«جبهة النصرة»: قصور المعارضة في دمشق
حازم الأمين
الأحد ١٦ ديسمبر ٢٠١٢
يبعث رد فعل المعارضة السورية بمختلف أطيافها على قرار واشنطن إدراج «جبهة النصرة» ضمن التنظيمات الإرهابية، على الحيرة والتساؤل. ذاك ان إجماعاً نادراً على ادانة القرار لم نجد مثيلاً له في تصورات المعارضة حول مستقبل سورية وحول وقائع الثورة فيها، عبّر عنه الائتلاف الوطني والمجلس الوطني وجماعة الإخوان المسلمين، على رغم الجدل الذي يثيره نشاط «النصرة» في مختلف مناطق سورية، وعلى رغم الحاجة الملحّة لإنقاذ سورية من شُبهة الإرهاب التي تتضافر عوامل كثيرة لتثبيتها.
مواجهة المعارضة السورية بسوء فعلها تستمد وجاهتها من حقيقة ان المخاوف التي تشكلها تنظيمات مثل «النصرة» ليست هامشية، ذاك ان تجارب في اليمن والعراق وباكستان، وصولاً الى الخليج والصومال، أثبتت كلها استحالة اندراج «السلفية الجهادية» في سياق من الطموحات الوطنية، وأن انقلاب هذه الجماعات على أي إجماع أو صيغة من العلاقة مع الدولة الحديثة هو أمر حتمي لا مفر منه... وأن تأجيل المأزق الذي يمثله هؤلاء الى مرحلة نضوج التجربة سيكون مهدداً للتجربة في مهدها. فالنظام في اليمن استعان بهؤلاء في حربه على دولة الجنوب، الى ان انتهينا بسيطرة «القاعدة» ونموذجها اليمني على مناطق واسعة من اليمن الموحد. وها هي باكستان تُكابد من سيطرة «طالبان باكستان» على المحافظة الحدودية في شمال وزيرستان، علماً ان «طالبان» بفرعيها الأفغاني والباكستاني نشأت برعاية باكستانية رسمية.
ولعل النموذج العراقي هو الأقرب زمنياً وجغرافياً الى الوعي السوري. فقد استضافت المحافظات العراقية في الغرب والشمال تنظيم «القاعدة» وأنشأت فروعاً محلية له معتقدة أنها تستخدمه في مواجهة الاحتلال الأميركي، الى أن انفجر التنظيم بالسكان هناك، ووسم «مقاومتهم» بالإرهاب، وجعل الموت علامة النشاط السياسي الوحيدة في بلاد الرافدين.
«جبهة النصرة» التي هبّت تشكيلات المعارضة السورية لـ «نصرتها» بعد القرار الأميركي، هي تنظيم «سلفي جهادي»، وهذا مؤشر أول إلى ضعف، لا بل إلى انعدام سوريته، وآخر الأدلة تعيين أردني هو صهر أبو مصعب الزرقاوي أميراً عليه. ثم إنه يقاتل «النظام النصيري»، لا نظاماً اغتصب السلطة وجار على السوريين وقتل منهم أربعين ألفاً. و «جبهة النصرة» استقدمت الى سورية مئات من المقاتلين غير السوريين، وهو أمر لا مجال لنفيه، لا بل إن أحداً لم ينفه، ويعني ذلك ان المقاتلين العرب الذين سبق أن حطّوا رحالهم في دول مختلفة، وخلّفوا فيها ما خلّفوه، هم الآن في سورية، وخروجهم منها لن يكون يسيراً بعد سقوط النظام. ولعل المؤشر الأبرز الذي من المفترض ان يوقظ الحساسية السورية حيال هذا النوع من الجماعات، هو غياب الموديل السوري عن مفاصل التنظيم، اذ انه لم يُعرف في التنظيم أمراء ومفتون سوريون، لا بل إن الخبراء يرجحون ان تكون «النصرة» قد استوردت تنظيم «دولة العراق الإسلامية» التي كانت تقيم في مناطق الأنبار في العراق. وما يجعل هذا الاحتمال ممكناً أمران، الأول هو ان العناصر السورية في «النصرة» هي في معظمها ممن شارك في «التجربة العراقية»، بعضها كان عاد من العراق وتحول الى خلايا نائمة في سورية استيقظت بعد الثورة، وبعضها ممن عاد أخيراً بعد سنوات مديدة من الإقامة في العراق. أما الأمر الثاني الذي يُرجح فرضية العلاقة بين النصرة و «دولة العراق الإسلامية» فهو الانخفاض الملحوظ في مستويات العنف في العراق، ومن أسبابه نقل تنظيم «القاعدة» جزءاً من نشاطه الى سورية عبر «جبهة النصرة» وغيرها من الجماعات السلفية الجهادية.
