2 مشترك
(( كليلة ودمنة ))
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 26
رد: (( كليلة ودمنة ))
لا يبرح ولا ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل يومٍ على يد جنده. وكان فيمن معه من السباع ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة؛ وكانا ذوي دهاء وعلمٍ وأدبٍ. فقال دمنة لأخيه كليلة: يا أخي ما شأن الأسد مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط؟ قال له كليلة: ما شأنك أنت والمسألة عن هذا؟ نحن على باب ملكنا آخذين بما أحب وتاركين لما يكره؛ ولسنا من أهل المرتبة التي يتناول أهلها كلام الملوك والنظر في أمورهم. فأمسك عن هذا، واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعمواً أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بين وتدين، وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك. ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه. فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله، فركب الخشبة، وجعل ظهره قبل الوتد، ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه في الشق، ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشياً عليه. فكان ما لقي من النجار من الضرب أشد مما أصابه من الخشبة. قال دمنة: قد سمعت ما ذكرت، ولكن اعلم أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه، وإنما يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو. وإن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه. حتى ترمى له الكسرة، وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلفه حتى يمسح ويتملق له. قمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه. ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم. قال كليلة: قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك، واعلم أن لكل إنسانٍ منزلةً وقدراً. فإن كان في منزلته التي هو فيها متماسكاً، كان حقيقاً أن يقنع. وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التي نحن عليها. قال دمنة: إن المنازل متنازعةٌ مشتركةٌ على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديدٌ، والانحطاط منه مهينٌ؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسرٌ، ووضعه إلى الأرض هينٌ. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا. ثم كيف نقنع بها ونحن نستطيع التحول عنها؟ قال كليلة: فما الذي اجتمع عليه رأيك؟ قال دمنة: أريد أن أتعرض لأسد عند هذه الفرصة: فإن الأسد ضعيف الرأي. ولعلي على هذه الحال أدنو منه فأصيب عنده منزلةً ومكانةً. قال كليلة: وما يدريك أن الأسد قد التبس عليه أمره؟ قال دمنة: بالحس والرأي أعلم ذلك منه: فإن الرجل ذا الرأي يعرف حال صاحبه وباطن أمره بما يظهر له من دله وشكله. قال كليلة: فكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست بصاحب السلطان، ولا لك علمٌ بخدمة السلاطين؟ قال دمنة: الرجل الشديد القوي لا يعجزه الحمل الثقيل، وإن لم تكن عادته الحمل؛ والرجل الضعيف لا يستقل به وإن كان ذلك من صناعته. قال كليلة: فإن السلطان لا يتوخى بكرامته فضلاء من بحضرته؛ ولكنه يؤثر الأدنى ومن قرب منه. ويقال: إن مثل السلطان في ذلك مثل شجر الكرم الذي لا يعلق إلا بأقرب الشجر. وكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست تدنو منه؟ قال دمنة: قد فهمت كلامك جميعه وما ذكرت، وأنت صادقٌ. لكن اعلم أن الذي هو قريبٌ من السلطان ولا ذلك في موضعه ولا تلك منزلته، ليس كمن دنا منه بعد البعد وله حقٌ وحرمةٌ؛ وأنا ملتمس بلوغ مكانتهم بجهدي. وقد قيل: لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده. قال كليلة: هبك وصلت إلى الأسد، فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به المنزلة والحظوة لديه؟ قال دمنة: لو دنوت منه وعرفت أخلاقه، لرفقت في متابعته وقلة الخلاف له. وإذا أراد أمراً هو في نفسه صواب، زينته له وصبرته عليه، وعرفته بما فيه من النفع والخير؛ وشجعته عليه وعلى الوصول إليه، حتى يزداد به سروراً. وإذا أراد أمراً بما فيه الضر والشين، وأوقفته على ما في تركه من النفع والزين، بحسب ما أجد إليه السبيل. وأنا أرجو أن أزداد بذلك عند الأسد مكانةً ويرى مني ما لا يراه من غيري: فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً أو يحق باطلاً لفعل: كالمصور الماهر الذي يصور في الحيطان صوراً .
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 27
رد: (( كليلة ودمنة ))
كأنها خارجةٌ وليست بخارجةٍ، وأخرى كأنها داخلةٌ وليست بداخلةٍ. قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ. وقد قالت العلماء: إن أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليلٌ، وهي: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة. وإنما شبه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والأدوية النافعة. وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍ مخوفٍ. فالارتقاء إليه شديدٌ، والمقام فيه أشد. قال دمنة: صدقت فيما ذكرت؛ غير أنه من لم يركب الأهوال، لم ينل الرغائب؛ ومن ترك الأمر الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبةً ومخافةً لما لعله أن يتوقاه، فليس ببالغٍ جسيماً. وقد قيل: إن خصالاً ثلاثاً لن يستطيعها أحد إلا يمعونة من علو همةٍ وعظيم خطرٍ: منها عمل السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدو. وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل الرشيد: إن لا يرى إلا في مكانين، ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرماً، وإما مع النساك متعبداً، كالفيل إنما جماله وبهاؤه في مكانتين: إما أن تراه وحشياً وإما مركباً للملوك. قال كليلة: خار الله لك فيما عزمت عليه.
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل الأسد فسلم عيه. فقال الأسد لبعض جلسائه: من هذا؟ فقال فلان بن فلان. قال: قد كنت أعرف أباه. ثم سأله أين تكون؟ قال: لم أزل ملازماً باب الملك، رجاء أن يحضر أمرٌ فأعين الملك به بنفسي ورأيي: فإن أبواب الملك تكثر فيها الأمور التي ربما تحتاج فيها إلى الذي لا يؤبه له؛ وليس أحدٌ يصغر أمره إلا وقد يكون عنده بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى في الأرض ربما نفع، فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه. فلما سمع الأسد قول دمنة أعجبه، وظن أن عنده نصيحةً ورأياً. فأقبل على من حضر فقال: إن الرجل ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة، فتأبى منزلته إلا أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. فلما عرف دمنة أن الأسد قد عجب منه قال: إن رعية الملك تحضر باب الملك، رجاء أن يعرف ما عندها من علمٍ وافرٍ. وقد يقال: إن الفضل في أمرين: فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم. وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا مختبرين ربما تكون مضرةً على العمل: فإن العمل ليس رجاؤه بكثرة الأعوان ولكن بصالحي الأعوان. ومثل ذلك مثل الرجل الذي يحمل الحجر الثقيل، فيقل به نفسه، ولا يجد له ثمناً. والرجل الذي يحتاج إلى الجذوع لا يجزئه القصب وإن كثر. فأنت الآن أيها الملك حقيقٌ ألا تحقر مروءةٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة: فإن الصغير ربما عظم، كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم، فتقبض عليه الملوك وتحتاج إليه في البأس واللهو. وأحب دمنة أن يري القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله: لأنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه، فقال: إن السلطان لا يقرب الرجال لقرب آبائهم، ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينبغي أن ينظر إلى كل رجلٍ بما عنده: لأنه لا شيء أقرب إلى الرجل من جسده ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ولا يدفع ذلك عنه إلا بالدواء الذي يأتيه من بعد. فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب الملك به إعجاباً شديداً، وأحسن الرد عليه، وزاد في كرامته. ثم قال لجلسائه: ينبغي للسلطان ألا يلج في تضييع حق ذوي الحقوق. والناس في ذلك رجلان: رجلٌ طبعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه، لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها، فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورجلٌ أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حاراً مؤذياً.
ثم إن دمنة استأنس بالأسد وخلا به. فقال يوما: أرى الملك قد أقام في مكانٍ واحدٍ لا يبرح منه، فما سبب ذلك؟ فبينما هما في هذا الحديث إذ خار شتربة خواراً شديداً: فهيج الأسد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبةً وهيبةً. فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت؟ قال لم يربني شيءٌ سوى ذلك. قال دمنة: ليس الملك بحقيقٍ أن يدع مكانه لأجل صوتٍ. فقد قالت العلماء: إن ليس من كل الأصوات تجب الهيبة. قال الأسد: وما مثل ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما في أنفسنا. فإن شاء الملك بعثني وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت. فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت. فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة. فلما فصل دمنة من عند الأسد، فكر الأسد في أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال في نفسه: وأصبت في ائتماني دمنة، وقد كان ببابي مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف في شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً. ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل مع عليّ. ثم
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل الأسد فسلم عيه. فقال الأسد لبعض جلسائه: من هذا؟ فقال فلان بن فلان. قال: قد كنت أعرف أباه. ثم سأله أين تكون؟ قال: لم أزل ملازماً باب الملك، رجاء أن يحضر أمرٌ فأعين الملك به بنفسي ورأيي: فإن أبواب الملك تكثر فيها الأمور التي ربما تحتاج فيها إلى الذي لا يؤبه له؛ وليس أحدٌ يصغر أمره إلا وقد يكون عنده بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى في الأرض ربما نفع، فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه. فلما سمع الأسد قول دمنة أعجبه، وظن أن عنده نصيحةً ورأياً. فأقبل على من حضر فقال: إن الرجل ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة، فتأبى منزلته إلا أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. فلما عرف دمنة أن الأسد قد عجب منه قال: إن رعية الملك تحضر باب الملك، رجاء أن يعرف ما عندها من علمٍ وافرٍ. وقد يقال: إن الفضل في أمرين: فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم. وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا مختبرين ربما تكون مضرةً على العمل: فإن العمل ليس رجاؤه بكثرة الأعوان ولكن بصالحي الأعوان. ومثل ذلك مثل الرجل الذي يحمل الحجر الثقيل، فيقل به نفسه، ولا يجد له ثمناً. والرجل الذي يحتاج إلى الجذوع لا يجزئه القصب وإن كثر. فأنت الآن أيها الملك حقيقٌ ألا تحقر مروءةٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة: فإن الصغير ربما عظم، كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم، فتقبض عليه الملوك وتحتاج إليه في البأس واللهو. وأحب دمنة أن يري القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله: لأنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه، فقال: إن السلطان لا يقرب الرجال لقرب آبائهم، ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينبغي أن ينظر إلى كل رجلٍ بما عنده: لأنه لا شيء أقرب إلى الرجل من جسده ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ولا يدفع ذلك عنه إلا بالدواء الذي يأتيه من بعد. فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب الملك به إعجاباً شديداً، وأحسن الرد عليه، وزاد في كرامته. ثم قال لجلسائه: ينبغي للسلطان ألا يلج في تضييع حق ذوي الحقوق. والناس في ذلك رجلان: رجلٌ طبعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه، لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها، فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورجلٌ أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حاراً مؤذياً.
ثم إن دمنة استأنس بالأسد وخلا به. فقال يوما: أرى الملك قد أقام في مكانٍ واحدٍ لا يبرح منه، فما سبب ذلك؟ فبينما هما في هذا الحديث إذ خار شتربة خواراً شديداً: فهيج الأسد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبةً وهيبةً. فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت؟ قال لم يربني شيءٌ سوى ذلك. قال دمنة: ليس الملك بحقيقٍ أن يدع مكانه لأجل صوتٍ. فقد قالت العلماء: إن ليس من كل الأصوات تجب الهيبة. قال الأسد: وما مثل ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما في أنفسنا. فإن شاء الملك بعثني وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت. فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت. فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة. فلما فصل دمنة من عند الأسد، فكر الأسد في أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال في نفسه: وأصبت في ائتماني دمنة، وقد كان ببابي مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف في شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً. ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل مع عليّ. ثم
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 28
رد: (( كليلة ودمنة ))
قام من مكانه فمشى غير بعيدٍ، فبصر بدمنة مقبلاً نحوه فطابت نفسه بذلك، ورجع إلى مكانه، ودخل دمنة على الأسد فقال له: ماذا صنعت؟ وماذا رأيت؟ قال: رأيت ثوراً هو صاحب الخوار والصوت الذي سمعته. قال: فما قوته؟ قال: لا شوكة له. وقد دنوت منه وحاورته محاورة الأكفاء ولا يصغرن عندك أمره: فإن الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش، لكنها تحطم طوال النخل وعظيم الشجر. قال دمنة: لا تهابن أيها الملك منه شيئاً؛ ولا يكبرن عليك أمره: فأنا آتيك به ليكون لك عبداً سامعاً مطيعاً. قال الأسد: دونك وما بدا لك.
فانطلق دمنة إلى الثور، فقال له غير هائب ولا مكترث: إن الأسد أرسلني إليك لآتيه بك. وأمرني، إن أنت عجلت إليه طائعاً، أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت، أن أعجل الجرعة إليه فأخبره. قال له شتربة: ومن هو هذا الأسد الذي أرسلك إلي؟ وأين هو؟ وما حاله؟ قال دمنة: هو ملك السباع، وهو بمكان كذا، ومعه جندٌ كثيرٌ من جنسه فرعب شتربة من ذكر الأسد والسباع. وقال: إن أنت جعلت لي الأمان على نفسي أقبلت معك إليه. فأعطاه دمنة من الأمان ما وثق به. ثم أقبل والثور معه، حتى دخلا على الأسد فأحسن الأسد إلى الثور وقرّبه؛ وقال له: متى قدمت هذه البلاد؟ وما أقدمكها؟ فقص شتربة عليه قصته. فقال له الأسد اصحبني والزمني: فإني مكرمك. فدعا الثور وأثنى عليه. ثم إن الأسد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره في أمره، ولم تزده الأيام إلا عجباً به ورغبةً فيه وتقريباً منه؛ حتى صار أخص أصحابه عنده منزلةً. فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالأسد دونه ودون أصحابه، وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه، حسده حسداً عظيماً، وبلغ منه غيظه كل مبلغ: فشكا ذلك إلى أخيه كليلة، وقال له: ألا تعجب يا أخي من عجز رأيي، وصنعي بنفسي؟ ونظري فيما ينفع الأسد، وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى الأسد ثوراً غلبني على منزلتي.
قال كليلة: أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك. قال دمنة: أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند الأسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه: فإن أموراً ثلاثةً العاقل جدير بالنظر فيها، والاحتيال لها بجهده: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضاء، والاستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر، فيستتم ما يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده. وإني لما نظرت في الأمر الذي به أرجو أن تعود منزلتي، وما غلبت عليه مما كنت فيه، لم أجد حيلةً ولا وجهاً إلا الاحتيال لآكل العشب هذا، حتى أفرق بينه وبين الحياة: فإنه إن فارق الأسد عادت لي منزلتي. ولعل ذلك يكون خيراً للأسد: فإن إفراطه في تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: ما أرى على الأسد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شيناً ولا شراً. قال دمنة: إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.
فأما الحرمان فأن يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، وترك التفقد لمن هو كذلك. وأما الفتنة فهي تحارب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وإن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديداً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لأن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً؟ قال دمنة: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة: فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله؟ قال كليلة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له وكرٌ في شجرةٍ على جبلٍ؛ وكان قريباً منه حجر ثعبانٍ أسود، فكان الغراب إذا فرخ عمد الأسود إلى فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى؛ وقال له: أريد مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛ قال: وما هو؟ قال الغراب: قد عزمت أن أذهب اليوم إلى الأسود إذا نام، فأنقر عينيه، فأفقأهما، لعلي أستريح منه. قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت؛ فالتمس أمراً تصيب فيه بغيتك من الأسود، من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها. وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه. قال الغراب: وكيف كان ذلك؟ قال ابن آوى: زعموا أن علجوماً عشّش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدٌ؛ فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطانٌ، فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن؛ فدنا منه وقال: مالي أراك أيها الطائر هكذا حزيناً كئيباً؟ قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك؟ وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا المكان؛ فقال أحدهما لصاحبه: إن ها هنا سمكاً كثيراً أفلا نصيده أولاً؟ فقال الآخر: إني قد رأيت في مكان كذا سمكاً أكثر من هذا السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه. وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك، انتهيا إلى هذه الأجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هلاكي ونفاذ مدتي. فانطلق السرطان من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه؛ وقلن له: إنا أتينا لك لتشير علينا: فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه. قال العلجوم: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي بها؛ ولا أعلم حيلةً إلا المصير إلى غديرٍ قريبٍ من ها هنا، فيه سمكٌ ومياهٌ عظيمةٌ وقصبٌ، فإن استطعن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن وخصبكن. فقلن له: ما يمن علينا بذلك غيرك. فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السمكتين؛ فجاءه السرطان؛ فقال له: إني أيضاً قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به، حتى إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك. فقال في نفسه: إذا لقي الرجل عدوه في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك. سواءٌ قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقاً أن يقاتل عن نفسه كرماً وحفاظاً ، ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم، فعصره فمات؛ وتخلص السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أمرٍ، إن أنت قدرت عليه، كان فيه هلاك الأسود من غير أن تهلك به نفسك، وتكون فيه سلامتك. قال الغراب وما ذاك؟ قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك: لعلك أن تظفر بشيءٍ من حلي النساء فتخطفه؛ ولا تزال طائراً واقعاً، بحيث لا تفوت العيون، حتى تأتي حجر الأسود فترمي بالحلي عنده. فإذا رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب محلقا في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثيابها وحليها ناحيةً؛ فانقض واختطف من حليها عقداً، وطار به، فتبعه الناس؛ ولم يزل طائراً واقعاً، بحيث يراه كل أحدٍ؛ حتى انتهى الأمر إلى جحر الأسود؛ فألقى العقد عليه، والناس ينظرون إليه. فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا الأسود. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ مالا تجزئ القوة. قال كليلة: إن الثور لو لم يجتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول. ولكن له مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل. فماذا تستطيع له؟ قال دمنة: إن الثور لكما ذكرت في قوته ورأيه، ولكنه مقرٌ لي بالفضل؛ وأنا خليق أن اصرعه كما صرعت الأرنب الأسد. قال كليلة: وكيف كان ذلك؟
فانطلق دمنة إلى الثور، فقال له غير هائب ولا مكترث: إن الأسد أرسلني إليك لآتيه بك. وأمرني، إن أنت عجلت إليه طائعاً، أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت، أن أعجل الجرعة إليه فأخبره. قال له شتربة: ومن هو هذا الأسد الذي أرسلك إلي؟ وأين هو؟ وما حاله؟ قال دمنة: هو ملك السباع، وهو بمكان كذا، ومعه جندٌ كثيرٌ من جنسه فرعب شتربة من ذكر الأسد والسباع. وقال: إن أنت جعلت لي الأمان على نفسي أقبلت معك إليه. فأعطاه دمنة من الأمان ما وثق به. ثم أقبل والثور معه، حتى دخلا على الأسد فأحسن الأسد إلى الثور وقرّبه؛ وقال له: متى قدمت هذه البلاد؟ وما أقدمكها؟ فقص شتربة عليه قصته. فقال له الأسد اصحبني والزمني: فإني مكرمك. فدعا الثور وأثنى عليه. ثم إن الأسد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره في أمره، ولم تزده الأيام إلا عجباً به ورغبةً فيه وتقريباً منه؛ حتى صار أخص أصحابه عنده منزلةً. فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالأسد دونه ودون أصحابه، وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه، حسده حسداً عظيماً، وبلغ منه غيظه كل مبلغ: فشكا ذلك إلى أخيه كليلة، وقال له: ألا تعجب يا أخي من عجز رأيي، وصنعي بنفسي؟ ونظري فيما ينفع الأسد، وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى الأسد ثوراً غلبني على منزلتي.
قال كليلة: أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك. قال دمنة: أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند الأسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه: فإن أموراً ثلاثةً العاقل جدير بالنظر فيها، والاحتيال لها بجهده: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضاء، والاستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر، فيستتم ما يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده. وإني لما نظرت في الأمر الذي به أرجو أن تعود منزلتي، وما غلبت عليه مما كنت فيه، لم أجد حيلةً ولا وجهاً إلا الاحتيال لآكل العشب هذا، حتى أفرق بينه وبين الحياة: فإنه إن فارق الأسد عادت لي منزلتي. ولعل ذلك يكون خيراً للأسد: فإن إفراطه في تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: ما أرى على الأسد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شيناً ولا شراً. قال دمنة: إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.
