حصان أحمر
قصة قصيرة
د. أحمد الخميسي
بالأمس رأيت بين الحقول حصانا أحمر، كان يقف في هواء أحمر خفيف فظننت أنه حلم لأنه لم يسبق لأحد أن شاهد حصانا بهذا اللون، ولم يأت ذكر شيء كهذا، فالخيول تولد بيضاء وسوداء ورمادية وشهباء وبنية وصفراء إلا ذلك اللون. تأملته ، كان يشبه بقعة حمراء كبيرة في الأفق الشاحب، وتمنيت لو أنني رمحت في الخلاء الواسع بحصان كهذا ، فخطوت خطوة واحدة بحذر شديد نحوه، لكنني ما أن تحركت حتى رفع الحصان قائمتيه الأماميتين عاليا في الجو متراجعا ملفوفا بهالة حمراء خفيفة. تجمدت مكاني ، فعاد الحصان إلي وقفته ، ومال برأسه على الأرض يلوك أعشابا حمراء ثم عطف رقبته نحوي قليلا ليريني عينين واسعتين مثل فنجانين ممتلئين بالدم ، فأطلقت ساقيي للريح عائدا إلي مشارف القرية دون أن ألتفت خلفي ، وقلبي يدق بقوة .
وحين حكيت لجدتي في المساء ما رأيته ، وأنني تمنيت لو أن لي حصانا كهذا ، حكت لي حكايته ، وقالت إن الخيل أحست ذات يوم أنها مهددة بالزوال، فتوافدت من كل بقاع الأرض ذات يوم إلي غابة معزولة ، واتفقت على أنها بحاجة إلي حصان ، نادر التكوين يلهم الخيل كلها الشجاعة والصبر في الدفاع عن حياتها . وأضاف حصان الحكمة العجوز : ولابد أن يكون أحمر اللون ليصبح مرئيا في أي مكان أو زمان . وقال حصان الخبرة : لكن حصانا كهذا بحاجة إلي بحيرات من الدم عاما بعد عام، يغطيه من قوائمه حتى عرفه، ثم ينزلق من أعلى صدره إلي جنبيه ، ليبقى لونه ثابتا في جلده وذاكرته ومقدمة رأسه . وقالت فرس ولادة : لابد إذن أن يولد في حريق يلقنه الثبات في اللهب. وقالت فرس مرضعة : وأن يأكل أعشابا حمراء ، ويشرب ماء أحمر ، ويلعق ظلال الحرائق الحمراء من فوق الأرض الساخنة . عندئذ لن يمحو لونه شيء ، لا السحب البيضاء ، ولا مياه البحور الزرقاء ، لا أشعة القمر الفضية ، ولا الأوراق الخضراء الندية . وغمغم الحصان الشاعر : سيكون وحيدا ، فردا ، لا مهرة ولا ولد ، لكنه إذا صهل من أعالي الجبال أيقظ في الخيل كلها محبة الريح .
تلك الليلة كانت باردة فالتصقت بجدتي التي فركت يديها فوق الحطب المتقد ، والظلال تتأرجح على وجهها ثم أكملت : ولم تكن هناك في العالم أرض مثل غزة تجري فيها الدماء بهذه الوفرة، فولد المهر فيها وشب، إذا خبا بين البيوت والدكاكين في أزقتها المبلطة تشبعت قوائمه بالدم ، وإن ركض إلي الميادين المفتوحة غطت صدره ورقبته الدماء من ورش العمال وأفران الخبز ، وحين يرمح بعيدا هاربا إلي الحقول يغمره الأفق بالدم . وأصبح المهر حصانا فردا ، وخرجت الخيل كلها تشق طريقها إليه من بحر البقر وشبعا وصبرا وشاتيلا ورام الله والجولان ، خيول من كل الأزمنة ، تخمش الأرض بقوائمها ، تتململ ، تميل برقابها ، وتندفع إلي الحصان الأحمر .
