تاريخ علم الكيمياء عند المسلمين
لا شك أن معرفة عرب الجاهلية بالكيمياء ليست أفضل - إن لم تكن أسوأَ - من معرفتهم بالفيزياء، وأنى لهم بجوهر المادة، والتغيرات التي تطرأ عليها؛ نتيجة احتراقها أو معاملتها بمادة أخرى تحت ظروف معينة؟ أنى لهم ذلك وهم لا يُعِيرون اهتمامًا إلا لما يحتاجونه بالضرورة في حياتهم البدائية المنعزلة عن الأمم ذوات المدارس والمراكز التعليمية؟
ولقد كان من شأن الفتوحات الإسلامية بعامة - وفتح مصر بخاصة - أن تفتحت الأعينُ على صنوف المؤلَّفات فيها، ومنها الكتب التي تتناول صناعةَ الذهب، وأنواعًا من العمليات الكيميائية المختلفة، حتى كانت محصلةُ عمل المسلمين في حقل الكيمياء - في نهاية المطاف - أبينَ وأظهر عما كانت في مجال الفيزياء.
أما كلمة كيمياء بمعنى صناعة الذهب والفضة، فقد عرفها المسلمون منذ القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، وقد أدى بهم هذا المفهوم إلى الاشتغال بالكتب الكيميائية في وقت مبكِّر، وهذا ما يفسر أن أول كتاب نُقِل إلى اللغة العربية كان كتابًا - أو بالأحرى رسالة - في الكيمياء.
وتبيِّن المصادرُ التاريخية أن أول عمل مكثف انصب على ترجمة الكتب الكيميائية وغيرها - حصل في زمن خالد بن يزيد (ت 90هـ/ 708م)؛ فقد ذكر ابن النديم في الفهرست أن خالد بن يزيد بن معاوية، وكان يسمَّى حكيم آل مروان: "كان فاضلاً في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين، ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصَّنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقلٍ كان في الإسلام من لغة إلى لغة".
أما حاجي خليفة صاحب كتاب "كشف الظنون"، فيقول عن خالد: إنه "أول تكلم في علم الكيمياء، ووضع فيها الكتب... ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الإسلام".
ولقد انصرف خالد بن يزيد انصرافًا تامًّا إلى دراسة العلوم بعامة، وعلم الصنعة أو الكيمياء بخاصة، وذلك بعد أن اختزلت الخلافةُ دونه، فلم يجد منها عوضًا إلا أن يبلغ آخر هذه الصناعة.
وله في الكيمياء رسائل، وله فيها شعر كثير كذلك، وإذا لم يحقق خالد بن يزيد شيئًا في مجال الكيمياء، فإنه وضع اللبنة الأولى على طريق البحث وعمل التجربة.
فلما انتقل مركزُ العلم إلى الإسكندرية بعد أُفول نجمِه في اليونان، امتزج العلمُ النظري بالرُّوح التصوفية السائدة هنالك، فكان أن امتزجت الكيمياء بالسِّحر امتزاجًا أعاق تقدمها في أوروبا إبان العصور الوسطى، لكن ظهور الإسلام وفتح مصر وسوريا وفارس غيَّر الموقف، إذ نفض المسلمون الأولون كثيرًا من الألغاز الصبيانية التي كانت مدرسةُ الإسكندرية قد أدخلتْها على العلم، وقاموا بتنقية الجو العقلي، فكانوا باحثين عن المعرفة، يشتعلون حماسةً وجدًّا؛ فقد أذكت الرُّوحُ الفكرية الجديدة التي منَّ اللهُ بها عليهم حبَّ البحث العلمي الأمين، واتبعوا المنهج الذي يتفق مع تعاليم الدِّين الحنيف، فكانوا أولَ من طبَّق المنهج العلمي السليم في دراسة "الظاهرة الكيميائية".
فحفلت آثارُهم العديدة بجهودهم العلمية، ونتاج عبقريتهم، التي ضربت صفحًا عن السِّحر وعن الغموض.