فأما الحرمان فأن يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، وترك التفقد لمن هو كذلك. وأما الفتنة فهي تحارب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وإن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديداً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لأن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً؟ قال دمنة: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة: فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله؟ قال كليلة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له وكرٌ في شجرةٍ على جبلٍ؛ وكان قريباً منه حجر ثعبانٍ أسود، فكان الغراب إذا فرخ عمد الأسود إلى فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى؛ وقال له: أريد مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛ قال: وما هو؟ قال الغراب: قد عزمت أن أذهب اليوم إلى الأسود إذا نام، فأنقر عينيه، فأفقأهما، لعلي أستريح منه. قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت؛ فالتمس أمراً تصيب فيه بغيتك من الأسود، من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها. وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه. قال الغراب: وكيف كان ذلك؟ قال ابن آوى: زعموا أن علجوماً عشّش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدٌ؛ فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطانٌ، فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن؛ فدنا منه وقال: مالي أراك أيها الطائر هكذا حزيناً كئيباً؟ قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك؟ وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا المكان؛ فقال أحدهما لصاحبه: إن ها هنا سمكاً كثيراً أفلا نصيده أولاً؟ فقال الآخر: إني قد رأيت في مكان كذا سمكاً أكثر من هذا السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه. وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك، انتهيا إلى هذه الأجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هلاكي ونفاذ مدتي. فانطلق السرطان من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه؛ وقلن له: إنا أتينا لك لتشير علينا: فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه. قال العلجوم: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي بها؛ ولا أعلم حيلةً إلا المصير إلى غديرٍ قريبٍ من ها هنا، فيه سمكٌ ومياهٌ عظيمةٌ وقصبٌ، فإن استطعن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن وخصبكن. فقلن له: ما يمن علينا بذلك غيرك. فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السمكتين؛ فجاءه السرطان؛ فقال له: إني أيضاً قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به، حتى إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك. فقال في نفسه: إذا لقي الرجل عدوه في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك. سواءٌ قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقاً أن يقاتل عن نفسه كرماً وحفاظاً ، ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم، فعصره فمات؛ وتخلص السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أمرٍ، إن أنت قدرت عليه، كان فيه هلاك الأسود من غير أن تهلك به نفسك، وتكون فيه سلامتك. قال الغراب وما ذاك؟ قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك: لعلك أن تظفر بشيءٍ من حلي النساء فتخطفه؛ ولا تزال طائراً واقعاً، بحيث لا تفوت العيون، حتى تأتي حجر الأسود فترمي بالحلي عنده. فإذا رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب محلقا في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثيابها وحليها ناحيةً؛ فانقض واختطف من حليها عقداً، وطار به، فتبعه الناس؛ ولم يزل طائراً واقعاً، بحيث يراه كل أحدٍ؛ حتى انتهى الأمر إلى جحر الأسود؛ فألقى العقد عليه، والناس ينظرون إليه. فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا الأسود. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ مالا تجزئ القوة. قال كليلة: إن الثور لو لم يجتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول. ولكن له مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل. فماذا تستطيع له؟ قال دمنة: إن الثور لكما ذكرت في قوته ورأيه، ولكنه مقرٌ لي بالفضل؛ وأنا خليق أن اصرعه كما صرعت الأرنب الأسد. قال كليلة: وكيف كان ذلك؟
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 29
رد: (( كليلة ودمنة ))
قال دمنة: زعموا أن أسداً كان في أرضٍ كثيرة المياه والعشب؛ وكان في تلك الأرض من الوحوش في سعة المياه والمرعى شيءٌ كثيرٌ؛ إلا أنه لم يكن ينفعها ذلك لخوفها من الأسد؛ فاجتمعت وأتت إلى الأسد، فقالت له: إنك لتصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأياً فيه صلاح لك وأمنٌ لنا. فإن أنت امنتنا ولم تخفنا، فلك علينا في كل يومٍ دابةٌ نرسل بها إليك في وقت غدائك: فرضي الأسد بذلك، وصالح الوحوش عليه، ووفين له به. ثم إن أرنباً أصابتها القرعة، وصارت غداء الأسد؛ فقالت للوحوش: إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن؛ رجوت أن أريحكن من الأسد. فقالت الوحوش: وما الذي تكلفيننا من الأمور؟ قالت: تأمرن الذي ينطلق بي إلى الأسد أن يمهلني ريثما أبطئ عليه بعض الإبطاء. فقلن لها ذلك لك. فانطلقت الأرنب متباطئةً؛ حتى جاوزت الوقت الذي كان يتغدى فيه الأسد. ثم تقدمت إليه وحدها رويداً، وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه نحوها؛ فقال لها: من أين أقبلت؟ قالت: أنا رسول الوحوش إليك: بعثني ومعي أرنبٌ لك، فتبعني أسدٌ في بعض تلك الطريق، فأخذها مني، وقال: أنا أولى بهذه الأرض وما فيها من الوحش. فقلت: إن هذا غداء الملك أرسلني به الوحوش إليه. فلا تغصبنه، فسبك وشتمك. فأقبلت مسرعةً لأخبرك. فقال الأسد: انطلقي معي فأريني موضع هذا الأسد. فانطلقت الأرنب إلى جب فيه ماءٌ غامرٌ صافٍ؛ فاطلعت فيه، وقالت: هذا المكان. فاطلع الأسد، فرأى ظله وظل الأرنب في الماء؛ فلم يشك في قولها؛ ووثب إليه ليقاتله، فغرق في الجب. فانقلبت الأرنب إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد. قال كليلة: إن قدرت على هلاك الثور بشيءٍ ليس فيه مضرةٌ للأسد فشأنك: فإن الثور قد أضر بي وبك وبغيرنا من الجند؛ وإن أنت لم تقدر على ذلك إلا بهلاك الأسد، فلا تقدم عليه؛ فإنه غدرٌ مني ومنك. ثم إن دمنة ترك الدخول على الأسد أياماً كثيرةً؛ ثم أتاه على خلوةٍ منه؛ فقال له الأسد: ما حبسك عني؟ منذ زمان لم أرك. ألا لخيرٍ كان انقطاعك؟ قال دمنة: فليكن خيراً أيها الملك. قال الأسد: وهل حدث أمرٌ؟ قال دمنة: حدث ما لم يكن الملك يريده ولا أحد من جنده. قال: وما ذاك؟ قال: كلامٌ فظيعٌ. قال: أخبرني به. قال دمنة إنه كلامٌ يكرهه سامعه، ولا يشجع عليه قائله. وإنك أيها الملك لذو فضيلةٍ، ورأيك يدلك على أن يوجعني أن أقول ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إياك على نفسي. وإنه ليعرض لي أنك غير مصدقي فيما أخبرك به؛ ولكني إذا تذكرت وتفكرت أن نفوسنا، معاشر الوحوش، متعلقةٌ بك لم أجد بداً من أداء الحق الذي يلزمني وإن أنت لم تسألني وخفت ألا تقبل مني فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والإخوان رأيه فقد خان نفسه. قال الأسد: فما ذاك؟ قال دمنة: حدثني الأمين الصدوق عندي أن شتربة خلا برءوس جندك، وقال: قد خبرت الأسد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته: فاستبان لي أن ذلك يئول منه إلى ضعفٍ وعجزٍ، وسيكون لي وله شأنٌ من الشئون. فلما بلغني ذلك علمت أن شتربة خوانٌ غدارٌ؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها، وجعلته نظير نفسك، وهو يظن أنه مثلك. وأنك متى زلت عن مكانك صار له ملكك؛ ولا يدع جهداً إلا بلغه فيك. وقد كان يقال: إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في المنزلة والحال، فليصرعه؛ فإن لم يفعل به ذلك، كان هو المصروع. وشتربة أعلم بالأمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي يحتال للأمر قبل تمامه ووقوعه: فإنك لا تأمن أن يكون ولا تستدركه. فإنه يقال: الرجال ثلاثةٌ: حازمٌ وأحزم منه وعاجزٌ؛ فأحد الحازمين من إذا نزل به الأمر لم يدهش له، ولم يذهب قلبه شعاعاً ، ولم تعي به حيلته ومكيدته التي يرجو بها المخرج منه؛ وأحزم من هذا المتقدم ذو العدة الذي يعرف الابتلاء قبل وقوعه، فيعظمه إعظاماً، ويحتال له حتى كأنه قد لزمه: فيحسم الداء قبل أن يبتلي به، ويدفع الأمر قبل وقوعه. وأما العاجز فهو في ترددٍ وتمنٍ وتوانٍ حتى يهلك. ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثلاث. قال الأسد: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أن غديراً كان فيه ثلاث سمكاتٍ: كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير بنجوةً من الأرض لا يكاد يقربه أحدٌ وبقربه نهر جارٍ. فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير، فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك. فسمع السمكات قولهما: فأما أكيسهن لما سمعت قولهما، وارتابت بهما، وتخوفت منهما؛ فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير. وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما، وعرفت ما يريدان، ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك المكان فحينئذٍ قالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على هذه الحال. وقلما تنجع حيلة العجلة والإرهاق ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييئس على حالٍ، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارةً، وتارةً على بطنها؛ فأخذها الصيادان فوضعاها على الأرض بين النهر والغدير؛ فوثبت إلى النهر فنجت. وأما العاجزة فما تزلْ في إقبال وإدبار حتى صيدت. قال الأسد: قد فهمت ذلك؛ ولا أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل . وكيف يفعل ولم ير مني سوءاً قطُّ؟ ولم أدع خيراً إلا فعلته معه؟ ولا أمنيةً إلا بلغته إياها؟. قال دمنة: إن اللئيم لا يزال نافعاً ناصحاً حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ولا سيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من فرقٍ . فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فلا يزال مستوياً ما دام مربوطاً؛ فإذا حل انحنى واعوج كما كان. واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه؛ كالمريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إلى ما يشتهيه. وحق على موازر السلطان أن يبالغ في التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قوةً ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة؛ وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار؛ وأشرف الملوك من لم يخالطه بطرٌ؛ وخير الأخلاق أعونها على الورع. وقد قيل: لو أن أمراً توسد النار وافترش الحيات، كان أحق ألا يهنئه النوم. والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ لا يطمئن إليه؛ وأعجز الملوك آخذهم بالهوينى، وأقلهم نظراً في مستقبل الأمور. وأشبههم بالفيل الهائج الذي لا يلتفت إلى شيءٍ: فإن حز به أمر تهاون به، وإن أضاع الأمور حمل ذلك على قرنائه. قال له الأسد: لقد أغلظت في القول؛ وقول الناصح مقبولٌ محمولٌ. وإن كان شتربة معادياً لي، كما تقول، فإنه لا يستطيع لي ضراً؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم؟ وإنما هو لي طعام، وليس علي منه مخافةٌ. ثم ليس إلى الغدر به سبيل بعد الأمان الذي جعلته له، وبعد إكرامي له، وثنائي عليه. وإن غيرت ما كان مني وبدلته. سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي. قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ: فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره. ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث. قال الأسد: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهراً فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، وتدب دبيباً رفيقاً؛ فمكث كذلك حيناً حتى استضافها ليلةً من
قال دمنة: زعموا أن غديراً كان فيه ثلاث سمكاتٍ: كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير بنجوةً من الأرض لا يكاد يقربه أحدٌ وبقربه نهر جارٍ. فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير، فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك. فسمع السمكات قولهما: فأما أكيسهن لما سمعت قولهما، وارتابت بهما، وتخوفت منهما؛ فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير. وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما، وعرفت ما يريدان، ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك المكان فحينئذٍ قالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على هذه الحال. وقلما تنجع حيلة العجلة والإرهاق ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييئس على حالٍ، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارةً، وتارةً على بطنها؛ فأخذها الصيادان فوضعاها على الأرض بين النهر والغدير؛ فوثبت إلى النهر فنجت. وأما العاجزة فما تزلْ في إقبال وإدبار حتى صيدت. قال الأسد: قد فهمت ذلك؛ ولا أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل . وكيف يفعل ولم ير مني سوءاً قطُّ؟ ولم أدع خيراً إلا فعلته معه؟ ولا أمنيةً إلا بلغته إياها؟. قال دمنة: إن اللئيم لا يزال نافعاً ناصحاً حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ولا سيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من فرقٍ . فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فلا يزال مستوياً ما دام مربوطاً؛ فإذا حل انحنى واعوج كما كان. واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه؛ كالمريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إلى ما يشتهيه. وحق على موازر السلطان أن يبالغ في التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قوةً ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة؛ وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار؛ وأشرف الملوك من لم يخالطه بطرٌ؛ وخير الأخلاق أعونها على الورع. وقد قيل: لو أن أمراً توسد النار وافترش الحيات، كان أحق ألا يهنئه النوم. والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ لا يطمئن إليه؛ وأعجز الملوك آخذهم بالهوينى، وأقلهم نظراً في مستقبل الأمور. وأشبههم بالفيل الهائج الذي لا يلتفت إلى شيءٍ: فإن حز به أمر تهاون به، وإن أضاع الأمور حمل ذلك على قرنائه. قال له الأسد: لقد أغلظت في القول؛ وقول الناصح مقبولٌ محمولٌ. وإن كان شتربة معادياً لي، كما تقول، فإنه لا يستطيع لي ضراً؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم؟ وإنما هو لي طعام، وليس علي منه مخافةٌ. ثم ليس إلى الغدر به سبيل بعد الأمان الذي جعلته له، وبعد إكرامي له، وثنائي عليه. وإن غيرت ما كان مني وبدلته. سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي. قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ: فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره. ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث. قال الأسد: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهراً فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، وتدب دبيباً رفيقاً؛ فمكث كذلك حيناً حتى استضافها ليلةً من
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 30
رد: (( كليلة ودمنة ))
الليالي برغوثٌ؛ فقالت له: بت الليلة عندنا في دمٍ طيبٍ وفراشٍ لينٍ؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه وثب عليه البرغوث فلدغه لدغةً أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إلا القملة؛ فأخذت فقصعت وفر البرغوث. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه. وإن كنت لا تخاف من شتربة، فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك وعلى عداوتك. فوقع في نفس الأسد كلام دمنة. فقال: فما الذي ترى إذاً؟ وبماذا تشير؟ قال دمنة: إن الضرس لا يزال متآكلاً، ولا يزال صاحبه منه في ألمٍ وأذًى حتى يفارقه. والطعام الذي قد عفن في البطن، الراحة في قذفه. والعدو المخوف، دواؤه قتله. قال الأسد: لقد تركتني أكره مجاورة شتربة إياي؛ وأنا مرسلٌ إليه، وذاكراً له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره باللحاق حيث أحب. فكره دمنة ذلك، وعلم أن الأسد متى كلم شتربة في ذلك وسمع منه جواباً عرف باطل ما أتى به، واطلع على غدره وكذبه؛ ولم يخف عليه أمره. فقال للأسد: أما إرسالك إلى شتربة فلا أراه لك رأياً ولا حزماً؛ فلينظر الملك في ذلك: فإن شتربة متى شعر بهذا الأمر، خفت أن يعاجل الملك بالمكابرة. وهو إن قاتلك قاتلك مستعداً؛ وإن فارقك، فارقك فراقاً يليك منه النقص، ويلزمك منه العار. مع أن ذوي الرأي من الملوك لا يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ: فلذنب العلانية عقوبة العلانية، ولذنب السر عقوبة السر. قال الأسد: إن الملك إذا عاقب أحداً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب وإياها ظلم. قال دمنة: أما إذا كان هذا رأي الملك، فلا يدخلن عليك شتربة إلا وأنت مستعدٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ: فإني لا أحسب الملك حين يدخل عليه إلا سيعرف أنه قد هم بعظيمةٍ. ومن علامات ذلك أنك ترى لونه متغيراً؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفتاً يميناً وشمالاً؛ وتراه يهز قرنيه فعل الذي هم بالنطاح والقتال. قال الأسد: سأكون منه على حذرٍ؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما ذكرت علمت أن ما في أمره شكٌ.
فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الثور، وعرف أنه قد وقع في نفسه ما كان يلتمس، وأن الأسد سيتحذر الثور، ويتهيأ له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به. فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلامه: لعلي اطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه؟ فأذن له الأسد في ذلك. فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به، وقال: كان سبب انقطاعك عني؟ فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ! قال دمنة: ومتى كان أهل السلامة من لا يملك نفسه، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به، ولا ينفك على خطرٍ وخوفٍ. حتى ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه. قال شتربة: وما الذي حدث؟ قال دمنة: حدث ما قدر وهو كائنٌ. ومن ذا الذي غالب القدر؟ ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيماً من الأمور فلم يبطر؟ ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغتر؟ ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر؟ ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم؟ ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم؟ ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه الأمن والإحسان؟ قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ. قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي، قال شتربة: ففي نفس من رابك؟ قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه. قال شتربة: وما الذي بلغك؟ قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛ وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري: فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم: فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته. ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً. وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها. قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً. ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه؟ فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛ ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما: لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر. وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة. وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا، فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار.
قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر
فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الثور، وعرف أنه قد وقع في نفسه ما كان يلتمس، وأن الأسد سيتحذر الثور، ويتهيأ له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به. فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلامه: لعلي اطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه؟ فأذن له الأسد في ذلك. فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به، وقال: كان سبب انقطاعك عني؟ فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ! قال دمنة: ومتى كان أهل السلامة من لا يملك نفسه، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به، ولا ينفك على خطرٍ وخوفٍ. حتى ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه. قال شتربة: وما الذي حدث؟ قال دمنة: حدث ما قدر وهو كائنٌ. ومن ذا الذي غالب القدر؟ ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيماً من الأمور فلم يبطر؟ ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغتر؟ ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر؟ ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم؟ ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم؟ ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه الأمن والإحسان؟ قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ. قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي، قال شتربة: ففي نفس من رابك؟ قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه. قال شتربة: وما الذي بلغك؟ قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛ وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري: فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم: فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته. ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً. وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها. قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً. ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه؟ فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛ ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما: لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر. وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة. وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا، فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار.
قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 31
رد: (( كليلة ودمنة ))
والفجور منه: فإن فاجرٌ خوانٌ غدارٌ: لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ. قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها: وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ فأنا في هذه الورطة كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه، فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها، فترتبك فيه وتموت. ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه. ومن يبذل وده ونصيحته لمن لا يشكره، فهو كمن يبذر في السباخ. ومن يشر على المعجب، فهو كمن يشاور الميت أو يسار الأصم. قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك. قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه؟ وأعلم أنه لم يرد بي إلا خيراً، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء الصحيح، كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى الجمل، حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة والخيانة. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛ فقال له الأسد: من أين أقبلت؟ قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك؟ قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛ فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا؟ ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه؟ قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً. قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً؟ قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك؟ قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة؟ وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً؟ وقد أمنته ولست بغادر به. قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه؛ ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا. ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك: فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ؛ فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ. قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ. قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛ فقال له الأسد: من أين أقبلت؟ قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك؟ قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛ فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا؟ ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه؟ قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً. قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً؟ قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك؟ قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة؟ وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً؟ وقد أمنته ولست بغادر به. قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه؛ ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا. ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك: فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ؛ فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ. قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ. قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 32
رد: (( كليلة ودمنة ))
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً. وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته كثرة الأقاويل: فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة. ألا ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه. وكذلك القول في الإنسان. قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن؟ قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال: فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق. قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ. وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته؟ فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شتربة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن طائراً من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل البحر، ومعه زوجةٌ له، فلما جاء أوان تفريخها قالت الأنثى للذكر: لو التمسنا مكاناً حريزاً نفرخ فيه: فإني أخشى من وكيل البحر إذا مد الماء أن يذهب بفراخنا. فقال لها: أفرخي مكانك: فإنه موافق لنا؛ والماء والزهر منا قريبٌ. قالت له: يا غافل ليحسن نظرك: فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا. فقال لها أفرخي مكانك: فإنه لا يفعل ذلك فقالت له: ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وتهديده إياك؟ ألا تعرف نفسك وقدرك؟ فأبى أن يطيعها. فلما أكثرت عليه ولم يسمع قولها، قالت له: إن من لم يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حين لم تسمع قول البطتين. قال الذكر: وكيف كان ذلك؟ قالت الأنثى: زعموا أن غديراً كان عنده عشبٌ، وكان فيه بطتان وكان في الغدير سلحفاةٌ، بينها وبين البطتين مودةٌ وصداقةٌ. فاتفق أن غيض ذلك الماء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة، وقالتا: السلام عليك فإننا ذاهبتان عن هذا المكان لأجل نقصان الماء عنه. فقالت: إنما يبين نقصان الماء على مثلي: فإني كالسفينة لا أقدر على العيش إلا بالماء. فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما. فاذهبا بي معكما . قالتا لها: نعم. قالت: كيف السبيل إلى حملي؟ قالتا: نأخذ بطرفي عودٍ، وتتعلقين بوسطه؛ ونطير بك في الجو. وإياك، إذا سمعت الناس يتكلمون، أن تنطقي. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: عجبٌ: سلحفاة بين بطتين، قد حملتاها. فلما سمعت ذلك قالت: فقأ الله أعينكم أيها الناس، فلما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت. قال الذكر: قد سمعت مقالتك؛ فلا تخافي وكيل البحر. فلما مد الماء ذهب بفراخها. فقالت الأنثى: قد عرفت في بدء الأمر أن هذا كائنٌ. قال الذكر: سوف أنتقم منه. ثم مضى إلى جماعة الطير فقال لهن: إنكن أخواتي وثقاتي: فأعنني. قلن: ما تريد أن نفعل؟ قال: تجتمعن وتذهبن معي إلى سائر الطير، فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛ ونقول لهن: إنكن طيرٌ مثلنا: فأعننا. فقالت له جماعة الطير: إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا: فاذهب بنا إليها حتى نصيح بها، فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما نالك من وكيل البحر؛ ونسألها أن تنتقم لنا بقوة ملكها. ثم إنهن ذهبن إليها من الطيطوى، فستغثنها؛ وصحن بها؛ فتراءت لهن فأخبرنها بقصتهن؛ وسألنها أن تسير معهن إلى محاربة وكيل البحر، فأجابتهن إلى ذلك. فلما علم وكيل البحر أن العنقاء قد قصدته في جماعة الطير خاف من محاربة ملكٍ لا طاقة له به. فرد فراخ الطيطوى؛ وصالحه فرجعت العنقاء عنه.
وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأياً. قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سراً ولا علانيةً لا متغيرٍ له عما كنت عليه، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه. فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من الصور العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن. فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك. قال شتربة: وكيف أعرف ذلك؟ قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه مقعياً على ذنبه، رافعاً صدره إليك، ماداً بصره نحوك، قد صر أذنيه وفغر فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك. ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الصور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا، قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه؟ قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب. ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعاً ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يئول إليه أمرهما. وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مقعياً كما وصفه له دمنة، فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة: فلم يشك أنه جاء لقتاله. فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء. فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ.
قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك! قال دمنة: وما ذاك؟ قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور. وإن أخرق الخرق من حمل صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال، وهو يجد إلى غير ذلك سبيلاً. وإن العاقل يدبر الأشياء ويقيسها قبل مباشرتها: فما رجا أن يتم له منها أقدم عليه، وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه، ولم يلتفت إليه. وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا: فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل. أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك؟ وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشاً؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً، ويزيد الخفاش سوء النظر.
وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأياً. قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سراً ولا علانيةً لا متغيرٍ له عما كنت عليه، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه. فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من الصور العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن. فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك. قال شتربة: وكيف أعرف ذلك؟ قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه مقعياً على ذنبه، رافعاً صدره إليك، ماداً بصره نحوك، قد صر أذنيه وفغر فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك. ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الصور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا، قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه؟ قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب. ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعاً ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يئول إليه أمرهما. وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مقعياً كما وصفه له دمنة، فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة: فلم يشك أنه جاء لقتاله. فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء. فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ.
قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك! قال دمنة: وما ذاك؟ قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور. وإن أخرق الخرق من حمل صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال، وهو يجد إلى غير ذلك سبيلاً. وإن العاقل يدبر الأشياء ويقيسها قبل مباشرتها: فما رجا أن يتم له منها أقدم عليه، وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه، ولم يلتفت إليه. وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا: فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل. أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك؟ وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشاً؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً، ويزيد الخفاش سوء النظر.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 33
رد: (( كليلة ودمنة ))
وقد أذكرني أمرك شيئاً سمعته، فإن يقال: إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه. ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح: لا يقدر أحدٌ أن يتناوله، وإن كان إلى الماء محتاجاً. وأنت يا دمنة أردت ألا يدنو من الأسد أحد سواك. وهذا أمرٌ لا يصح ولا يتم أبداً. وذلك للمثل المضروب: إن البحر بأمواجه، والسلطان بأصحابه. ومن الحمق الحرص على التماس الإخوان بغير الوفاء لهم، وطلب الآخرة بالرياء، ونفع النفس بغير الضر. وما عظتي وتأديبي إياك إلا كما قال الرجل للطائر: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تعالج تأديب من لا يتأدب. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبلٍ، فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطارٍ نادراً، فلم يجدوا، فرأوا يراعةً تطير كأنها شرارة نارٍ، فظنوها ناراً، وجمعوا حطباً كثيراً فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون طمعاً أن يوقدوا ناراً يصطلون بها من البرد. وكان قريباً منهم طائر على شجرةٍ، ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا، فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه، فمر به رجلٌ فعرف ما عزم عليه. فقال له: لا تلتمس تقومي ما لا يستقيم: فإن الحجر المانع الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف، والعود الذي لا نحني لا يعمل منه القوس: فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه، وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن البراعة ليسن بناءٍ. فتناوله بعض القردة فضرب به الأرض فمات. فهذا مثلي معك في ذلك. ثم قد غلب عليك الخبّ والفجور ، وهما خلتا سوءٍ، والخصب شرهما عاقبةً. ولهذا مثل. قال دمنة: وما ذلك المثل؟ قال كليلة: زعموا أن خباً ومغفلاً اشتركا في تجارةٍ وسافرا، فبينما هما في الطريق، إذ تخلف المغفل لبعض حاجته، فوجد كيساً فيه ألف دينار، فأخذه؛ فأحس به الخب، فرجعا إلى بلدهما؛ حتى إذا دنوا من المدينة قعدا لاقتسام المال. فقال المغفل: خذ نصفه وأعطني نصفه؛ وكان الخب قد قرر في نفسه أن يذهب بالألف جميعه. فقال له: لا نقتسم، فإن الشركة والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة؛ ولكن آخذ نفقةً، وتأخذ مثلها؛ وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة: فهو مكانٌ حريزٌ. فإذا احتجنا جئنا أنا وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ ولا يعلم بموضعنا أحدٌ. فأخذا منه يسيراً، ودفنا الباقي في أصل دوحةٍ، ودخلا البلد. ثم إن الخب خالف المغفل إلى الدنانير فأخذها، وسوى الأرض كما كانت. وجاء المغفل بعد ذلك بأشهر فقال للخب: قد احتجت إلى نفقةٍ فانطلق بنا نأخذ حاجتنا؛ فقام الخب معه وذهبا إلى المكان فحفرا، فلم يجدا شيئاً. فأقبل الخب على وجهه يلطمه يقول: لا تغتر بصحبة صاحب: خالفتني إلى الدنانير فأخذتها. فجعل المغفل يحلف ويلعن آخذها ولا يزداد الحب إلا شدة في اللطم. وقال: ما أخذها غيرك. وهل شعر بها أحدٌ سواك؟ ثم طال ذلك بينهما، فترافعا إلى القاضي، فاقتص القاضي قصتهما، فادعى الخب أن المغفل أخذها، وجحد المغفل. فقال للخب: ألك على دعواك بينة؟ قال: نعم الشجرة التي كانت الدنانير عندها تشهد لي أن المغفل أخذها. وكان الخب قد أمر أباه أن يذهب فيتوارى في الشجرة بحيث إذا سئلت أجاب. فذهب أبو الخب فدخل جوف الشجرة. م إن القاضي لما سمع ذلك من الخب أكبره، وانطلق هو وأصحابه والخصب والمغفل معه؛ حتى وافى الشجرة؛ فسألها عن الخبر. فقال الشيخ من جوفها: نعم المغفل أخذها. فلما سمع القاضي ذلك اشتد تعجبه. فدعا بحطب وأمر أن تحرق الشجرة. فأضرمت حولها النيران فاستغاث أبو الخب عند ذلك. فأخرج وقد أشرف على الهلاك. فسأله القاضي عن القصة فأخبره بالخبر؛ فأوقع بالخب ضرباً، وبأبيه صفعاً، وأركبه مشهوراً ، وغرّم الخب الدنانير فأخذها وأعطاها المغفل.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو المغبون. وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور. وإني أخشى عليك ثمرة عملك، مع أنك لست بناجٍ من العقوبة: لأنك ذو لونين ولسانين. وإنما عذوبة ماء الأنهار ما لم تبلغ إلى البحار. وصلاح أهل البيت ما لم يكن فيهم المفسد. وإنه لا شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم: فإن قد يجري من لسانك كسمها. وإني لم أزل لذلك السم من لسانك خائفاً، ولما يحل بك متوقعاً، والمفسد بين الإخوان والأصحاب كالحية يربيها الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها، ثم لا يكون له منها غير اللدغ. وقد يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم الأحمق. وإني بالفرار منك لجديرٌ. وكيف يرجو إخوانك عندك كرماً ووداً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت؟ وإن مثلك مثل التاجر الذي قال: إن أرضاً تأكل جرذانها مائة منًّ حديداً، ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الأفيال. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ، فأراد الخروج إلى بعض الوجوه لابتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديداً؛ فأودعها رجلاً من إخوانه، وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ؛ فجاء والتمس الحديد، فقال له: إنه قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لاشيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه على ما قال وادعى. ثم إن التاجر خرج، فلقي ابناً للرجل؛ فأخذه وذهب به إلى منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له: هل عندك علم بابني: فقال له التاجر: إني لما خرجت من عندك بالأمس، رأيت بازياً قد اختطف صبياً، ولعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال: يا قوم هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تخطف الصبيان؟ فقال: نعم. وإن أرضاً تأكل جرذانها مائة منً من حديداً ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال له الرجل: أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد على ابني. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد صاحباً وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضعٌ: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً، وقد طال وثقل كلامي عليك. فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب. وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريئاً أو مكذوباً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه؛ وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة، وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك؟ قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه؟ قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه: لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته. وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة. ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلةٍ
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو المغبون. وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور. وإني أخشى عليك ثمرة عملك، مع أنك لست بناجٍ من العقوبة: لأنك ذو لونين ولسانين. وإنما عذوبة ماء الأنهار ما لم تبلغ إلى البحار. وصلاح أهل البيت ما لم يكن فيهم المفسد. وإنه لا شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم: فإن قد يجري من لسانك كسمها. وإني لم أزل لذلك السم من لسانك خائفاً، ولما يحل بك متوقعاً، والمفسد بين الإخوان والأصحاب كالحية يربيها الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها، ثم لا يكون له منها غير اللدغ. وقد يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم الأحمق. وإني بالفرار منك لجديرٌ. وكيف يرجو إخوانك عندك كرماً ووداً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت؟ وإن مثلك مثل التاجر الذي قال: إن أرضاً تأكل جرذانها مائة منًّ حديداً، ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الأفيال. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ، فأراد الخروج إلى بعض الوجوه لابتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديداً؛ فأودعها رجلاً من إخوانه، وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ؛ فجاء والتمس الحديد، فقال له: إنه قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لاشيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه على ما قال وادعى. ثم إن التاجر خرج، فلقي ابناً للرجل؛ فأخذه وذهب به إلى منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له: هل عندك علم بابني: فقال له التاجر: إني لما خرجت من عندك بالأمس، رأيت بازياً قد اختطف صبياً، ولعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال: يا قوم هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تخطف الصبيان؟ فقال: نعم. وإن أرضاً تأكل جرذانها مائة منً من حديداً ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال له الرجل: أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد على ابني. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد صاحباً وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضعٌ: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً، وقد طال وثقل كلامي عليك. فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب. وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريئاً أو مكذوباً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه؛ وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة، وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك؟ قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه؟ قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه: لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته. وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة. ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلةٍ
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- عدد الرسائل : 5243
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
- مساهمة رقم 34
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب الفحص عن أمر دمنة
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد حدثتني عن الواشي الماهر المحتال، كيف يفسد بالنميمة المودة الثابتة بين المتحابين. فحدثني حينئذٍ بما كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شتربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه حين راجع الأسد رأيه في الثور، وتحقق النميمة من دمنة، وما كانت حجته التي احتج بها؛ قال الفيلسوف: أنا وجدت في حديث دمنة أن الأسد حين قتل شتربة ندم على قتله، وذكر قديم صحبته وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه. وأخصهم منزلةً لديه، وأقربهم وأدناهم إليه؛ وكان يواصل له المشورة دون خواصه. وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر. فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ليلةٍ عند الأسد؛ فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله، فاجتاز على منزل كليلة ودمنة. فلما انتهى إلى الباب سمع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه، ويلومه على النميمة واستعمالها؛ خصوصاً مع الكذب والبهتان في حق الخاصة. وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له. فوقف يستمع ما يجري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة: لقد ارتكبت مركباً صعباً، ودخلت مدخلاً ضيقاً، وجنيت على نفسك جنايةً موبقةً، وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديداً، إذا انكشف للأسد أمرك، واطلع عليه، وعرف غدرك ومحالك ، وبقيت لا ناصر لك؛ فيجتمع عليك الهوان والقتل، مخافة شرك، وحذراً من غوائلك؛ فلست بمتخذك بعد اليوم خليلاً، ولا مفشٍ إليك سراً؛ لأن العلماء قد قالوا: تباعد عمن لا رغبة فيه. وأنا جدير بمباعدتك، والتماس الخلاص لي مما وقع في نفس الأسد من هذا الأمر. فلما سمع النمر هذا من كلامهما قفل راجعاً، فدخل على أم الأسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن لا تفشي ما يسر إليها، فعاهدته على ذلك فأخبرها بما سمع من كلام كليلة ودمنة. فلما أصبحت دخلت على الأسد، فوجدته كئيباً حزيناً مهموماً: لما ورد عليه من قتل شتربة. فقالت له: ما هذا الهم الذي قد أخذ منك، وغلب عليك؟ قال: يحزنني قتل شتربة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدمتي، وما كنت أسمع من مناصحته. قالت أم الأسد: إن أشد ما شهد امرؤٌ بلا علم ولا يقين؟ ولولا ما قالت العلماء في إذاعة الأسرار وما فيها من الإثم والشنار ، لذكرت لك ولأخبرتك بما علمت. قال الأسد: إن أقوال العلماء لها وجوهٌ كثيرةٌ، ومعانٍ مختلفةٌ. وإني لأعلم صواب ما تقولين: وإن كان عندك رأي فلا تطويه عني؛ وإن كان قد أسر إليك أحدٌ سراً فأخبريني به، وأطلعيني عليه، وعلى جملة الأمر. فأخبرته بجميع ما ألقاه إليها النمر من غير أن تخبره باسمه. وقال: إني لم أجهل قول العلماء في تعظيم العقوبة وتشديدها، وما يدخل على الرجل من العار في إذاعة الأسرار؛ ولكني أحببت أن أخبرك بما فيه المصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إلى العامة فإصرارهم على خيانة الملك مما لا يدفع الشر عنهم، وبه يحتج السفهاء، ويستحسنون ما يكون من أعمالهم القبيحة. وأشد معارهم إقدامهم على ذي الحزم. فلما قضت أم الأسد هذا الكلام، استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه. ثم أمر أن يؤتى بدمنة. فلما وقف بين يدي الأسد، ورأى ما هو عليه من الحزن والكآبة، التفت إلى بعض الحاضرين فقال: مالذي حدث؟ وما الذي أحزن الملك؟ فالتفتت أم الأسد إليه وقالت: قد أحزن الملك بقاؤك ولو طرفة عين؛ ولن يدعك بعد اليوم حياً! قال دمنة: ما ترك الأول للآخر شيئاً: لأنه يقال: أشد الناس في توقي الشر، يصيبه الشر قبل المستسلم له. فلا يكونن الملك وخاصته وجنوده المثل السوء؛ وقد علمت أنه قد قيل: من صحب الأشرار، وهو يعلم حالهم، كان أذاه من نفسه: ولذلك انقطعت النساك بأنفسها عن الخلق، واختارت الوحدة على المخالطة، وحب العمل لله على حب الدنيا وأهلها. ومن يجزي بالخير خيراً وبالإحسان إحساناً إلا الله؟ ومن طلب الجزاء على الخير من الناس. وإن أحق ما رغبت فيه رعية الملك هو محاسن الأخلاق ومواقع الصواب وجميل السير؛ وقد قالت العلماء: من صدق ما ينبغي أن يكذب، وكذب ما ينبغي أن يصدق، خرج من مصاف العقلاء، وكان جديراً بالازدراء. فينبغي ألا يعجل الملك في أمري بشبهةٍ. ولست أقول هذا كراهةً للموت: فإنه وإن كان كريهاً، لا منجى منه. وكل حيٌ هالكٌ. ولو كانت لي مائة نفسٍ وأعلم أن هوى الملك في إتلافهن، لطبت له بذلك نفساً.
.
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد حدثتني عن الواشي الماهر المحتال، كيف يفسد بالنميمة المودة الثابتة بين المتحابين. فحدثني حينئذٍ بما كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شتربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه حين راجع الأسد رأيه في الثور، وتحقق النميمة من دمنة، وما كانت حجته التي احتج بها؛ قال الفيلسوف: أنا وجدت في حديث دمنة أن الأسد حين قتل شتربة ندم على قتله، وذكر قديم صحبته وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه. وأخصهم منزلةً لديه، وأقربهم وأدناهم إليه؛ وكان يواصل له المشورة دون خواصه. وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر. فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ليلةٍ عند الأسد؛ فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله، فاجتاز على منزل كليلة ودمنة. فلما انتهى إلى الباب سمع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه، ويلومه على النميمة واستعمالها؛ خصوصاً مع الكذب والبهتان في حق الخاصة. وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له. فوقف يستمع ما يجري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة: لقد ارتكبت مركباً صعباً، ودخلت مدخلاً ضيقاً، وجنيت على نفسك جنايةً موبقةً، وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديداً، إذا انكشف للأسد أمرك، واطلع عليه، وعرف غدرك ومحالك ، وبقيت لا ناصر لك؛ فيجتمع عليك الهوان والقتل، مخافة شرك، وحذراً من غوائلك؛ فلست بمتخذك بعد اليوم خليلاً، ولا مفشٍ إليك سراً؛ لأن العلماء قد قالوا: تباعد عمن لا رغبة فيه. وأنا جدير بمباعدتك، والتماس الخلاص لي مما وقع في نفس الأسد من هذا الأمر. فلما سمع النمر هذا من كلامهما قفل راجعاً، فدخل على أم الأسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن لا تفشي ما يسر إليها، فعاهدته على ذلك فأخبرها بما سمع من كلام كليلة ودمنة. فلما أصبحت دخلت على الأسد، فوجدته كئيباً حزيناً مهموماً: لما ورد عليه من قتل شتربة. فقالت له: ما هذا الهم الذي قد أخذ منك، وغلب عليك؟ قال: يحزنني قتل شتربة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدمتي، وما كنت أسمع من مناصحته. قالت أم الأسد: إن أشد ما شهد امرؤٌ بلا علم ولا يقين؟ ولولا ما قالت العلماء في إذاعة الأسرار وما فيها من الإثم والشنار ، لذكرت لك ولأخبرتك بما علمت. قال الأسد: إن أقوال العلماء لها وجوهٌ كثيرةٌ، ومعانٍ مختلفةٌ. وإني لأعلم صواب ما تقولين: وإن كان عندك رأي فلا تطويه عني؛ وإن كان قد أسر إليك أحدٌ سراً فأخبريني به، وأطلعيني عليه، وعلى جملة الأمر. فأخبرته بجميع ما ألقاه إليها النمر من غير أن تخبره باسمه. وقال: إني لم أجهل قول العلماء في تعظيم العقوبة وتشديدها، وما يدخل على الرجل من العار في إذاعة الأسرار؛ ولكني أحببت أن أخبرك بما فيه المصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إلى العامة فإصرارهم على خيانة الملك مما لا يدفع الشر عنهم، وبه يحتج السفهاء، ويستحسنون ما يكون من أعمالهم القبيحة. وأشد معارهم إقدامهم على ذي الحزم. فلما قضت أم الأسد هذا الكلام، استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه. ثم أمر أن يؤتى بدمنة. فلما وقف بين يدي الأسد، ورأى ما هو عليه من الحزن والكآبة، التفت إلى بعض الحاضرين فقال: مالذي حدث؟ وما الذي أحزن الملك؟ فالتفتت أم الأسد إليه وقالت: قد أحزن الملك بقاؤك ولو طرفة عين؛ ولن يدعك بعد اليوم حياً! قال دمنة: ما ترك الأول للآخر شيئاً: لأنه يقال: أشد الناس في توقي الشر، يصيبه الشر قبل المستسلم له. فلا يكونن الملك وخاصته وجنوده المثل السوء؛ وقد علمت أنه قد قيل: من صحب الأشرار، وهو يعلم حالهم، كان أذاه من نفسه: ولذلك انقطعت النساك بأنفسها عن الخلق، واختارت الوحدة على المخالطة، وحب العمل لله على حب الدنيا وأهلها. ومن يجزي بالخير خيراً وبالإحسان إحساناً إلا الله؟ ومن طلب الجزاء على الخير من الناس. وإن أحق ما رغبت فيه رعية الملك هو محاسن الأخلاق ومواقع الصواب وجميل السير؛ وقد قالت العلماء: من صدق ما ينبغي أن يكذب، وكذب ما ينبغي أن يصدق، خرج من مصاف العقلاء، وكان جديراً بالازدراء. فينبغي ألا يعجل الملك في أمري بشبهةٍ. ولست أقول هذا كراهةً للموت: فإنه وإن كان كريهاً، لا منجى منه. وكل حيٌ هالكٌ. ولو كانت لي مائة نفسٍ وأعلم أن هوى الملك في إتلافهن، لطبت له بذلك نفساً.
.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 35
رد: (( كليلة ودمنة ))
فقال بعض الجند: لم ينطق بهذا لحبه بالملك، ولكن لخلاص نفسه، والتماس العذر لها. فقال لها دمنة: ويلك! وهل علي في التماس العذر لنفسي عيبٌ؟ وهل أحدٌ أقرب إلى الإنسان من نفسه؟ وإذا لم يلتمس لها العذر، فمن يلتمسه؟ لقد ظهر منك ما لم تكن تملك كتمانه من الحسد والبغضاء؛ ولقد عرف من سمع منك ذلك أنك لا تحب لأحدٍ خيراً؛ وأنك عدو نفسك، فمن سواهاً بالأولى. فمثلك لا يصلح أن يكون مع البهائم، فضلاً عن أن يكون مع الملك، وأن يكون ببابه. فلما أجابه دمنة بذلك، خرج مكتئباً حزيناً مستحياً. فقالت أم الأسد لدمنة: لقد عجبن منك، أيها المحتال، في قلة حيائك، وكثرة وقاحتك، وسرعة جوابك لمن كلمك. قال دمنة: لأنك تنظرين إلى بعينٍ واحدةٍ، وتسمعين مني بأذنٍ واحدةٍ، مع أن شقاوة جدي قد زوت عني كل شيء، حتى لقد سعوا إلى الملك بالنميمة علي، ولقد صار من بباب الملك لاستخفافهم به، وطول كرامته إياهم، وما هم فيه من العيش والنعمة، لا يدرون في أي وقت ينبغي لهم الكلام، ولا متى يجب عليهم السكوت. قالت: ألا تنظرون إلى هذا الشقي، مع عظم ذنبه، كيف يجعل نفسه بريئاً كمن لا ذنب له؟ قال دمنة: إن الذين يعملون غير أعمالهم ليسوا على شيء؛ كالذي يضع الرماد موضعاً ينبغي أن يضع فيه الرمل؛ ويستعمل فيه السرجين ، والرجل الذي يلبس لباس المرأة، والمرأة التي تلبس لباس الرجل، والضيف الذي يقول: أنا رب البيت، والذي ينطق بين الجماعة بما لا يسأل عنه. وإنما الشقي من لا يعرف الأمور ولا أحوال الناس لا يقدر على دفع الشر عن نفسه، ولا يستطيع ذلك. قالت أم الأسد: أتظن أيها الغادر المحتال بقولك هذا أنك تخدع الملك، ولا يسجنك؟ قال دمنة: الغادر الذي لا يأمن عدوه مكره، وإذا استمكن من عدوه قتله على غير ذنب. قالت أم الأسد: أيها الغادر الكذوب، أتظن أنك ناجٍ من عاقبة كذبك؟ وأن محالك هذا ينفعك مع عظم جرمك؟ قال دمنة: الكذوب إلي يقول ما لم يكن، ويأتي بما لم يقل ولم يفعل، وكلامي واضحٌ مبينٌ. قالت أم الأسد: العلماء منكم هم الذين يوضحون أمره بفضل الخطاب. ثم نهضت فخرجت. فدفع الأسد دمنة إلى القاضي، فأمر بحبسه، فألقي في عنقه حبلٌ، وانطلق به إلى السجن. فلما انتصف الليل أخبر كليلة أن دمنة في الحبس. فأتاه مستخفياً؛ فلما رآه وما هو عليه من ضيق القيود، وخرج المكان، بكى، وقال له: ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا لاستعمالك الخديعة والمكر، وإضرابك عن العظة؛ ولكن لم يكن لدي بدٌ فيما مضى من إنذارك والنصيحة لك والمسارعة إليك في خلوص الرغبة فيك: فإنه لكل مقامٍ مقالٌ؛ ولكل موضعٍ مجالٌ.
ولو كنت قصرت في عظتك حين كنت في عافيةٍ، لكنت اليوم شريكك في ذنبك؛ غير أن العجب دخل منك مدخلاً قهر رأيك، وغلب على عقلك؛ وكنت أضرب لك الأمثال كثيراً، وأذكرك قول العلماء. وقد قالت العلماء: إن المحتال يموت قبل أجله. قال دمنة: قد عرفت صدق مقالتك. وقد قالت العلماء: لا تجزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة؛ ولأن تعذب في الدنيا بجرمك، خيرٌ من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم. قال كليلة: قد فهمت كلامك؛ ولكن ذنبك عظيمٌ، وعقاب الأسد شديدٌ أليمٌ. وكان بقربهما في السجن فهدٌ معتقلٌ يسمع كلامهما، ولا يريانه؛ فعرف معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله، وما كان منه؛ وأن دمنة مقرٌ بسوء عمله، وعظيم ذنبه؛ فحفظ المحاورة بينهما، وكتمها ليشهد بها إن سئل عنها. ثم إن كليلة انصرف إلى منزله، ودخلت أم الأسد حين أصبحت على الأسد؛ وقالت له: يا سيد الوحوش، حوشيت أن تنسى ما قلت بالأمس؛ وأنك أمرت به لوقته؛ وأرضيت به رب العباد. وقد قالت العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يتوانى في الجد للتقوى؛ بل لا ينبغي أن يدافع عن ذنب الأثيم. فلما سمع الأسد كلام أمه، أمر أن يحضر النمر، وهو صاحب القضاء. فلما حضر قال له وللجوّاس العادل: اجلسا في موضع الحكم، وناديا في الجند صغيرهم وكبيرهم أن يحضروا وينظروا في حال دمنة، ويبحثوا في شأنه، ويفحصوا عن ذنبه، ويثبتوا قوله وعذره في كتب القضاء؛ وارفعا إلى ذلك يوماً فيوماً. فلما سمع ذلك النمر والجواس العادل وكان هذا الجواس عم الأسد، قالا: سمعاً وطاعةً لما أمر الملك. وخرجا من عنده؛ فعملا بمقتضى ما أمرهما به؛ حتى إذا مضى من اليوم الذي جلسوا فيه ثلاث ساعات، أمر القاضي أن يؤتى بدمنة؛ فأتي به، فأوقف بين يديه، والجماعة حضور. فلما استقربه المكان نادى سيد الجمع بأعلى صوته: أيها الجمع. إنكم قد علمتم أن سيد السباع لم يزل منذ قتل شتربة خائر النفس، كثير الهم والحزن، يرى أنه قد قتل شتربة بغير ذنب؛ وأنه أخذه بكذب دمنة ونميمته. وهذا القاضي قد أمر أن يجلس مجلس القضاء، ويبحث عن شأن دمنة. فمن علم منكم شيئاً في أمر دمنة من خيرٍ أو شرٍ، فليقل ذلك، وليتكلم به على رءوس الجمع والأشهاد، ليكون القضاء في أمره أولى، والعجلة من الهوى، ومتابعة الأصحاب على الباطل ذل. فعندها قال القاضي: أيها الجمع اسمعوا قول سيدكم، ولا تكتموا ما عرفتم من أمره؛ واحذروا في الستر عليه ثلاث خصالٍ: إحداهن، وهي أفضلهن، ألا تزدروا فعله، ولا تعدوه يسيراً: فمن أعظم الخطايا قتل البريء الذي لا ذنب له بالكذب والنميمة؛ ومن علم من أمر هذا الكتاب الذي اتهم البريء بكذبه ونميمته شيئاً، فستر عليه فهو شريكه في الإثم والعقوبة. والثانية إذا اعترف المذنب بذنبه، كان أسلم له، وأحرى بالملك وجنده أن يعفوا عنه ويصفحوا. والثالثة ترك مراعاة أهل الذم والفجور، وقطع أسباب مواصلاتهم ومودتهم عن الخاصة والعامة؛ فمن علم من أمر هذا المحتال شيئاً، فليتكلم به على رءوس الأشهاد ممن حضر، ليكون ذلك حجةً عليه؛ وقد قيل: إنه من كتم شهادة ميتٍ، ألجم بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة؛ فليقل كل واحد منكم ما علم. فلما سمع ذلك الجمع كلامه، أمسكوا عن القول. فقال دمنة: ما يسكتكم؟ تكلموا بما علمتم؛ واعلموا أن لكل كلمة جواباً. وقد قالت العلماء: من يشهد بما لا ي، ويقول ما لا يعلم، أصابه ما أصاب الطبيب الذي قال لما لا يعلمه: إني أعلمه. قالت الجماعة: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن طبيب له رفق وعلم، وكان ذا فطنة فيما يجري على يديه من المعالجات، فكبر ذلك الطبيب وضعف بصره. وكان لملك تلك المدينة ابنة قد زوجها لابن أخ له، فعرض لها ما يعرض للحوامل من الأوجاع. فجيء بهذا الطبيب، فلما حضر، سأل الجارية عن وجعها وما تجد، فأخبرته، فعرف دائها ودواءها، وقال: لو كنت أبصر، لجمعت الأخلاط على معرفتي بأجناسها، ولا أثق في ذلك بأحد غيري. وكان في المدينة رجل سفيه، فبلغه الخبر، فأتاهم وادعى علم الطب، وأعلمهم انه خبير بمعرفة أخلاط الأدوية والعقاقير، عارف بطبائع الأدوية المركبة والمفردة، فأمره الملك أن يدخل خزانة الأدوية فيأخذ من أخلاط الدواء حاجته، فلما دخل السفيه الخزانة، وعرضت عليه الأدوية، ولا يدري ما هي، ولا له بها معرفة، أخذ في جملة ما أخذ منها صرة فيها سمّ قاتل لوقته، وخلطه في الأدوية، ولا علم له به، ولا معرفة عنده بجنسه. فما تمت أخلاط الأدوية، سقى الجارية منه، فماتت لوقتها. فلما عرف الملك ذلك، دعا بالسفيه، فسقاه من ذلك الدواء، فمات من ساعته. وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا ما يدخل على القائل والعامل من الزلة بالشبه في الخروج عن الحد، فمن خرج منكم عن حده أصابه ما أصاب ذلك الجاهل، ونفسه الملومة.