يجب ان تُمثل هذه التجــربة بالنــسبة الى الســوريين «عوداً على بدء» كانت سقـــطت فيه تجارب عدة في المنطقة، ومن هنا تبــدو ادانة القرار الأميركي مستغربة. ثم ان المعارضة الســورية تُدرك الحاجة الفعلية لمخاطبة حساسية عالمية حيال هذه الجماعات، ولهذا يبدو إجماع المعارضة على رفض القرار نوعاً من القطيعة مع هذه الحساسية، لا بل نوعاً من غياب الســياسة، اذا اعتبرنا ان الأخيرة هي عملية قياس للمصــالح وفق حســابات الربح والخسارة. فإذا تجاهلنا الخسارة الســـورية المبــاشرة جراء نـــشاط «النصرة» في بلاد الشام لجهة العنف والقتل، في ظل عنف النظام الذي يبدو أكثر فتكاً، فإن الخسارة الناجمة عن استنكاف الثورة عن القيم العالمــية ستُــثقل من دون شك على مستقبل سورية.
«الائتلاف الوطني سيخسر داخلياً اذا تجاهل قرار واشنطن ولم يُدنه»، هذا ما قاله عضو في المجلس الوطني السوري عندما سئل عن سر هذا الإجماع على ادانة القرار. الجواب يبعث على مزيد من القلق على سورية وعلى ثورتها. فهو يعني ان «النصرة» تمكنت من تأسيس بيئة لها، وعلى قيادة الثورة ان تتجنب مخاصمتها!
لم يسبق للجماعات السلفية الجهادية ان حرصت على تأسيس بيئة اجتماعية حاضنة، لا بل إنها اصطدمت بمعظم المجتمعات التي أقامت في جوارها على رغم الانسجام الطائفي. وفي سورية أيضاً لم يخدم هذا الانسجام تناقضاً بين الإيمان المحلي وبين الإيمان المطلق والأممي لهذه الجماعة. وتبدو المسارعة الى الاعتقاد بأن الصدام مع «النصرة» لن يخدم الثورة، قصوراً على أكثر من صعيد: قصوراً في التمييز بين ما هو مقيم في الناس من قيم وبين ما هو قادم من عقائد، وقصوراً في النظر الى التجارب المجاورة واستئناف الدم من حيث انتهى في العراق وقبله في الصومال وباكستان واليمن. أما القصور الأكبر فيتمثل في عدم الاكتراث لما صارت تمثله هذه الجماعات في الوعي العالمي.
وأهم من كل هذا ان النظام في ذروة عنفه، استعان بـ «النصرة» لتسويق صورة عن الثورة، والقرار الأميركي بإدراج «النصرة» في لائحة الإرهاب كان جزءاً من مفاوضة أميركية-روسية، ظهرت نتائجها فور صدور قرار واشنطن بإشارة روسية الى تقدم المعارضة وضعف النظام. فأين السياسة والحال هذه في رفض الائتلاف قرار واشنطن؟
حازم الأمين
الأحد ١٦ ديسمبر ٢٠١٢
يبعث رد فعل المعارضة السورية بمختلف أطيافها على قرار واشنطن إدراج «جبهة النصرة» ضمن التنظيمات الإرهابية، على الحيرة والتساؤل. ذاك ان إجماعاً نادراً على ادانة القرار لم نجد مثيلاً له في تصورات المعارضة حول مستقبل سورية وحول وقائع الثورة فيها، عبّر عنه الائتلاف الوطني والمجلس الوطني وجماعة الإخوان المسلمين، على رغم الجدل الذي يثيره نشاط «النصرة» في مختلف مناطق سورية، وعلى رغم الحاجة الملحّة لإنقاذ سورية من شُبهة الإرهاب التي تتضافر عوامل كثيرة لتثبيتها.
مواجهة المعارضة السورية بسوء فعلها تستمد وجاهتها من حقيقة ان المخاوف التي تشكلها تنظيمات مثل «النصرة» ليست هامشية، ذاك ان تجارب في اليمن والعراق وباكستان، وصولاً الى الخليج والصومال، أثبتت كلها استحالة اندراج «السلفية الجهادية» في سياق من الطموحات الوطنية، وأن انقلاب هذه الجماعات على أي إجماع أو صيغة من العلاقة مع الدولة الحديثة هو أمر حتمي لا مفر منه... وأن تأجيل المأزق الذي يمثله هؤلاء الى مرحلة نضوج التجربة سيكون مهدداً للتجربة في مهدها. فالنظام في اليمن استعان بهؤلاء في حربه على دولة الجنوب، الى ان انتهينا بسيطرة «القاعدة» ونموذجها اليمني على مناطق واسعة من اليمن الموحد. وها هي باكستان تُكابد من سيطرة «طالبان باكستان» على المحافظة الحدودية في شمال وزيرستان، علماً ان «طالبان» بفرعيها الأفغاني والباكستاني نشأت برعاية باكستانية رسمية.
ولعل النموذج العراقي هو الأقرب زمنياً وجغرافياً الى الوعي السوري. فقد استضافت المحافظات العراقية في الغرب والشمال تنظيم «القاعدة» وأنشأت فروعاً محلية له معتقدة أنها تستخدمه في مواجهة الاحتلال الأميركي، الى أن انفجر التنظيم بالسكان هناك، ووسم «مقاومتهم» بالإرهاب، وجعل الموت علامة النشاط السياسي الوحيدة في بلاد الرافدين.
