من طرف waell السبت 21 مارس 2009 - 1:21
خاتمة واعتبارْ
أي رب :
أسألك بيحموم عشق المعذبين ، وبكمال صدق العاشقين ...
أسألك بحلاوة الجمال ونشوته ، وبعظمة الجلال ودهشته ...
أسألك بداء الهجر وعذابه ، وبشهد الوصال ولذة شرابه ...
أسألك بلذة حي العاشقين ، وبمرارة عداوة الرقباء والكائدين ...
أسألك بماء عيون البلابل والأطيار ، وبالندى المتساقط على الورود والأزهار ...
أسألك بما خلّفته ممو من وجد وزفرات ، وبما أسالته زين من دموع وحسرات ...
أسألك بكل ذلك يا مولاي أن تزيح عن عينيّ غشاوة هذه الظلال الفانية حتى لا أرى فوق صفحة الدنيا إلا قوة سلطانك ، ولكي لا أبصر في زجاجة مرآتها إلا رونق جمالك ، ولكي أسكر بالخمر نفسها ، لا بلون الكأس التي تترقرق فيها ...
أي رب :
لقد آمنت بقوتك وجبروتك ، وأيقنت بنورك وبهائك . آمنت أن هذا الكون كله جسم وأنت روحه ، وأن هذا الوجود حقيقة أنت سرها ...
أنت حسن زينة الأحبة والعشاق ، وإلى جمالك ميل قلوبهم وهوى أفئدتهم وأبصارهم ...
أنت خلقت في الشهد حلاوته وطعمه ، وأنت الذي أوجدت في الدمع حرقته ولذعه ...
القلوب ... أنت الذي ألهبتها بتأثير من عظمة جلالك ...
أشجار السرو الشاهقة ، أنت الذي خلقت في قامتها هذه البساقة والاعتدال ...
الورود الناعمة الحمراء ، أنت الذي أبدعت أكمامها من بين الأشواك القاسية الدامية ...
البلابل والأطيار ، أنت الذي ابتليت قلوبها الصغيرة بحسن تلك الورود وجمالها ...
تلون الأزهار وخضرة الأغصان ، أنت الذي بثثت فيما بينها روح الفتنة والجمال ...
صوت الهزار والعنادل ، أنت الذي أكسبته معنى الطرب والانسجام ...
كَحَلُ الأهداب الناعسة ، وسواد العيون المتألقة الباسمة ، وتهدل الشعور والتواؤها من حول الوجوه وفوق الأكتاف ، كل ذلك أقل من أن يغتي هذا السحر الذي يأخذ بالألباب لو لم تكن قد أمددته بفيض من كنه حسنك .
عكست ، يا مولاي ، آيات عظمتك وسلطانك ومظاهر حسنك وجمالك على صفحة الكون الفانية ، وأذهلته القوالب والأشكال عن ملاحظة السر الرهيب دون أن ينتبه إلى حقيقة الشمس التي تسطع فيها ، وعاش مشغوفا مفتونا بذلك الببغاء وحديثه الآلي دون أن يلتفت إلى المصدر الأسمى الذي يخلق هذا الكلام في شفتيه .
ومنهم من فتح عينيه ليستعيض عن الحلم الكاذب بالحقيقة الرائعة الجاثمة بين يديه ، وانشغل عن الصدى ليستمتع بالصوت الذي سيري من حوله ، واستدبر المرآة ليرى حقيقة الشمس التي تسطع أمامه ، ثم خرّ ساجدا لإله الجمال في الكون ، وخالق النشوة في الخمر ، ومبدع الرائحة في العطر !
أيها الساقي :
إنني أبغى الوصول إلى سدة ذاك الجمال .. إنني أريد كأسا من شراب ذلك القدس . فتعال فانشلني من بن هذا القتام إلى هناك .
تعال ويحك حدثني .. حدثني فإن غبش هذا السكر لا يزال متدجيا أمام عيني ، ولقد كاد أن يخنقني .
