ كما يتبيّن من من مخاطبة ابن عمّه : وَهْم بن عمـــرو وهو في الأسر :
فأبشِرْ وقَرَّ العين منك ، فإنّني ***** أجيء كريماً ، لا ضعيفاً ولا حَصِر
كان حاتم مولعاً بكريم الفِعال ، ما ترك شيئاً محموداً إلاّ أتاه ، وما رأى أمراً معيباً إلاّ تحاشاه ، فطر على حب الخير ، واجتناب الشر ، وتلك مكرمة لا تتحقّق إلاّ لأفذاذ الرجال فالجود صفة لازمة للإنسان الكريم اكتسبها من أمّه غَنِيَّة ، فالجــواد يُعطي مَنْ يقصده ، عرفه أو لم يعرفه ، ويبذل ما فــي يده على شدّة حاجته إليه . وقال العرب أن أجوَد العـــرب ثلاثة حـــــاتم الطائي وكعب بن إمامة وهَرِم بن سنان . وقد أنصفَ أبو هلال العسـكري حين قـــال : (( وقد علمت أن حاتماً وكعباً وهَرِماً لم يُجعلوا أمثالاً في الجود لِعِظَم عطاياهم في القدر، لأن الواحـــد منهم إنما كان يقري ضيفاً أو يهب بعيراً ، أو عدداً من الشاة ، ولكن ذهب صيتهم في السماح ، وبَعُدَ ذكرهم في الجود لأنهم كانوا يعطون وهم محتاجين )) . ولكرم حاتم ونبله أبى أن يطعم ضيفه في وقت الجدب إلاّ ما يُطعمه الضيفان في وقت الرخاء ، فكان فعله شاهداً لقوله :
أَلَمْ تَعْلَمِي أنّي إذا الضيف نابني ***** وعَزَّ القِرَى ، أقري السَّديفَ المُسَرْهَدا
وهذا ما تبيّن لنا من أن جود حاتم إنما صدر عن حب لفعل الخير ورغبة في مساعدة المحتاج ، فالوسيلة الأولى لجلب الضيف كانت إيقاده النار بمكان مرتَفع حتى يراها المُدْلِج فيأوي اليها ، فإيقاده النار ليس مقصوراً في زمن الرخاء ، بل أكثر ما كان في وقت الجدب والمجاعة فقال :
أوْقِدْ ، فإنَّ الليــلَ ليلٌ قَرُّ ***** والريحُ يا موقِدُ ريحٌ صِرُّ
عَسَى يرى نارك مَن يَمُرَّ ***** إنْ جَلَبْتَ ضيفاً فأنتَ حُرُّ
أما الوسيلة الثانية لجلب ضيفه ، كانت كلابه فتُحَقّق له أمانيه في إغاثة الناس وعونـــهم ، فتخرج كلاب حاتم وقد أحسّت أن عليها عملاً وُكِّلَ بها فتدلّهم بنباحها وتهديهم إلى مكانه .
ومن قصص جوده وكرَمه ، فقد ضافه ضيف في سنة مَحْل وجَـــهَد الناس ، وتعلّقوا بما في أيديهم من يسير القوت وضَنّوا به ، ووقفت كلابهم للطُرَّاق كأنها تُشارك أصحابها في الحفاظ على زهيد القوت ، فلم يمسك حاتم يده كما أمسكوا ، ولم يُبقِ هذا القليل الذي يملك بل جادَ به . فلم يكن عنده سوى ناقة ــ يُقال لها أَفْعَى ــ يُسافر عليها ، فنحرها ، فكيف أن يطيق الكريم بأن يرى ضرّاً قد حاق بالناس ، ولا يرفعه :
لمّا رايتُ الناسَ هَرَّت كِلابُهُم ***** ضربتُ بسيفي ساقَ أَفْعَى فَخَرَّتِ
ولا يتْركُ المرءُ الكريمُ عِيالَه ***** وأضيافَهُ ما ســـــاقَ مالاً بِضَرَّتِ
وكان مما تكلفه حاتم فَقْده امرأته ماويّة ، وقد تكاتفت ماوية مع النَّوار ــ رغم ما يكون عادة بين الضرّتين من تبــــاعد وتباغض ــ على عذل حاتم ولومه ، فقد رأيا في جــــوده خطراً يُهَدّدهما فاشتدّا عليه وألحّتا على أن يُغَيّر من إلْفه الذي ألِف . فلم يأبه بكلامهما . وأتى ماوية ابن عــــمٍ لها فقال لها ما تصنعين بحاتم ؟ فو الله لن يُغَيّر من جوده وكرمه ، فأصرّت ماوية على فعلــها حتى هجرته ، أما النَّوار فلم تهجره كما فعلت ماوية ، فأكثرت من لومـــــه وأطالت في عذله ، ورأت أن أهله وعياله أحقّ بما يُعطيه للناس ، فما الذي يخافه عليه هذا البذل ؟ قفال لها حاتم : هل المـــال ــ إذا أبقاه ــ نافع له ؟ كلا ، سيأخذه غيره إذا مات ، ولن يبقى له غير سـوء الثناء كلما ذُكِر لبخله وامتناعه عن عون المحتاج :
مهلا نوار ، أقلي اللوم والعـذلا ***** ولا تقــــولي لشيء فات : ما فعــــلا
ولا تقولي لمـــال كنت مهلكـه : ***** مهلا ، وإن كنت أعطي الجنَّ والخَبَلاَ
يرى البخيل سبيل المـــــال واحدة ***** إنّ الجواد يرى ، في ماله ، ســـبلا
ليت البخــــــيل يراه النـــاس كلّهم ***** كما يراهم ، فلا يقرى ، إذا نـــــزلا
إن البخيـــل إذا ما مات يتبـــــــعه ***** سوءُ الثناء ، ويحوي الوارثُ الإبـلاَ
وعن الوضّاح بن معبد الطائي قال : وَفَدَ حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرَمه وأدناه ، ثم زوّده عند انصرافه جملين ذهباُ ، وورقاً غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل ، فلما أشرف على أهله تلقّته أعاريب طيء ، فقالت : يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهلنا بالفقر ! فقال حاتم : هلم فخذوا ما بين يدي فَتَوَزّعوه ، فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه فخرجت إلى حاتم جاريته طريفة فقالت له : اتّق الله وابقِ على نفْسك ، فما يدع هؤلاء دينــــاراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً . فقال :
