:اعظم شعراء العصر جثة مرمية على رصيف
ادغار الان بو ... الشاعر الذي عاش حياته على حافة الهاوية متمسكا بكلماته التي كانت حبل نجاته الوحيد .. تجاهلته امريكا في القرن التاسع عشر وأبغضت فنه ورجمت حروفه بوابل جهلها ليصبح اليوم من أهم شعرائها وأحد رموزها ومعالمها الأدبية الرفيعة .. هو صانع الخرافات وملك قصص الرعب التي تفوق فيها على نفسه بالإضافة لكونه ناقدا أدبيا وشاعرا كبيرا . من المؤلم انه لم ينل الشهرة من بلده وأهلها الذين لم يعرفوا أن كلماته اثرت بالعديد من الشعراء الفرنسين والأوروبيين الذين عرفوا قيمة كلماته ووجدوا فيها الحس الرفيع والإعجاز اللفظي والتحول في المفردات والتراكيب الشائعة فاحتفوا به وكان لشاعر فرنسا الكبير بودلير فضل التعريف بادغار حيث قام بترجمة أعماله إلى الفرنسية واسماها (قصص خارجة عن المألوف) لتكون نموذجا ودليلا يحتذى به لرواد الأدب فكان مع رامبو ودوستوفسكي منأ المعجبين به و اعتبروه مؤسس الشعر الحديث والشعر الرمزي بشكل خاص أما مالارميه فاعتبره الحالة الشعرية القصوى .
ولد ادغار في 19 كانون الثاني 1809 في مدينة بوسطن لوالدين ممثلين مغمورين في مسارح الدرجة الثالثة ليوفرا قوت اطفالهما ويمارسا مهنتهما المفضلة .. توفي والده وترك أسرته في مهب الريح فاضطرت والدته للرحيل وراحت تبحث عما يسد رمق جياعها بينما كان السل القاتل ينهش بجسدها حتى توفيت ولم يتجاوز عمره حينها السنتان فقط فقررت زوجة أحد التجار أن تكفل ادغار وتأخذه ليعيش معها فتعوض به عن الأطفال الذين حرمت منهم بسبب عقمها فأحبته جدا وأصبح ابنها الذي حرمت منه لسنوات لكنها لم تستطع تبنيه رسميا لرفض زوجها ذلك لكن ادغار ولحبه للسيدة الان وامتنانه لها احتفظ باسمها كاسم أوسط له .
اختاره الشعر وسكن قفصه العقلي فتنفسه وعاش به ففي عمر الخامسة كان ادغار ينشد الشعر عندما سمعه أحد أساتذته وقال:(يكتب الأولاد الاخرين قصائد عن الميكانيكا اما بو فنجده يكتب الشعر الاصلي هذا الولد خلق شاعرا) نعم لقد صدقت نبوءة الأستاذ وأصبح بو من أعظم شعراء عصره .
في السادسة من عمره انتقل الى اسكوتلندا ثم الى انكلتر مع والديه بالتبني ودرس في مدرسة ماتور التي كانت عبارة عن قصر قديم تتخلله المتاهات و الممرات التي جعلت مجرد وصوله إلى أحد الغرف مغامرة غامضة بحد ذاتها .. فأثرت به تلك الصور وباتت واضحة في رواياته التي كتبها فيما بعد التحق بالجامعة وبدأ يعاقر الخمر والكتابة ليجد فيهما متنفسا من ضيق الحياة وسط اسرته البرجوازية وظلم كفيله جون وقسوته وضربه المبرح له بالعصا وليداوي بهما الام روحه بفقدان حبيبته /الميرا رويستر/ التي خطبت لغيره وذلك لرفضه من قبل والديها كونه متبنى .. هكذا ساءت العلاقة بينه وبين جون آلان فطرده من المنزل ليهاجر إلى بوسطن معدما ومفلسا فنشر أشعاره هناك لكنها لم تلق أي نجاح .
في عمر العشرين كتب قصته الأولى بعنوان (سيدة موجودة في زجاجة) فبرع بها أدبيا وانتقل من الشعر إلى القصة في هذه الفترة التحق بالكلية الحربية الأمريكية (وست بوينت) الا أنه طرد منها لعدم التزامه بالقواعد العسكرية وتجاهلها وبقائه لساعات في غرفته يلتهم الكتب ويغوص في اخاديدها المعتقة فلم يستطع أن يحمل السلاح وهو من خلق ليقاتل بالقلم ..
بعد طرده من الكلية صدم بخبر وفاة صديقته وراعيته مسز الان فكان غيابها بالنسبة له أشد حالات الحرمان قسوة فصبغت جل كتاباته بلونها الجنائزي الاسود .