ولو كنت قصرت في عظتك حين كنت في عافيةٍ، لكنت اليوم شريكك في ذنبك؛ غير أن العجب دخل منك مدخلاً قهر رأيك، وغلب على عقلك؛ وكنت أضرب لك الأمثال كثيراً، وأذكرك قول العلماء. وقد قالت العلماء: إن المحتال يموت قبل أجله. قال دمنة: قد عرفت صدق مقالتك. وقد قالت العلماء: لا تجزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة؛ ولأن تعذب في الدنيا بجرمك، خيرٌ من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم. قال كليلة: قد فهمت كلامك؛ ولكن ذنبك عظيمٌ، وعقاب الأسد شديدٌ أليمٌ. وكان بقربهما في السجن فهدٌ معتقلٌ يسمع كلامهما، ولا يريانه؛ فعرف معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله، وما كان منه؛ وأن دمنة مقرٌ بسوء عمله، وعظيم ذنبه؛ فحفظ المحاورة بينهما، وكتمها ليشهد بها إن سئل عنها. ثم إن كليلة انصرف إلى منزله، ودخلت أم الأسد حين أصبحت على الأسد؛ وقالت له: يا سيد الوحوش، حوشيت أن تنسى ما قلت بالأمس؛ وأنك أمرت به لوقته؛ وأرضيت به رب العباد. وقد قالت العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يتوانى في الجد للتقوى؛ بل لا ينبغي أن يدافع عن ذنب الأثيم. فلما سمع الأسد كلام أمه، أمر أن يحضر النمر، وهو صاحب القضاء. فلما حضر قال له وللجوّاس العادل: اجلسا في موضع الحكم، وناديا في الجند صغيرهم وكبيرهم أن يحضروا وينظروا في حال دمنة، ويبحثوا في شأنه، ويفحصوا عن ذنبه، ويثبتوا قوله وعذره في كتب القضاء؛ وارفعا إلى ذلك يوماً فيوماً. فلما سمع ذلك النمر والجواس العادل وكان هذا الجواس عم الأسد، قالا: سمعاً وطاعةً لما أمر الملك. وخرجا من عنده؛ فعملا بمقتضى ما أمرهما به؛ حتى إذا مضى من اليوم الذي جلسوا فيه ثلاث ساعات، أمر القاضي أن يؤتى بدمنة؛ فأتي به، فأوقف بين يديه، والجماعة حضور. فلما استقربه المكان نادى سيد الجمع بأعلى صوته: أيها الجمع. إنكم قد علمتم أن سيد السباع لم يزل منذ قتل شتربة خائر النفس، كثير الهم والحزن، يرى أنه قد قتل شتربة بغير ذنب؛ وأنه أخذه بكذب دمنة ونميمته. وهذا القاضي قد أمر أن يجلس مجلس القضاء، ويبحث عن شأن دمنة. فمن علم منكم شيئاً في أمر دمنة من خيرٍ أو شرٍ، فليقل ذلك، وليتكلم به على رءوس الجمع والأشهاد، ليكون القضاء في أمره أولى، والعجلة من الهوى، ومتابعة الأصحاب على الباطل ذل. فعندها قال القاضي: أيها الجمع اسمعوا قول سيدكم، ولا تكتموا ما عرفتم من أمره؛ واحذروا في الستر عليه ثلاث خصالٍ: إحداهن، وهي أفضلهن، ألا تزدروا فعله، ولا تعدوه يسيراً: فمن أعظم الخطايا قتل البريء الذي لا ذنب له بالكذب والنميمة؛ ومن علم من أمر هذا الكتاب الذي اتهم البريء بكذبه ونميمته شيئاً، فستر عليه فهو شريكه في الإثم والعقوبة. والثانية إذا اعترف المذنب بذنبه، كان أسلم له، وأحرى بالملك وجنده أن يعفوا عنه ويصفحوا. والثالثة ترك مراعاة أهل الذم والفجور، وقطع أسباب مواصلاتهم ومودتهم عن الخاصة والعامة؛ فمن علم من أمر هذا المحتال شيئاً، فليتكلم به على رءوس الأشهاد ممن حضر، ليكون ذلك حجةً عليه؛ وقد قيل: إنه من كتم شهادة ميتٍ، ألجم بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة؛ فليقل كل واحد منكم ما علم. فلما سمع ذلك الجمع كلامه، أمسكوا عن القول. فقال دمنة: ما يسكتكم؟ تكلموا بما علمتم؛ واعلموا أن لكل كلمة جواباً. وقد قالت العلماء: من يشهد بما لا ي، ويقول ما لا يعلم، أصابه ما أصاب الطبيب الذي قال لما لا يعلمه: إني أعلمه. قالت الجماعة: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن طبيب له رفق وعلم، وكان ذا فطنة فيما يجري على يديه من المعالجات، فكبر ذلك الطبيب وضعف بصره. وكان لملك تلك المدينة ابنة قد زوجها لابن أخ له، فعرض لها ما يعرض للحوامل من الأوجاع. فجيء بهذا الطبيب، فلما حضر، سأل الجارية عن وجعها وما تجد، فأخبرته، فعرف دائها ودواءها، وقال: لو كنت أبصر، لجمعت الأخلاط على معرفتي بأجناسها، ولا أثق في ذلك بأحد غيري. وكان في المدينة رجل سفيه، فبلغه الخبر، فأتاهم وادعى علم الطب، وأعلمهم انه خبير بمعرفة أخلاط الأدوية والعقاقير، عارف بطبائع الأدوية المركبة والمفردة، فأمره الملك أن يدخل خزانة الأدوية فيأخذ من أخلاط الدواء حاجته، فلما دخل السفيه الخزانة، وعرضت عليه الأدوية، ولا يدري ما هي، ولا له بها معرفة، أخذ في جملة ما أخذ منها صرة فيها سمّ قاتل لوقته، وخلطه في الأدوية، ولا علم له به، ولا معرفة عنده بجنسه. فما تمت أخلاط الأدوية، سقى الجارية منه، فماتت لوقتها. فلما عرف الملك ذلك، دعا بالسفيه، فسقاه من ذلك الدواء، فمات من ساعته. وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا ما يدخل على القائل والعامل من الزلة بالشبه في الخروج عن الحد، فمن خرج منكم عن حده أصابه ما أصاب ذلك الجاهل، ونفسه الملومة.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 36
رد: (( كليلة ودمنة ))
وقد قالت العلماء: ربما جزى المتكلم بقوله. والكلام بين أيديكم: فانظروا لأنفسكم. فتكلم سيد الخنازير، لإدلاله وتيهه بمنزلته عند الأسد، فقال: يا أهل الشرف من العلماء، اسمعوا مقالتي، وعوا بأحلامكم كلامي، فالعلماء قالوا في شأن الصالحين: إنهم يعرفون بسيماههم، وأنتم معاشر ذوي الاقتدار، بحسن صنع الله لكم، وتمام نعمته لديكم، تعرفون الصالحين بسيماهم وصورهم، وتخبرون بالشيء الصغير، وهاهنا أشياء كثيرة تدل على هذا الشقي دمنة، وتخبر عن شره، فاطلبوها على ظاهر جسمه: لتستيقنوا وتسكنوا إلى ذلك. قال القاضي لسيد الخنازير: قد علمت، وعلم الجماعة الحاضرون، أنك عارف بما في الصور من علامات السوء، ففسر لنا ما تقول، وأطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي. فأخذ سيد الخنازير يذم دمنة، وقال: إن العلماء قد كتبوا وأخبروا: أنه من كانت عينه اليسرى أصغر من عينه اليمنى وهي لا تزال تختلج، وكان أنفه مائلاً إلى جنبه الأيمن، فهو شقي خبيث. قال له دمنة: شأنك عجب، أيها القذر، ذو العلامات الفاضحة القبيحة، ثم العجب من جرائتك على طعام الملك، وقيامك بين يديه، مع ما بجسمك من القذر والقبح، ومع ما تعرفه أنت ويعرفه غيرك من عيوب نفسك، أفتتكلم في النقي الجسم الذي لا عيب فيه؟ ولست أنا وحدي أطلع على عيبك، لكن جميع من حضر قد عرف ذلك. وقد كان يحجزني عن إظهاره ما بيني وبينك من الصداقة. فأما إذا قد كذبت عليّ وبهتني في وجهي، وقمت بعداوتي، فقلت ما قلت فيّ بغير علم على رؤوس الحاضرين، فأني أقتصر على إظهار ما أعرف من عيوبك، وتعرف الجماعة، وحق على من عرفك حق معرفتك أن يمنع الملك من استعماله إياك على طعامه، فلو كلّفت أن تعمل الزراعة لكنت جديراً بالخذلان فيها، فالأحرى بك ألاّ تدنو إلى عمل من الأعمال، وألاّ تكون دباغاً ولا حجاماً لعامِّيٍّ فضلاً عن خاصِّ خدمة الملك. قال سيد الخنازير: أتقول لي هذه المقالة، وتلقاني بهذا الملقى؟ قال دمنة، نعم، وحقاً قلت فيك، وإياك أعني، أيها الأعرج المكسور الأفدع الرِّجلِ، المنفوخ البطن، الأفلح الشفتين، السيءِ المنظر والمخبر. فلما قال ذلك دمنة، تغير وجه سيد الخنازير واستعبر واستحى، وتلجلج لسانه، واستكان وفتر نشاطه. فقال دمنة، حين رأى انكساره وبكاءه: إنما ينبغي أن يطول بكاؤك، إذا اطلع الملك على قذرك وعيوبك فعزلك عن طعامه، وحال بينك وبين خدمته، وأبعدك عن حضرته. ثم إن شغبراً قد جربه فوجد فيه أمانة وصدقاً، فرتبه في خدمته، وأمره أن يحفظ ما يجري بينهم ، ويطلعه على ذلك. فقام الشغبر فدخل على الأسد فحدثه بالحديث كله على جليته. فأمر الأسد بعزل سيد الخنازير عن عمله، وأمر ألا يدخل عليه، ولا يرى وجهه، وأمر بدمنة أن يسجن، وقد مضى من النهار أكثره، ورجع كل واحد منهم إلى منزله.
ثم إن شغبراً يقال له روزبة، كان بينه وبين كليلة إخاء ومودة، وكان عند الأسد وجيهاً، وعليه كريماً، واتفق أن كليلة أخذه الوجد إشفاقاً وحذراً على نفسه وأخيه، فمرض ومات، فانطلق هذا الشغبر إلى دمنة، فأخبره بموت كليلة فبكى وحزن، وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الصفى؟؟؟؟؟! ولكن أحمد الله تعالى حيث لم يمت كليلة حتى أبقى لي من ذوي قرابتي أخاً مثلك: فإني قد وثقت بنعمة الله تعالى وإحسانه إليّ فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك لي، وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه، فأريد من إنعامك أن تنطلق إلى مكان كذا، فتنظر إلى ما جمعته أنا وأخي بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى، فتأتيني به، ففعل الشغبر ما أمره به دمنة. فلما وضع المال بين يديه أعطاه شطره، وقال له: إنك على الدخول والخروج على الأسد أقدر من غيرك، فتفرغ لشأني، واصرف اهتمامك إلي، واسمع ما أذكر به عند الأسد، إذا رفع إليه ما يجري بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد في حقي، وما ترى من متابعة الأسد لها، ومخالفته إياها في أمري، وأحفظ ذلك كله. فأخذ الشغبر ما أعطاه دمنة وانصرف عنه على هذا العهد. فانطلق إلى منزله فوضع المال فيه. ثم إن الأسد بكّر من الغد فجلس، حتى إذا مضى من النهار ساعتان، استأذن عليه أصحابه فأذن لهم، فدخلوا عليه، ووضعوا الكتاب بين يديه. فلما عرف قولهم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك. فلما سمعت ما في الكتاب نادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت في القول فلا تلومني: فإنك لست تعرف ضرك من نفعك. أليس هذا مما كنت أنهاك عن سماعه: لأنه كلام هذا المجرم المسيء إلينا، الغادر بذمتنا؟ ثم إنها خرجت مغضبة، وذلك بعين الشغبر الذي أخاه دمنة وبسمعه. فخرج في أثرها مسرعاً، حتى أتى دمنة، فحدثه بالحديث. فبينما هو عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إلى الجمع عند القاضي. فلما مثل بين يدي القاضي استفتح سيد المجلس فقال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا: لأن العلماء قالوا: إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة: لأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى. وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله إلا أن سيدنا أمرنا بالعودة في أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا ظاهراً بينا. قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعود العدل في القضاء وليس في عدل الملك دفع المظلومين ومن لا ذنب له إلى قاض غير عادل بل المخاصمة عنهم والذود. فكيف ترى أن أقتل ولم أخاصم؟ وتعجل ذلك موافقة لهواك ولم تمض بعد ذلك ثلاثة أيام. ولكن صدق الذي قال: إن الذي تعود عمل البر هين عليه عمله وإن أضربه. قال القاضي: إن نجد في كتب الأولين: أن القاضي ينبغي له أن يعرف عمل المحسن والمسيء ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فإذا ذهب إلى هذا ازداد
ثم إن شغبراً يقال له روزبة، كان بينه وبين كليلة إخاء ومودة، وكان عند الأسد وجيهاً، وعليه كريماً، واتفق أن كليلة أخذه الوجد إشفاقاً وحذراً على نفسه وأخيه، فمرض ومات، فانطلق هذا الشغبر إلى دمنة، فأخبره بموت كليلة فبكى وحزن، وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الصفى؟؟؟؟؟! ولكن أحمد الله تعالى حيث لم يمت كليلة حتى أبقى لي من ذوي قرابتي أخاً مثلك: فإني قد وثقت بنعمة الله تعالى وإحسانه إليّ فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك لي، وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه، فأريد من إنعامك أن تنطلق إلى مكان كذا، فتنظر إلى ما جمعته أنا وأخي بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى، فتأتيني به، ففعل الشغبر ما أمره به دمنة. فلما وضع المال بين يديه أعطاه شطره، وقال له: إنك على الدخول والخروج على الأسد أقدر من غيرك، فتفرغ لشأني، واصرف اهتمامك إلي، واسمع ما أذكر به عند الأسد، إذا رفع إليه ما يجري بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد في حقي، وما ترى من متابعة الأسد لها، ومخالفته إياها في أمري، وأحفظ ذلك كله. فأخذ الشغبر ما أعطاه دمنة وانصرف عنه على هذا العهد. فانطلق إلى منزله فوضع المال فيه. ثم إن الأسد بكّر من الغد فجلس، حتى إذا مضى من النهار ساعتان، استأذن عليه أصحابه فأذن لهم، فدخلوا عليه، ووضعوا الكتاب بين يديه. فلما عرف قولهم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك. فلما سمعت ما في الكتاب نادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت في القول فلا تلومني: فإنك لست تعرف ضرك من نفعك. أليس هذا مما كنت أنهاك عن سماعه: لأنه كلام هذا المجرم المسيء إلينا، الغادر بذمتنا؟ ثم إنها خرجت مغضبة، وذلك بعين الشغبر الذي أخاه دمنة وبسمعه. فخرج في أثرها مسرعاً، حتى أتى دمنة، فحدثه بالحديث. فبينما هو عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إلى الجمع عند القاضي. فلما مثل بين يدي القاضي استفتح سيد المجلس فقال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا: لأن العلماء قالوا: إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة: لأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى. وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله إلا أن سيدنا أمرنا بالعودة في أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا ظاهراً بينا. قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعود العدل في القضاء وليس في عدل الملك دفع المظلومين ومن لا ذنب له إلى قاض غير عادل بل المخاصمة عنهم والذود. فكيف ترى أن أقتل ولم أخاصم؟ وتعجل ذلك موافقة لهواك ولم تمض بعد ذلك ثلاثة أيام. ولكن صدق الذي قال: إن الذي تعود عمل البر هين عليه عمله وإن أضربه. قال القاضي: إن نجد في كتب الأولين: أن القاضي ينبغي له أن يعرف عمل المحسن والمسيء ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فإذا ذهب إلى هذا ازداد
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 37
رد: (( كليلة ودمنة ))
المحسنون حرصاً على الإحسان والمسيؤون إجتناباً للذنوب. والرأي لك يا دمنة أن تنظر الذي وقعت فيه وتعترف بذنبك وتقر به وتتوب. فأجابه دمنة: إن صالحي القضاة لا يقطعون بالظن ولا يعملون به لا في الخاصة ولا في العامة: لعلمهم أن الظن لا يغني من الحق شيئا. وأنتم إن ظننتم أني مجرم فيما فعلت فإني أعلم بنفسي منكم وعلمي بنفسي يقين لاشك فيه وعلمكم بي غاية الشك وإنما قبح أمري عندكم أني سعيت بغيري فما عذري عندكم إذا سعيت بنفسي كاذبا عليها فأسلمتها للقتل والعطب على معرفة مني ببراءتي وسلامي مما قرفت به؟ ونفسي لأعظم الأنفس على حرمة وأوجبها حقاً. فلو فعلت هذا بأقصاكم وأدناكم، لما وسعني في ديني، ولا حسن بي في مروءتي، ولا حق لي أن أفعله فكيف أفعله بنفسي؟ فأكفف أيها القاضي عن هذه المقالة: فإنها إن كانت منك نصيحة فقد أخطأت موضعها وإن كانت خديعة فإن أقبح الخداع ما نظرته وعرفت أنه من غير أهله مع أن الخداع والمكر ليسا من أعمال صالحي القضاة ولا تقاة الولاة واعلم أن قولك مما يتخذه الجهال والأشرار سنة يقتدون بها: لأن أمور القضاة يأخذ بصوابها أهل الصواب وبخطئها أهل الخطأ والباطل والقليلو الورع وأنا خائف عليك أيها القاضي من مقالتك هذه أعظم الرزايا والبلايا وليس من البلاء و المصيبة أنك لم تزل في نفس الملك والجند والخاصة والعامة فاضلاً في رأيك مقنعاً في عدلك مرضياً في حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلاء كيف أنسيت ذلك في أمري. فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى الأسد على وجهه فنظر في الأسد ثم دعا أمه فعرضه عليها. فقالت حين تدبرت كلام دمنة للأسد: لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لك بمكره ودهائه حتى يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك في الغش والسعاية حتى قتلت صديقك. بغير ذنب. فوقع قولها في نفسه. فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة بما أخبرك فيكون حجة لي في قتل دمنة. فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، فلا يهنئني سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف السر ولكني أطالب الذي استودعنيه أن يجعلني في حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه. ثم انصرفت وأرسلت إلى النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصر المظلومين وتثبيت حجة الحق في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة. فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار دمنة وحفظه إلى الأسد فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه. فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمرنا واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكماً فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حتى إذا شهد أحدنا قام الآخر بشهادته فقبل الأشد قولهما. وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه: فقتل أشنع قتلة. فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره.ياً في حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلاء كيف أنسيت ذلك في أمري. فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى الأسد على وجهه فنظر في الأسد ثم دعا أمه فعرضه عليها. فقالت حين تدبرت كلام دمنة للأسد: لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لك بمكره ودهائه حتى يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك في الغش والسعاية حتى قتلت صديقك. بغير ذنب. فوقع قولها في نفسه. فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة بما أخبرك فيكون حجة لي في قتل دمنة. فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، فلا يهنئني سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف السر ولكني أطالب الذي استودعنيه أن يجعلني في حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه. ثم انصرفت وأرسلت إلى النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصر المظلومين وتثبيت حجة الحق في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة. فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار دمنة وحفظه إلى الأسد فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه. فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمرنا واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكماً فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حتى إذا شهد أحدنا قام الآخر بشهادته فقبل الأشد قولهما. وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه: فقتل أشنع قتلة. فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 38
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب الحمامة المطوقة
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع بينهما الكذوب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك. فحدثني، إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض؟ قال الفيلسوف: إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان بأرض سكاوندجين، عند مدينة داهر، مكان كثير الصيد، ينتابه الصيادون؛ وكان في ذلك المكان شجرة كثيرة الأغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب فبينما هو ذات يوم ساقط في وكره إذ بصر بصياد قبيح المنظر، سيئ الخلق، على عاتقه شبكة، وفي يده عصاً مقبلاً نحو الشجرة، فذعر منه الغراب؛ وقال: لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان: إما حيني وإما حين غيري. فلأثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع. ثم إن الصياد نصب شبكته، ونثر عليها الحب، وكمن قريبا منها، فلم يلبث إلا قليلا، حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة، وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك، فوقعن على الحبِّ يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن؛ وأقبل الصياد فرحاً مسروراً. فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها. قالت المطوقة: لا تخاذلنا في المعالجة ولا تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن نتعاون جميعاً فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة جميعهن بتعاونهن، وعلون في الجو؛ ولم يقطع الصياد رجاءه منهن وظن أنهن لا يجاوزن إلا قريباً ويقعن. فقال الغراب: لأتبعهن وأنظرو ما يكون منهن. فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن. فقالت للحمام: هذا الصياد مجد في طلبكن، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ولم يزل يتبعنا وإن نحن توجهنا إلى العمران خفي عليه أمرنا، وانصرف. وبمكان كذا جرذٌ هو لي أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك. ففعلن ذلك. وأيس الصياد منهن وانصرف. وتبعهن الغراب. فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ، أمرت الحمام أن يسقطن، فوقعن؛ وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه زيرك، فأجابها الجرذ من حجره: من أنت؟ قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى، فقال لها: ما أوقعك في هذه الورطة؟ قالت له: ألم تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إلا هو مقدرٌ على من تصيبه المقادير، وهي التي أوقعتني في هذه الورطة؛ فقد لا يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمراً؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا قضي ذلك عليهما. ثم إن الجرذ أخذ في قرض العقد الذي فيه المطوقة. فقالت له المطوقة: ابدأ بقطع عقد سائر الحمام، وبعد ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مراراً، وهو لا يلتفت إلى قولها، فلما أكثرت عليه القول وكررت، قال لها: لقد كررت القول عليّ كأنك ليس لك في نفسك حاجة، ولا لك عليها شفقة، ولا ترعين لها حقاً. قالت: إني أخاف، إن أنت بدأت بقطع عقدي أن تمل وتكسل عن قطع ما بقي؛ وعرفت أنك إن بدأت بهن قبلي، وكنت أنا الأخيرة لم ترضَ وإن أدركك الفتور أن أبقى في الشرك قال الجرذ: هذا مما يزيد الرغبة والمودة فيك. ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، فانطلقت المطوقة وحمامها معها..
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع بينهما الكذوب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك. فحدثني، إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض؟ قال الفيلسوف: إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان بأرض سكاوندجين، عند مدينة داهر، مكان كثير الصيد، ينتابه الصيادون؛ وكان في ذلك المكان شجرة كثيرة الأغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب فبينما هو ذات يوم ساقط في وكره إذ بصر بصياد قبيح المنظر، سيئ الخلق، على عاتقه شبكة، وفي يده عصاً مقبلاً نحو الشجرة، فذعر منه الغراب؛ وقال: لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان: إما حيني وإما حين غيري. فلأثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع. ثم إن الصياد نصب شبكته، ونثر عليها الحب، وكمن قريبا منها، فلم يلبث إلا قليلا، حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة، وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك، فوقعن على الحبِّ يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن؛ وأقبل الصياد فرحاً مسروراً. فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها. قالت المطوقة: لا تخاذلنا في المعالجة ولا تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن نتعاون جميعاً فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة جميعهن بتعاونهن، وعلون في الجو؛ ولم يقطع الصياد رجاءه منهن وظن أنهن لا يجاوزن إلا قريباً ويقعن. فقال الغراب: لأتبعهن وأنظرو ما يكون منهن. فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن. فقالت للحمام: هذا الصياد مجد في طلبكن، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ولم يزل يتبعنا وإن نحن توجهنا إلى العمران خفي عليه أمرنا، وانصرف. وبمكان كذا جرذٌ هو لي أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك. ففعلن ذلك. وأيس الصياد منهن وانصرف. وتبعهن الغراب. فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ، أمرت الحمام أن يسقطن، فوقعن؛ وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه زيرك، فأجابها الجرذ من حجره: من أنت؟ قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى، فقال لها: ما أوقعك في هذه الورطة؟ قالت له: ألم تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إلا هو مقدرٌ على من تصيبه المقادير، وهي التي أوقعتني في هذه الورطة؛ فقد لا يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمراً؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا قضي ذلك عليهما. ثم إن الجرذ أخذ في قرض العقد الذي فيه المطوقة. فقالت له المطوقة: ابدأ بقطع عقد سائر الحمام، وبعد ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مراراً، وهو لا يلتفت إلى قولها، فلما أكثرت عليه القول وكررت، قال لها: لقد كررت القول عليّ كأنك ليس لك في نفسك حاجة، ولا لك عليها شفقة، ولا ترعين لها حقاً. قالت: إني أخاف، إن أنت بدأت بقطع عقدي أن تمل وتكسل عن قطع ما بقي؛ وعرفت أنك إن بدأت بهن قبلي، وكنت أنا الأخيرة لم ترضَ وإن أدركك الفتور أن أبقى في الشرك قال الجرذ: هذا مما يزيد الرغبة والمودة فيك. ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، فانطلقت المطوقة وحمامها معها..