حدثني ماذا ترى في هذا الكون ؟ قل لي ، أهو خيال يسري ، أم هو حلم نحن الذين نسري فيه ...؟ ثم أنبأني إلى متى تظل عيناي معتصبتين بخمرك وكيف لي بأن ينتفض عقلي من غشاوة هذا الذهول بكؤوسك ؟ فلقد سأمت والله واحترقت ، وما أحوجني إلى أن أتنفس عن هذا الحلم الضارب أطنابه علي لأبصر بعينيّ التي طال شوقي إلى رؤيتها والنتهاء إليها .
إنني أشعر أيها الساقي ، من وراء هذه الأوهام والخيالات التي من حولي بأسرار كثيرة ولكني لا أكاد أهتدي إليها ، وإنه ليتألق أمام عيني بين الفينة والأخرى بريق لامع ، يسطع من خلف هذا الضباب ولكن لا أستطيع اختراققه للوصول إليه ، وإنه لينتهي إلى سمعي من بين لغط هذا الكون وضجيجه صوت من السماء ما أروعه وأسماه ! ولكني لا أكاد من هذا الضجيج أتبينه ...
يا إلهي : مزق أمام عيني هذه الحجب المسدلة حتى أراك ...
يا إلهي : إقشع من حولي بصيرتي خمار هذه الدنيا وسكرتها حتى أهتدي إلى عظمتك التي تسير وتنفخ فيها الوجود والحياة ...
يا إلهي : أزح من أمامي صور الجمال الخالد .. جمال ذاتك التي أشرقت بها الدنيا وما فيها ...
يا إلهي : لا تحرم قلبي إذ يختفي وجيبه وتسكن دقاته من نصيب وافر من العشق والتعلق بهذا الجمال الباقي والسر العظيم ... الفصل الأخير : مناجاة مع القلم
أيها الفارس الهائم في فلاة القرطاس ، متنكسا لمحو إشراقه ، مغرما بتسويد بياضه . حسبك ما سجلته من أخطاء ، وكفاك ما سودت من صفحات ، فقد آن لصريرك أن يهدأ ، وآن لك أن تعتدل و تترجل .
لقد أكثرت ، أيها الراكب الأغبر المسنون ، من تقبيح هذه الصفحات الناصعة بسوادك ، ولقد بالغت في تشوه وجها بالخطوط والخيلان ورسوم ,, الباء ‘‘ و ’’ الدال ‘‘ . والخطوط مهما لطفت في دقتها أو جملت في نسخها ورونقها ، فإن من القبح أن يكثر رصفها ، ويعمّ على وجه القراطيس سوادها . ألم تر إلى الغَُرر ، كيف تغدو رائعة إذ تكون نتفا قليلة توحي بالفتنة وتعبر عما حولها من إشراق ، وكم تكون قبيحة إذ تعم الجبهة طولا وعرضا ، وتمتد من فوقها كامتداد الزمام ...؟
أما الكلمات ومعانيها ، فمهما تعالت في الرتبة إلى مصاف الجواهر والدرّ ، فإن الإكثار جديرا بإنزالها إلى حضيض اللغو الذي لا قيمة له . ألم تر أن الدرّ إنما سمت قيمته لفقدانه ، وأن اللؤلؤ إنما زها بريقه في الأبصار لبعد مناله ؟
على أنك كم نفثت بين ذلك من خلط وأخطاء .. وكم تجاوزت به إلى الألوان من السهو والعصيان ، حررتها بلا روية وسجلتها من غير تأمل ! .. فقل لي ، من ذا يتولى اليوم مدحه وتحسينه ، بل من الذي يتحمل كل ذلك ممن يراه ...؟
أيها العود الأجوف الرقيق :
ماذا أفدتني إذا بريت منك هذا الرأس قلما سوى أخطاء رقمها منك هذا اللسان ...؟
ماذا تركت لي فوق هذه الصفحات إلا آثارا من نشوة العصيان ونقوشا من ذكريات اللهو والآثام ...؟
حسبك .. حسبك انصرافا إلى تسجيل ما تمليه عليك الأهواء ، وكفاك انهماكا في مظاهر اللهو والألعاب . فلقد آن أن تقلع عن كل ذلك تائبا نادما ، وآن أن تتبين طريق الحق لتسلكه مستغفرا باكيا ، وإلا فالنوبة من ورائك لاحقة بك ، ولعلها تفجؤك عما قريب ، فلا تفيدك حينئذ اليقظة والانتباه .