انتقل بعدها إلى بيت عمته (فرجينيا كليم ) فاحب ابنتها لتصبح قصتهما فيما بعد ايقونة من قصص الحب بل واكثرها جمالا وجدلا وغرابة فقد تزوج معدما لا يملك إلا قلمه وبعض الأوراق والكثير الكثير من الأفكار الحية المؤهلة لتصبح أعظم قصص التاريخ , كان في السادسة والعشرين وهي في الثالثة عشرة فقط فكان الفشل هو التوقع الوحيد لتلك العلاقة لكن الحب دائما يخيب الظنون والتوقعات أحبها بجنون والهمه حبها أروع القصائد فازدهرت كتاباته واشتهر بقصصه البوليسية وقصص الرعب ك (الحفرة والبندول – القلب الواشي - القطة السوداء - انهيار منزل أشر التي تعتبر من افضل رواياته لان بطلات ادغار لابد أن يعدن دوما من القبر بوسيلة أو بأخرى ) انتقل بعدها إلى فيلادلفيا ليصبح رئيس تحرير مجلة وهناك نشر روايته البوليسية (جريمة قتل في المشرحة) التي ترجمت للفرنسية ثم في1843 حاز على جائزة الجريدة وقدرها 100 دولار عن قصة الحشرة الذهبية بعدها بعام ترك المجلة وانتقل مع زوجته ليقيمان في كوخ ريفي بالآجار ليعاني من جديد أشد أنواع الفقر والجوع .. كانا يقطفان العشب من فناء المنزل ويسلقاه ثم يأكلان منه أياما متتالية حتى اكتشف أحد الجيران أن بو وزوجته يقاربان على الموت جوعا فقدموا لهم الغذاء وعلى الرغم من وضعهما المعيشي الصعب والفقر الذي استوطن حياتهما بلا سابق انذار كانا سعيدان بما حملاه من محبة وعشق فكان يجد نفسه في كتابة الشعر وهي تجد نفسها فيه .. بو الذي تطبعت اشعاره بموسيقا الألم المضنى ينساب للقارئ فيكشف عن جوانب وجوده المهملة ليشعر بحرارتها وهي تستقر في مساحات عقله الشاسعة .. كتب قصيدته الشهيرة والخالدة (الغراب) التي استغرق فيها عشر سنوات فباعها لإحدى الصحف بجنيهين أما نسختها فبيعت بعد موته بعشرات الالاف من الجنيهات و يقول فيها :
والغراب الجاثم دون حراك،
ما يزال رابضاً على تمثال (بالاس) النصفي الشاحب
فوق باب حجرتي
وفي عينيه كل مخايل شيطان يحلم
وضوء المصباح الذي ينساب فوقه
يلقي ظله على الأرض
ما يزال رابضاً على تمثال (بالاس) النصفي الشاحب
فوق باب حجرتي
وفي عينيه كل مخايل شيطان يحلم
وضوء المصباح الذي ينساب فوقه
يلقي ظله على الأرض
في عام 1947 توفيت زوجته في التاسعة عشرة من عمرها بمرض السل الذي نهش روحها إلى الأبد ومسح من ذاكرته آخر صورة لحضورها بعد عذاب دام خمس سنوات من الجوع والألم .
لم يملك ادغار المال لمداواتها أو ما يكفي لتدفئة جسدها الغض فكان يغطيها بسترته العسكرية البالية ويتحايل على قطتهما ليجلسها فوق قدميها لتمنحها بعض الدفء ... لكن جسدها الهزيل لم يستطع الصمود فطرق الموت بابها لترحل وحيدة تاركة له حبها الكبير الذي لا يموت .
كتب لها أجمل قصيدة رثاء تعدت مشاعر الحب وكسرت تابوهات الشوق المعروفة فكانت أجمل ما أهداها :
لا يسطع القمر الا ويعيد الي احلام حسنائي الجميلة (انابيل لي)
ولا تتألق النجوم الا وأشعر بصفاء عيني حسنائي الجميلة (انابيل لي)
وهكذا طوال الليل ارقد بجوار حبيبتي حبيبتي
حياتي وعروسي .. في ضريحها هناك بجوار البحر
في قبرها بقرب البحر الصاخب
بعد رحيلها لم يتبق له ما يعنيه في هذه الحياة سوى بقايا ذاكرته المتعبة والموشومة بصورة حبيبته الراحلة انابيل لي .. فعاد ليعاقر الخمر ويجول الأرصفة الفارغة بملابسه الممزقة كمشرد لا يملك شيئا
حتى وجد الناس رجلا مرميا على أحد أرصفة بالتيمور فتم نقله الى المشفى لكنه لم يستطع البقاء طويلا فواتته المنية وتحقق حلمه بالسفر للقاء محبوبته الخالدة ولسخرية القدر أن جاء في تقرير المشفى ( تم التعرف على الرجل المجهول المتسكع الذي مات على حافة الطريق انه الشاعر ادغار الان بو)
أعظم شعراء العصر جائعا متسكعا متشردا بلا مأوى ثم جثة مرمية على حافة رصيف
يارا المحاميد