قالت طريفة ما تبقي دراهمـــنا ***** وما بنا ســــرف فيها ولا خرق
إن يفنِ ما عنـــــدنا فالله يرزقنا ***** ممن ســوانا ولسنا نحن نرتزق
ما يألف الدرهم الكاري خِرقَتَنا ***** إلا يمــــرّ عليــــها ثم ينطـــــلق
إنا إذا اجتمعت يومـــاً دراهمنا ***** ظلت إلى سبل المعروف تستبقُ
وقيل عن كرم وجود حاتم إن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار جود حاتم فأستغربها فبلغه أن لحاتم فرسا من كرام الخيل عزيزة عنده فأرسل إليه بعض حجابه يطلبون الفرس فلمــا دخل
الحاجب دار حاتم أستقبله أحسن استقبال ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب القيصر وكـــانت المواشي في المرعى فلم يجد إليها سبيلا لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول القيصر قد حضر يستميحه الفرس فساء ذلك حاتم وقال :هل أعلمتني قبل الآن فأنى فد نحرتها لك إذ لم أجــد جزورا غيرها فعجب الرسول من ســـخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا .
إن جرثومة الجود والكرم التي انتقلت من غَنِيَّة إلى حاتم ما لبثت أن أصابت ابنته ســـــفّانة أيضاً ويُقال إنها كانت من أجوَد نساء العرب ، فقد ذكر احدهم أن أباها كان يُعطيها الصــرمة ( جزء من الإبل ) من إبله ولكنها لم تكن تحتفظ بها بل تهبها للناس ، وذات يوم اســـــــتدعاها والدها وقال لها : يا بُنَيّة ، إن القرينين إذا اجتمعا في المال اتلفاه ، فإما أن أعطي وتمســكي أو امسك وتُعطي ، فإنه لا يبقى على هذا شيء ، فاجابته : والله لا أمسك أبداً قال : وأنا لا امـسك . قالت : لا نتجاور فقاسمها ماله وتباينا . أما ابنه عَدِي شديد الوفاء ـ ســـــليم الفطرة ،متواضعاً وكريمـــاً كآل حاتم ، كان يُكَنّى أبا طريف ، وأبا وَهْب وكان طويلا جســـيماً ، إذا ركب الفرس كادت رجـــلاه تَخُطَّان في الأرض ، وقيل عن كرَمه : أن الشعث بن قيس أرسل إليه يســـتعير قُدُر حاتم ، فملأها عَدِي وحملها إليه . فقال الأشعث : إنما أردناها فارغة .
هذا غيض من فيض عن كرم وجود حاتم وعائلته . فقد كان حاتم : كريم ، جواد ، صـــفوح ، عفيف ، صدوق ، وَفِيّ ، مُسالِم ، مُتواضِع ، أبِيّ ، شريف ، طويل الصمت مُحِبّ لقومـــــــه . ولقد صــــدق قول العرب أنه كان كريماً في حياته وفي مماته ، حتى ضُرِبَ فيه المثل فقال أبو بكــر الخرائطي عن مُحَدّثيه : مَرَّ نفَرٌ من عبد القيس بقبر حاتم طيء فنزلوا قريبـــــاً منه ، فقام إليه بعضهم يُقــــال له : أبو الخيبري فجــــعل يركض قبره (2) برجله . ويقول : يا أبا جــــعد أقرنا فقال له بعض أصحابه : ما تُخاطب من رمّــــة وقد بُلِيَت ؟ وأجنهم الليل فناموا ، فقـــام صاحب القول فَزِعاً يقول : يا قوم عليكم بمطيــــكم فإن حاتماً أتاني في النوم وأنشدني شـــعراً وقد حفظته يقول :
أبا الخيبــري وأنت امــــرؤ ***** ظلوم العشـــيرة شتّــــامها
أتيت بصــحبك تبغي القِرى ***** لدى حفرة قد صَدَت هامَها
أتبغي لي الذنْب عند المبيت ***** وحولك طيء وأنعـــــامها
وإنا لنشــــــبع أضيـــــــافنا ***** وتأتي المطي فنعتــــــامها
قال وإذا ناقة صاحب القول تكوس ( تتكوّم ) عقيراً فنحروها وقاموا يشتوون ويأكلـون وقالوا : والله لقد أضافنا حاتم حياً وميتاً . قال : وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا ، فإذا رجـــل ينوه بهم راكباً جمَلاً ويقود آخر . فقال : أيكم أبو الخيبري ؟ قال : أنا. قال : إن حاتماً أتاني في النـوم فأخبرني أنه قراكم بناقتك ، وأمرني أن أحملك وهذا بعير فخذه ، ودفعه إليه . بعد هــذه الحادثة ، أنّ ابنَ دَارَةَ أتى عَدِيّ بن حاتمٍ فقال :
أبوكَ أبو سَفَّانــــة الخَيْرِ لَم يَــزَلْ ***** لَدُنْ شَبَّ حتى ماتَ في الخيرِ راغبا
بهِ تُضْرَبُ الأمثالُ في الناس ميّتاً ***** وكان له ، إذْ كانَ حَيَّاً ، مُصــــاحِبا
قَرَى قبرُهُ الأضيــافَ إذ نَزَلوا بهِ ***** ولم يَقْـــــرِ قيرٌ قَبْلَـــــه قَطُّ راكِــــبا
بقي أن نذكر وصيّة حاتم ، فيُروى عن أبي صـــالح أن حاتماً أوصــــى عند مـوته فقال : إني أعهدكم من نفسي بثلاث :
1 ـ ما خاتلت جارة لي قط أريدها عن نفسها .
