اسم الكتاب : صور وخواطر
المؤلف : علي الطنطاوي
الناشر : دار المنارة
الطبعة : السابعة
سنة الطبع : 1428 - 2007
عدد المجلدات : 1
عدد الصفحات : 384
الحجم الإجمالي تقريباً : 5.60 ميقا
لتحميل الكتاب
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
هي كلمات اقتبستها من كتاب "صور وخواطر" للشيخ علي الطنطاوي
فكانت معاني قمة في التعبير عن الحال
اترككم مع المقطع ومطالعة طيبة ارجوها لكم
وأنصت القمر وأطل ينطر ,فلما رأي العام الراحل قال :لقد رأيت ملايين مثله وقد مللت مر السنين وكر العصور ,فمالي وله ?وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث
وبقيت وحدي !
***
بقيت وحيدا …فنظرت في نفسي :
لقد صحبت تسعا وعشرين قافلة من قوافل الزمان…فهل اقتربت من آمالي ?هل دنوت من الغاية التي اسعى اليها في نفسي ?
ثم سالت نفسي ما هي الغاية التي تسعين اليها ?أتسيرين الى غير ما نهاية ?كلما مر عام تعلقت به فسرت معه ,حتى يضيق بك عام من الاعوام فيقذف بك الى وادي الموت ?الا تعلمين اين المسير
ولم تكن النفس ترتقب مثل هذا السؤال,فاضطربت اضطرابا شديدا,وكثرت فيها الآراء واشتد بين اعضائها الخلاف ثم انشقت انشقاقا وانقسمت احزابا وانتشرت نفوسا
***
قالت النفس الاولى :الغاية يا صاحبي واضحة اننا نسعى لخدمة هذا الجسم الذي نحمله نحيا لسد حاجاته واجابة رغباته وامتاعه بملذاته
قالت الثانية :خسئت ايتها (النفس الفاجرة)اننا لم نسخر من اجل هذا العنصر الاجنبي ان الجسم ليس منا
قالت الاولى :افهو اذن من غيرنا ?وقهقهت ضاحكة !
قالت :اسخري من نفسك انه لو كان منا لما عشنا الا فيه ولم نعش بعده انه ثوب نلبسه ونخلعه أفيكون الثوب جزءا من اللابس ?
قالت :نعم ان المرء لو قطعت يده او رجله او ذهب سمعه او بصره فلن تنقص نفسه شيئا بل لقد يكون الاعمى الاصم اكمل نفسا واقوى عقلا واسمى روحا من السميع البصير وانك لتعلمين هذا ولكنك (نفس سوء) تريدين الاستمتاع بشهواتك ونحن لا نحيا لنيل الشهوات !
قالت الاولى : فلم اذن نحيا يا ايتها (النفس المفكرة) ?
قالت :نحيا لنكشف خبايا الوجود لنستطلع طلع الكائنات لنعرف نواميس الكون واسرار الطبيعة…من اجل هذا نحيا
***
فانبرت لها نفسي الثالة …فقالت :
كنت اظنك عاقلة تفهمين وتعرفين فاذا انت جاهلة
ويحك !مانحن والوجود ?ما لنا وللطبيعة ?وماذا يعنينا اكانت المجرة نهرا في السماء ام كانت مجموعة من الكواكب وماذا ينفعنا ان يكون في المريح ناس او يكون مقفرا لا ناس فيه ومالنا ولهذا الفضول ?
قالت الثانية :انك (نفس شاعرة) تنكرين قيمة العلم.
قالت :ان هذا العلم خسران لك يا حمقاء ! انك كنت ترين في الكسوف حادثا غريبا مليئا بالاسرار يبعث فيك عالما من العواطف فلما علمت انه حادث طبيعي :كوكب يقوم بحذاء كوكب ضاع معناه وانتفت اسراره ولم يعد يثير فيك عاطفة او ييهيج فيك حسا
قالت الثانية :وما قيمة العاطفة ?أتريدين ان ندع العلم من اجل العاطفة ?
قالت الثالثة :بل لا تعلمي ولكن تعلمي ما تحتاجين اليه العلم دواء يؤخد بقدار الحاجة ولكن الشعور غداء لا يستغني عنه فنجن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به ونتذوقه في الطبيعة وفي الانسان وفي الفن …من اجل هذا نحيا
فوثبت النفس الرابعة (النفس المؤمنة المطمئنة)فقالت :يا للسخف !