وأما أصل كلمة كيمياء أو الكيمياء، فهو عربي، كما وردت في كتاب "مفاتيح العلوم" لأبي عبدالله محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي (ت ٣٨٧هـ/٩٩٧م)، واشتقاقه من: "كمي، يكمي" إذا ستر وأخفى... والمحققون لهذه الصناعة يسمُّونها الحكمةَ على الإطلاق، وبعضهم يسمِّيها الصَّنعة.
ولقد كانت الكيمياءُ في العصر اليوناني الرُّوماني من علوم السِّحر والتوهيمات المبهمة، وكانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتنجيم؛ لذلك كان الذَّهبُ يمثِّل الشمسَ، والفضةُ القمرَ، والحديد المريخ، والزئبق عطاردًا، والنُّحاس الزُّهرة، والقصدير هرمس.
ومع أن الكيمياءَ التي تُرجمت تمثل علمًا وجهلاً، حقيقة ووهمًا، إلا أن المسلمين الذين اشتغلوا بها واستهتوتهم مباحثُها، أضفَوْا عليها أصالةَ البحث العلمي؛ حيث أدخلوا التجرِبةَ في دراسة الكيمياء، وكان لهذه الخطوة الحاسمة أثرُها البالغُ نحو التقدم، عما كان عند اليونان من فروض مبهمة في هذا الموضوع، وكانوا لا يقبلون شيئًا باعتباره حقيقةً، ما لم تؤيِّدْه المشاهدة، أو تحقِّقْه التجرِبةُ العلمية المتقنة في بحوثهم.
والمتتبع للكتب التي تناولت موضوعاتٍ كيميائية، يجد أنها لا تعدو أنها تمثِّل أحدَ اتجاهين:
اتجاه يتميز بالطابع الصوفي الذي يعالج آراء فلسفية غامضة بوجه عام، ربما يصل المطلع على هذه الكتب إلى قناعة أنَّ مؤلِّفيها أنفسهم لا يدركون كثيرًا مما أوردوا فيها.
واتجاه آخر يختلف عن الاتجاه الأول اختلافًا بيِّنًا، وإن كان لا يخلو بعضُها من فقراتٍ غامضة متناثرة هنا وهناك بين صفحات الكتاب، إلا أنها تقوم - بجملتها - على أساسٍ تجريبي، وبها - كما يذكر فيدمان الفيزيائي التجريبي - ارتبطت وتطورت الكيمياءُ في بلاد الغرب، وكان منها الكيمياء الحديثة التي يعيشها الناس منذ القرن التاسع عشر الميلادي.
وما من شك أن الذين اشتغلوا بالكيمياء - في بادئ الأمر - كانوا يَصْبون إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب وفضة، والحصول على الإكسير الذي ينفعهم في ذلك، أو يطيل أمد الشباب، الأمر الذي دفعهم إلى القيام بعمليات كيميائية كثيرة، فتكوَّن عندهم - نتيجة لذلك - خبرةٌ، انعكست على المواد الكيميائية التي اكتشفوها لأول مرة؛ مثل اكتشاف حمض الكبريت، الذي يعتبر خبز الصناعة، بل كان إلى وقت قريب يعتبر مقدار استهلاكه مقياس تقدم الأمم في مجال الصناعة، وقد سماه المسلمون: زيت الزاج الأخضر، وسماه الكيميائي الأوربي الشهير ألبرت الكبير - الذي عرفه عن طريق الكتب العربية المترجمة -: كبريتَ الفلاسفة أو روح الزاج الروماني.
ومثل اكتشاف أحماض حضَّرها المسلمون، وكان لها دور رئيسي في قوانين الكيمياء التي اكتشفت منذ القرن التاسع عشر الميلادي مادة "الزنجفر"، وهي مادة كبريتيد الزئبق، وقد نسب القانون، الذي استنبط من جراء هذا التفاعل وتفاعلاتٍ كيميائية أخرى مثيلة، ومفاده: "أن أيَّ اتحاد بين عنصرين كيميائيين يحصل وَفْقًا لنسبة وزْنيَّة معينة من كل منهما" - نسب إلى الكيميائي الفرنسي بروست proust (ت١٢٤٢هـ/١٨٢٦م).