2 ـ ولا اؤتمنتُ على أمانة إلاّ قضيتها .
3 ـ ولا أُتيَ أحدٌ من قبلي بسوءة أو قال بسوء .
لقد ذكرنا الكثير من شعره في هذه العُجالة ونذكر الآن مقتطفات أخرى :
مقتطفـــــــــات من أعمـــــاله :
1 ـ روى أبو صالح عن مُحَدِّثيه أن حاتم قال :
أم والذي لا يَعْــــــلُمُ الغَيْــبَ غَيْـــرَهُ ***** ويُحْي العِظامَ البيضَ وهْيَ رميمُ
لقدْ كنتُ أطوي البطْنَ والزادُ يُشْتَهَى ***** مَخَافَــــةَ يومـــاً أن يُقالَ : لَئيــمُ
وما كان بي ما كان والّليـــــلُ مُلْبِسٌ ***** رِواقٌ لهُ فَــــوْقَ الإكــــارِمِ بَهيمُ
أَلُفُّ بحلسي الزادَ مِن دونِ صحْبَتي ***** وقَــــد آبَ نَجْمٌ واستـــــقَلَّ نُجُومُ
2 ـ وحاتم يرثي ملحان بن حارثة بن سعد بن حشرج ، الذي كان لا يُفارق حاتماً :
لبَيْكِ على مِلْحَــــانَ ضيــفٌ مُدَفَّعٌ ***** وأرمَلَةٌ تُزْجي مع الليــــلِ أرْمَلا
إذا ارْتَحَــــــلا لمْ يجـــدا بيتَ ليْلةٍ ***** وَلَمْ يَلْبَســــا إلاّ بِجاداً وَخَيْــــعَلا
وأوصَيْتَني أن أرفَع الظن صاعداً ***** وصاتَكَ واستُودِعْتَ تُرْباً وجندَلا
فلا انْفَكَّ رَمْسٌ بينَ أضْرُعَ فالّلوَى ***** يَصُــــبُّ عليه اللهُ وَدْفاً مُجَـــــلّلا
3 ـ وهذا حاتم يخاطب الحرث بن عمر الجفني ، وكان قد اسر عدداً من قومه :
أتْبَعْ بَني عبدِ شَمْسٍ أمْرَ إخوَتهِمْ ***** أهلي فِداؤكَ إن ضَرُّوا وإن نَفَعوا
لا تَجْعَلنَّا ، أبيْتَ الّعنَ ، ضاحيةً ***** كَمَعْشَرٍ صُلِمــُوا الآذانُ أو جُدِعوا
أو كالجَناحِ إذا سُلَّتْ قَوادِمُــــــهُ ***** صار الجناحُ لفَضـلِ الرِّيشِ يَتَّبِع‘
4 ـ ويقول لزوجته ماويّة أن تسأله وتسأل الأعراب عن كرَمه وجوده :
سَلي الأقوامَ يا مــــاويَّ عَنّي ***** وإن لم تســــأليهُمْ فاســـأليني
يُخَبِّرْكِ المُعاشِرُ والمُصــافي ***** وذو الرِّحْمِ الذي قد يَجْتَديني
بأني لا يَهِرُّ الكَلْبُ ضيـــــفي ***** ولا يُقْضَى نجِيُّ القَوْمِ دُونِي
ولا أعتَـــلُّ مِن فَنَــــعٍ بمَنــعٍ ***** إذا نابــتْ نوائــبُ تَعْتريــني
وإنيّ ، قد عَلِمْتِ ، إزاءُ طيٍّ ***** وتأبى طَــــيٌّ أن تسْتَـــطِني
إذا أنا لمْ أرَ ابنَ العَـــمِّ فوقي ***** فإنيّ لا أرى ابنَ العمِّ دُوني
ومِنْ كَرَمٍ يجورُ عليّ قومـي ***** وأيُّ الدَّهْرِ ذُو لمْ يَحْسـِدُوني
5 ـ أبيـــــات متفرّقـــــة :
إذا قَلَّ مالي أو نُكِبْتُ بنكبةٍ ***** قَنَيْتُ حيائي عِفَّةً وتَكَرُّما
--------------------------
ما ضـــر جـــاراً لي أجاوره ***** أن لا يكون لبابه ســـــــتر
أغضي إذا ما جارتي برزت ***** حتى يواري جارتي الخدر
---------------------------
سِلاحُكَ مَرْقِيٌّ ، فلا أنت ضائرٌ ***** عَدُوّاً ، ولكن وَجهَ مولاكَ تَقْطِفُ
------------------------
إذا ما عَزَمْتَ اليأسَ ألفيْتَهُ الغِنى ***** إذا عرفَتْهُ النَّفْسُ ، والطَّمعُ الفَقْرُ
1/10/2013 المهندس جورج فارس رباحية
المفــــــــــــــردات :
(1) ـ منطقة حائل : تقع شمال المملكة العربية الســـــعودية وشمال منطقة القصـــيم وعلى السفح الشرقي من جبل شُمَّر وتُحاذي من الشمال صحراء النفوذ الكبرى ، هي المنطقة التي عاش فيها حاتم وسكن وقومه بين جبلي ( أجا وسلمى) . إن بين أطلال الآثـار في حائل وهي كثيرة كان قصر للطائي موجوداً في توارن ، لكن عاتيات الزمن لم تترك منه إلاّ القليل ويكاد يتداعى .