الكثيرون مثلك يرون ذلك الحصان متوهجا بعيدا ، ويتمنون لو كان لديهم مثله ، لكن أحدا لا يفكر كم أنه منهك من قدره الذي كتب عليه أن يكون نادرا ، ووحيدا ، وأن يتحمل في سبيل ذلك ألما فوق طاقة الخيل كلها . فإذا تمكنت أنت أو غيرك من امتطاء صهوة ذلك الحصان فسترى العالم كله باللون الأحمر : الأشجار الخضراء تصبح حمراء ، الثلوج البيضاء ، الهواء ، قطرات المطر، أوراق الدفاتر، أثواب الزفاف البيضاء .
سألت جدتي بلهفة : ألا يزول عذابه ؟
قالت : ربما يعود إلي لون الخيول الأخرى إذا استراح من لون الحريق .
قلت : وسيكون جميلا كما أراه الآن ؟
لزمت جدتي الصمت لحظة ثم قالت : تأخر الوقت وحان موعد النوم .
...
بط أبيض صغير
قصة قصيرة
د. أحمد الخميسي
من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . توقفت منذ شهور طويلة عن شراء الصحف ، جميع الصحف . لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع بيانات الاحتجاج السياسي ، توقفت عن الكلام فيما يحدث حولنا . صرت أتسقط أخبار الأحداث المهمة من أفواه معارفي خلال المكالمات الهاتفية ، أو اللقاءات التي تحدث بالمصادفة في شوارع المدينة. القصف اليومي لمدن فلسطين أحالها لشجرة عيد ميلاد تزينها بيوت صغيرة تتوهج نوافذها بالموت، وجعلني أقول لنفسي لاشيء يتغير إلي الأحسن . أحيانا نادرة كان الأمل يتواثب وينقر شباكي ، فأهمس لروحي أنني مخطئ ، ولابد أن ثمة ما يتحرك نحو الأحسن ، لكن ما أن يبدأ القصف من جديد حتى يفر الأمل بجناحيه الرقيقين مذعورا من الدوي والدخان الأسود . يوما بعد يوم توقفت عن متابعة أي شيء ، لكنني بحكم العادة المتأصلة كنت أفتح التلفزيون من وقت لآخر أكتفي بمشاهدة مقدمة نشرة الأخبار التي تستغرق نصف دقيقة ، أشاهدها بروح عدائية مثل شخص يدافع عن نفسه ضد الأنباء السيئة ، وخلال نصف الدقيقة تلك تتدفق نعوش الأطفال الفلسطينيين إلي الشاشة، مثل ماء رفعت عنه السدود مرة واحدة ، من شاشة التلفزيون إلي المنضدة وإلي أرض الصالة في بيتي ، نعوش صغيرة ، تهرول نحوي مرفوعة على أكتاف ورؤوس الآباء المحنية وتختبيء تحت الأرائك والمقاعد قبل أن تشن عليها غارة أخرى . أغلق التلفزيون بسرعةوأندم أنني فتحته . لكن أكوام الأطفال التي تسربت من الشاشة تكون قد شغلت كل فراغ في شقتي . يتطلعون إلي ببراءة وعتاب، برجاء أن أغفر لهم أنهم احتموا بمنزلي من غير استئذاني، وشغلوا كل مساحة شاغرة بين قطع الأثاث في الصالة وفي الردهة الممتدة نحو الحمام والمطبخ وفي غرفتي النوم ومكتبي . أقف مكاني مرتبكا ، لا أدري، ماذا بوسعي عمله. يطمئن الأطفال في قمصانهم الحمراء قليلا ، ويستريحون من جحيم الموت ، يألفون المكان ، ولا يغادرون شقتي ، لأن الدنيا في الخارج مرعبة . أنهض من مقعدي لأمضي إلي حجرة النوم فيتحركون في أعقابي مثل سرب من البط الأبيض، يتعثرون ما بين قدمي برؤوس مشجوجة ، فوق كل رأس منها شريط معقود من قماش أبيض يربط الفك السفلي لكي لا يتدلى ساقطا في الهواء .
