تاريخ علم الأرض (الجيولوجية) عند المسلمين
لم يَحظَ علمُ الأرض (الجيولوجية) باهتمامِ علماءِ المسلمين بالقدر الذي حظِي به علمُ الجغرافية؛ لذا فإن المعلومات المتعلِّقة بعلم الأرض (= الجيولوجية) جاءت متناثرةً في كتب التاريخ، والجغرافية، وفي كتب العلوم الطبيعية الأخرى، بل إنَّ ما يتعلَّق بنشوء الزلازلِ، وتكوُّن الجبالِ، وما يتَّصلُ بعوامل التعريةِ المختلفةِ، وبتكوُّنِ الوِدْيان والبحار وما شابهَ ذلك - يَرِدُ هنا وهناك عبر محاولاتِ بعض كتبِ أهالي الحضارة الأخرى.
أما فيما يتعلق بالتأليف الذي يتناول المعادنَ والأحجار، فهناك عددٌ وافر منها، ولعلَّ أقدمَها - على حسب تقدير مؤرِّخ العلوم سارطون - كتابُ "منافع الأحجار"، لمؤلِّفه عطارد بن محمد الحسيب، الذي عاش في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث الهجري.
ثم تتالى المؤلِّفون في هذا المجالِ من أمثال الكِندي، وأبي بكر الرازي (ت 313هـ / 925م)، وابن وحشية (القرن الثالث/ التاسع)، والبيروني (ت 440هـ/ 1048م)، وابن سينا، والتيفاشي (ت 651هـ/ 1235م)، الذي سترِدُ ترجمتُه بعد قليلٍ، والأنصاري السنجاري المعروف بابن الأكفاني (ت 749هـ/ 1348م).
ومن الإشارات الرائدةِ في علم الأرض (=الجيولوجية) ما ذكر البيروني في كتابه "تحديد نهاياتِ الأماكن تصحيح مسافات المساكن" مشيرًا إلى التغيُّرات الأرضية (=الجيولوجية) - قوله عن الأرض: "ولا نعلم عن أحوالِها إلا ما يُشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولِها إلى مُدَدٍ طويلةٍ، وإن تناهَتْ في الطرفين؛ كالجبال الشامخة المركَّبة من الرضراض المَلْس، المختلفة الألوان، المؤتلفة بالطين والرَّمل المتحجرين عليها، فإنَّ من تأمَّل الأمر من وجهِه وأتاه من بابه، علم أنَّ الرَّضراض والحصى هي حجارةٌ تتكسَّرُ من الجبال بالانصداع والانصدام، ثم يكثُر عليها جريُ الماءِ، وهبوبُ الرِّياح، ويدوم احتكاكُها فتَبْلى ويأخذ البِلَى فيها من جهةِ زواياها وحروفها حتى يذهبَ بها فيُدملِكُها...".
وعن انحسارِ البحار عن مواضع، وطغيانِها على مواضع أخرى، والانحسار والطغيان من التغيُّرات الأرضية (=الجيولوجية)، التي يُستَدلُّ عليها بالآثار التي تخلفُها.
يذكر البيروني أن: "البحر ينتقلُ إلى البَرِّ، والبَرُّ إلى البحرِ في أزمنة، إن كانت قبل كون الناس في العالَمِ، فغير معلومة، وإن كانت بعده، فغيرُ محفوظة؛ لأن الأخبارَ تنقطع إذا طال عليها الأمدُ، وخاصة في الأشياء الكائنة جزءًا بعد جزء، وبحيث لا يفطن لها إلا الخواصُّ".