قالت الثالثة :وقد غاطها ما قالها :اي سخف ترين من فضلك اذا كنا لا نرى الجمال فلم نحيا ?
قالت الرابعة متهكمة :كأنك تحيين الان !انك يا سيدتي سجينة فأسعي لتتخلصي من قيود السجن ثم انطلقي في فضاء الحرية فعيشي في الحياة الاخرى حياة الانطلاق
ورأيت ان المناقشة قد طالت وغدت مملة وتشعبت الآراء فأسكتهن ورجعت افكر وحدي
***
قلت :انني لا ادري لماذا احيا !ولا اعرف ما هي صلتي بالكون !
كنت انظر الى الدنيا من خلال الكتب واشرف عليها من نافدة المدرسة فاراها صغيرة كقبضة الكف .فحسبت اني اذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي
وعشت بهذا الامل ولم اعرف حقيقة الحياة ولم اعد لها العدة ولم اجد من يخبرني خبرها الا هؤلاء الأساتذة وهم قوم مخادعون لا يبصرون التلميذ بالدنيا كما هي في ذاتها بل كما يريدون هم ان تكون…
وخرجت من المدرسة وهبطت من سماء الخيال الى ارض الحقيقة فاذا الطريق مزروع بالشوك فانطلقت امشي واجاهد بهمة الشاب القوي الطموح فما قطعت من الطريق الا قليلا حتى وجدت هذه (الطفيليات البشرية) تتعلق بكتفي وتستمسك بي حتى اذا دنوت من اول منزل وهممت ان استريح فيه وثبت فسبقتني اليه فسرت اجاهد واتقدم أؤم منزلا آخر حتى هدني التعب ونال منى النصب ولم اصل الى شيء
ولاح لي فجأة قصر عظيم على الطريق تلمع قبابه المغشاة بالذهب وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة وتضئ نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس ويقرا على بابه بأحرف من النور (هذا قصر الياس) فراعني مظهره وهممت ان احيد عن الطريق فادخله ولكني نظرت اليه اولا فاذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأسود والافاعي …واذا هو خال من البشر ليس فيه الا جماعة الشعراء البائسين يعدون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الاسود فلا يدري بها احد.
فوليت هاربا وآثرت العودة الى مقارعة الشوك وجهاد الحياة .عدت فقارعت وجاهدت فلم اصل الى شيء…فسالت نفسي :هل أيأس ?
***
سالتها وحدثتها ولكني جهرت بالحديث فأيقظت النائمين…
اطلت علي النخلة فقالت :إلام تجاهد وتناضل ?ماذا تريد ايها الرجل ?الا تقتنع مثلي بان تقف في مكانك حتى يأتيك الموت ?
قلت :لا ان لي غاية واحدة هي ان ابقى دائما اجاهد واناضل !
فضحكت وقهقهت واوراقها وعادت الى منامها
ومدت القبة راسها فقالت :الا تنام مثلي ايها الفتى وتحلم ?لماذا تعدو في طريق القبر ?قلت :اني احب ان اصل الى القبر لأني سأخرج منه الى الفضاء الواسع سأخلع فيه ثوبي الجثماني ثم انطلق صعدا.
فذهبت وهي تحدث نفسها : ينطلق صعدا ?انا هنا منذ الف ومائة سنة ولم انطلق صعدا !ثم رجعت الى النوم
وقالت دجلة وقد صفق لي ماؤها سرورا :
امض ايها الغلام امض ان طريقك طويل ولكنك قوي انك تمشي الى القبر لتفنى ولكن تدخل من باب القبر الى عالم الخلود فأنا قد بلغت من العمر سبعمائة وخمسين الف سنه ولكنك قد ولدت بعقلك قبلي وستعيش بروحك من بعد ان تموت الجبال وتغرق البحار ويختنق الهواء…وتدفن الصحراء !
وامن القمر على كلامها واطل على من النافذة فصافحني بشعاعه وقال :
لقد صدقت !إنك تعيش الآن لتعد العدة للحياة…حين تنطلق من قيود الجسم.
ثم صمت….وصمت !
