تاريخ علم الفيزياء عند المسلمين
يتعلق علم الفيزياء أكثرَ ما يتعلق بأعراض المادة وما يعتريها من تغيرات غير كيميائية[1]؛ فالماء مادة سائلة عند درجة الحرارة العادية، ويغدو بخارًا إذا ما سخِّن إلى درجة حرارة مائة أو تزيد، هذا التغير الذي يطرأ على حالة الماء من السائلة إلى الحالة البخارية، أو إلى الحالة الصُّلبة بالبرودة - مَثلٌ يسير جدًّا من أمثلة التغيرات التي تطرأ على أعراض المادة، وسواءٌ كانت هذه التغيرات يسيرة أو معقدة، فإنها لم تكن لتشغلَ بال العربي في جاهليته، ولم يُكِنَّ اهتمامًا يذكر لأي علم إلا بالقدر الذي يقضي به حاجته المعيشية البدائية.
بَيْدَ أن الأمر تغيَّر بالنسبة إليه تغيرًا جذريًّا بعد أن اعتنق الإسلام، وصار أحد الساعِين إلى تحقيق مبادئه وأهدافه، فتغيَّرت نظرتُه إلى ما يحيط به من موجودات، وصار ينظر إليها بذهنٍ متفتح، يسبر غَوْرها، ويكتشف أسرارها، ويعلِّل ما يطرأ عليها.
إن الأمرَ لم يعُدْ مصلحة آنيَّة بقدر ما هو استجابة إلى أمر الله في التفكير في كل ما سخَّر لهذا الإنسان.
وما من شك أن عظمة جلال قدرة الله لا تدرك مثل ما تدرك عن طريق التفكير، وإمعان العقل في مخلوقات الله الكونية، ومن رحمة الله بالإنسان أن سخَّرها له وذلَّلها ومكَّنه منها.
﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 14].
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [الملك: 15].
﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 10].
والحق أن المسلمين الأوائل أدركوا أن التسخيرَ والتذليل والتمكين، يقتضي الدراسةَ والبحث في نواميس هذه الكائنات.
فما لبث أن توافرت ترجمات كتب حضارات الأمم الأخرى، وعلى الأخص كتب اليونان، حتى انكبت فئةٌ منهم بحماسة عليها، وبخاصة على كتابَي أرسطاطاليس: "الكون والفساد" و"المسائل الميكانيكية"، وكتاب أرشميدس "الآلات الحربية" وكتاب "في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه" وغيرها، فكان لها أثرٌ بالغ في تطور علم الفيزياء عند المسلمين؛ إذ لم تمضِ سوى القرون الثلاثة الأولى، حتى كانت هذه الكتب قد أُشبعت دراسةً بالتنقيح والتصحيح، وأخذت المعرفةُ الواسعة والخبرة العملية الشخصية تؤتي ثمارَها عند عدد وفير من علماء المسلمين، الذين توخَّوا الموضوعية في البحث، والذين استبعدوا الاعتبارات الشخصية والمصالح الذاتية، والتزموا الحيدة والنزاهة في بحوثهم، فأخذوا يضيفون إلى ما اكتسبوه من علوم الأمم الأخرى، يضيفون كنوزًا مما توصلوا إليها بالخبرة الحسية والتجرِبة العلمية والعملية.
وتحولت العلوم الطبيعية (الفيزيائية) على أيديهم من علوم كانت تقوم عند اليونان على المنهج العقلي الاستنباطي، إلى علوم تقوم على المنهج التجريبي الاستقرائي، الذي يقوم على القياس والوزن والتَّجرِبة، ومنه قول جابر - وهو من أوائل من اشتغل بعلم الفيزياء والكيمياء -: "فمن كان دَرِبًا كان عالِمًا حقًّا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكنْ عالِمًا، وحسبك بالدُّربة في جميع الصنائع أن الصانعَ الدَّرِبَ يحذِقُ، وغير الحذق يعطل".
ولقد كان للمسلمين نتيجةَ هذا الإقبال الشديد على دراسة المواد، وما يعترضها ويعتريها من تغيرات، وفهم النواميس التي تضبطها - كان لهم إنجازات رائعة، وأعمال شتى، يصعب حصرُها في هذه العجالة؛ لذا يكتفى بالإشارة إلى أهمهما: علم الحيل وما يتصل به، أو ما يسمى اليوم "علم الميكانيك"، كان آنئذٍ من العلوم الطبيعية التي تنطوي تحت علم الفيزياء، وعلمُ الحيل يتناول دراسة الأجسام من حيثُ سكونُها وحركتها تحت تأثير أنواع القوى المختلفة التي تؤثِّر عليها، يشمل هذا العلم - فيما يشمل - جرَّ الأثقال بالقوة اليسيرة، بما فيه استخدام العتلات والآلات المناسبة، وصناعة الآلات العجيبة.