(2) ـ قبر حاتم : يقع القبر في بلدة توارن التي تبعد عن حائل المدينة بحوالي 42كم باتجاه شمال غرب وتقع بين جبلي أجا وسلمى المجاورين لصحراء النفوذ الكبرى . وقبــــره ليس ككل القبور لأنه طويل أكثر مما ينبغي والتأكيد بأنه للطائي كما ذكر مدير السياحة والآثار بمنطقة حائل
المصــــــــادر والمــــــــــراجع :
ــــ شعراء النصرانية في العصر الجاهلي ج 1 : الأب لويس شيخو اليسوعي ، بيروت 1890
ــــ ديوان حاتم الطائي : دراسة وتحقيق د. عادل سليمان جمال – القاهرة
ــــ حاتم الطائي : سلسلة الروائع ، فؤاد إفرام البستاني ـ بيروت 1930
ــــ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973
ــــ مواقع على الإنترنت :
المهندس جورج فارس رباحية
هو حاتم بن عبد الله بن سَعد بن الحشْرَج بن امرئ القيس بن عَدِيّ بن أخزَم بن أبي أخْزَم _ واسمه هرومة ـــ بن ربيعة بن جَرْوَل بن ثُعَل بن عمرو بن الغَوْث بن طئ الطائي القحطـاني . يُكَنّى أبا سفّانة وأباعدي . وُلِدَ حاتم في أواخر النصف الأول من القرن الســـادس الميلادي أي حوالي عام 544 م وسكن وقومه وعاش على نصرانيته بين جبــلي ( أجا وسلمى) وتـــوفّي في بلدة (توارن) في منطقة حائل شمال السعودية (1) عام 605 م. ولا يُعْرَف شـــيئاً عن أبيه عبد الله ويعود ذلك لكونه توفّي وكان حاتم صغيراً ، فاسـتلمه جدّه سعد بن الحَشْرَج واعتنى بأمـــره ويقي عنده حتى شَبَّ وذهب في الجود مَذهَبه المعروف فاعتزله جدّه وتحوّل عنه لِما رأى من إفراطه .وأمّا أمّــه غَنِيَّة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس بن عدِيّ بن أخزم ، يلتــــــــقي نســبها مع نسـب أبيه امرئ القيس بن عدي ، كانت ســــخيّة اليد لا ترُدّ سائلاً، ولا تُليقُ شيئاً لجودها ، وهــذا ما أغضب إخوتَها ، فمنعوها مالها وحجروا عليها ســـنة يُطعمونها قوتها لا يزيدون ، وإذا مـا وجدوها كفّت عن جودها ، أعطوها عدداً من الإبــل ، لكن تصرّف إخوتها زاد من عزهما أن لا تقصُر ، وكيف تترك الكرَم والجود وقد عانت ما يُقاســــــيه كل أرمـــل محتـاج من ألم الفقر . فقد أتتها امرأةٌ من (هوزان) تطلب حاجـــة منها ، فوهبتـــــها ما أعطاه لها أخوتها من الإبل وقالت :
لَعَمْري لَقِدْ ما عَضّني الجوعُ عضَّةً ***** فآلَيْتُ ألا أمنــــعَ الدَّهـــــرَ جائعا
فماذا عَسَيْتم أن تقـــــولوا لأختِكـــمْ ***** سوى عَذْلِكم أوعَذْلِ مَنْ كانَ مانِعا
فقولا لهذا اللّائمي اليوم : أعفنـي ، ***** وإن أنت لم تفعلْ فعّضِّ الأصابعا
ولا ما تروْنَ اليـــــــومَ إلاّ طبيعـة ً ***** فكيف بتَرْكي يا ابن أُمِّ الطَّبـــائعا
أما امرأته : فلم يُعْرَف لحاتم سوى زوجتين هما : ماوية بنت حجرالغسانية والنوَّار هي بنـــت ثُرْمُلة البحترية من بني سلامان ثُعَل . وهناك أراء متباينــــة حول حاتم هل تزوّج ماوية قبــــل النَّوار أم بالعكس ، ولن ندخل بالتفاصيل لتشعّبها . أما أولاده فهـــم : سفّانة وعّدي ( رُوِي أن عدي كان يُشاهد وفي عنقه صليب من ذهب ) وعبـدا لله وينـفرد ابن كَثِير بذكر ولد رابع عن أقوال بعض المُحَدِّثين اسمه ثَوابة , فابنته سفّانــــــة وابنه عَدِي فقد أدركـا الإسلام ودخلاه أمـا ابنه عبدالله فلم يُعْرَف عنـه بشيء يُذكَرْ . وأيضاً لن ندخـل بالتفاصيل عن الأولاد للتبـــاين في رأي المؤرّخين هل يعودوا إلى ماوية أم إلى النَّـوار أم لكلتيهما إن أول ملك من ملوك الحيرة اتصل به حاتم كان عمرو بن هند ( توفي 578 م ) وكان حـــاتم في مقتبل العمر وهو بـــــهذه السن حقّق لنفسه مكانة واحترام والدليل على ذلك أنه حين دخــــل على عمرو بن هند، قال له ( بايعني ) ، ولا يُعقَل أن يسأل الملك شخصاً مغمورا من سُـــــوقَة قومه أن يُبايعه ، والأشبه ان يكون من نجباء قومه ، الكلمة بينهم ،فإذا بايع الملك ، سمع قومـه وأطاعوا وألزموا أنفســـهم ما أعطى صاحبهم من العهد والبيعة . هذا وليس لحاتم أخبـــار مع مَنْ خلَفوا عمرو بن هند ، حتى نصل إلى أبي قابوس النعمان بن المنذر ( 580 ـ 602 ) م ، حيث قــال لجلسائه يوماً : لأفسِدن بين حــــاتم الطائي و أوس بن حارثة ـــ وهو ســيد مـن سادات قومه ــ قــالوا لا تقدر على ذلك . قال بلى ، فدخل عليه أوس . فقال : يا أوس ما الذي يقول ؟ قال : وما يقـول؟ قال : إنه أفضل منك وأشــــرف . قال : أَبَيْتَ اللعنَ ، صــدق . والله لو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لأنْهَبَنَا في مجلس واحد . ثم دخل عليه حاتم ، فقـال له النعمان مثلمـا قال لأوس فقـال حاتم : صدق ، وأين أقع من أوس ، له عشرة ذكور أخَسّـهم أفضل مني ، ثم خرج وهــو يقول :