***
وكان العام يقطع اللحظة الاخيرة …فصحت به :
انا الذي يهتم بك ايها العام …انا الذي يودعك ويستقبل غيرك لا النخلة ولا القبة ولا دجلة ولا القمر…تلك للفناء وانا للبقاء…تلك نتنظر الموت وانا انتظر الحياة…انا امشي على هام السنين الى الحياة الاخرى !
وبقيت وحدي !
***
بقيت وحيدا …فنظرت في نفسي :
لقد صحبت تسعا وعشرين قافلة من قوافل الزمان…فهل اقتربت من آمالي ?هل دنوت من الغاية التي اسعى اليها في نفسي ?
ثم سالت نفسي ما هي الغاية التي تسعين اليها ?أتسيرين الى غير ما نهاية ?كلما مر عام تعلقت به فسرت معه ,حتى يضيق بك عام من الاعوام فيقذف بك الى وادي الموت ?الا تعلمين اين المسير
ولم تكن النفس ترتقب مثل هذا السؤال,فاضطربت اضطرابا شديدا,وكثرت فيها الآراء واشتد بين اعضائها الخلاف ثم انشقت انشقاقا وانقسمت احزابا وانتشرت نفوسا
***
قالت النفس الاولى :الغاية يا صاحبي واضحة اننا نسعى لخدمة هذا الجسم الذي نحمله نحيا لسد حاجاته واجابة رغباته وامتاعه بملذاته
قالت الثانية :خسئت ايتها (النفس الفاجرة)اننا لم نسخر من اجل هذا العنصر الاجنبي ان الجسم ليس منا
قالت الاولى :افهو اذن من غيرنا ?وقهقهت ضاحكة !
قالت :اسخري من نفسك انه لو كان منا لما عشنا الا فيه ولم نعش بعده انه ثوب نلبسه ونخلعه أفيكون الثوب جزءا من اللابس ?
قالت :نعم ان المرء لو قطعت يده او رجله او ذهب سمعه او بصره فلن تنقص نفسه شيئا بل لقد يكون الاعمى الاصم اكمل نفسا واقوى عقلا واسمى روحا من السميع البصير وانك لتعلمين هذا ولكنك (نفس سوء) تريدين الاستمتاع بشهواتك ونحن لا نحيا لنيل الشهوات !
قالت الاولى : فلم اذن نحيا يا ايتها (النفس المفكرة) ?
قالت :نحيا لنكشف خبايا الوجود لنستطلع طلع الكائنات لنعرف نواميس الكون واسرار الطبيعة…من اجل هذا نحيا
***
فانبرت لها نفسي الثالة …فقالت :
كنت اظنك عاقلة تفهمين وتعرفين فاذا انت جاهلة
ويحك !مانحن والوجود ?ما لنا وللطبيعة ?وماذا يعنينا اكانت المجرة نهرا في السماء ام كانت مجموعة من الكواكب وماذا ينفعنا ان يكون في المريح ناس او يكون مقفرا لا ناس فيه ومالنا ولهذا الفضول ?
قالت الثانية :انك (نفس شاعرة) تنكرين قيمة العلم.
قالت :ان هذا العلم خسران لك يا حمقاء ! انك كنت ترين في الكسوف حادثا غريبا مليئا بالاسرار يبعث فيك عالما من العواطف فلما علمت انه حادث طبيعي :كوكب يقوم بحذاء كوكب ضاع معناه وانتفت اسراره ولم يعد يثير فيك عاطفة او ييهيج فيك حسا
قالت الثانية :وما قيمة العاطفة ?أتريدين ان ندع العلم من اجل العاطفة ?
قالت الثالثة :بل لا تعلمي ولكن تعلمي ما تحتاجين اليه العلم دواء يؤخد بقدار الحاجة ولكن الشعور غداء لا يستغني عنه فنجن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به ونتذوقه في الطبيعة وفي الانسان وفي الفن …من اجل هذا نحيا
فوثبت النفس الرابعة (النفس المؤمنة المطمئنة)فقالت :يا للسخف !
قالت الثالثة :وقد غاطها ما قالها :اي سخف ترين من فضلك اذا كنا لا نرى الجمال فلم نحيا ?