والمطلع على بعض كتب المسلمين الكيميائية، يجد أنهم ذكروا فحوى هذا القانون في كتبهم، قبل وفاة بروست بأكثر من ثمانية قرون؛ فقد ورد في كتاب "مفاتيح العلوم" للخوارزمي (ت ٣٨٧هـ/٩٩٧م) "أن الزنجفر يُتَّخذ من الزِّئبق والكبريت، يجمعان في قوارير ويوقد عليها، فيصير زنجفرًا، وللنار قَدْرٌ تُخرجه التجرِبةُ مرة أخرى، والوزن أن تأخذ واحدًا من زئبق وواحدًا من كبريت".
وقد ورد مفهوم هذا القانون مرة أخرى في كتاب "إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد"؛ لصاحبه محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري الأكفاني (ت 749 هـ/١٣٤٨م)، وذلك على النحو الآتي: "ومن الحكماء مَن سلك طريقًا آخر لتحصيل المطلوب بأن عرف نِسَب الفلزات بعضها إلى بعض في الحجم والوزن، وألَّف من جملة منها جسمًا يساوي وزن المطلوب وحجمه، ويُعرَف هذا التحليلُ بالموازين".
ولعل بروست استفاد من الترجمات اللاتينية التي كانت متوفرةً وميسورة لأهل العلم في أوربا بعامَّة - وفي فرنسا بخاصة - منذ أمدٍ بعيد.
ومن الموادِّ التي اكتشفها المسلمون وكان لها أهميتُها في العمليات الكيميائية التي تتعلق بمعدِن الذهب: "الماءُ الملكي" الذي يذيب الذَّهب مَلِك المعادن، وقد حضِّر من جراء معاملة مِلح النَّشادر - الذي كان يُستخرج من إسطبلات الخيل والجِمال - بحمض الآزوت.
ومما يجدر ذِكرُه في هذا المقام أن العاملين في حقل الكيمياء من المسلمين، كثيرًا ما كانوا يعوِّلون على معدن الزئبق وعنصر الكبريت في عملياتهم الكيميائية، التي يتوخَّون فيها تحويلَ المعادن الخسيسة إلى ذهبٍ، فليس عجيبًا أن يَرِد في كتاب "رتبة الحكيم" لـ مسلمة بن أحمد المجريطي (ت 397هـ/١٠٠٧م) وصفُ التجرِبة التي أدت إلى تكون أكسيد الزئبق.
لكن العجيب أن يقوم لافوازيه (ت ١٢٠٩هــ/١٧٩٤م) بالتجرِبة نفسها، وبعد نحو ثمانية قرون من وفاة المجريطي، وتقوده والكيميائي بريستلي (ت١٢١٩هـ/١٨٠٤م) إلى قانون مصونية المادة الذي يفيد: "لا يحدث فرق ولا تغيير في أوزان المواد الداخلة في التفاعل وأوزان المواد الناتجة عن التفاعل نفسه"، ولعل لافوازيه أدرك من خلال تجرِبته ما فات المجريطي، وهو أن قِسمًا ضئيلاً من الزئبق قد تبخر، وهذا القسم الضئيل كان مساويًا لوزن الأكسجين الذي اتحد بالزئبق وكوَّن المادة الحمراء (أكسجين الزئبق).
ومن المحتمل جدًّا أن حساسية الميزان الذي استخدمه المجريطي لم تصِلْ إلى المستوى الذي بلغته حساسية الميزان الذي استخدمه لافواريه أو بريستلي.
ويحسن أن يشار بهذه المناسبة - وقد ورد اسم لافوازيه الفرنسي - ما جاء في كتاب "حضارة العرب" لمؤلفه غوستاف لوبون الفرنسي أيضًا، حيث ذكر فيما ذكر: "وقال بعض المؤلفين: إن لافوازيه هو واضع علم الكيمياء، فنسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم، ومنها علم الكيمياء، صار ابتداعه دفعة واحدةً، وأنه كان عند العرب من المختبرات ما وصلوا به من اكتشافات لولاها ما استطاع لافوازيه أن ينتهي إلى اكتشافاته".