يُسائلني النعمان كي يســـتزلني ***** وهيهات لي أن أُستضام فأُصرعا
كفاني نقصاً أن أُضيم عشيرتي ***** بقول أرى في غيـــــره متوســـعا
فدهش النعمان وتحقّقت له مظاهر هذه السيادة ، وأعطى كل واحد منهم مائة من الإبل .
إن أخبار حاتم مع أمراء المناذرة قليلة على الرغم من الصِــــلات الطيبة التي كانت تربطــهم بطيء ، خاصة في عهد النعمان بن المنذر الذي أصهر إليهم ، كما كانت علاقة طيء بملــــوك الفرس وطيدة ، فالمعروف أن كسرى2" أبرويز ( 590 ـ 628 ) م قرَّبَ سيِّداً من ســــــــادات طيء ، وهو إياس بن قَبِيصة ، و ولاّه على عين التمر وأقطعه ثلاثين قرية على شاطئ الفرات ، ولما مات عمرو بن هند ولاّه الحيرة إلى أن جاء النعمان بن المنذر . ولما قُتِلَ النعمان عَيَّـــن كِســـرى إياس بن قبيصة ملكاً على الحيرة ، وجعله قائد جنده يوم ذي قار ( 610 ) م
وإذا كنّا لا نجد لحاتم شِعْراً في المناذرة ، فإننا نرى له مديحاً في الغساســــنة . وأن حاتماً لم يمدح هؤلاء ولا هؤلاء طمعاً في المال أو مَحبّة للعطاء ، وإنما كان يتشفّع بشِعره لقومـــــــه . فصِلات طيء بالمناذرة كانت قوية يشوبها السلام خلا الغارة التي شنّها عمرو بن هند. فلم يكن لحاتم أن يمدحهم ، حيث لا مُبَرِّر للمديح . أما علاقة طيء بالغساسنة فكانت غير مُستقرّة ، وقد حاول الحارث بن جبلة ( 529 ـ 569 ) م أن يُصْلِح بين عشائرها ليضع حداً للحــــــرب ضد بعضها ، لكن طيئاً عادت للحرب فيما بينها بعد موت الحارث . كما أغارت على الغســـاسنة ، وأغاروا عليها بدورهم وأسروا منهم .
وكان مديح حاتم في ملوك عصره ، فيه ترَفُّع وإباء ، شِعْر رئيس شــــريف ، جاء يفكّ عُناة قومه ، وليس شعر مُجْتَد عافٍ كما يتبيّن من من مخاطبة ابن عمّه : وَهْم بن عمـــرو وهو في الأسر :
فأبشِرْ وقَرَّ العين منك ، فإنّني ***** أجيء كريماً ، لا ضعيفاً ولا حَصِر
كان حاتم مولعاً بكريم الفِعال ، ما ترك شيئاً محموداً إلاّ أتاه ، وما رأى أمراً معيباً إلاّ تحاشاه ، فطر على حب الخير ، واجتناب الشر ، وتلك مكرمة لا تتحقّق إلاّ لأفذاذ الرجال فالجود صفة لازمة للإنسان الكريم اكتسبها من أمّه غَنِيَّة ، فالجــواد يُعطي مَنْ يقصده ، عرفه أو لم يعرفه ، ويبذل ما فــي يده على شدّة حاجته إليه . وقال العرب أن أجوَد العـــرب ثلاثة حـــــاتم الطائي وكعب بن إمامة وهَرِم بن سنان . وقد أنصفَ أبو هلال العسـكري حين قـــال : (( وقد علمت أن حاتماً وكعباً وهَرِماً لم يُجعلوا أمثالاً في الجود لِعِظَم عطاياهم في القدر، لأن الواحـــد منهم إنما كان يقري ضيفاً أو يهب بعيراً ، أو عدداً من الشاة ، ولكن ذهب صيتهم في السماح ، وبَعُدَ ذكرهم في الجود لأنهم كانوا يعطون وهم محتاجين )) . ولكرم حاتم ونبله أبى أن يطعم ضيفه في وقت الجدب إلاّ ما يُطعمه الضيفان في وقت الرخاء ، فكان فعله شاهداً لقوله :
أَلَمْ تَعْلَمِي أنّي إذا الضيف نابني ***** وعَزَّ القِرَى ، أقري السَّديفَ المُسَرْهَدا
وهذا ما تبيّن لنا من أن جود حاتم إنما صدر عن حب لفعل الخير ورغبة في مساعدة المحتاج ، فالوسيلة الأولى لجلب الضيف كانت إيقاده النار بمكان مرتَفع حتى يراها المُدْلِج فيأوي اليها ، فإيقاده النار ليس مقصوراً في زمن الرخاء ، بل أكثر ما كان في وقت الجدب والمجاعة فقال :
أوْقِدْ ، فإنَّ الليــلَ ليلٌ قَرُّ ***** والريحُ يا موقِدُ ريحٌ صِرُّ
عَسَى يرى نارك مَن يَمُرَّ ***** إنْ جَلَبْتَ ضيفاً فأنتَ حُرُّ
أما الوسيلة الثانية لجلب ضيفه ، كانت كلابه فتُحَقّق له أمانيه في إغاثة الناس وعونـــهم ، فتخرج كلاب حاتم وقد أحسّت أن عليها عملاً وُكِّلَ بها فتدلّهم بنباحها وتهديهم إلى مكانه .
