صفاء الروح
حكم الفلك أزلي قديم ، وإصرار الدهر قضاء لا يتراجع ، وأمر الله قدر لا بد له من نفاذ .
فماذا يغني التأوه ولضجر ، وأي فائدة يجني الألم والتوجه ، وأي نتيجة تأتي بها القوة والانفعال إذا كانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان ؟!
على أن السجن الذي انتهى القدر بممو إليه لم يكن كأي سجن آخر ، وإنما كان مغارة ممتدة في قاع الأرض ، ضيقة الأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو نور الشمس إلى داخلها ، اللهم إلا من تلك الكوة العليا ، التي هي وحدها الباب والنافذة والمنور وكل شيء .
وأنزل ممو إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره . فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصرشيئا سوى أشبح السواد المدلهمة المطبقة من حوله ، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس ، وراح يخطو في حذر متلمسا بيديه الهواء ، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه ، وقد ترنح بين أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة ...
تذكر شبابه الغض وقوته النابضة ... عزته وبأسه .. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد الناس ، ولم يكن قد مس قلبيهما شيء من هذه الآلام . ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في قلبه ، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا ، والسكرة التي غشيتهما في مسائه ...
وتذكر الآلام .. والآمال التي ترعرعت في نفسه ، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو أيضا ... وتذكر بعد ذلك خيبة آماله ، وتصدع قلبه .. قلبه الذي لم يرحمه أحد ، ولم يعطف عليه إنسان ، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة ، حيث لا مخلوق يبصره أو يشعر به ، والدموع التي قرحت عينيه ، وروى بها الآكام والسفوح ، حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة ! ثم تلك السويعات الجميلة ... التي كانت كل أيام سعادته من دنياه ، والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده . ثم تصور كيف عاد الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش .. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر : هذا الظلم له من الناس دون أي جريرة أو موبقة ارتكبها .. افتراآتهم عليه ، واستعانتهم بدموعه وآلامه .. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته .. وأخيرا هذا الغضب عليه من الأمير .. الأمير الذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها على وجهه ، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك الناس في رؤيته والاستمتاع به . لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى شيئا من ذلك ، وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل .
وما إن راح يستعرض في فكره كل هذا .. حتى رق قلبه عليه ، وأدركته الرحمة لنفسه ، وراح يبلل ثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع ، وأمله الذي خاب ، وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام .
ثم التفت حوله ، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانها السود تلوح لعينيه ، وترائت تحت بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستند إليه الجنب ، إلا دكة ترابية صغيرة في ناحية منها ، يمتد عليها بساط مهلهل .
وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف ، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيل فيه الرحمة والعطف ، ليتعلق به ويبثه كربه ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء ، لا تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا . فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومن فيها ، ولم يجد أمامه إلا السماء .. السماء التي هي وحدها مثابة المكروبين ومآل البائسين والمظلومين . فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا :
’’ رباه ألست تبصرني ..؟
ألست تبصرني ، وأنا عبدك الضعيف ، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها ...؟
رباه إن عبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي ، وإنما سحقوا جراحي ، كما ترى ، في التراب ، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي . فارحمني أنت يا رب ، فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك ، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك ، ولن أتذلل إلا لجلالتك ...‘‘
ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة ، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام ، ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء ، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من حوله في روح من الأنس الغريب ..
وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار الزنزانة ، يناجي الله سبحانه قائلا :
’’ إلهي ، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها ، فوحق وجهك لن أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها . فليظلمني الظالمون ، وليكد من أجلي الكائدون ، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم ، وليحبسوني في الظلمات وفي أوكار الوحوش . فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها ، إن ذلك كله لا يضيرني في شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله .
ما أعذب إلى نفسي الصبر .. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي ، وما أسهل هذا الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني ، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت محاطا بخفّي رحمتك ولطفك .
أما اليأس .. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي ؟ّ أقسم بالقدّ الذي سبيتني باعتداله ، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله ، أقسم بالنور الذي أضرمته علي نارا ، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا ، أقسم بكل ذلك أن هذا العذاب مهما أفقدني الهدوء والقرار ، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولو أسدلوا بيني و بينه حجاب الموت ! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك .
ولماذا لن يسعد ...؟ وهما وحقك يا مولاي ، كما تعلم ، روحان طاهرتان عفيفتان ، لم يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها ، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف ، ذي الرحمة الواسعة ، والعدل الشامل .
واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم ...! إذ نمضي إلى رحابك ، فتمسح بيمين لطفك عن كلينا مدامع الظالمين ، وتضمنا بين ذراعي رحمتك ، آمنين مقبولين ..‘‘
وهكذا أخذ يهبط إلى قلب ممو ، وهو في قعر تلك الموحشة ، أنس إلهي يحف به ويخفف من آلامه وأحزانه ، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم . وبمقدار انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده . فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأ يناجي فيها الله تعالى ، ويتعبده لياليه وأيامه . يدخل إليه حارسه لإحضار طعامه إليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا في مناجاة ...
وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق . وكلما راح منه الجسم نحو الرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة ، ازداد غيبوبة عن الدنيا وأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي منه لعبة في يد الروح تصرفه كما تشاء ، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد للزفرات في الجسم معناها المحرق ، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب .
وبدأت الروح ترقب في شوق ولهفة شيئا واحدا .. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى الدنيا ، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت لها ...