"فهذه باديةُ العرب وقد كانت بحرًا فانكبس، حتى إنَّ آثارَ ذلك ظاهرة عند حفرِ الآبار والحِياض بها، فإنها تُبدي أطباقًا من ترابٍ ورمال ورضراض، ثم يوجد فيها من الخزَف والزُّجاج العِظام ما يمتنع على دفن قاصدٍ إياها هناك، بل يخرج منها أحجارٌ إذا كُسرت كانت مشتملةً على أصدافٍ ووَدَع، وما يسمَّى آذانَ السمك، إما باقية فيها على حالها، وإما بالية قد تلاشت، وبقِي مكانها خلاءٌ متشكِّل..."، وفي هذا ما يشير إلى أسسِ علم الحفريَّات.
ومما يُذكر بخصوص موضوعات علم الأرض (=الجيولوجية) أنَّ المسلمين ألَّفوا في الأحجار الكريمة، وفي التَّعدينِ؛ انظر ما ذُكِر عن كتاب الهَمداني "الجوهرتين العتيقتين" الآنف الذكر، الذي يبحثُ في الذهب والفضة، وممن ألَّف في الأحجار: يحيي بن ماسويه (ت 243هـ/ 857م)، له كتاب: "الجواهر وصفاتها"، والبيروني (ت440هـ/ 1048م)، وله كتاب: "الجماهر في معرفة الجواهر"، وأحمد التيفاشي (انظر بعده)، وله كتاب: "أزهار الأفكار في معرفة الحجار"، ومحمد بن إبراهيم الأنصاري السنجاري المعروف بابن الأكفاني (ت 749هـ/ 1348م)، وله كتاب "نخب الذخائر في أحوال الجواهر"، وغيرُهم كثير، وكلها تُعنى بدراسة الأحجار والبللورات، وفيها ما فيها من علم الأرض (=الجيولوجية).
أحمد التيفاشي (ت651هـ/ 1253م):
شهاب الدِّين، أبو العبَّاس، أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر التيفاشي القيسي، أديبٌ، شاعر، اشتهر بعلم الأرض (=الجيولوجية)، وبخاصة فيما يتعلَّق بالأحجار الكريمة، وقد ورِث ذلك عن أبيه.
ولد التيفاشي في تيفاش من قرى قفصة، وهي الآن بالقُطر الجزائري، رحل إلى القاهرةِ، وانتفع فيها من عبداللطيف البغدادي؛ (انظر ترجمته في موضوع الطب)، ومنها رحل إلى دمشق، ومن بعدها عاد إلى وطنه، ثم سافر إلى مصرَ ثانيةً، وألَّف فيها كُتبَه؛ إذ أودعها حصيلةَ اطِّلاعِه الغزير، وخلاصةَ خبرتِه في البحث عن المعادنِ والأحجار المتنوِّعة، وخواصِّها الطبيعية والطبِّية، والفروق الذاتيَّة والعرضية التي تميِّزُ بين أصنافِها المختلفة.
التزم التيفاشي المنهجَ العلميَّ الصحيحَ في كل بحوثِه وكتاباته، وإلى ذلك يشير في مقدمةِ كتابه "أزهار الأفكار": "...ومع ذلك فمعظمُ الخواصِّ المذكورةِ فيه مما جرَّبتُه بنفسي، أو وثِقتُ بصحة النقلِ فيه عن غيري من المقتدرين (المتقدِّمين)، فأحلتُ عليه مسنِدًا قولَه إليه...".
والتيفاشي يُعَدُّ - في قوله: "من خواصِّ الياقوت أنه يقطعُ الحجارةَ شبيهًا بالألماسِ، وليس يقطعُه شيءٌ غيرُ الألماسِ" - من أوائلِ مَن أشار إلى صلابةِ المعادن وصلادتها، وهو ما يُعْمل به في الوقت الحاضر باسم مقياس مور Mohr الذي يَعُدُّ الألماس أعظم المعادن صلابةً وصلادةً.
وللتيفاشي - علاوةً على ذلك - باعٌ في تحديد مفهومِ الكثافة بأنها وزنٌ محدَّدٌ لحجمٍ معلوم، فهو يذكر عن الياقوت: "من خواصِّه الثِّقَل؛ فإنه أثقلُ الأحجار المساوية له في العِظَم".