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 39
رد: (( كليلة ودمنة ))
فلما رأى الغراب صنع الجرذ، رغب في مصادقته، فجاء وناداه باسمه، فأخرج الجرذ رأسه، فقال له: ما حاجتك؟ قال: إني أريد مصادقتك. قال الجرذ: ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل ينبغي له أن يلتمس ما يجد إليه سبيلاً، ويترك التماس ما ليس إليه سبيلٌ، فإنما أنت الآكل، وأنا طعام لك. قال الغراب: إن أكلي إياك، وإن كنت لي طعاماً، مما لا يغني عني شيئاً؛ وإن مودتك آنس لي مما ذكرت ولست بحقيق، إذا جئت أطلب مودتك، أن تردني خائباً. فإنه قد ظهر لي منك من حسن الخلق ما رغبني فيك، وإن لم تكن تلتمس إظهار ذلك: فإن العاقل لا يخفي فضله، وإن هو أخفاه؛ كالمسك الذي يكتم ثم لا يمنعه ذلك من النشر الطيب والأرج الفائح. قال الجرذ. إن أشد العداوة عداوة الجوهر: وهي عداوتان: منها ما هو متكافئ كعداوة الفيل والأسد. فإنه ربما قتل الأسد الفيل أو الفيل الأسد، ومنها ما قوَّته من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنور وبيني وبينك: فإن العداوة التي بيننا ليست تضرك، وإنما ضررها عائد عليَّ: فإن الماء لو أطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفائه النار إذا صب عليها، وإنما مصاحب العدوّ ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه، والعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب. قال الغراب: قد فهمت ما تقول، وأنت خليق أن تأخذ بفضل خليقتك، وتعرف صدق مقالتي ولا تصعب عليّ الأمر بقولك: ليس إلى التواصل بيننا سبيل: فإن العقلاء الكرام لا يبتغون على معروف جزاء، والمودة بين الصالحين سريع اتصالها بطيءٌ انقطاعها. ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب: بطيء الانكسار، سريع الإعادة، هيّن الإصلاح، إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار سريعٌ انقطاعها، بطيء اتصالها. ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار سريع الانكسار ينكسر من أدنى عيب ولا وصل له أبداً. والكريم يودّ الكريم واللئيم لا يودّ أحداً إلا عن رغبة أو رهبة. وأنا إلى ودّك ومعروفك محتاج: لأنك كريم وأنا ملازم لبابك غير ذائق طعاماً حتى تؤاخيني. قال الجرذ: قد قبلت إخاءك: فإني لم أردد أحداً عن حاجة قطُّ، وإنما بدأت بما بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت بي لم تقل: إني وجدت الجرذ سريع الانخداع. ثم خرج من حجره، فوقف عند الباب. فقال له الغراب: ما يمنعك من الخروج إليّ، والاستئناس بي؟ فهل في نفسك بعد ذلك مني ريبة؟ قال الجرذ: إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما وهما ذات النفس، وذات اليد. فالمتباذلون ذات النفس هم الأصفياء، وأما المتباذلون ذات اليد فهم المتعاونون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض. ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير وإنما يريد نفع نفسه. فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد. وإني وثقت منك بذات نفسك، ومنحتك من نفسي مثل ذلك. وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظنٍّ بك، ولكن قد عرفت أن لك أصحاباً جوهرهم كجوهرك، وليس رأيهم فيَّ رأيك. قال الغراب: إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدواً؛ وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لك محباً؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري. ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب فتصافحا وتصافيا، وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حتى إذا مضت لهما أيام قال الغراب للجرذ: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأخاف أن يرميك بعض الصبيان بحجرٍ؛ ولي مكان في عزلة، ولي فيه صديقٌ من السلاحف وهو مخصب من السمك ونحن واجدون هناك ما نأكل فأريد أن أنطلق بك إلى هناك لنعيش آمنين. قال الجرذ: إن لي أخبار وقصصاً سأقصها عليك إذا انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء. فأخذ الغراب بذنب الجرذ وطار به حتى بلغ به حيث أراد. فلما دنى من العين التي فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ولم تعلم أنه صاحبها، فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت؟ فأخبرها بقصته حين تبع الحمام وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها. فلما سمعت السلحفاة شأن الجرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض؟ قال الغراب للجرذ: اقصص عليّ الأخبار التي زعمت أنك تحدثني بها فأخبرني بها مع جواب ما سألت السلحفاة: فإنها عندك بمنزلتي، فبدأ الجرذ وقال: كان منزلي أول أمري بمدينة ماروت في بيت رجل ناسك وكان خالياً من الأهل والعيال، وكان يؤتى في كل يوم بسلة من الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي، وكنت أرصد الناسك، حتى يخرج وأثب إلى السلة، فلا أدع فيها طعاماً إلا أكلته، وأرمي به إلى الجرذان. فجهد الناسك مراراً أن يعلق السلة مكاناً لا أناله فلم يقدر على ذلك، حتى نزل به ذات ليلة ضيف فأكلا جميعاً، ثم أخذا في الحديث فقال الناسك للضيف: من أي أرض أقبلت؟ وأين تريد الآن؟ وكان الرجل قد جاب الآفاق ورأى عجائب فأنشأ يحدث الناسك عمّا وطئ من البلاد، ورأى من العجائب، وجعل الناسك خلال ذلك يصفق بيديه لينفّرني عن السلة، فغضب الضيف وقال: أنا أحدثك وأنت تهزأ بحديثي! فما حملك على أن سألتني؟ فاعتذر إليه الناسك، وقال: إنما أصفق بيدي لأنفّر جرذاً قد تحيرت في أمره، ولست أضع في البيت شيئاً إلا أكله، فقال الضيف: جرذٌ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثيرة؟ فقال الناسك: فما أستطيع له حيلة. قال الضيف: لقد ذكرتني قول الذي قال: لأمر ما باعت هذه المرأة سمسماً مقشوراً بغير مقشور! قال الناسك: وكيف كان ذلك؟
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 40
رد: (( كليلة ودمنة ))
قال الضيف: نزلت مرة على رجل بمكان كذا، فتعشينا، ثم فرش لي. وانقلب الرجل على فراشه، فسمعته يقول في آخر الليل لامرأته: إني أريد أن أدعو غداً رهطا ليأكلوا عندنا، فاصنعي لهم طعاماً. فقالت المرأة: كيف تدعو الناس إلى طعامك، وليس في بيتك فضل عن عيالك؟ وأنت رجل لا تبقي شيئاً ولا تدخره. قال الرجل: لا تندمي على شيءٍ أطعمناه وأنفقناه: فإن الجمع والادخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب. قالت المرأة وكيف كان ذلك؟ قال الرجل: زعموا أنه خرج ذات يوم رجل قانصٌ، ومعه قوصه ونشابه فلم يجاوز غير بعيد، حتى رمى ظبياً، فحمله ورجع طالباً منزله، فاعترضه خنزير بريٌّ فرماه بنشابةٍ نفذت فيه، فأدركه الخنزير وضربه بأنيابه ضربة أطارت من يده القوس، ووقعا ميتين، فأتى عليهم ذئب فقال: هذا الرجل والظبي والخنزير يكفيني أكلهم مدةً، ولكن أبدأ بهذا الوتر فآكله، فيكون قوت يومي، فعالج الوتر حتى قطعه فلما انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلمي أن الجمع والادخار وخيم العاقبة. فقالت المرأة: نعم ما قلت! وعندنا من الأرز والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة، فأنا غاديةٌ على اصطناع الطعام، فادع من أحببت. وأخذت المرأة حين أصبحت سمسماً فقشرته، وبسطته في الشمس ليجفِّ، وقالت لغلام لهم: اطرد عنه الطير والكلاب وتفرغت المرأة لصنعها؛ وتغافل الغلام عن السمسم؛ فجاء كلبٌ، فعاث فيه؛ فاستقذرته المرأة، وكرهت أن تصنع منه طعاماً ما؛ فذهبت به إلى السوق، فأخذت به مقايضة سمسماً غير مقشور: مثلاً بمثلٍ، وأنا واقفٌ في السوق؛ فقال رجلٌ: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة سمسماً مقشوراً بغير مقشورٍ. وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرت أنه على غير علةٍ ما يقدر على ما شكوت منه. فالتمس لي فأساً لعلي أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه. فاستعار الناسك من بعض جيرانه فأساً، فأتى بها الضيف، وأنا حينئذٍ في غير جحري أسمع كلامهما، وفي جحري كيس فيه مائة دينار، لا أدري من وضعها، فاحتفر الضيف حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال الناسك: ما كان هذا الجرذ يقوى على الوثوب حيث كان يثب إلا بهذه الدنانير: فإن المال جعل له قوة وزيادة في الرأي والتمكن. وسترى بعد هذا أنه لا يقدر على الوثوب حيث كان يثب. فلما كان من الغد اجتمع الجرذان التي كانت معي فقالت: قد أصابنا الجوع، وأنت رجائنا فانطلقت ومعي الجرذان إلى المكان الذي كنت أثب منه إلى السلة فحاولت ذلك مراراً: فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص حالي فسمعتهن يقلن: انصرفن عنه، ولا تطمعن فيما عنده: فإنا نرى له حالاً لا نحسبه إلا قد احتاج معها إلى من يعوله. فتركني، ولحقن بأعدائي وجفونني، وأخذن في غيبتي عند من يعاديني ويحسدني. فقلت في نفسي: ما الإخوان ولا الأعوان ولا الأصدقاء إلا بالمال ووجدت من لا مال له، إذا أراد أمراً قعد به العدم عمّا يريده: كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الشتاء: لا يمر إلى نهر ولا يجري إلى مكان، فتشربه أرضه. ووجدت من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له: ومن لا مال له لا عقل له، ولا دنيا ولا آخرة له: لأن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه: فإن الشجرة النابتة في السباخ، المأكولة من كل جانب، كحال الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس. ووجدت الفقر رأس كل بلاء، وجالباً إلى صاحبه كل مقت، ومعدن النميمة. ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن فيه حسناً: فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً. وليس من خلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير ذمٌ، فإن كان شجاعاً قيل: أهوج، وإن كان جواداً سمّي مبذراً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقورا سمي بليداً. فالموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة، ولا سيما مسألة الأشحاء واللئام: فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سماً فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللّئم. وقد كنت رأيت الضيف حين أخذ الدنانير فقاسمها الناس، فجعل الناسك نصيبه في خريطة عند رأسه ولما جنّ الليل، فطمعت أن أصيب منها شيئاً فأرده إلى جحري، ورجوت أن يزيد ذلك في قوتي، ويراجعني بسببه بعض أصدقائي. فانطلقت إلى الناسك وهو نائم، حتى انتهيت عند رأسه، ووجدت الضيف يقظان، وبيده قضيب، فضربني على رأسي ضربة موجعة، فسعيت إلى جحري. فلما سكن عني الألم، هيجني الحرص والشره، فخرجت طمعاً كطمعي الأول، وإذا الضيف يرصدني، فضربني ضربة أسالت مني الدم، فتقلبت ظهراً لبطن إلى جحري، فخررت مغشياً عليّ، فأصابني من الوجع ما بغض إلى المال رعدة وهيبة. ثم تذكرت فوجدت البلاء في الدنيا إنما يسوقه الحرص والشره، ولا يزال صاحب الدنيا في بلية وتعب ونصب، ووجدت تجشم الأسفار البعيدة في طلب الدنيا أهون عليّ من بسط اليد إلى السَّخىِّ بالمال، ولم أر كالرضا شيئاً، فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت، وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية، وكان لي صديق من الحمام، فسيقت إلي بصداقته صداقة. ثم ذكر لي الغراب ما بينك وبينه من المودة، وأخبرني أنه يريد إتيانك، فأحببت أن آتيك معه، فكرهت الوحدة، فإنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم. وجربت: فعلمت أنه لا ينبغي للعاقل أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف الذي يدفع به الأذى عن نفسه: وهو اليسير من المطعم والمشرب، إذا اشتمل على صحة البدن ورفاهة البال.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 41
رد: (( كليلة ودمنة ))
ولو أن رجلاً وهبت له الدنيا بما فيها لم يك ينتفع من ذلك إلا بالقليل الذي يدفع به عن نفسه الحاجة: فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي، وأنا لك أخ، فلتكن منزلتي عندك كذلك. فلما فرغ الجرذ من كلامه أجابته السلحفاة بكلامٍ رقيقٍ عذبٍ، وقالت: قد سمعت كلامك، وما أحسن ما تحدثت به! إلا أني رأيتك تذكر بقايا أمورٍ هي في نفسك. واعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن يتداو به، لم يغن به شيئاً، ولم يجد لدائه راحة ولا خفةً. فاستعمل رأيك، ولا تحزن لقلة المال: فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال: كالأسد الذي يهاب، وإن كان رابضاً، والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كان كثير المال: كالكلب لا يحفل به، وإن طوق وخلخل بالذهب. فلا تكبرنّ عليك غربتك: فإن العاقل لا غربة له: كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوته. فلتحسن تعاهدك لنفسك: فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما يطلب الماء انحداره. وإنما جُعلَ الفضل للحازم البصير بالأمور، وأما الكسلان المتردد فإن الفضل لا يصحبه. وقد قيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير: فالعاقل لا يحزن لقلته، وإنما مال العاقل عقله، وما قدّم من صالح، فهو واثق بأنه لا يسلب ما عمل ولا يوآخذ بشيءٍ لم يعمله، وهو خليق ألا يغفل عن أمر أخرته: فإن الموت لا يأتي إلا بغتةً، ليس له وقت معين. وأنت عن موعظتي غني بما عندك من العلم. ولكن رأيت أن أقضي مالك من حق قبلنا: لأنك أخونا وما عندنا من النصح مبذول لك. فلما سمع الغراب كلام السلحفاة للجرذ وردها عليه وملاطفتها إياه فرح بذلك وقال: لقد سررتني وأنعمت عليّ، وأنت جديرة أن تسرّي نفسك بمثل ما سررتني به. وإن أولى أهل الدنيا بشدّة السرور من لا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد: فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام: كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة. فبينما الغراب في كلامه، إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى، فذعرت منه السلحفاة، فغاصت في الماء، وخرج الجرذ إلى جحره، وطار الغراب فوقع على شجرة. ثم إن الغراب حلّق في السماء لينظر هل للظبي طالب؟ فنظر فلم ير شيئاً؛ فنادى الجرذ والسلحفاة، وخرجا، فقالت السلحفاة للظبي، حين رأته ينظر إلى الماء: اشرب إن كان بك عطش، ولا تخف: فإنه لا خوف عليك. فدنا الظبي فرحبت به السلحفاة وحيّته وقالت له: من أين أقبلت؟ قال: كنت أسنح بهذه الصحارى فلم تزل الأساورة تطردني من مكان إلى مكان حتى رأيت اليوم شبحاً. فخفت أن يكون قانصاً قالت: لا تخف: فإنا لم نرى هاهنا قانصاً قط، ونحن نبذل لك ودّنا ومكاننا والماء والمرعى كثيران عندنا فارغب في صحبتنا. فأقام الظبي معهم وكان لهم عريش يجتمعون فيه ويتذاكرون الأحاديث والأخبار. فبينما الغراب والجرذ والسلحفاة ذات يوم في العريش غاب الظبي فتوقعوه ساعة فلم يأت. فلما أبطأ أشفقوا أن يكون قد أصابه عنتٌ، فقال الجرذ والسلحفاة للغراب: انظر هل ترى مما يلينا شيئاً؟ فحلق الغراب في السماء فنظر: فإذا الظبي في الحبائل مقتنصاً فانقض مسرعاً فأخبرهما بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ: هذا أمر لا يرجى فيه غيرك، فأغث أخاك، فسعى الجرذ مسرعاً، فأتى الظبي، فقال له: كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الأكياس؟ قال الظبي: هل يغني الكيس مع المقادير شيئاً، فبينما هما في الحديث إذ وافتهما السلحفاة فقال لها الظبي. ما أصبت بمجيئك إلينا: فإن القانص لو انتهى إلينا وقد قطع الجرذ الحبائل استبقه عدواً، وللجرذ أحجارٌ كثيرة، والغراب يطير وأنت ثقيلة: لا سعى لك ولا حركة وأخاف عليك القانص. فقالت: لا عيش مع فراق الأحبة وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده، وحرم سروره، وغشى بصره، فلم ينتهي كلامهما حتى وافى القانص، ووافق ذلك فراغ الجرذ من قطع الشرك، فنجا الظبي بنفسه، وطار الغراب محلقاً ودخل الجرذ بعض الأحجار ولم يبق غير السلحفاة، ودنا الصياد فوجد حبالته مقطّعة، فنظر يميناً وشمالاً فلم يجد غير السلحفاة تدب، فأخذها وربطها، فلم يلبث الغراب والجرذ والظبي أن اجتمعوا فنظروا القانص قد ربط السلحفاة فاشتد حزنهم، وقال الجرذ: ما أرانا نجاوز عقبة من البلاء إلا صرنا في أشد منها. ولقد صدق الذي قال: لا يزال الإنسان مستمراً في إقباله ما لم يعثر، فإذا عثر لجَّ به العثار وإن مشى في جدد الأرض. وحذري على السلحفاة خير الأصدقاء التي خلتها ليست للمجازاة ولا لالتماس مكافأة، ولكنها خلة الكرم والشرف، خلة هي أفضل من خلة الوالد لولده، خلة لا يزيلها إلا الموت. ويحٌ لهذا الجسد الموكل به البلاء الذي لا يزال في تصرف وتقلب، ولا يدوم له شيء، ولا يلبث معه أمر: كما لا يدوم للطالع من النجوم طلوع، ولا للآفل منها أفولٌ، لكن لا يزال للطالع منها آفلاً، والآفل طالعاً، وكما تكون آلام الكلوم وانتقاض الجراحات، كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد اجتماعه بهم.
فقال الظبي والغراب للجرذ: إنّ حذرنا وحذرك وكلامك، وإن كان بليغاً، كلٌ منها لا يغني عن السلحفاة شيئاً، وإنه كما يقال: إنما يختبر الناس عند البلاء، وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، كذلك يختبر الإخوان عند النوائب. قال الجرذ: أرى من الحيلة أن تذهب أيها الظبي فتقع بمنظر من القانص: كأنك جريح، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك، وأسعى أنا فأكون قريباً من القانص، مراقباً له، فعلّه أن يرمي ما معه من الآلة، ويضع السلحفاة، ويقصدك طامعاً فيك، راجياً تحصيلك. فإذا دنا منك ففر عنه رويداً: بحيث لا ينقطع طمعه منك، ومكنه من أخذك مرة بعد مرة، حتى يبعد عنا، وانْحُ منه هذا النحو ما استطعت: فإني أرجو ألا ينصرف إلا وقد قطعت الحبائل عن السلحفاة، وأنجو بها. ففعل الغراب والظبي ما أمرهما به الجرذ، وتبعهما القانص، فاستجره الظبي، حتى أبعده عن الجرذ والسلحفاة، والجرذ مقبلٌ على قطع الحبائل، حتى قطعها، ونجا بالسلحفاة، وعاد القانص مجهوداً لاغباُ فوجد حبالته مقطعة. ففكر في أمره مع الظبي المتظالع، فظن أنه خولط في عقله وفكر في أمر الظبي والغراب الذي كأنه يأكل منه وقرض حبالته فاستوحش من الأرض وقال: هذه أرض جنٍّ أو سحرة. فرجع مولياً لا يلتكس شيئاً ولا يلتفت إليه. واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عريشهم سالمين آمنيين كأحسن ما كانوا عليه. فإذا كان هذا الخلق مع صغره وضعفه قد قدر على التخلص من مرابط الهلكة مرة بعد أخرى بمودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه بعضهم ببعض فالإنسان الذي قد أعطي العقل والفهم. وألهم الخير ولا شر ومنح التميز والمعرفة، أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد. فهذا مثل إخوان الصفاء وأتلافهم في الصحبة
فقال الظبي والغراب للجرذ: إنّ حذرنا وحذرك وكلامك، وإن كان بليغاً، كلٌ منها لا يغني عن السلحفاة شيئاً، وإنه كما يقال: إنما يختبر الناس عند البلاء، وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، كذلك يختبر الإخوان عند النوائب. قال الجرذ: أرى من الحيلة أن تذهب أيها الظبي فتقع بمنظر من القانص: كأنك جريح، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك، وأسعى أنا فأكون قريباً من القانص، مراقباً له، فعلّه أن يرمي ما معه من الآلة، ويضع السلحفاة، ويقصدك طامعاً فيك، راجياً تحصيلك. فإذا دنا منك ففر عنه رويداً: بحيث لا ينقطع طمعه منك، ومكنه من أخذك مرة بعد مرة، حتى يبعد عنا، وانْحُ منه هذا النحو ما استطعت: فإني أرجو ألا ينصرف إلا وقد قطعت الحبائل عن السلحفاة، وأنجو بها. ففعل الغراب والظبي ما أمرهما به الجرذ، وتبعهما القانص، فاستجره الظبي، حتى أبعده عن الجرذ والسلحفاة، والجرذ مقبلٌ على قطع الحبائل، حتى قطعها، ونجا بالسلحفاة، وعاد القانص مجهوداً لاغباُ فوجد حبالته مقطعة. ففكر في أمره مع الظبي المتظالع، فظن أنه خولط في عقله وفكر في أمر الظبي والغراب الذي كأنه يأكل منه وقرض حبالته فاستوحش من الأرض وقال: هذه أرض جنٍّ أو سحرة. فرجع مولياً لا يلتكس شيئاً ولا يلتفت إليه. واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عريشهم سالمين آمنيين كأحسن ما كانوا عليه. فإذا كان هذا الخلق مع صغره وضعفه قد قدر على التخلص من مرابط الهلكة مرة بعد أخرى بمودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه بعضهم ببعض فالإنسان الذي قد أعطي العقل والفهم. وألهم الخير ولا شر ومنح التميز والمعرفة، أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد. فهذا مثل إخوان الصفاء وأتلافهم في الصحبة
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 42
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب البوم والغربان
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل إخوان الصفاء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدوّ الذي لا ينبغي أن يغتر به، وإن أظهر تضرعاً وملقاً، قال الفيلسوف: من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدواً، أصابه ما أصاب البوم من الغربان. قال الملك وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن والٍ من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراُ، وكانت الغارة ليلاً، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منّا لإلا أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضراً علينا جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا: لعلمهنّ بمكاننا: فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك، وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهنّ في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال. وكان الملك كثيراً ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل. فقال الملك للأول من الخمسة: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأي قد سبقتنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنق إلا الهرب منه. قال الملك للثاني: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأي ما رأى هذا من الهرب. قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ولا ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونّا: بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنّا. ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت؟ قال: ما أرى ما قالا رأياً. ولكن نبث العيون ونبعث الجواسيس ونرسل الطلائع بيننا وبين عدونا فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية؟ فإن رأينا أمره أمر طامع في مال، لم نكره الصلح على خراجٍ نؤديه إليه كل سنة، ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا: فغن من أراء الملوك إذا أشتدت شوكة عدوهم، فخافوه على أنفسهم وبلادهم، أن يجعلوا الأموال جنة البلاد والملك والرعية. قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال لا أراه رأياً بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منّا إلا بالشَّطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة: لتنال حاجتك. ولا تقاربه كل المقاربة: فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذلَّ نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس: إذا أملتها قليلاً زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظلُّ. وليس عدونا راضياً منّا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى: القتال أم الصلح أم الجلاء عن الوطن؟ قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه وقد يقال: إنه من لا يعرف نفسه وعدوه وقاتل من لا يقوى عليه، حمل نفسه على حتفها مع أن العاقل لا يستصغر عدواً: فإن من استصغر عدوه اغتر به ومن اغتر بعدوه لم يسلم منه. وأنا للبوم شديد الهيبة وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهابها قبل ذلك، فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيداً لم يأمن سطوته، وإن كان مكثباً لم يأمن من وثبته، وإن كان وحيداً لم يأمن من مكره. وأحزم الأقوام وأكسيهم من كره القتال لجل النفقة فيه: فإن ما دون القتال النفقة فيه من الأموال والقول والعمل، والقتال النفقة فيه من الأنفس والأبدان. فلا يكونن القتال للبوم من رأيك، أيها الملك: فإن من قاتل من لا يقوى عليه فقد غرر بنفسه. فإذا كان الملك محصناً للأسرار، متخيراً للوزراء، مهيباً في أعين الناس، بعيداً من أن يقدر عليه، كان خليقاً ألا يسلب صحيح ما أوتى من الخير. وأنت، أيها الملك، كذلك. وقد استشرتني في أمر جوابك منّي عنه، في بعضه علانية، وفي بعضه سرٌ وللأسرار منازل: منها ما يدخل فيه الرهط، ومنها ما يستعان فيه بالقوم، ومنها ما يدخل فيه الرجلان. ولست أرى لهذا السر على قدر منزلته أن يشارك فيه إلا أربع آذانٍ ولسانان. فنهض الملك من ساعته، وخلا به، فاستشاره، فكان أول ما سأله عنه الملك أنه قال: هل يعلم ابتداء عداوة ما بيننا وبين البوم؟ قال: نعم: كلمة تكلم بها غراب. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا أن جماعة من الكراكي لم يكن لها ملك، فأجمعت أمرها على أن يملكن عليهن ملك البوم فبينما هي في مجمعها إذ وقع لها غراب، فقالت: لو جاءنا هذا الغراب. لاستشرناه؛ فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب. فاستشرنه، فقال: لو أن الطير بادت من الأقاليم، وفقد الطاوس والبط والنعام والحمار من العالم لما اضطررتن إلى أن تملّكن عليكنّ البوم التي هي أقبح الطير منظراً، وأسوؤها خلقاً، وأقلها عقلاً، وأشدها غضباً وأبعدها من كل رحمة، مع عماها وما بها من العشا بالنهار، وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء أخلاقها، إلا أن ترين أن تملكنها وتكن أنتن تدبرن الأمور دونها برأيكن وعقولكن، كما فعلت الأرنب التي زعمت أن القمر ملكها، ثم عملت برأيها، قال الطير: وكيف كان ذلك؟
.