«جبهة النصرة» التي هبّت تشكيلات المعارضة السورية لـ «نصرتها» بعد القرار الأميركي، هي تنظيم «سلفي جهادي»، وهذا مؤشر أول إلى ضعف، لا بل إلى انعدام سوريته، وآخر الأدلة تعيين أردني هو صهر أبو مصعب الزرقاوي أميراً عليه. ثم إنه يقاتل «النظام النصيري»، لا نظاماً اغتصب السلطة وجار على السوريين وقتل منهم أربعين ألفاً. و «جبهة النصرة» استقدمت الى سورية مئات من المقاتلين غير السوريين، وهو أمر لا مجال لنفيه، لا بل إن أحداً لم ينفه، ويعني ذلك ان المقاتلين العرب الذين سبق أن حطّوا رحالهم في دول مختلفة، وخلّفوا فيها ما خلّفوه، هم الآن في سورية، وخروجهم منها لن يكون يسيراً بعد سقوط النظام. ولعل المؤشر الأبرز الذي من المفترض ان يوقظ الحساسية السورية حيال هذا النوع من الجماعات، هو غياب الموديل السوري عن مفاصل التنظيم، اذ انه لم يُعرف في التنظيم أمراء ومفتون سوريون، لا بل إن الخبراء يرجحون ان تكون «النصرة» قد استوردت تنظيم «دولة العراق الإسلامية» التي كانت تقيم في مناطق الأنبار في العراق. وما يجعل هذا الاحتمال ممكناً أمران، الأول هو ان العناصر السورية في «النصرة» هي في معظمها ممن شارك في «التجربة العراقية»، بعضها كان عاد من العراق وتحول الى خلايا نائمة في سورية استيقظت بعد الثورة، وبعضها ممن عاد أخيراً بعد سنوات مديدة من الإقامة في العراق. أما الأمر الثاني الذي يُرجح فرضية العلاقة بين النصرة و «دولة العراق الإسلامية» فهو الانخفاض الملحوظ في مستويات العنف في العراق، ومن أسبابه نقل تنظيم «القاعدة» جزءاً من نشاطه الى سورية عبر «جبهة النصرة» وغيرها من الجماعات السلفية الجهادية.
يجب ان تُمثل هذه التجــربة بالنــسبة الى الســوريين «عوداً على بدء» كانت سقـــطت فيه تجارب عدة في المنطقة، ومن هنا تبــدو ادانة القرار الأميركي مستغربة. ثم ان المعارضة الســورية تُدرك الحاجة الفعلية لمخاطبة حساسية عالمية حيال هذه الجماعات، ولهذا يبدو إجماع المعارضة على رفض القرار نوعاً من القطيعة مع هذه الحساسية، لا بل نوعاً من غياب الســياسة، اذا اعتبرنا ان الأخيرة هي عملية قياس للمصــالح وفق حســابات الربح والخسارة. فإذا تجاهلنا الخسارة الســـورية المبــاشرة جراء نـــشاط «النصرة» في بلاد الشام لجهة العنف والقتل، في ظل عنف النظام الذي يبدو أكثر فتكاً، فإن الخسارة الناجمة عن استنكاف الثورة عن القيم العالمــية ستُــثقل من دون شك على مستقبل سورية.
«الائتلاف الوطني سيخسر داخلياً اذا تجاهل قرار واشنطن ولم يُدنه»، هذا ما قاله عضو في المجلس الوطني السوري عندما سئل عن سر هذا الإجماع على ادانة القرار. الجواب يبعث على مزيد من القلق على سورية وعلى ثورتها. فهو يعني ان «النصرة» تمكنت من تأسيس بيئة لها، وعلى قيادة الثورة ان تتجنب مخاصمتها!
لم يسبق للجماعات السلفية الجهادية ان حرصت على تأسيس بيئة اجتماعية حاضنة، لا بل إنها اصطدمت بمعظم المجتمعات التي أقامت في جوارها على رغم الانسجام الطائفي. وفي سورية أيضاً لم يخدم هذا الانسجام تناقضاً بين الإيمان المحلي وبين الإيمان المطلق والأممي لهذه الجماعة. وتبدو المسارعة الى الاعتقاد بأن الصدام مع «النصرة» لن يخدم الثورة، قصوراً على أكثر من صعيد: قصوراً في التمييز بين ما هو مقيم في الناس من قيم وبين ما هو قادم من عقائد، وقصوراً في النظر الى التجارب المجاورة واستئناف الدم من حيث انتهى في العراق وقبله في الصومال وباكستان واليمن. أما القصور الأكبر فيتمثل في عدم الاكتراث لما صارت تمثله هذه الجماعات في الوعي العالمي.
وأهم من كل هذا ان النظام في ذروة عنفه، استعان بـ «النصرة» لتسويق صورة عن الثورة، والقرار الأميركي بإدراج «النصرة» في لائحة الإرهاب كان جزءاً من مفاوضة أميركية-روسية، ظهرت نتائجها فور صدور قرار واشنطن بإشارة روسية الى تقدم المعارضة وضعف النظام. فأين السياسة والحال هذه في رفض الائتلاف قرار واشنطن؟