ومن قصص جوده وكرَمه ، فقد ضافه ضيف في سنة مَحْل وجَـــهَد الناس ، وتعلّقوا بما في أيديهم من يسير القوت وضَنّوا به ، ووقفت كلابهم للطُرَّاق كأنها تُشارك أصحابها في الحفاظ على زهيد القوت ، فلم يمسك حاتم يده كما أمسكوا ، ولم يُبقِ هذا القليل الذي يملك بل جادَ به . فلم يكن عنده سوى ناقة ــ يُقال لها أَفْعَى ــ يُسافر عليها ، فنحرها ، فكيف أن يطيق الكريم بأن يرى ضرّاً قد حاق بالناس ، ولا يرفعه :
لمّا رايتُ الناسَ هَرَّت كِلابُهُم ***** ضربتُ بسيفي ساقَ أَفْعَى فَخَرَّتِ
ولا يتْركُ المرءُ الكريمُ عِيالَه ***** وأضيافَهُ ما ســـــاقَ مالاً بِضَرَّتِ
وكان مما تكلفه حاتم فَقْده امرأته ماويّة ، وقد تكاتفت ماوية مع النَّوار ــ رغم ما يكون عادة بين الضرّتين من تبــــاعد وتباغض ــ على عذل حاتم ولومه ، فقد رأيا في جــــوده خطراً يُهَدّدهما فاشتدّا عليه وألحّتا على أن يُغَيّر من إلْفه الذي ألِف . فلم يأبه بكلامهما . وأتى ماوية ابن عــــمٍ لها فقال لها ما تصنعين بحاتم ؟ فو الله لن يُغَيّر من جوده وكرمه ، فأصرّت ماوية على فعلــها حتى هجرته ، أما النَّوار فلم تهجره كما فعلت ماوية ، فأكثرت من لومـــــه وأطالت في عذله ، ورأت أن أهله وعياله أحقّ بما يُعطيه للناس ، فما الذي يخافه عليه هذا البذل ؟ قفال لها حاتم : هل المـــال ــ إذا أبقاه ــ نافع له ؟ كلا ، سيأخذه غيره إذا مات ، ولن يبقى له غير سـوء الثناء كلما ذُكِر لبخله وامتناعه عن عون المحتاج :
مهلا نوار ، أقلي اللوم والعـذلا ***** ولا تقــــولي لشيء فات : ما فعــــلا
ولا تقولي لمـــال كنت مهلكـه : ***** مهلا ، وإن كنت أعطي الجنَّ والخَبَلاَ
يرى البخيل سبيل المـــــال واحدة ***** إنّ الجواد يرى ، في ماله ، ســـبلا
ليت البخــــــيل يراه النـــاس كلّهم ***** كما يراهم ، فلا يقرى ، إذا نـــــزلا
إن البخيـــل إذا ما مات يتبـــــــعه ***** سوءُ الثناء ، ويحوي الوارثُ الإبـلاَ
وعن الوضّاح بن معبد الطائي قال : وَفَدَ حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرَمه وأدناه ، ثم زوّده عند انصرافه جملين ذهباُ ، وورقاً غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل ، فلما أشرف على أهله تلقّته أعاريب طيء ، فقالت : يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهلنا بالفقر ! فقال حاتم : هلم فخذوا ما بين يدي فَتَوَزّعوه ، فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه فخرجت إلى حاتم جاريته طريفة فقالت له : اتّق الله وابقِ على نفْسك ، فما يدع هؤلاء دينــــاراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً . فقال :
قالت طريفة ما تبقي دراهمـــنا ***** وما بنا ســــرف فيها ولا خرق
إن يفنِ ما عنـــــدنا فالله يرزقنا ***** ممن ســوانا ولسنا نحن نرتزق
ما يألف الدرهم الكاري خِرقَتَنا ***** إلا يمــــرّ عليــــها ثم ينطـــــلق
إنا إذا اجتمعت يومـــاً دراهمنا ***** ظلت إلى سبل المعروف تستبقُ
وقيل عن كرم وجود حاتم إن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار جود حاتم فأستغربها فبلغه أن لحاتم فرسا من كرام الخيل عزيزة عنده فأرسل إليه بعض حجابه يطلبون الفرس فلمــا دخل
الحاجب دار حاتم أستقبله أحسن استقبال ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب القيصر وكـــانت المواشي في المرعى فلم يجد إليها سبيلا لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول القيصر قد حضر يستميحه الفرس فساء ذلك حاتم وقال :هل أعلمتني قبل الآن فأنى فد نحرتها لك إذ لم أجــد جزورا غيرها فعجب الرسول من ســـخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا .