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل إخوان الصفاء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدوّ الذي لا ينبغي أن يغتر به، وإن أظهر تضرعاً وملقاً، قال الفيلسوف: من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدواً، أصابه ما أصاب البوم من الغربان. قال الملك وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن والٍ من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراُ، وكانت الغارة ليلاً، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منّا لإلا أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضراً علينا جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا: لعلمهنّ بمكاننا: فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك، وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهنّ في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال. وكان الملك كثيراً ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل. فقال الملك للأول من الخمسة: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأي قد سبقتنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنق إلا الهرب منه. قال الملك للثاني: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأي ما رأى هذا من الهرب. قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ولا ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونّا: بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنّا. ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت؟ قال: ما أرى ما قالا رأياً. ولكن نبث العيون ونبعث الجواسيس ونرسل الطلائع بيننا وبين عدونا فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية؟ فإن رأينا أمره أمر طامع في مال، لم نكره الصلح على خراجٍ نؤديه إليه كل سنة، ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا: فغن من أراء الملوك إذا أشتدت شوكة عدوهم، فخافوه على أنفسهم وبلادهم، أن يجعلوا الأموال جنة البلاد والملك والرعية. قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال لا أراه رأياً بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منّا إلا بالشَّطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة: لتنال حاجتك. ولا تقاربه كل المقاربة: فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذلَّ نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس: إذا أملتها قليلاً زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظلُّ. وليس عدونا راضياً منّا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى: القتال أم الصلح أم الجلاء عن الوطن؟ قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه وقد يقال: إنه من لا يعرف نفسه وعدوه وقاتل من لا يقوى عليه، حمل نفسه على حتفها مع أن العاقل لا يستصغر عدواً: فإن من استصغر عدوه اغتر به ومن اغتر بعدوه لم يسلم منه. وأنا للبوم شديد الهيبة وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهابها قبل ذلك، فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيداً لم يأمن سطوته، وإن كان مكثباً لم يأمن من وثبته، وإن كان وحيداً لم يأمن من مكره. وأحزم الأقوام وأكسيهم من كره القتال لجل النفقة فيه: فإن ما دون القتال النفقة فيه من الأموال والقول والعمل، والقتال النفقة فيه من الأنفس والأبدان. فلا يكونن القتال للبوم من رأيك، أيها الملك: فإن من قاتل من لا يقوى عليه فقد غرر بنفسه. فإذا كان الملك محصناً للأسرار، متخيراً للوزراء، مهيباً في أعين الناس، بعيداً من أن يقدر عليه، كان خليقاً ألا يسلب صحيح ما أوتى من الخير. وأنت، أيها الملك، كذلك. وقد استشرتني في أمر جوابك منّي عنه، في بعضه علانية، وفي بعضه سرٌ وللأسرار منازل: منها ما يدخل فيه الرهط، ومنها ما يستعان فيه بالقوم، ومنها ما يدخل فيه الرجلان. ولست أرى لهذا السر على قدر منزلته أن يشارك فيه إلا أربع آذانٍ ولسانان. فنهض الملك من ساعته، وخلا به، فاستشاره، فكان أول ما سأله عنه الملك أنه قال: هل يعلم ابتداء عداوة ما بيننا وبين البوم؟ قال: نعم: كلمة تكلم بها غراب. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا أن جماعة من الكراكي لم يكن لها ملك، فأجمعت أمرها على أن يملكن عليهن ملك البوم فبينما هي في مجمعها إذ وقع لها غراب، فقالت: لو جاءنا هذا الغراب. لاستشرناه؛ فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب. فاستشرنه، فقال: لو أن الطير بادت من الأقاليم، وفقد الطاوس والبط والنعام والحمار من العالم لما اضطررتن إلى أن تملّكن عليكنّ البوم التي هي أقبح الطير منظراً، وأسوؤها خلقاً، وأقلها عقلاً، وأشدها غضباً وأبعدها من كل رحمة، مع عماها وما بها من العشا بالنهار، وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء أخلاقها، إلا أن ترين أن تملكنها وتكن أنتن تدبرن الأمور دونها برأيكن وعقولكن، كما فعلت الأرنب التي زعمت أن القمر ملكها، ثم عملت برأيها، قال الطير: وكيف كان ذلك؟
.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 43
رد: (( كليلة ودمنة ))
قال الغراب: زعموا أن أرضاً من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون، وأجدبت، وقل ماؤها، وغارت عيونها، وذوى نبتها، ويبس شجرها، فأصاب الفيلة عطش شديد: فشكون ذلك إلى ملكهن، فأرسل الملك رسوله ورواده في طلب الماء، في كل ناحية. فرجع إليه بعض الرسل، فأخبره إني قد وجدت بمكان كذا عيناً يقال لها عين القمر، كثيرة الماء. فتوجه ملك الفيلة بأصحابه إلى تلك العين ليشرب منها هو وفيلته. وكانت العين في أرض للأرانب، فوطئن الأرانب في أجحارهن، فأهلكن منهن كثيراً، فاجتمعت الأرانب إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما أصابنا من الفيلة فقال: ليحضرن منكن كل ذي رأي رأيه. فتقدمت أرنبٌ من الأرانب يقال لها فيروز. وكان الملك يعرفها بحسن الرأي والأدب، فقالت: إن رأى الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويرسل معي أميناً، ليرى ويسمع ما أقول، ويرفعه إلى الملك، فقال لها الملك: أنت أمينة، ونرضى بقولك، فانطلقي إلى الفيلة، وبلغي عني ما تريدين. واعلمي أن الرسول برأيه وعقله، ولينه وفضله، يخبر عن عقل المرسل. فعليك باللين والرفق والحلم والتأني: فإن الرسول هو الذي يلين الصدور إذا رفق، ويخشن الصدور إذا خرق. ثم إن الأرنب انطلقت في ليلة قمراء، حتى انتهت إلى الفيلة، وكرهت أن تدنو منهن: مخافة أن يطأنها بأرجلهن، فيقتلنها، وإن كنّ غير متعمدات. ثم أشرفت على الجبل ونادت ملك الفيلة وقالت له: إن القمر أرسلني إليك، والرسول غير ملوم فيما يبلغ، وإن أغلظ في القول. قال ملك الفيلة: فما الرسالة؟ قالت: يقول لك: إن من عرف فضل قوته على الضعفاء، فاغتر بذلك في شأن الأقوياء، قياساً لهم على الضعفاء، كانت قوته وبالاً عليه. وأنت قد عرفت فضل قوتك على الدواب، فغرّك ذلك، فعمدت إلى العين التي تسمى باسمي، فشربت منها، وكدّرتها. فأرسلني إليك: فأنذرك ألا تعود إلى مثل ذلك. وإنك إن فعلت أُغشِّ بصرك، وأتلف نفسك. وإن كنت في شكٍّ من رسالتي، فهلم إلى العين من ساعتك: فإني موافيك بها. فعجب ملك الفيلة من قول الأرنب، فانطلق إلى العين مع فيروز الرسول. فلما نظر إليها، رأى ضوء القمر فيها. فقالت له فيروز الرسول: خذ بخرطومك من الماء فاغسل به وجهك، واسجد للقمر. فأدخل الفيل خرطومه في الماء، فتحرك فخيل للفيل أن القمر ارتعد. فقال: ما شأن القمر ارتعد؟ أتراه غضب من إدخالي الخرطوم في الماء؟ قالت فيروز الأرنب: نعم. فسجد الفيل للقمر مرة أخرى، وتاب إليه مما صنع، وشرط ألا يعود إلى مثل ذلك هو ولا أحد من فيلته. قال الغراب: ومع ما ذكرت من أمر البوم إن فيها الخبَّ والمكر والخديعة، وشر الملوك الخادع، ومن ابتلى بسلان مخادع، وخدمه، أصاب ما أصاب الأرنب والفرد حين احتكما إلى السنور. قالت الكراكي: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: كان لي جاراً من االصفاردة في أصل شجرة قريبة من وكرى وكان يكثر مواصلتي ثم فقدته فلم أعلم أين غاب وطالت غيبته عني. فجاءت أرنب إلى مكان الصفرد فسكنته فكرهت أن أخاصم الأرنب فلبثت فيه زماناً. ثم إن الصفرد غاد بعد زمان فأتى منزله فوجد فيه الأرنب. فقال لها : هذا المكان لي ، فانتقلي عنه. قالت الأرنب: المسكن لي، وتحت يدي؛ وأنت مدّع له. فإن كان لك حقٌ فاستعد بإثباته عليّ. قال الصفرد: القاضي منا قريب: فهلمي بنا إليه. قالت الأرنب: ومن القاضي؟ قال الصفرد: إن بساحل البحر سنوراً متعبداً، يصوم النهار، ويقوم الليل كله؛ ولا يؤذي دابةٍ، ولا يهرق دماً، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكمنا إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: المسكن لي، وتحت يدي، وأنت مدع له. فإن كان لك حق فاستعد بإثباته عليّ.
قال الصفرد: القاضي؟ منا قريب: إن بساحل البحر سنوراًمعبداً، يصوم النهار، ويقوم الليل كله، ولايؤذى دابة، ولا يهريق دماً، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكما إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: ما أرضاني به إذا كان كما وصفت. فانطلقا إليه فتبعهما لأنظر إلى حكومة الصوام القوام ثم إنهما ذهبا إليه فلما بصر النور بالأرنب والصفرد مقبيلين نحوه، انتصب قائماً يصلي، وأظهر الخشوع والتنسك. فعجبا لما رأيا من حاله ودنوا منه هائبين له، وسلما عليه وسألاه أن يقضي بينهما. فأمر هما أن يقصا عليه القصة ففعلا. فقال لهما: قد بلغني الكبر وثقلت أذناي: فادنوا مني فاسمعانى ما تقولان. فدنوا منه، وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم فقال قد فهمت ما قلتما، وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما: فأنا آمركما بتقوى الله وألاتطلبا إلا الحق هو الذي يفلح، وأن قضى عليه وطالب الحق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل مخصوم وإن قضى له. وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ لا مال ولا صديق سوى العمل الصالح يقدمه فذو العقل حقيق أن يكون سعيه في طلب ما يبقى وعود نفعه عليه غداً، وأن يمقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور الدنيا: فإن منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر، ومنزلة الناس عنده فيما يحب أهم من الخير ويكره من الشر بمنزلة نفسه. ثم إن السّنّور لم يزل يقصّ عليهما من جنس هذا وأشباهه، حتى أنسا إليه، وأقبلا عليه، ودنوا منه، ثم وثب عليهما فقتلهما. قال الغراب: ثم إن البوم تجمع مع ما وصفت لكن من الشؤم سائر العيوب: فلا يكونن تمليك البوم من رأ يكن. فلما سمع الكراكى ذلك من كلام الغراب أضربن عن تمليك البوم. زكان هناك بوم حاضر قد سمع ما قالوا، فقال الغراب: لقد وترتني أعظم الترة، ولا أعلم أنه سلف مني إليك سوءٌ أوجب هذا. وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت السيف يقطع اللحم ثم يعود فيندمل واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسى مقاطعه. والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، وأشباه النصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج. ولكل حريق مطفئٌ: فللنار الماء، وللسم الدواء وللحزن الصبر ونلر الحقد لا تخبو أبداً. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر الحقد والعداوة والبغضاء.
قال الصفرد: القاضي؟ منا قريب: إن بساحل البحر سنوراًمعبداً، يصوم النهار، ويقوم الليل كله، ولايؤذى دابة، ولا يهريق دماً، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكما إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: ما أرضاني به إذا كان كما وصفت. فانطلقا إليه فتبعهما لأنظر إلى حكومة الصوام القوام ثم إنهما ذهبا إليه فلما بصر النور بالأرنب والصفرد مقبيلين نحوه، انتصب قائماً يصلي، وأظهر الخشوع والتنسك. فعجبا لما رأيا من حاله ودنوا منه هائبين له، وسلما عليه وسألاه أن يقضي بينهما. فأمر هما أن يقصا عليه القصة ففعلا. فقال لهما: قد بلغني الكبر وثقلت أذناي: فادنوا مني فاسمعانى ما تقولان. فدنوا منه، وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم فقال قد فهمت ما قلتما، وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما: فأنا آمركما بتقوى الله وألاتطلبا إلا الحق هو الذي يفلح، وأن قضى عليه وطالب الحق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل مخصوم وإن قضى له. وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ لا مال ولا صديق سوى العمل الصالح يقدمه فذو العقل حقيق أن يكون سعيه في طلب ما يبقى وعود نفعه عليه غداً، وأن يمقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور الدنيا: فإن منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر، ومنزلة الناس عنده فيما يحب أهم من الخير ويكره من الشر بمنزلة نفسه. ثم إن السّنّور لم يزل يقصّ عليهما من جنس هذا وأشباهه، حتى أنسا إليه، وأقبلا عليه، ودنوا منه، ثم وثب عليهما فقتلهما. قال الغراب: ثم إن البوم تجمع مع ما وصفت لكن من الشؤم سائر العيوب: فلا يكونن تمليك البوم من رأ يكن. فلما سمع الكراكى ذلك من كلام الغراب أضربن عن تمليك البوم. زكان هناك بوم حاضر قد سمع ما قالوا، فقال الغراب: لقد وترتني أعظم الترة، ولا أعلم أنه سلف مني إليك سوءٌ أوجب هذا. وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت السيف يقطع اللحم ثم يعود فيندمل واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسى مقاطعه. والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، وأشباه النصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج. ولكل حريق مطفئٌ: فللنار الماء، وللسم الدواء وللحزن الصبر ونلر الحقد لا تخبو أبداً. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر الحقد والعداوة والبغضاء.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 44
رد: (( كليلة ودمنة ))
فلما قضى البوم مقالته، ولىّ مغضباً، فأخبر ملك البوم بما جرى وبكل ما كان منقول الغراب، ثم إن الغراب ندم على ما فرط منه، وقال: والله لقد خرقت في قولي الذي جلبت به العداوة والبغضاء على نفسي وقومي! وليتني لم أخبر الكراكي بهذه الحال! ولا أعلمتها بهذا الأمر! ولعل أكثر الطير قد رأى أكثر مما رأيت، وعلم أضعاف ما علمت، فمنعها من الكلام بمثل ما اتقاء ما لم أتق، والنظر فيما لم أنظر فيه من حذار العواقب، لا سيما إذا كان الكلام أفظع كلام، يلقى منه سامعه وقائله المكروه مما يورث الحقد والضغينة، فلا ينبغي لأشباه هذا الكلام، أن تسمى كلاماً، ولكن سهاماً. والعاقل، وإن كان واثقاً بقوته وفضله، لا ينبغي أن يحمل ذلك على أن يجلب العداوة على نفسه اتكالاً على ما عنده من الرأي والقوة، كما أنه وإن كان عنده الترياق لا ينبغي له أن يشرب السم اتكالاً على ما عنده. وصاحب حسن العمل، وإن قصر به القول في مستقبل الأمر، كان فضله بيّناً واضحاً في العاقبة والاختار، وصاحب حسن القول، وإن أعجب الناس منه حسن صفته للأمور لم تحمد عاقبة أمره. وأنا صاحب القول الذي لا عاقبة له محمودة. أليس من سفهي اجترائي على التكلم في الأمر الجسيم لا أستشير فيه أحداً، ولم أعمل فيه رأياً؟ ومن لم يستشر النصاء الأولياء، وعمل برأيه من غير تكرار النظر والروية، لم يغتبط بمواقع رأيه. فما كان أغناني عما كسبت يومي هذا، وما وقعت فيه من الهم! وعاتب الغراب نفسه بهذا الكلام وأشباهه وذهب. فهذا ما سألتني عنه من ابتداء العداوة بيننا وبين البوم. وأما القتال فقد علمت رأيي فيه، وكراهتي له، ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج إن شاء الله تعالى: فإنه ربَّ قوم قد احتالوا بآرائهم حتى ظفروا بما أرادوا. ومن ذلك حديث الجماعة الذين ظفروا بالناسك، وأخذوا عريضه قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا ان ناسكاً اشتى عريضاً ضخماً ليجعله قرباناً، فانطلق به يقوده فبصر به قوم من المكرة، فأتمروا بينهم أن يأخذوه من الناسك. فعرض له أحدهم فقال له: أيها الناسك، ما هذا الكلب الذي معك؟ ثم عرض له الآخر فقال لصاحبه: ما هذا الناسك، لأن الناسك لا يقود كلباً. فلم يزالو مع الناسك على هذا ومثله حتى لم يشك أنَّ الذي يقوده كلبٌ، وأن الذي باعه إياه سحر عينه، فأطلقه من يده، فأخذه الجماعة المحتالون ومضوا به. وإنما ضربت لك هذا المثل لما أرجو أن نصيب من حاجتنا بالرفق والحيلة. وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد، وينتف ريشي وذنبي، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة، ويرتحل الملك هو وجنوده إلى مكان كذا. فأرجو أنّي أصبر وأطلع على أحوالهم، ومواضع تحصينهم وأبوابهم، فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم، وننا منهم غرضنا إن شاء الله تعالى. قال الملك: أتطيب نفسك لذلك؟ قال: نعم، وكيف لا تطيب نفسي لذلك وفيه أعظم الراحات للملك وجنوده؟ ففعل الملك بالغراب ما ذكر، ثم ارتحل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حتى رأته البوم وسمعته يئن، فأخبرن ملكهن بذلك، فقصد نحوه ليسأله عن الغربان فلما دنا منه أمر بوماً أن يسأله فقال له: من أنت؟ وأين الغربان؟ فقال: أما اسمي ففلان، وأما ما سألتني عنه فإني أحسبك ترى أن حالي حال من لا يعلم الأسرار فقيل لملك البوم: هذا وزير ملك الغربان وصاحب رأيه، فنسأله بأي ذنب صنع به ما صنع؟ فسئل الغراب عن أمره فقال: إن ملكنا استشار جماعتنا فيكنَّ: وكنت يومئذٍ بمحضرٍ من الأمر، فقال: أيها الغربان، ما ترون في ذلك؟ فقلت: أيها الملك لا طاقة لنا بقتال البوم: لأنهن أشد بطشاً، وأحد قلباً منَّا ولكن أرى أن نلتمس الصلح، ثم نبذل الفدية في ذلك، فإن قبلت البوم ذلك منّا، وإلا هربنا في البلاد وإذا كان القتال بيننا وبين البوم كان خيراً لهنّ وشراً لنا، فالصلح أفضل من الخصومة وأمرتهنَّ بالرجوع عن الحرب، وضربت لهن الأمثال في ذلك، وقلت لهن: إن العدوّ الشديد لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له: ألا ترين إلى الحشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه وميله معها حيث مالت فعصينني في ذلك وزعمن أنهن يردن القتال وأتهمنني في ما قلت، وقلنا إنك قد مالأت البوم علينا ورددنَ قولي ونصيحتي وعذبنني بهذا العذاب وتركني الملك وجنوده وأرتحل ولا علم لي بهن بعد ذلك: فلما سمع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض وزرائه: ما تقول في الغراب؟ وما ترى فيه؟ قال: ما أرى إلا المعاجلة له بالقتل: فإن هذا أفضل عُدَدِ الغربان، وفي قتله لنا راحة من مكره وفقده على الغربان شديد ويقال: من ظفر بالساعة التي فيها ينجح العمل ثم لا يعاجله بالذي ينبغي له فليس بحكيم ومن طلب الأمر الجسيم فأمكنه ذلك فأغفله فاته الأمر وهو خليق ألا تعود له الفرصة ثانية ومن وجد عدوه ضعيفاً ولم ينجز قتله ندم إذا استقوى ولم يقدر عليه قال الملك لوزير آخر: ما ترى أنت في هذا الغراب؟ قال: أرى ألا تقتله: فإن العدو الذليل الذي لا ناصر له أهلٌ لأن يستبقى ويرحم ويصفح عنه ولا سيما المستجير الخائف: فإنه أهلٌ لأن يؤمن.
قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه: ما تقول في الغراب؟ قال: أرى أن تستبقيه وتحسن إليه: فإنه خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضاً ظفراً حسناً ويرى أشتغال بعض أعدائه ببعض خلاصاً لنفسه منهم ونجاة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حين اختلفا عليه قال الملك له: وكيف كان ذلك؟
قال الوزير: زعموا أن ناسكاً أصاب من رجل بقرة حلوباً فانطلق بها يقودها إلى منزله، فعرض له لص أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد اختطافه. فقال الشيطان للص: من أنت؟ قال أنا اللص، أريد أن أسرق البقرة من الناسك إذا نام. فمن أنت؟ قال: أنا الشيطان أريد أختطافه إذا نام وأذهب به فاتهيا على هذا إلى المنزل فدخل الناسك منزله ودخلا خلفه وأدخل البقرة فربطها في زاوية المنزل وتعشى ونام. فأقبل اللص والشيطان يأتمران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أولاً فقال الشيطان للص: إن أنت بدأت بأخذ البقرة فربما استيقظ وصاح، واجتمع الناس: فلا أقدر على أخذه فأنظرني ريثما آخذه، وشأنك وما تريد. فأشفق اللص إن بدأ الشيطان باختطافه فربما استيقظ فلا يقدر على أخذ البقرة، فقال: لا، بل انظرني أنت حتى آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزالا في المجادلة هكذا حتى نادى اللص: أيها الناسك انتبه: فهذا الشيطان يريد اختطافك، ونادى الشيطان: أيها الناسك انتبه: فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك فانتبه الناسك وجيرانه بأصواتهما، وهرب الخبيثان. قال الوزير الأول الذي أشار بقتل الغراب: أظن أن الغراب قد خدعكنَّ ووقع كلامه في نفس الغبي منكنّ موقعه، فتردن أن تضعنّ الرأي في غير موضعه فمهلاً مهلاً أيها الملك عن هذا الرأي. فلم يلتفت الملك إلى قوله وأمر الغراب أن يحمل إلى منازل البوم، ويكرم ويستوصى به خيراً. ثم إن الغراب قال للملك يوماً وعنده جماعة من البوم وفيهن الوزير الذي أشار بقتله: أيها الملك قد علمت ما جرى عليّ من الغربان وأنه لا يستريح قلبي إلا بأخذي بثأري منهن، وإني قد نظرت في ذلك فإذا بي لا أقدر على ما رمت: لأني غراب وقد روى عن العلماء أنهم قالوا: من طابت نفسه بأن يحرقها فقد قرب لله أعظم القربان لا يدعو عند ذلك بدعوة إلا استجيب له فإن رأى الملك أن يأمرني فأحرق نفسي وأدعو ربي أن يحولني بوماً فأكون أشد عداوة وأقوى بأساً عل الغربان لعلي أنتقم منهن! قال الوزير الذي أشار بقتله: ما أشبهك في خير ما تظهر وشر ما تخفي إلا بالخمرة الطيبة الطعم والريح المنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك بالنار كان جوهرك وطباعك متغيرة! أليست أخلاقك تدور معك حيثما درت، وتصير بعد ذلك إلى أصلك وطويتك؟ كالفأرة التي خيرت في الأزواج بين الشمس والريح والسحاب والجبل فلم يقع اختيارها إلا على الجرذ وقيل له: وكيف كان ذلك؟
قال
قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه: ما تقول في الغراب؟ قال: أرى أن تستبقيه وتحسن إليه: فإنه خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضاً ظفراً حسناً ويرى أشتغال بعض أعدائه ببعض خلاصاً لنفسه منهم ونجاة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حين اختلفا عليه قال الملك له: وكيف كان ذلك؟
قال الوزير: زعموا أن ناسكاً أصاب من رجل بقرة حلوباً فانطلق بها يقودها إلى منزله، فعرض له لص أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد اختطافه. فقال الشيطان للص: من أنت؟ قال أنا اللص، أريد أن أسرق البقرة من الناسك إذا نام. فمن أنت؟ قال: أنا الشيطان أريد أختطافه إذا نام وأذهب به فاتهيا على هذا إلى المنزل فدخل الناسك منزله ودخلا خلفه وأدخل البقرة فربطها في زاوية المنزل وتعشى ونام. فأقبل اللص والشيطان يأتمران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أولاً فقال الشيطان للص: إن أنت بدأت بأخذ البقرة فربما استيقظ وصاح، واجتمع الناس: فلا أقدر على أخذه فأنظرني ريثما آخذه، وشأنك وما تريد. فأشفق اللص إن بدأ الشيطان باختطافه فربما استيقظ فلا يقدر على أخذ البقرة، فقال: لا، بل انظرني أنت حتى آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزالا في المجادلة هكذا حتى نادى اللص: أيها الناسك انتبه: فهذا الشيطان يريد اختطافك، ونادى الشيطان: أيها الناسك انتبه: فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك فانتبه الناسك وجيرانه بأصواتهما، وهرب الخبيثان. قال الوزير الأول الذي أشار بقتل الغراب: أظن أن الغراب قد خدعكنَّ ووقع كلامه في نفس الغبي منكنّ موقعه، فتردن أن تضعنّ الرأي في غير موضعه فمهلاً مهلاً أيها الملك عن هذا الرأي. فلم يلتفت الملك إلى قوله وأمر الغراب أن يحمل إلى منازل البوم، ويكرم ويستوصى به خيراً. ثم إن الغراب قال للملك يوماً وعنده جماعة من البوم وفيهن الوزير الذي أشار بقتله: أيها الملك قد علمت ما جرى عليّ من الغربان وأنه لا يستريح قلبي إلا بأخذي بثأري منهن، وإني قد نظرت في ذلك فإذا بي لا أقدر على ما رمت: لأني غراب وقد روى عن العلماء أنهم قالوا: من طابت نفسه بأن يحرقها فقد قرب لله أعظم القربان لا يدعو عند ذلك بدعوة إلا استجيب له فإن رأى الملك أن يأمرني فأحرق نفسي وأدعو ربي أن يحولني بوماً فأكون أشد عداوة وأقوى بأساً عل الغربان لعلي أنتقم منهن! قال الوزير الذي أشار بقتله: ما أشبهك في خير ما تظهر وشر ما تخفي إلا بالخمرة الطيبة الطعم والريح المنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك بالنار كان جوهرك وطباعك متغيرة! أليست أخلاقك تدور معك حيثما درت، وتصير بعد ذلك إلى أصلك وطويتك؟ كالفأرة التي خيرت في الأزواج بين الشمس والريح والسحاب والجبل فلم يقع اختيارها إلا على الجرذ وقيل له: وكيف كان ذلك؟
قال
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 45
رد: (( كليلة ودمنة ))
: زعموا أنه كان ناسكاً مستجاب الدعوة فبينما هو ذات يوم جالساً على ساحل البحر إذ مرت به حدأة في رجلها درص فأرة فوقعت منها عند الناسك، وأدركته لها رحمة، فأخذها ولفها في ورقة، وذهب بها إلى منزله، ثم خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن يحولها جارية: فتحولت جارية حسناء فانطلق بها إلى امرأته، فقال لها هذه ابنتي فاصنعي معها صنيعك بولدي. فلما كبرت قال لها الناسك: يا بنية أختاري من أحببت حتى أزوجك به. فقالت، أما إذا خيرتني فإني أختار زوجاً يكون أقوى الأشياء. فقال الناسك لعلك تريدين الشمس! ثم انطلق إلى الشمس فقال: أيها الخلق العظيم إن لي جارية وقد طلبت زوجاً يكون أقوى الأشياء، فهل أنت متزوجها؟ فقالت الشمس أنا أدلك على من هو أقوى مني: السحاب الذي يغطيني، ويرد حر شعاعي ويكسف أشعة أنواري. فذهب الناسك إلى السحاب فقال له ما قال للشمس، فقال السحاب: وأنا أدلك على من هو أقوى مني: فاذهب إلى الريح التي تقبل بي وتدبر وتذهب بي شرقاً وغرباً فجاء الناسك إلى الريح فقال لها كقوله للسحاب فقالت: وأنا أدلك على من هو أقوى مني وهو الجبل الذي لا أقدر على تحريكه فمضى إلى الجبل وقال له القول المذكور فأجابه الجبل وقال له: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجرذ الذي لا أستطيع الامتناع منه إذا ثقبني واتخذني مسكناً. فانطلق الناسك إلى الجرذ فقال له: هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال وكيف أتزوجها وجحري ضيق؟ إنما يتزوج الجرذ الفأرة فدعا الناسك ربه أن يحولها فأرة كما كانت وذلك برضى الجارية، فأعادها الله إلى عنصرها الأول فانطلقت مع الجرذ فهذا مثلك أيها المخادع فلم يلتفت ملك البوم إلى ذلك القول، ورفق بالغراب ولم يزدد له إلا إكراماً حتى إذا طاب عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة. فأتى أصحابه بما رأى وسمع فقال للملك: إني قد فرغت مما كنت أريد ولم يبقى إلا أن تسمع وتطيع، فقال له: أنا والجند تحت أمرك، فاحتكم كيف شئت.