قالت الرابعة متهكمة :كأنك تحيين الان !انك يا سيدتي سجينة فأسعي لتتخلصي من قيود السجن ثم انطلقي في فضاء الحرية فعيشي في الحياة الاخرى حياة الانطلاق
ورأيت ان المناقشة قد طالت وغدت مملة وتشعبت الآراء فأسكتهن ورجعت افكر وحدي
***
قلت :انني لا ادري لماذا احيا !ولا اعرف ما هي صلتي بالكون !
كنت انظر الى الدنيا من خلال الكتب واشرف عليها من نافدة المدرسة فاراها صغيرة كقبضة الكف .فحسبت اني اذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي
وعشت بهذا الامل ولم اعرف حقيقة الحياة ولم اعد لها العدة ولم اجد من يخبرني خبرها الا هؤلاء الأساتذة وهم قوم مخادعون لا يبصرون التلميذ بالدنيا كما هي في ذاتها بل كما يريدون هم ان تكون…
وخرجت من المدرسة وهبطت من سماء الخيال الى ارض الحقيقة فاذا الطريق مزروع بالشوك فانطلقت امشي واجاهد بهمة الشاب القوي الطموح فما قطعت من الطريق الا قليلا حتى وجدت هذه (الطفيليات البشرية) تتعلق بكتفي وتستمسك بي حتى اذا دنوت من اول منزل وهممت ان استريح فيه وثبت فسبقتني اليه فسرت اجاهد واتقدم أؤم منزلا آخر حتى هدني التعب ونال منى النصب ولم اصل الى شيء
ولاح لي فجأة قصر عظيم على الطريق تلمع قبابه المغشاة بالذهب وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة وتضئ نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس ويقرا على بابه بأحرف من النور (هذا قصر الياس) فراعني مظهره وهممت ان احيد عن الطريق فادخله ولكني نظرت اليه اولا فاذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأسود والافاعي …واذا هو خال من البشر ليس فيه الا جماعة الشعراء البائسين يعدون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الاسود فلا يدري بها احد.
فوليت هاربا وآثرت العودة الى مقارعة الشوك وجهاد الحياة .عدت فقارعت وجاهدت فلم اصل الى شيء…فسالت نفسي :هل أيأس ?
***
سالتها وحدثتها ولكني جهرت بالحديث فأيقظت النائمين…
اطلت علي النخلة فقالت :إلام تجاهد وتناضل ?ماذا تريد ايها الرجل ?الا تقتنع مثلي بان تقف في مكانك حتى يأتيك الموت ?
قلت :لا ان لي غاية واحدة هي ان ابقى دائما اجاهد واناضل !
فضحكت وقهقهت واوراقها وعادت الى منامها
ومدت القبة راسها فقالت :الا تنام مثلي ايها الفتى وتحلم ?لماذا تعدو في طريق القبر ?قلت :اني احب ان اصل الى القبر لأني سأخرج منه الى الفضاء الواسع سأخلع فيه ثوبي الجثماني ثم انطلق صعدا.
فذهبت وهي تحدث نفسها : ينطلق صعدا ?انا هنا منذ الف ومائة سنة ولم انطلق صعدا !ثم رجعت الى النوم
وقالت دجلة وقد صفق لي ماؤها سرورا :
امض ايها الغلام امض ان طريقك طويل ولكنك قوي انك تمشي الى القبر لتفنى ولكن تدخل من باب القبر الى عالم الخلود فأنا قد بلغت من العمر سبعمائة وخمسين الف سنه ولكنك قد ولدت بعقلك قبلي وستعيش بروحك من بعد ان تموت الجبال وتغرق البحار ويختنق الهواء…وتدفن الصحراء !
وامن القمر على كلامها واطل على من النافذة فصافحني بشعاعه وقال :
لقد صدقت !إنك تعيش الآن لتعد العدة للحياة…حين تنطلق من قيود الجسم.
ثم صمت….وصمت !
***
وكان العام يقطع اللحظة الاخيرة …فصحت به :
انا الذي يهتم بك ايها العام …انا الذي يودعك ويستقبل غيرك لا النخلة ولا القبة ولا دجلة ولا القمر…تلك للفناء وانا للبقاء…تلك نتنظر الموت وانا انتظر الحياة…انا امشي على هام السنين الى الحياة الاخرى !