إن جرثومة الجود والكرم التي انتقلت من غَنِيَّة إلى حاتم ما لبثت أن أصابت ابنته ســـــفّانة أيضاً ويُقال إنها كانت من أجوَد نساء العرب ، فقد ذكر احدهم أن أباها كان يُعطيها الصــرمة ( جزء من الإبل ) من إبله ولكنها لم تكن تحتفظ بها بل تهبها للناس ، وذات يوم اســـــــتدعاها والدها وقال لها : يا بُنَيّة ، إن القرينين إذا اجتمعا في المال اتلفاه ، فإما أن أعطي وتمســكي أو امسك وتُعطي ، فإنه لا يبقى على هذا شيء ، فاجابته : والله لا أمسك أبداً قال : وأنا لا امـسك . قالت : لا نتجاور فقاسمها ماله وتباينا . أما ابنه عَدِي شديد الوفاء ـ ســـــليم الفطرة ،متواضعاً وكريمـــاً كآل حاتم ، كان يُكَنّى أبا طريف ، وأبا وَهْب وكان طويلا جســـيماً ، إذا ركب الفرس كادت رجـــلاه تَخُطَّان في الأرض ، وقيل عن كرَمه : أن الشعث بن قيس أرسل إليه يســـتعير قُدُر حاتم ، فملأها عَدِي وحملها إليه . فقال الأشعث : إنما أردناها فارغة .
هذا غيض من فيض عن كرم وجود حاتم وعائلته . فقد كان حاتم : كريم ، جواد ، صـــفوح ، عفيف ، صدوق ، وَفِيّ ، مُسالِم ، مُتواضِع ، أبِيّ ، شريف ، طويل الصمت مُحِبّ لقومـــــــه . ولقد صــــدق قول العرب أنه كان كريماً في حياته وفي مماته ، حتى ضُرِبَ فيه المثل فقال أبو بكــر الخرائطي عن مُحَدّثيه : مَرَّ نفَرٌ من عبد القيس بقبر حاتم طيء فنزلوا قريبـــــاً منه ، فقام إليه بعضهم يُقــــال له : أبو الخيبري فجــــعل يركض قبره (2) برجله . ويقول : يا أبا جــــعد أقرنا فقال له بعض أصحابه : ما تُخاطب من رمّــــة وقد بُلِيَت ؟ وأجنهم الليل فناموا ، فقـــام صاحب القول فَزِعاً يقول : يا قوم عليكم بمطيــــكم فإن حاتماً أتاني في النوم وأنشدني شـــعراً وقد حفظته يقول :
أبا الخيبــري وأنت امــــرؤ ***** ظلوم العشـــيرة شتّــــامها
أتيت بصــحبك تبغي القِرى ***** لدى حفرة قد صَدَت هامَها
أتبغي لي الذنْب عند المبيت ***** وحولك طيء وأنعـــــامها
وإنا لنشــــــبع أضيـــــــافنا ***** وتأتي المطي فنعتــــــامها
قال وإذا ناقة صاحب القول تكوس ( تتكوّم ) عقيراً فنحروها وقاموا يشتوون ويأكلـون وقالوا : والله لقد أضافنا حاتم حياً وميتاً . قال : وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا ، فإذا رجـــل ينوه بهم راكباً جمَلاً ويقود آخر . فقال : أيكم أبو الخيبري ؟ قال : أنا. قال : إن حاتماً أتاني في النـوم فأخبرني أنه قراكم بناقتك ، وأمرني أن أحملك وهذا بعير فخذه ، ودفعه إليه . بعد هــذه الحادثة ، أنّ ابنَ دَارَةَ أتى عَدِيّ بن حاتمٍ فقال :
أبوكَ أبو سَفَّانــــة الخَيْرِ لَم يَــزَلْ ***** لَدُنْ شَبَّ حتى ماتَ في الخيرِ راغبا
بهِ تُضْرَبُ الأمثالُ في الناس ميّتاً ***** وكان له ، إذْ كانَ حَيَّاً ، مُصــــاحِبا
قَرَى قبرُهُ الأضيــافَ إذ نَزَلوا بهِ ***** ولم يَقْـــــرِ قيرٌ قَبْلَـــــه قَطُّ راكِــــبا
بقي أن نذكر وصيّة حاتم ، فيُروى عن أبي صـــالح أن حاتماً أوصــــى عند مـوته فقال : إني أعهدكم من نفسي بثلاث :
1 ـ ما خاتلت جارة لي قط أريدها عن نفسها .
2 ـ ولا اؤتمنتُ على أمانة إلاّ قضيتها .
3 ـ ولا أُتيَ أحدٌ من قبلي بسوءة أو قال بسوء .