قال الغراب: إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع، ونحن مصيبون هناك ناراً، ونلقيها في أنقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضرباً بأجنحتنا حتى تضرم النار في الحطب: فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه ففعل الغربان ذلك: فأهلكنّ البوم قاطبةً ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات.
ثم إن ملك الغربان قال لذلك الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟ فقال الغراب: إنما ما قلته أيها الملك لكذلك لكن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذي يخاف من عدم تحمله الجائحة على نفسه وقومه لم يجزع من شدة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه صبره حسن العاقبة زكثير الخير فلم يجد لذلك ألماً، ولم تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه حتى يبلغ حاجته فيغتبط بخاتمة أمره وعاقبة صبره. فقال الملك: أخبرني عن عقول البوم: فقال الغراب: لم أجد فيهن عاقلاً إلا الذي كان يحثهن على قتلي، وكان حرضهن على ذلك مراراً فكن أضعف شيء رأياً! فلم ينظرن في رأيه ويذكرن أني قد كنت ذا منزلة في الغربان، وأني أعد من ذوي الرأي ولم يتخوفن مكري وحيلتي ولا قبلنّ من الناصح الشفيق ولا أخفين دوني أسرارهن وقد قال العلماء: ينبغي للملك أن يحصن أموره من أهل النميمة ولا يطلع أحداً منهم على مواضع سره فقال الملك: ما أهلك البوم في نفسي إلا الغي، وضعف رأي الملك وموافقته وزراء السوء فقال الغراب: صدقت أيها الملك، إنه قلما ظفر أحد بغنىً ولم يطع، وقلّ من أكثر من الطعام إلا مرض. وقلّ من وثق بوزراء السوء وسلم من أن يقع في المهالك وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخبُّ في كثرة الصديق، ولا السّيّ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الحريص في قلة الذنوب ولا الملك المحتال، المتهاون بالأمور، الضعيف الوزراء في ثبات ملكه، وصلاح رعيّته قال الملك: لقد احتملت مشقّة شديدة في تصنعك للبوم، وتضرعك لهنّ قال الغراب: إنه من احتمل مشقة يرجو نفعها، ونحى عن نفسه الأنفة والحمية، ووطنها على الصبر حمد غب رأيه، كما صبر الأسود على حمل ملك الضفادع على ظهره، وشبع بذلك وعاش قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا أن أسود من الحيات كبر، وضعف بصره وذهبت قوته: فلم يستطع صيداً ولم يقدر على طعام وأنه انساب يتلمس شيئاً يعيش به، حتى انتهى إلى عين كثيرة الضفادع، قد كان يأتيها قبل ذلك، فيصيب من ضفاضعها رزقه فرمى نفسه قريباً منهنّ مظهراً للكآبة والحزن فقال له ضفدع: ما لي أراك أيها الأسود كئيباً حزيناً؟ قال: ومن أحرى بطول الحزن مني! وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيب من الضفادع فابتليت ببلاء وحرمت على الضفادع من أجله، حتى إني إذا التقيت ببعضها لا أقدر على إمساكه. فانطلق الضفدع إلى ملك الضفادع، فبشره بما سمع من الأسود فقال له: كيف كان أمرك؟ قال سعيت منذ أيام في طلب ضفدع وذلك عند المساء فاضطررته إلى بيت ناسك، ودخلت في أثره في ظلمة وفي البيت ابن الناسك، فأصبت إصبعه، فظننت أنها الضفدع، فلدغته فمات فخرجت هارباً، فتبعني الناسك في أثري، ودعا عليّ ولعنني وقال: كما قتلت ابني البريء ظلماً وتعدياً، أدعو عليك أن تذل وتصير مركباً لملك الضفادع، فلا تستطيع أخذها، ولا أكل شيء منها، إلا ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك لتركبني مقراً بذلك راضياً به فرغب ملك الضفادع بركوب الأسود، وظن أن ذلك فخراً له وشرف ورفعة فركب و استطاب له ذلك. فقال له الأسود: قد علمت أيها الملك أني محروم فاجعل لي رزقاً أعيش به فقال ملك الضفادع: لعمري لابد من رزق يقوم بك، إذا كنت مركبي فأمر له بضفدعين يؤخذان في كل يوم ويدفعان إليه فعاش بذلك، ولم يضره خضوعه للعدو الذليل، بل انتفع بذلك وصار له رزقاً ومعيشة وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه، التماساً لهذا النفع العظيم الذي اجتمع لنا فيه الأمن الظفر، وهلاك العدو والراحة منه ووجدت صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة: فإن النار لا تزيد بحدتها وحرها إذا أصابت الشجرة على أن تحرق ما فوق الأرض منها والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها ويقال أربعة أشياء لا يستقل قليلها: النار والمرض والعدو والدين. قال الغراب: وكل ذلك من رأى الملك وأدبه وسعادة جدّه وإنه كان يقال: إذا طلب اثنان أمراً ظفر به منها أفضلهما مروءة فإن اعتدلا في المروءة فأشدهما عزماً. فإن استويا في العزم فأسعدهما جداً وكان يقال: من حارب الملك الحازم الأريب المتضرع الذي لا تبطره السراء ولا تدهشه الضراء كان هو داعي الحتف إلى نفسه، ولا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بفروض الأعمال، ومواضع الشدة واللين، والغضب والرضا والمعاجلة والأناة الناظر في أمر يومه وغده، وعواقب أعماله قال الملك للغراب: بل برأيك وعقلك ونصيحتك ويمن طالعك كان ذلك، فإن رأى الرجل الواحد، العاقل الحازم أبلغ في هلاك العدو من الجنود الكثيرة، من ذوي البأس والنجدة، والعدد والعدة. وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بين ظهراني البوم تسمع الكلام الغليظ، ثم لم تسقط بينهن بكلمة! قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك أيها الملك: أصحب البعيد والقريب، بالرفق واللين، والمبالغة والمواتاة. قال الملك: أصبحت وقد وجدتك صاحب العمل، ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل: ليس لها عاقبة حميدة فقد منّ الله علينا بك منّة عظيمة لم نكن قبلها نجد لذة الطعام والشراب، ولا النوم ولا القرار وكان يقال: لا يجد المريض لذة الطعام والنوم حتى يبرأ، ولا الرجل الشره الذي قد أطعمه سلطانه في مال وعمل في يده، حتى ينجزه له، ولا الرجل الذي قد ألح عليه عدوه، وهو يخافه صباحاً ومساءً حتى يستريح منه قلبه ومن وضع الحمل الثقيل عن يديه أراح نفسه ومن أمن عدوه ثلج صدره.
قال الغراب: أسأل الله الذي أهلك عدوك أن يمتعك بسلطانك، وأن يجعل في ذلك صلاح رعيتك، ويشركهم في قرة العين بملكك! فإن الملك إذا لم يكن في ملكه قرة عيون رعيته، فمثله مثل زنمة العنز التي يمصها، وهو يحسبها حلمة الضرع، فلا يصادف فيها خيراً. قال الملك: أيها الوزير الصالح، كيف كانت سيرة البوم وملكها في حروبها، وفيما كانت فيه من أمورها؟ قال الغراب: كانت سيرته سيرة بطر، وأشر وخيلاء وعجز وفخر مع ما فيه من الصفات الذميمة وكل أصحابه ووزرائه شيبه به، إلا الوزير الذي كان يشير عليه بقتلي: فإنه كان حكيماً أريباً، فيلسوفاً حازماً عالماً، قلما يرى مثله في علو الهمة، وكمال العقل، وجودة الرأي قال الملك: وأي خصلة رأيت منه كانت أدل على عقله؟ قال خلتان: إحداهما رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكتم صاحبه نصيحته وإن استقلها ولم يكن كلامه كلام عنف وقسوة ولكنه كلام رفق ولين حتى إنه ربما أخبره ببعض عيوبه ولا يصرح بحقيقة الحال بل يضرب له الأمثال ويدثه بعيب غيره فيعرف عيبه فلا يجد ملكه إلى الغضب عليه سبيلاً وكان مما سمعته يقول لملكه: إنه لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به من الناس إلا قليل ولا يدرك إلا بالحزم فإن الملك عزيز فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه، فإنه قد قيل إنه في قلة بقاءه بمنزلة قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر وهو في خفة زواله، وسرعة إقباله وإدباره كالريح وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئام، وفي سرعة اضمحلاله كحباب الماء من وقع المطر. فهذا مثل أهل العداوة الذين لا ينبغي أن يغتر بهم، وإن هم أظهروا تودداً وتضرعاً
قال الغراب: إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع، ونحن مصيبون هناك ناراً، ونلقيها في أنقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضرباً بأجنحتنا حتى تضرم النار في الحطب: فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه ففعل الغربان ذلك: فأهلكنّ البوم قاطبةً ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات.
ثم إن ملك الغربان قال لذلك الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟ فقال الغراب: إنما ما قلته أيها الملك لكذلك لكن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذي يخاف من عدم تحمله الجائحة على نفسه وقومه لم يجزع من شدة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه صبره حسن العاقبة زكثير الخير فلم يجد لذلك ألماً، ولم تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه حتى يبلغ حاجته فيغتبط بخاتمة أمره وعاقبة صبره. فقال الملك: أخبرني عن عقول البوم: فقال الغراب: لم أجد فيهن عاقلاً إلا الذي كان يحثهن على قتلي، وكان حرضهن على ذلك مراراً فكن أضعف شيء رأياً! فلم ينظرن في رأيه ويذكرن أني قد كنت ذا منزلة في الغربان، وأني أعد من ذوي الرأي ولم يتخوفن مكري وحيلتي ولا قبلنّ من الناصح الشفيق ولا أخفين دوني أسرارهن وقد قال العلماء: ينبغي للملك أن يحصن أموره من أهل النميمة ولا يطلع أحداً منهم على مواضع سره فقال الملك: ما أهلك البوم في نفسي إلا الغي، وضعف رأي الملك وموافقته وزراء السوء فقال الغراب: صدقت أيها الملك، إنه قلما ظفر أحد بغنىً ولم يطع، وقلّ من أكثر من الطعام إلا مرض. وقلّ من وثق بوزراء السوء وسلم من أن يقع في المهالك وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخبُّ في كثرة الصديق، ولا السّيّ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الحريص في قلة الذنوب ولا الملك المحتال، المتهاون بالأمور، الضعيف الوزراء في ثبات ملكه، وصلاح رعيّته قال الملك: لقد احتملت مشقّة شديدة في تصنعك للبوم، وتضرعك لهنّ قال الغراب: إنه من احتمل مشقة يرجو نفعها، ونحى عن نفسه الأنفة والحمية، ووطنها على الصبر حمد غب رأيه، كما صبر الأسود على حمل ملك الضفادع على ظهره، وشبع بذلك وعاش قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا أن أسود من الحيات كبر، وضعف بصره وذهبت قوته: فلم يستطع صيداً ولم يقدر على طعام وأنه انساب يتلمس شيئاً يعيش به، حتى انتهى إلى عين كثيرة الضفادع، قد كان يأتيها قبل ذلك، فيصيب من ضفاضعها رزقه فرمى نفسه قريباً منهنّ مظهراً للكآبة والحزن فقال له ضفدع: ما لي أراك أيها الأسود كئيباً حزيناً؟ قال: ومن أحرى بطول الحزن مني! وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيب من الضفادع فابتليت ببلاء وحرمت على الضفادع من أجله، حتى إني إذا التقيت ببعضها لا أقدر على إمساكه. فانطلق الضفدع إلى ملك الضفادع، فبشره بما سمع من الأسود فقال له: كيف كان أمرك؟ قال سعيت منذ أيام في طلب ضفدع وذلك عند المساء فاضطررته إلى بيت ناسك، ودخلت في أثره في ظلمة وفي البيت ابن الناسك، فأصبت إصبعه، فظننت أنها الضفدع، فلدغته فمات فخرجت هارباً، فتبعني الناسك في أثري، ودعا عليّ ولعنني وقال: كما قتلت ابني البريء ظلماً وتعدياً، أدعو عليك أن تذل وتصير مركباً لملك الضفادع، فلا تستطيع أخذها، ولا أكل شيء منها، إلا ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك لتركبني مقراً بذلك راضياً به فرغب ملك الضفادع بركوب الأسود، وظن أن ذلك فخراً له وشرف ورفعة فركب و استطاب له ذلك. فقال له الأسود: قد علمت أيها الملك أني محروم فاجعل لي رزقاً أعيش به فقال ملك الضفادع: لعمري لابد من رزق يقوم بك، إذا كنت مركبي فأمر له بضفدعين يؤخذان في كل يوم ويدفعان إليه فعاش بذلك، ولم يضره خضوعه للعدو الذليل، بل انتفع بذلك وصار له رزقاً ومعيشة وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه، التماساً لهذا النفع العظيم الذي اجتمع لنا فيه الأمن الظفر، وهلاك العدو والراحة منه ووجدت صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة: فإن النار لا تزيد بحدتها وحرها إذا أصابت الشجرة على أن تحرق ما فوق الأرض منها والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها ويقال أربعة أشياء لا يستقل قليلها: النار والمرض والعدو والدين. قال الغراب: وكل ذلك من رأى الملك وأدبه وسعادة جدّه وإنه كان يقال: إذا طلب اثنان أمراً ظفر به منها أفضلهما مروءة فإن اعتدلا في المروءة فأشدهما عزماً. فإن استويا في العزم فأسعدهما جداً وكان يقال: من حارب الملك الحازم الأريب المتضرع الذي لا تبطره السراء ولا تدهشه الضراء كان هو داعي الحتف إلى نفسه، ولا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بفروض الأعمال، ومواضع الشدة واللين، والغضب والرضا والمعاجلة والأناة الناظر في أمر يومه وغده، وعواقب أعماله قال الملك للغراب: بل برأيك وعقلك ونصيحتك ويمن طالعك كان ذلك، فإن رأى الرجل الواحد، العاقل الحازم أبلغ في هلاك العدو من الجنود الكثيرة، من ذوي البأس والنجدة، والعدد والعدة. وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بين ظهراني البوم تسمع الكلام الغليظ، ثم لم تسقط بينهن بكلمة! قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك أيها الملك: أصحب البعيد والقريب، بالرفق واللين، والمبالغة والمواتاة. قال الملك: أصبحت وقد وجدتك صاحب العمل، ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل: ليس لها عاقبة حميدة فقد منّ الله علينا بك منّة عظيمة لم نكن قبلها نجد لذة الطعام والشراب، ولا النوم ولا القرار وكان يقال: لا يجد المريض لذة الطعام والنوم حتى يبرأ، ولا الرجل الشره الذي قد أطعمه سلطانه في مال وعمل في يده، حتى ينجزه له، ولا الرجل الذي قد ألح عليه عدوه، وهو يخافه صباحاً ومساءً حتى يستريح منه قلبه ومن وضع الحمل الثقيل عن يديه أراح نفسه ومن أمن عدوه ثلج صدره.
قال الغراب: أسأل الله الذي أهلك عدوك أن يمتعك بسلطانك، وأن يجعل في ذلك صلاح رعيتك، ويشركهم في قرة العين بملكك! فإن الملك إذا لم يكن في ملكه قرة عيون رعيته، فمثله مثل زنمة العنز التي يمصها، وهو يحسبها حلمة الضرع، فلا يصادف فيها خيراً. قال الملك: أيها الوزير الصالح، كيف كانت سيرة البوم وملكها في حروبها، وفيما كانت فيه من أمورها؟ قال الغراب: كانت سيرته سيرة بطر، وأشر وخيلاء وعجز وفخر مع ما فيه من الصفات الذميمة وكل أصحابه ووزرائه شيبه به، إلا الوزير الذي كان يشير عليه بقتلي: فإنه كان حكيماً أريباً، فيلسوفاً حازماً عالماً، قلما يرى مثله في علو الهمة، وكمال العقل، وجودة الرأي قال الملك: وأي خصلة رأيت منه كانت أدل على عقله؟ قال خلتان: إحداهما رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكتم صاحبه نصيحته وإن استقلها ولم يكن كلامه كلام عنف وقسوة ولكنه كلام رفق ولين حتى إنه ربما أخبره ببعض عيوبه ولا يصرح بحقيقة الحال بل يضرب له الأمثال ويدثه بعيب غيره فيعرف عيبه فلا يجد ملكه إلى الغضب عليه سبيلاً وكان مما سمعته يقول لملكه: إنه لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به من الناس إلا قليل ولا يدرك إلا بالحزم فإن الملك عزيز فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه، فإنه قد قيل إنه في قلة بقاءه بمنزلة قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر وهو في خفة زواله، وسرعة إقباله وإدباره كالريح وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئام، وفي سرعة اضمحلاله كحباب الماء من وقع المطر. فهذا مثل أهل العداوة الذين لا ينبغي أن يغتر بهم، وإن هم أظهروا تودداً وتضرعاً
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 46
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب القرد والغيلم
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، اضرب لي مثل الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها قال الفيلسوف: إن طلب الحاجة أهون من الاحتفاظ بها ومن ظفر بحاجة ثم لم يحسن القيام بها أصابه ما أصاب الغيلم. قال الملك: وكيف ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أن قرداً يقال له ماهر كان ملك القردة وكان قد كبر وهرم فوثب عليه قرد من بيت المملكة فتغلب عليه، وأخذ مكانه فخرج هارباً على وجهه حتى انتهى إلى الساحل فوجد شجرة من شجر التين فارتقى إليها وجعلها مقامه فبينما هو ذات يوم يأكل من ذلك التين، إذا سقطت من يده تينة في الماء فسمع لها صوتاً وإيقاعاً فجعل يأكل ويرمي في الماء، فأطربه ذلك: فأكثر من طرح التين في الماء وثم غيلم كلما وقعت تينة أكلها. فما كثر ذلك ظن أن القرد إنما يفعل ذلك لأجله فرغب في مصادقته، وأنس إليه وكلمه، وألف كل واحد منهما صاحبه. وطالت غيبة الغيلم عن زوجته: فجزعت عليه وشكت ذلك إلى جارة لها وقالت: قد خفت أن يكون شاب قد عرض له عارض سوء فاغتاله. فقالت لها: إن زوجك بالساحل قد ألف قرد وألفه القرد : فهو مؤاكله ومشاربه، وهو الذي قطعه عنك، ولا يقدر أن يقيم عندك حتى تحتالي لهلاك القرد. قالت وكيف أصنع؟ قالت لها جارتها: إذا وصل إليك فتمارضي، فإذا سألك عن حالك فقولي: إن الحكماء وصفوا لي قلب قرد. ثم إن الغيلم انطلق بعد مدة إلى منزله فوجد زوجته سيئة الحال مهمومةً فقال لها الغيلم: مالي أراك هكذا، فأجبته جارتها، وقالت: إن زوجتك مريضة مسكنة. وقد وصف لها الأطباء قلب قرد، وليس لها دواء سواه قال الغيلم: هذا أمر عسير من أين لنا قلب قرد، ونحن في الماء؟ لكن سأحتال لصديقي ثم انطلق إلى ساحل البحر: فقال له القرد يا أخي، ما حبسك عني؟ قال الغيلم: ما حبسني إلا حيائي: فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك إلي؟ وأريد أن تتم إحسانك إلي بزيارتك أي في منزلي فإن ساكن في جزيرة طيبة الفاكهة. فركب ظهر الغيلم، فسبح به حتى إذا سبح به عرض له قبح ما أضمر في نفسه من الغدر، فنكس رأسه، فقال له القرد: مالي أراك مهتماً؟ قال الغيلم: إنما همي لأني ذكرت أن زوجتي شديدة المرض وذلك بمنعي من كثير مما أريد أن أبلغه من حرصك على كرامتك وملاطفتك. قال القرد: إن الذي أعرف من حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكليف. قال الغيلم: أجل ومضى بالقرد ساعةً، ثم توقف به ثانية: فساء ظن القرد وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إلا لأمر ولست آمناً أن يكون قلبه قد تغير لي وحال عن مودتي، فأراد بي سوءاً: فإنه لا شيء أخف وأسرع تقلباً من القلب وقد يقال: ينبغي للعاقل ألا يغفل عن التماس ما نفس أهله وولده وإخوانه وصديقه عند كل أمر، وفي كل لحظة وكلمة وعند القيام والقعود، وعلى كل حال فإن ذلك كله يشهد على ما في القلوب وقد قالت العلماء إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة فليأخذ بالحزم في الحفظ منه وليتفقد ذلك في لحظاته وحالاته فإن كان ما يظن حقاً ظفر بالسلامة، وإن كان باطلاً ظفر بالحزم، ولم يضره ذلك ثم قال للغيلم: ما الذي يحبسك؟ ومالي.
