السلام عليكم ورحمه الله وبركاته وبعد..
كنت في رحلة إلى أحدالبلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ..
ألقيت محاضرتين صباحاً .. وخرجت وقد بقيعلى أذان الظهر ساعة ..
كان معي عبد العزيز .. رجل من أبرز الدعاة ..
التفت إليه ونحن في السيارة .. قلت : عبد العزيز .. هناك مكان أود أنأذهب إليه ما دام في الوقت متسع ..
قال : أين ؟ قلت :: مستشفى الأمراضالعقلية ..
قال : المجانين !! قلت : المجانين ..
فضحك وقال مازحاً : لماذا .. تريد أن تتأكد من عقلك ..
قلت : لا .. ولكن نستفيد .. نعتبر .. نعرف نعمة الله علينا ..
أقبلنا على مبنى كالمغارة..الأشجار تحيط به من كلجانب..كانت الكآبة ظاهرة عليه..
قابلنا أحد الأطباء .. رحب بنا ثم أخذنا فيجولة في المستشفى ..
أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم .. ثم قال :
وليسالخبر كالمعاينة ..
دلف بنا إلى أحد الممرات .. سمعت أصواتاً هنا وهناك..
كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر ..
مررنا بغرفة عن يميننا .. نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة .. إلا واحداً منها قد انبطح عليه رجلينتفض بيديه ورجليه ..
التفتُّ إلى الطبيب وسألته : ما هذا !!
قال : هذا مجنون .. ويصاب بنوبات صرع .. تصيبه كل خمس أو ست ساعات ..
قلت : لاحول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وهو على هذا الحال ؟قال :منذ أكثر من عشرسنوات ..كتمت عبرة في نفسي .. ومضيت ساكتاً ..
بعد خطوات مشيناها .. مررناعلى غرفة أخرى .. بابها مغلق .. وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة..
ويشير لنا إشارات غير مفهومة ..
حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة .. فإذا جدرانها وأرضها باللون البني ..
سألت الطبيب : ما هذا ؟!! قال : مجنون ..
شعرت أنه يسخر من سؤالي .. فقلت : أدري أنه مجنون .. لو كان عاقلاًلما رأيناه هنا .. لكن ما قصته ؟فقال : هذا الرجل إذا رأى جداراً .. ثاروأقبل يضربه بيده .. وتارة يضربه برجله .. وأحياناً برأسه ..
فيوماً تتكسرأصابعه .. ويوماً تكسر رجله .. ويوماً يشج رأسه .. ويوماً .. ولم نستطع علاجه .. فحبسناه في غرفة كما ترى .. جدرانها وأرضهامبطنة بالإسفنج .. فيضرب كمايشاء .. ثم سكت الطبيب .. ومضى أمامنا ماشياً ..
أما أنا وصاحبي عبد العزيز .. فظللنا واقفين نتمتم : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك بهثم مضينانسير بين غرف المرضى ..
حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة .. وإنما فيهاأكثر من ثلاثين رجلاً .. كل واحد منهم على حال .. هذا يؤذن .. وهذا يغني .. وهذايتلفت ..
وهذا يرقص ..
وإذا من بينهم ثلاثة قد أُجلسوا على كراسي .. وربطت أيديهم وأرجلهم .. وهم يتلفتون حولهم .. ويحاولون التفلت فلا يستطيعون ..
تعجبت وسألت الطبيب : ما هؤلاء ؟ ولماذا ربطتموهم دون الباقين؟فقال : هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه .. يكسرون النوافذ .. والمكيفات .. والأبواب ..
لذلك نحن نربطهم على هذا الحال .. من الصباح إلىالمساء ..
قلت وأنا أدافع عبرتي : منذ متى وهم على هذا الحال ؟قال : هذا منذ عشر سنوات .. وهذا منذ سبع .. وهذا جديد .. لم يمض له إلا خمس سنين !!
خرجت من غرفتهم .. وأنا أتفكر في حالهم .. وأحمد الله الذي عافاني مماابتلاهم ..
سألته : أين باب الخروج من المستشفى ؟قال : انتظر.. بقيبعض الأقسام ..
قلت : يكفي ما رأيناه ..
مشى الطبيب ومشيت بجانبه .. وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى .. ونحن ساكتان ..
وفجأة التفت إليّ وكأنهتذكر شيئاً نسيه .. وقال :
يا شيخ .. هنا رجل من كبار التجار .. يملك مئاتالملايين .. أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنتين ..
وهنارجل آخر كان مهندساً في شركة .. وثالث كان ..
ومضى الطبيب يحدثني بأقوامذلوا بعد عز .. وآخرين افتقروا بعد غنى .. و ..
أخذت أمشي بين غرف المرضىمتفكراً ..
سبحان من قسم الأرزاق بين عباده ..
يعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء ..
قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً .. لكنه يأخذمنه العقل .. فتجده من أكثر الناس مالاً .. وأقواهم جسداً .. لكنه مسجون في مستشفىالمجانين ..
وقد يرزق آخر حسباً رفيعاً .. ومالاً وفيراً .. وعقلاًكبيراً .. لكنه يسلب منه الصحة .. فتجده مقعداً على سريره .. عشرين أو ثلاثين سنة .. ما أغنىعنه ماله وحسبه ..!!
ومن الناس من يؤتيه الله صحة وقوةوعقلاً .. لكنه يمنعه المال فتراه يشتغل حمال أمتعة في سوق أو تراه معدماً فقيراًيتنقل بين الحرف المتواضعة لايكاد يجد ما يسد به رمقه ..
ومن الناسمن يؤتيه .. ويحرمه .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. ما كان لهم الخيرة ..
فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه .. فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة .. وإن حرمك منها .. فقد أعطاكالعقل .. فإن فاتك .. فقد أعطاك الإسلام .. هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه ..000
فقل بملء فيك الآن بأعلى صوتك : الحمــد لله