ويذكر في موضع آخر: أن عددًا ليس بقليل من كتب جابر نُقل إلى اللغة اللاتينية، وأن كتاب "الاستتمام" - الذي هو من أهم كتبه - نُقل إلى اللغة الفرنسية في سنة (١٠٨٣هـ/١٦٧٢م)؛ أي: قبل مولد لافوازيه بعقود؛ "فدل ذلك على دوام نفوذه العلمي في أوربَّا مدة طويلة".
وهكذا يتبين أن المسلمين شقوا طريق الكيمياء، وعبَّدوه، ولولا أعمالهم المنهجية في الكيمياء التي استمرت عدة قرون، لَمَا حظيت الكيمياء بهذا التقدم الهائل الذي تشهده البشرية في الوقت الحاضر.
والحق فقد شهد لهم كبارُ العاملين في حقل العلوم التجريبية بفضل السبق في اتباع المنهج العلمي التجريبي الصحيح، من هؤلاء الكبار: همبولد الألماني، الذي درس مؤلَّفات المسلمين عن كَثَب، فأنصفهم إذ قال: "إن العرب ارتقَوا في علومهم إلى أرفعِ درجة من التجرِبة والترصد التي كان يجهلها القدماءُ تقريبًا".
ولقد اكتشف المسلمون موادَّ كثيرة أخرى غير التي ذكرت، منها: الزاجات بأنواعها، والشب، والتوتياء، وكبريتيد الزرنيخ... إلخ، إلا أن الأهمَّ من ذلك كله أنهم - كما يؤكد شيخ مؤرخي العلوم سارطون - كانوا أول من استخدم الكيمياء في التطبيب والعلاج؛ فقد ورد أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي اختبر فعل الزئبق ومركبه، المسمى كالومل (كلوريد الزئبق الأحادي Hg2 CI2) على قردٍ كان عنده، فوجد أن مادة الزئبق تسبب آلامًا شديدة في البطن والأحشاء، تزول هذه الآلام إذا ما خرجت مادةُ الزئبق مع البراز، لكنه وجد أن الكالومل أشدُّ خطرًا؛ إذ تؤول إلى التسمم الذي يصحبه آلام بطنية لا تطاق، ومَغْص حاد، وإسهال دائم، ينتهي بالمصاب إلى الموت، والحق أن الطبَّ الحديث يؤكد أن الكالومل إذا تكسر جزء منه في البطن وتحوَّل إلى كلوريد الزئبق HgCI2 فإنه سم زعاف، يكفي أن يدخل جسم الآدمي 2.0 إلى 4.0 غم من بخاره حتى تميته.
لا جرم أن جمهورًا كبيرًا من الكيميائيين المسلمين ساهم بجهوده النظرية وتجارِبه المخبرية، حتى بلغ علم الكيمياء عند المسملين المستوى الذي أشاد به كبارُ الكيميائيين من الأوربيين.
والحق أن جابر بن حيَّان الكوفي (ت٢٠٠هـ/٨١٥م) يُعَد الأب الرُّوحي لكل من اشتغل بالكيمياء من المسلمين؛ إذ كان له دورٌ عظيم في تطويرها، وجعلها علمًا قائمًا على الملاحظة والتجرِبة والميزان، فهو القائل: "ويجب أن تعلمَ أنَّا نذكر في هذه الكتب خواصَّ ما رأينا فقط، دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه، بعد أن امتحنَّاه وجربناه، فما صحَّ أوردناه، وما بطَل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا وقايسناه على أقوال هؤلاء القوم".
وقد خلَّف جابر كتبًا كثيرة، ضاع معظمها، ونقل إلى اللغة اللاتينية بعضها، استفاد منها الأوربيون، كما استفادوا من كتب أبي بكر محمد بن زكريا الرازي (ت ٣١٣هـ/٩٢٥م)، الذي يُعَد من أعاظم الكيميائيين المسلمين، بل إن روسكا وفيدمان يربطان تطور الكيمياء في بلاد الغرب باسمي الرازي وجابر.