صفوف من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ شهور طويلة ، وتتبعني كأنما تخشى أن تفقدني ، تتنقل ورائي من حجرة لأخرى ، تسارع بالتكدس حول قدمي في المطبخ ، وحين أهم بمغادرة المسكن يقف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة صفوفا ، يمط رقابه النحيلة الطويلة لأعلى، يتفحصني بصمت ، ينحرف برأسه قليلا ، ومنقاره السفلي مربوط بقطعة القماش إلي رأسه ، يتطلع إلي ، لايدري هل سأعود أم أنني سأتخلى عنه . أرجع في المساء ، وقبل أن أفتح باب الشقة أسمع صوت اصطفاق الأجنحة تتزاحم وراء الباب ، أفتح وأدخل بين خفق أجنحة البط الأبيض، وفي جو الصالة يضطرب الصياح ، وتسبح عيون مغلقة ، وكراسات ، وأقلام ، وصنادل صغيرة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا نحو حجرة المكتب، والصفوف تتدافع ورائي ، أتوقف أمام مدخل الحجرة ، وألوح لها بيدي لكي ترجع، أريد أن أصيح فيها ، لكنها تظل واقفة ، صامتة ، لاتحيد بعيونها عن وجهي وكتفي وصدري .
في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في حجرة نومي ، ينعس على صوان الملابس ، وأعمدة الستارة ، وحافة النافذة ، وأطراف سريري ، فإذا حركت ذراعي أو تقلبت على جنبي ارتطمت به ، أنظر إليه ، فيحدق في بصمت ورهبة وأمل .
منذ زمن يلازمني شعور مضن أن على أن أعيد تلك الكائنات البيضاء الصامته إلي هيئتها الأولى ، إلي بشراتها الغضة ، وأمهاتها ، ووقفاتها أمام فاترينات محلات الألعاب . أقول لنفسي على بكل ما أوتيت من قوة أن أفك السحر الذي ربطها في صورتها هذه . ولم أكن أدري ما العمل . لكنني أتجه كل يوم إلي عملي في مكتب البريد، أملأ استمارات التحويلات المالية من مدينة لأخرى ، وأسمع أصوات الناس وهم يخاطبونني كأنها قادمة من تحت الماء ، وصوت القنابل يطغي على كل شيء ، لكنني أسد أذني وقلبي بإحكام لكي لا أرتكب غلطة في عملي ، وأستمر في توقيع الأوراق، وفي الظهيرة أغادر المكتب وأتجول في الشوارع القريبة قبل أن أتجه لمنزلي . أعود ، أفتح الباب ، وأنا أعلم مقدما بما ينتظرني . الأجنحة البيضاء التي تضرب في الهواء ، والريش الخفيف المتطاير في الجو ، وتلك النظرات ، والمناقير المربوطة بقطع القماش الأبيض . ويواتيني شعور أنني لم أكن في العمل ، لكنني كنت أفر من كل هذا ، مثل جندي تسلل من موقعه في تل مشتعل وهبط إلي غابات بعيدة . يعزيني بعضهم بأن الحياة مهما كان لا تتوقف. لكن لماذا أحس بمرارة وأنا في عملي ؟ أو حين ألتقي بالأصدقاء القلائل؟ أو عندما أشرب كوب ماء وأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة مبهمة ؟ أحدق فيها هاتفا - وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي يلقي بالقنابل على الأطفال؟!
منذ زمن طويل توقفت عن متابعة كل ما يحدث . كل ما يشغلني الآن هو تلك الطيور البيضاء التي تواصل نموها في مسكني ، وتتخبط حولي ، وتمنعني من التنفس أو تناول الطعام براحتي . الآن وقبل أن يحل منتصف الليل بقليل نهضت وربطت فكي السفلي بأعلى رأسي بقطعة قماش أبيض، ووقفت متجمدا بين الصفوف البيضاء ، ورفعت في الصمت رقبتي النحيلة لأعلى ، ومشيت معها في الحجرات الفارغة ، على أمل أن تطرق الباب يد بشرية .
...