لقد ذكرنا الكثير من شعره في هذه العُجالة ونذكر الآن مقتطفات أخرى :
مقتطفـــــــــات من أعمـــــاله :
1 ـ روى أبو صالح عن مُحَدِّثيه أن حاتم قال :
أم والذي لا يَعْــــــلُمُ الغَيْــبَ غَيْـــرَهُ ***** ويُحْي العِظامَ البيضَ وهْيَ رميمُ
لقدْ كنتُ أطوي البطْنَ والزادُ يُشْتَهَى ***** مَخَافَــــةَ يومـــاً أن يُقالَ : لَئيــمُ
وما كان بي ما كان والّليـــــلُ مُلْبِسٌ ***** رِواقٌ لهُ فَــــوْقَ الإكــــارِمِ بَهيمُ
أَلُفُّ بحلسي الزادَ مِن دونِ صحْبَتي ***** وقَــــد آبَ نَجْمٌ واستـــــقَلَّ نُجُومُ
2 ـ وحاتم يرثي ملحان بن حارثة بن سعد بن حشرج ، الذي كان لا يُفارق حاتماً :
لبَيْكِ على مِلْحَــــانَ ضيــفٌ مُدَفَّعٌ ***** وأرمَلَةٌ تُزْجي مع الليــــلِ أرْمَلا
إذا ارْتَحَــــــلا لمْ يجـــدا بيتَ ليْلةٍ ***** وَلَمْ يَلْبَســــا إلاّ بِجاداً وَخَيْــــعَلا
وأوصَيْتَني أن أرفَع الظن صاعداً ***** وصاتَكَ واستُودِعْتَ تُرْباً وجندَلا
فلا انْفَكَّ رَمْسٌ بينَ أضْرُعَ فالّلوَى ***** يَصُــــبُّ عليه اللهُ وَدْفاً مُجَـــــلّلا
3 ـ وهذا حاتم يخاطب الحرث بن عمر الجفني ، وكان قد اسر عدداً من قومه :
أتْبَعْ بَني عبدِ شَمْسٍ أمْرَ إخوَتهِمْ ***** أهلي فِداؤكَ إن ضَرُّوا وإن نَفَعوا
لا تَجْعَلنَّا ، أبيْتَ الّعنَ ، ضاحيةً ***** كَمَعْشَرٍ صُلِمــُوا الآذانُ أو جُدِعوا
أو كالجَناحِ إذا سُلَّتْ قَوادِمُــــــهُ ***** صار الجناحُ لفَضـلِ الرِّيشِ يَتَّبِع‘
4 ـ ويقول لزوجته ماويّة أن تسأله وتسأل الأعراب عن كرَمه وجوده :
سَلي الأقوامَ يا مــــاويَّ عَنّي ***** وإن لم تســــأليهُمْ فاســـأليني
يُخَبِّرْكِ المُعاشِرُ والمُصــافي ***** وذو الرِّحْمِ الذي قد يَجْتَديني
بأني لا يَهِرُّ الكَلْبُ ضيـــــفي ***** ولا يُقْضَى نجِيُّ القَوْمِ دُونِي
ولا أعتَـــلُّ مِن فَنَــــعٍ بمَنــعٍ ***** إذا نابــتْ نوائــبُ تَعْتريــني
وإنيّ ، قد عَلِمْتِ ، إزاءُ طيٍّ ***** وتأبى طَــــيٌّ أن تسْتَـــطِني
إذا أنا لمْ أرَ ابنَ العَـــمِّ فوقي ***** فإنيّ لا أرى ابنَ العمِّ دُوني
ومِنْ كَرَمٍ يجورُ عليّ قومـي ***** وأيُّ الدَّهْرِ ذُو لمْ يَحْسـِدُوني
5 ـ أبيـــــات متفرّقـــــة :
إذا قَلَّ مالي أو نُكِبْتُ بنكبةٍ ***** قَنَيْتُ حيائي عِفَّةً وتَكَرُّما
--------------------------
ما ضـــر جـــاراً لي أجاوره ***** أن لا يكون لبابه ســـــــتر
أغضي إذا ما جارتي برزت ***** حتى يواري جارتي الخدر
---------------------------
سِلاحُكَ مَرْقِيٌّ ، فلا أنت ضائرٌ ***** عَدُوّاً ، ولكن وَجهَ مولاكَ تَقْطِفُ
------------------------
إذا ما عَزَمْتَ اليأسَ ألفيْتَهُ الغِنى ***** إذا عرفَتْهُ النَّفْسُ ، والطَّمعُ الفَقْرُ
1/10/2013 المهندس جورج فارس رباحية
المفــــــــــــــردات :
(1) ـ منطقة حائل : تقع شمال المملكة العربية الســـــعودية وشمال منطقة القصـــيم وعلى السفح الشرقي من جبل شُمَّر وتُحاذي من الشمال صحراء النفوذ الكبرى ، هي المنطقة التي عاش فيها حاتم وسكن وقومه بين جبلي ( أجا وسلمى) . إن بين أطلال الآثـار في حائل وهي كثيرة كان قصر للطائي موجوداً في توارن ، لكن عاتيات الزمن لم تترك منه إلاّ القليل ويكاد يتداعى .
(2) ـ قبر حاتم : يقع القبر في بلدة توارن التي تبعد عن حائل المدينة بحوالي 42كم باتجاه شمال غرب وتقع بين جبلي أجا وسلمى المجاورين لصحراء النفوذ الكبرى . وقبــــره ليس ككل القبور لأنه طويل أكثر مما ينبغي والتأكيد بأنه للطائي كما ذكر مدير السياحة والآثار بمنطقة حائل
المصــــــــادر والمــــــــــراجع :
ــــ شعراء النصرانية في العصر الجاهلي ج 1 : الأب لويس شيخو اليسوعي ، بيروت 1890
ــــ ديوان حاتم الطائي : دراسة وتحقيق د. عادل سليمان جمال – القاهرة
ــــ حاتم الطائي : سلسلة الروائع ، فؤاد إفرام البستاني ـ بيروت 1930
ــــ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973
ــــ مواقع على الإنترنت :