ولكن القلم ما إن طرق سمعه هذا الكلام حتى هبّ ثائرا ، فامتطى صهوة الأنامل وقد سلّ لسانا كالسيف يقارعني به قائلا :
أي أحمد :
لو لم تكن أنت ذلك الخبيث الذي تصف ، لما برّأت نفسك عن إثم أنت صاحبه لتلصقه ببرائتي وضعفي ، ولعلمت أنني لم أكتب إلا الذي قلته ، ولم أرسم إلا ما تصورته . فالقول قولك حقا كان أم باطلا ، والفعل فعلك خطأ كان أم صوابا .
أيها المتصرف فيما تتهمني به :
إنك لتعلم أنني كنت عدما في طوايا التراب ، ثم أنبتتي الأقدار قصبا في عالم الرياض والبساتين ، تتمايل النسمات بقوامي الفارع يمنة ويسرة ، ليس لي صرير أسجل به قولا ولا صفير أبعث به لحنا . ثم عمدت إليّ فأبعدتني عن الأهل والأوطان واقتلعتني من بين الرفقة والأصحاب . فاتخذت مني قسما لتسجيل أقوالك .. واخترت قسما آخر لتصوير طربك وآلامك . نقلتني من بين روضتي ووطني إلى رياض الشوق والهجران ، وثقبت جهات من جسمي بكّ العشق والآلام . ثم رحت تنفخ فيه روحا من أنفاسك ألهبت مني الكبد والجوانح ، فكان كل بكائي من تعذيبك وإحراقك ، وكان جميع آهاتي لنفخك وأنفاسك .
أنا جماد ضعيف أبكم ليس لي لسان ، وقصب يابس لا يتأتى مني أي نطق أو بيان ، ولكن أنت الذي اتخذتني إصبعا سادسا بين بنانك ، وأنت الذي جملت بي مجالس طربك وألحانك ، وأنت الذي سوّدت بس صحائف لهوك وعصيانك . وإلا فمنذا الذي سمع بأن الناي ينطق من غير نافخ ، أو أن القلم ينقش من غير كاتب ...؟
أي رب :
إنك لتعلم أن ’’ الخاني ‘‘ الضعيف إنما هو في قبضتك مثل هذا القلم المقيد المعذور . قلبه في يدك ، وجوارحه ملك لتصرفك .. أنت الآمر القوي وهو المأمور الضعيف . أنت المالك الغني وهو المملوك الفقير . ولئن كنت قد منحته يا مولاي في شؤونه بعض تصرف أو اختيار ، فلقد فوض ذلك أيضا إليك ، وتجرد من كل اختياره وتصرفه لسلطانك وأمرك . فهو بكل ما أوليته - سواء كان علما أم قلما أم عملا - ملك لأمرك ووقف لتصرفك وإرادتك . وهو وحقك يا مولاي لا يفرق بين نفع له وضر ، ولا يملك لنفسه سعيا إلى خير أو تجنبا عن شر ...
وهو على كل ما لطخه من صفحات كثيرة بمداد القبائح والآثام ، ليس له دونك من غرض أو قصد ، وليس له بغيرك أي طاقة أو حول ...
كل ما سطرته يا إلهي من أول سطر في صحائف حياتي إلى أخره إنما هو نتيجة خطك وتقديرك ، وإنها لسطور كثيرة قد حوت سجل ثلاثين عاما من عمري الذي مضى * ... إذ كان التاريخ حينما انفكت روحي عن غيبها إحدى وستين وألفا .
ولقد ناهزت اليوم العام الأربع والأربعين ، ولست أرى فوق كاهلي إلا ركاما من السيئات والآثام ، لا أجد بينها درهما من عمل صالح قدمته .
رباه :
كما وفقتني في نهاية هذا السِّفْر إلى الالتفات لعظمتك والتسبيح بحمدك ، أسألك أم توفقني في نهاية حياتي أيضا إلى التمسك بهديك والإيمان بلطفك وحكمتك ...
* كان هذا عمرأحمد خاني حينما ألف هذه القصة مع إضافة أربعة عشر عاما ، وهي أيام الصبا التي استثناها من سجل أعماله . فاذا أضيفت إليه كان أربعة وأربعين كما بين ذلك فيما بعد