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، اضرب لي مثل الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها قال الفيلسوف: إن طلب الحاجة أهون من الاحتفاظ بها ومن ظفر بحاجة ثم لم يحسن القيام بها أصابه ما أصاب الغيلم. قال الملك: وكيف ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أن قرداً يقال له ماهر كان ملك القردة وكان قد كبر وهرم فوثب عليه قرد من بيت المملكة فتغلب عليه، وأخذ مكانه فخرج هارباً على وجهه حتى انتهى إلى الساحل فوجد شجرة من شجر التين فارتقى إليها وجعلها مقامه فبينما هو ذات يوم يأكل من ذلك التين، إذا سقطت من يده تينة في الماء فسمع لها صوتاً وإيقاعاً فجعل يأكل ويرمي في الماء، فأطربه ذلك: فأكثر من طرح التين في الماء وثم غيلم كلما وقعت تينة أكلها. فما كثر ذلك ظن أن القرد إنما يفعل ذلك لأجله فرغب في مصادقته، وأنس إليه وكلمه، وألف كل واحد منهما صاحبه. وطالت غيبة الغيلم عن زوجته: فجزعت عليه وشكت ذلك إلى جارة لها وقالت: قد خفت أن يكون شاب قد عرض له عارض سوء فاغتاله. فقالت لها: إن زوجك بالساحل قد ألف قرد وألفه القرد : فهو مؤاكله ومشاربه، وهو الذي قطعه عنك، ولا يقدر أن يقيم عندك حتى تحتالي لهلاك القرد. قالت وكيف أصنع؟ قالت لها جارتها: إذا وصل إليك فتمارضي، فإذا سألك عن حالك فقولي: إن الحكماء وصفوا لي قلب قرد. ثم إن الغيلم انطلق بعد مدة إلى منزله فوجد زوجته سيئة الحال مهمومةً فقال لها الغيلم: مالي أراك هكذا، فأجبته جارتها، وقالت: إن زوجتك مريضة مسكنة. وقد وصف لها الأطباء قلب قرد، وليس لها دواء سواه قال الغيلم: هذا أمر عسير من أين لنا قلب قرد، ونحن في الماء؟ لكن سأحتال لصديقي ثم انطلق إلى ساحل البحر: فقال له القرد يا أخي، ما حبسك عني؟ قال الغيلم: ما حبسني إلا حيائي: فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك إلي؟ وأريد أن تتم إحسانك إلي بزيارتك أي في منزلي فإن ساكن في جزيرة طيبة الفاكهة. فركب ظهر الغيلم، فسبح به حتى إذا سبح به عرض له قبح ما أضمر في نفسه من الغدر، فنكس رأسه، فقال له القرد: مالي أراك مهتماً؟ قال الغيلم: إنما همي لأني ذكرت أن زوجتي شديدة المرض وذلك بمنعي من كثير مما أريد أن أبلغه من حرصك على كرامتك وملاطفتك. قال القرد: إن الذي أعرف من حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكليف. قال الغيلم: أجل ومضى بالقرد ساعةً، ثم توقف به ثانية: فساء ظن القرد وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إلا لأمر ولست آمناً أن يكون قلبه قد تغير لي وحال عن مودتي، فأراد بي سوءاً: فإنه لا شيء أخف وأسرع تقلباً من القلب وقد يقال: ينبغي للعاقل ألا يغفل عن التماس ما نفس أهله وولده وإخوانه وصديقه عند كل أمر، وفي كل لحظة وكلمة وعند القيام والقعود، وعلى كل حال فإن ذلك كله يشهد على ما في القلوب وقد قالت العلماء إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة فليأخذ بالحزم في الحفظ منه وليتفقد ذلك في لحظاته وحالاته فإن كان ما يظن حقاً ظفر بالسلامة، وإن كان باطلاً ظفر بالحزم، ولم يضره ذلك ثم قال للغيلم: ما الذي يحبسك؟ ومالي.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 47
رد: (( كليلة ودمنة ))
أراك مهتماً، كأنك تحدث نفسك مرة أخرى؟ قال: يهمني أنك تأتي منزلي فلا تجد أمري كما أحب: لأن زوجتي مريضة قال القرد: لا تهتم فإن الهم لا يغني عنك شيئاً ولكن التمس ما يصلح زوجتك من الأدوية والأغذية: فإنه يقال ليبذل ذو المال ماله في أربعة مواضع: في الصدقة وفي الحاجة وعلى البنين وعلى الأزواج. قال الغيلم: صدقت. وقد قال الأطباء إنه لا دواء لها إلا قلب قرد فقال القرد واأسفاه لقد أدركني الحرص والشر على كبر سني: حتى وقعت في شر ورطة ولقد صدق الذي قال: يعيش القانع الراضي مستريحاً مطمئناً وذو الحرص والشره يعيش ما عاش في تعب ونصب. وأني قد احتجت الآن إلى عقلي في التماس المخرج مما وقعت فيه. ثم قال الغيلم: وما منعك أن تعلمني عند منزلي حتى كنت أحمل قلبي معي؟ فهذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحد لزيارة صديق خلّف قلبه عند أهله أوفي موضعه، للنظر إذا نظرنا إلى حرم المزور وليس قلوبنا معنا قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال: خلّفته في الشجرة فإن شئت فارجع بي إلى الشجرة حتى آتيك به ففرح الغيلم بذلك وقال: لقد وافقني صاحبي بدون أن أغدر به. ثم رجع بالقرد إلى مكانه فلما أبطأ على الغيلم، ناداه: يا خليلي احمل قلبك وانزل فقد حبستني فقال القرد: هيهات أتظن أنّي كالحمار الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب ولا أذنان قال الغيلم: وكيف ذلك؟ قال القرد: زعموا أنه كان أسد في أجمةً، وكان معه ابن آوى يأكل من فواضل طعامه، فأصاب الأسد جرب، وضعف شديد فلم يستطيع الصيد فقال له ابن آوى: ما بالك يا سيد السباع قد تغيرت أحوالك؟ قال: هذا الجرب الذي قد أجهدني وليس له دواء إلا قلب حمار وأذناه قال ابن آوى: ما أيسر هذا وقد عرفت بمكان كذا حماراً مع قصار يحمل عليه ثيابه، وأنا آتيك به ثم دلف إلى الحمار فأتاه وسلم عليه فقال له: مالي أراك مهزولاً؟ قال ما يطعمني صاحبي شيئاً فقال له: وكيف ترضى المقام معه على هذا؟ قال: فما لي حيلة في الهرب منه، لست أتوجه إلى جهة إلا جهة أضربي إنسان فكدني وأجاعني قال ابن آوى: فأنا أدلك على مكان معزول عن الناس، لا يمر به إنسان، خصيب المرعى فيه قطيع من الحمر لم تر عين مثلها حسناً وسمناً وقال الحمار: وما يحبسنا عنها؟ فانطلق بنا إليها، فانطلق به ابن آوى نحو الأسد، وتقدم ابن آوى ودخل الغابة على الأسد، فأخبره بمكان الحمار فخرج إليه وأراد أن يثبت عليه، فلم يستطيع لضعفه، وتخلص الحمار منه فأفلت هلعاً على وجهه فلما رأى ابن آوى أن الأسد لم يقدر على الحمار، قال له: أعجزت يا سيد السباع إلى هذه الغاية؟ فقال له: إن جئتني به مرة أخرى، فلن ينجو مني أبداً فمضى ابن آوى إلى الحمار فقال له: ما الذي جرى عليك؟ إن أحد الحمر رآك غريباً، فخرج يتلقاك مرحباً بك، ولو ثبت له لآنسك، ومضى بك إلى أصحابه فلما سمع الحمار كلام ابن آوى، ولم يكن رأى أسداً قط، صدقه وأخذ طريقه إلى الأسد وأعلمه بمكانه وقال له: استعد له فقد خدعته لك: فلا يدركنَّك الضعف في هذه النوبة إن أفلت فلن يعود معي أبداً فجأش جأش الأسد لتحريض ابن آوى له، وخرج إلى موضع الحمار فلما بصر به عاجله بوبثة افترسه بها. ثم قال: قد ذكرت الأطباء أنه لايؤكل إلا بعد الغسل والطهور: فاحتفظ به حتى أعود فآكل قلبه وأذنيه، وأترك ما سوى ذلك قوتاً لك فلما ذهب الأسد ليغتسل، عمد ابن آوى إلى الحمار فأكل قلبه وأذنيه، رجاء أن يتطير الأسد منه، فلا يأكل منه شيئاً، فقال لابن آوى: أين قلب الحمار وآذناه؟ قال ابن آوى: ألم تعلم أنه لو كان له قلب يفقه به، وأذنان يسمع بهما، لم يرجع إليك بعد ما أفلت ونجا من الهلكة: وانَّما ضربت لك هذا المثل لتعلم أني لست كذلك الحمار الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب وأذنان، ولكنك احتلت عليَّ وخدعتني فخدعتك بمثل خديعتك، واستدركت فارط أمري. وقد قيل: إن الذي يفسده الحلم لا يصلحه إلا العلم. قال الغيلم: صدقت، إلا أن الرجل الصالح يعترف بزلته، وإذا أذنب ذنباً لم يستحي أن يؤدَّب: لصدقه في قوله وفعله، وإن وقع في ورطة أمكنه التخلص منها بحيلته وعقله: كالرجل الذي يعثر على الأرض، ثم ينهض عليها معتمداً فهذا مثل الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 48
رد: (( كليلة ودمنة ))
الناسك وابن عرس
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل. فاضرب لي مثل الرجل العجلان في أمره من غير روية ولا نظر في العواقب. قال الفيلسوف: إنه من لم يكن في أمره متثبتاً لم يزل نادماً ويصير أمره إلى ما صار إليه الناسك من قتل ابن عرس وقد كان له ودوداً. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: زعموا أن ناسكاً من النساك بأرض جرجان وكانت له امرأة جميلة، فمكثا زمناً لم يرزقا ولداً ثم حملت منه بعد الإياس فسرت المرأة وسر الناسك بذلك فحمد الله تعالى وسأله أن يكون الحمل ذكراً وقال لزوجته: أبشري فإني أرجو أن يكون غلاماً لنا فيه منافع، وقرة عين، أختار له أحسن الأسماء وأحضر له سائر الأدباء. فقالت المرأة: ما يحملك أيها الرجل على أن تتكلم بما لا تدري أيكون أم لا؟ ومن فعل ذلك أصابه ما أصاب الناسك الذي أراق على رأسه السمن والعسل. قال لها: وكيف ذلك؟ قالت: زعموا أن ناسكاً كان يجري عليه من بيت رجل تاجر، في كل يوم رزق من السمن والعسل وكان يأكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي ويجعله في جرة، فيعلقها في وتد في ناحية البيت حتى أمتلأت فبينما الناسك ذات يوم مستلق على ظهره والعكاز في يده والجرة معلقة على رأسه، تفكّر في غلاء السمن والعسل، فقال: سأبيع ما في هذه الجرة بدينار وأشتري به عشرة أعنز، فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر بطناً، ولا تلبث قليلاً حتى تصير غنماً كثيرة إذا ولت أولادها، ثم حرر على هذا النحو بسنين فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنز، فقال: أنا أشتري بها مائة من البقر، وأشترى أرضاً وبذراً، وأستأجر أكرة وأزرع على الثيران، وأنتفع بألبان الإناث ونتاجها فلا يأتي على خمس سنين ألا وقد أصبت من الزرع مالاً كثيراً، فأبني بيتاً فاخراً وأشتري إماء وعبيد، وأتزوج امرأة جميلة ذات حسن، ثم تأتي بغلام سري نجيب، فأختار له أحسن الأسماء، فإذا ترعرع أدبته وأحسنت تأديبه وأشدد عليه في ذلك، فإن يقبل مني، وإلا ضربته بهذه العكازة وأشار إلى الجرة فكسرها، فسال ما كان فيها على وجهه وإنما ضربت لك هذا المثل لكي لا تعجل بذكر ما لا ينبغي ذكره، وما لا تدري أيصح أم لا يصح فاتعظ الناسك بما حكت زوجته. ثم إن المرأة ولدت غلاماً جميلاً ففرح به أبوه وبعد أيام حان لها أن تتطهر. فقالت المرأة للناسك: اقعد عند ابنك حتى أذهب إلى الحمام فأغتسل وأعود ثم إنها انطلقت إلى الحمام، وخلفت زوجها والغلام فلم يلبث أن جاءه رسول الملك يستدعيه ولم يجد من يخلفه عندابنه غير ابن عرس داجن عنده كان قد رباه صغيراً فهو عنده عديل ولده فتركه الناسك عند الصبي وأغلق عليهما البيت وذهب مع الرسول. فخرج من بعض أحجار البيت حية سوداء فدنت من الغلام فضربها ابن عرس ثم وثب عليها فقتلها ثم قطعها وا متلأفمه من دمها... ثم جاء الناسك وفتح الباب فالتقاه ابن عرس كالمبشر له بما صنع من قتل الحية. فلما رآه ملوثاً بالدم وهو مذعور طار عقله وظن أنه قد خنق ولده ولم يتثبت في أمره ولم يتو فيه حتى يعلم حقيقة الحال ويعمل بغير ما يظن من ذلك ولكن عجل أبن عرس وضربه بعكازه كانت في يده على أم رأسه فمات. ودخل الناسك فرأى الغلام سليماً حياً وعنده أسود مقطع. فلما عرف القصة وتبين له سوء فعله في العجلة لطم على رأسه. وقال: ليني لم أرزق هذا الولد ولم أغدر هذا الغدر ودخلت امرأته فوجدته على تلك الحال. فقالت له: ماشأنك فأخبرها بالخبر من حسن فعل ابن عرس وسوء مكافأته له. فقالت: هذه ثمرة العجلة فهذا مثل من لا يتثبت في أمره بل يفعل أغراضه بالسرعة والعجلة.
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل. فاضرب لي مثل الرجل العجلان في أمره من غير روية ولا نظر في العواقب. قال الفيلسوف: إنه من لم يكن في أمره متثبتاً لم يزل نادماً ويصير أمره إلى ما صار إليه الناسك من قتل ابن عرس وقد كان له ودوداً. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: زعموا أن ناسكاً من النساك بأرض جرجان وكانت له امرأة جميلة، فمكثا زمناً لم يرزقا ولداً ثم حملت منه بعد الإياس فسرت المرأة وسر الناسك بذلك فحمد الله تعالى وسأله أن يكون الحمل ذكراً وقال لزوجته: أبشري فإني أرجو أن يكون غلاماً لنا فيه منافع، وقرة عين، أختار له أحسن الأسماء وأحضر له سائر الأدباء. فقالت المرأة: ما يحملك أيها الرجل على أن تتكلم بما لا تدري أيكون أم لا؟ ومن فعل ذلك أصابه ما أصاب الناسك الذي أراق على رأسه السمن والعسل. قال لها: وكيف ذلك؟ قالت: زعموا أن ناسكاً كان يجري عليه من بيت رجل تاجر، في كل يوم رزق من السمن والعسل وكان يأكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي ويجعله في جرة، فيعلقها في وتد في ناحية البيت حتى أمتلأت فبينما الناسك ذات يوم مستلق على ظهره والعكاز في يده والجرة معلقة على رأسه، تفكّر في غلاء السمن والعسل، فقال: سأبيع ما في هذه الجرة بدينار وأشتري به عشرة أعنز، فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر بطناً، ولا تلبث قليلاً حتى تصير غنماً كثيرة إذا ولت أولادها، ثم حرر على هذا النحو بسنين فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنز، فقال: أنا أشتري بها مائة من البقر، وأشترى أرضاً وبذراً، وأستأجر أكرة وأزرع على الثيران، وأنتفع بألبان الإناث ونتاجها فلا يأتي على خمس سنين ألا وقد أصبت من الزرع مالاً كثيراً، فأبني بيتاً فاخراً وأشتري إماء وعبيد، وأتزوج امرأة جميلة ذات حسن، ثم تأتي بغلام سري نجيب، فأختار له أحسن الأسماء، فإذا ترعرع أدبته وأحسنت تأديبه وأشدد عليه في ذلك، فإن يقبل مني، وإلا ضربته بهذه العكازة وأشار إلى الجرة فكسرها، فسال ما كان فيها على وجهه وإنما ضربت لك هذا المثل لكي لا تعجل بذكر ما لا ينبغي ذكره، وما لا تدري أيصح أم لا يصح فاتعظ الناسك بما حكت زوجته. ثم إن المرأة ولدت غلاماً جميلاً ففرح به أبوه وبعد أيام حان لها أن تتطهر. فقالت المرأة للناسك: اقعد عند ابنك حتى أذهب إلى الحمام فأغتسل وأعود ثم إنها انطلقت إلى الحمام، وخلفت زوجها والغلام فلم يلبث أن جاءه رسول الملك يستدعيه ولم يجد من يخلفه عندابنه غير ابن عرس داجن عنده كان قد رباه صغيراً فهو عنده عديل ولده فتركه الناسك عند الصبي وأغلق عليهما البيت وذهب مع الرسول. فخرج من بعض أحجار البيت حية سوداء فدنت من الغلام فضربها ابن عرس ثم وثب عليها فقتلها ثم قطعها وا متلأفمه من دمها... ثم جاء الناسك وفتح الباب فالتقاه ابن عرس كالمبشر له بما صنع من قتل الحية. فلما رآه ملوثاً بالدم وهو مذعور طار عقله وظن أنه قد خنق ولده ولم يتثبت في أمره ولم يتو فيه حتى يعلم حقيقة الحال ويعمل بغير ما يظن من ذلك ولكن عجل أبن عرس وضربه بعكازه كانت في يده على أم رأسه فمات. ودخل الناسك فرأى الغلام سليماً حياً وعنده أسود مقطع. فلما عرف القصة وتبين له سوء فعله في العجلة لطم على رأسه. وقال: ليني لم أرزق هذا الولد ولم أغدر هذا الغدر ودخلت امرأته فوجدته على تلك الحال. فقالت له: ماشأنك فأخبرها بالخبر من حسن فعل ابن عرس وسوء مكافأته له. فقالت: هذه ثمرة العجلة فهذا مثل من لا يتثبت في أمره بل يفعل أغراضه بالسرعة والعجلة.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 49
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب الجرذ والسنور
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي مثل رجل كثر اعدؤه وأحدقوا به من كل جانب فأشرف معهم على الهلاك فالتمس النجاة وا لمخرج بموالاة بعض أعدائه ومصالحته فسلم من الخوف وأمن ثم وفي لمن صالحه منهم. قال الفيلسوف: إن المودة والعداوة لاتثبتان على حالة واحدة أبداً. وبما حالت المودة إلى العداوة وصارت العداوة ولاية و صداقة. ولهذا حوادث وعلل وتجارب وذو الرأي يحدث لكل ما يحدث من ذلك رأياً جديداً: أما من قبل العدو فبا لبأس وأما من قبل الصديق فبا لاستئناس ولا تمنع ذا العقل عداوة كانت في نفسه لعدوه من مقاربته والاستنجاد به على دفع مخوف أو جر مرغوب. ومن عمل في ذلك بالحزم ظفر بحاجته. ومثل ذلك مثل الجرذ والسنور حين وقعا في الورطة فنجوا باصطلاحهما جميعاً من الورطة والشدة قال الملك: وكيف كان ذلك قال بيديا: زعموا أن شجرة عظيمة كان في أصلها جحر سنور يقال له رومي وكان قريباً منه جحر جرذ يقال له فريدون وكان الصيادون كثيراً يتداولون ذلك المكان يصيدون فيه الوحش والطير فنزل ذات يوم صياد فنصب حبالته قريباً من موضع رومي فلم يلبث أن وقع فيها. فخرج الجرذ يدب، ويطلب ما يأكل، وهو حذر من رومي فبينما هو يسعى إذ بصر به في الشرك، فسرّ واستبشر، ثم التفت فرأى خلفه ابن عرس، يريد أخذه، وفي الشجرة بوماً، يريد اختطافه، فتحيّر في أمره، وخاف إن رجع وراءه أخذه ابن عرس، وإن ذهب يميناً أو شمالاً اختطفه البوم، وإن تقدم أمامه افترسه السنور. فقال في نفسه: هذا بلاء قد اكتفني، وشرور تظاهرت عليّ، ومحنٌ قد أحاطت بي. وبعد ذلك فمعي عقلي، فلا يفزعني أمري، ولا يهولني شأني، ولا يلحقني الدهش، ولا يذهب قلبي شعاعاً: فالعاقل لا يفرق عند سداد رأيه ولا يعزب عنه ذهنه على حال. وإنما العقل شبيهٌ بالبحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ البلاء من ذي الرأي مجهوده فيهلكه، وتحقق الرجاء لا ينبغي أن يبلغ منه مبلغاً يبطره ويسكره: فيعمى عليه أمره ولست أرى لي من هذا البلاء مخلصاً إلا مصالحة السنّور: فإنه قد نزل به من البلاء مثل ما قد نزل بي أو بعضه ولعل إن سمع كلامي الذي أكلّمه به، ووعى عنّي فَصِيحَ خطابي، ومحض صدقي الذي لا خلاف فيه، ولا خداع معه ففهمه، وطمع في معونتي إياه، نَخلُصْ جميعاً.
ثم إن الجرذ دنا من السنّور فقال له: كيف حالك؟ قال له السنور: كما تحب: في ضنك وضيق قال: وأنا اليوم شريكك في البلاء، ولست أرجو لنفسي خلاصاً إلا بالذي أرجو لك فيه الخلاص وكلامي هذا ليس فيه كذب ولا خديعة وابن عرس ها هو كامنٌ لي، والبوم يرصدني وكلاهما لي ولك عدوٌّ فإن جعلت لي الأمان، قطعت حبائلك، وخلّصتك من هذه الورطة فإذا كان ذلك تخلّص كل واحد منّا بسبب صاحبه: كالسفينة والركاب في البحر: فبالسفينة ينجون وبهم تنجو السفينة. فلما سمع السنور كلام الجرذ وعرف أنه صادق قال له: إن قولك هذا لشبيه بالحق وأنا أيضاً راغب فيما أرجو لك ولنفسي به الخلاص. ثم إنك إن فعلت ذلك فسأشكر لك ما بقيت قال الجرذ: فإني سأدنو منك فأقطع الحبائل كلها إلا حبلاً واحداً أبقيه لأستوثق لنفسي منك ثم أخذ في قرض حبائله ثم إن البوم وابن عرس لما رأيا دنو الجرذ من السنور أيسا منه وانصرفا ثم إن الجرذ أبطأ على رومي قطع الحبائل فقال له: مالي لا أراك مجداً في قطع حبائلي فإن كنت قد كنت ظفرت بحاجتك: فتغيرت عما .
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي مثل رجل كثر اعدؤه وأحدقوا به من كل جانب فأشرف معهم على الهلاك فالتمس النجاة وا لمخرج بموالاة بعض أعدائه ومصالحته فسلم من الخوف وأمن ثم وفي لمن صالحه منهم. قال الفيلسوف: إن المودة والعداوة لاتثبتان على حالة واحدة أبداً. وبما حالت المودة إلى العداوة وصارت العداوة ولاية و صداقة. ولهذا حوادث وعلل وتجارب وذو الرأي يحدث لكل ما يحدث من ذلك رأياً جديداً: أما من قبل العدو فبا لبأس وأما من قبل الصديق فبا لاستئناس ولا تمنع ذا العقل عداوة كانت في نفسه لعدوه من مقاربته والاستنجاد به على دفع مخوف أو جر مرغوب. ومن عمل في ذلك بالحزم ظفر بحاجته. ومثل ذلك مثل الجرذ والسنور حين وقعا في الورطة فنجوا باصطلاحهما جميعاً من الورطة والشدة قال الملك: وكيف كان ذلك قال بيديا: زعموا أن شجرة عظيمة كان في أصلها جحر سنور يقال له رومي وكان قريباً منه جحر جرذ يقال له فريدون وكان الصيادون كثيراً يتداولون ذلك المكان يصيدون فيه الوحش والطير فنزل ذات يوم صياد فنصب حبالته قريباً من موضع رومي فلم يلبث أن وقع فيها. فخرج الجرذ يدب، ويطلب ما يأكل، وهو حذر من رومي فبينما هو يسعى إذ بصر به في الشرك، فسرّ واستبشر، ثم التفت فرأى خلفه ابن عرس، يريد أخذه، وفي الشجرة بوماً، يريد اختطافه، فتحيّر في أمره، وخاف إن رجع وراءه أخذه ابن عرس، وإن ذهب يميناً أو شمالاً اختطفه البوم، وإن تقدم أمامه افترسه السنور. فقال في نفسه: هذا بلاء قد اكتفني، وشرور تظاهرت عليّ، ومحنٌ قد أحاطت بي. وبعد ذلك فمعي عقلي، فلا يفزعني أمري، ولا يهولني شأني، ولا يلحقني الدهش، ولا يذهب قلبي شعاعاً: فالعاقل لا يفرق عند سداد رأيه ولا يعزب عنه ذهنه على حال. وإنما العقل شبيهٌ بالبحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ البلاء من ذي الرأي مجهوده فيهلكه، وتحقق الرجاء لا ينبغي أن يبلغ منه مبلغاً يبطره ويسكره: فيعمى عليه أمره ولست أرى لي من هذا البلاء مخلصاً إلا مصالحة السنّور: فإنه قد نزل به من البلاء مثل ما قد نزل بي أو بعضه ولعل إن سمع كلامي الذي أكلّمه به، ووعى عنّي فَصِيحَ خطابي، ومحض صدقي الذي لا خلاف فيه، ولا خداع معه ففهمه، وطمع في معونتي إياه، نَخلُصْ جميعاً.
ثم إن الجرذ دنا من السنّور فقال له: كيف حالك؟ قال له السنور: كما تحب: في ضنك وضيق قال: وأنا اليوم شريكك في البلاء، ولست أرجو لنفسي خلاصاً إلا بالذي أرجو لك فيه الخلاص وكلامي هذا ليس فيه كذب ولا خديعة وابن عرس ها هو كامنٌ لي، والبوم يرصدني وكلاهما لي ولك عدوٌّ فإن جعلت لي الأمان، قطعت حبائلك، وخلّصتك من هذه الورطة فإذا كان ذلك تخلّص كل واحد منّا بسبب صاحبه: كالسفينة والركاب في البحر: فبالسفينة ينجون وبهم تنجو السفينة. فلما سمع السنور كلام الجرذ وعرف أنه صادق قال له: إن قولك هذا لشبيه بالحق وأنا أيضاً راغب فيما أرجو لك ولنفسي به الخلاص. ثم إنك إن فعلت ذلك فسأشكر لك ما بقيت قال الجرذ: فإني سأدنو منك فأقطع الحبائل كلها إلا حبلاً واحداً أبقيه لأستوثق لنفسي منك ثم أخذ في قرض حبائله ثم إن البوم وابن عرس لما رأيا دنو الجرذ من السنور أيسا منه وانصرفا ثم إن الجرذ أبطأ على رومي قطع الحبائل فقال له: مالي لا أراك مجداً في قطع حبائلي فإن كنت قد كنت ظفرت بحاجتك: فتغيرت عما .
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 50
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب ابن الملك والطائر فنزة
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثل أهل التِّرات الذين لا بد لبعضهم من اتقاء بعض. قال بيدبا: زعموا أن ملكاً من ملوك الهند كان يقال له بريدون، وكان له فرخ وكان هذا الطائر وفرخه ينطقان بأحسن منطق، وكان الملك بهما معجباً، فأمر بهما أن يجعلا عند امرأته، وأمرها بالمحافظة، عليهما. واتفق أن امرأة الملك ولدت غلاماً، فألف الفرخ الغلام. وكلاهما طفلان يلعبان جميعاً، وكان فنزة يذهب إلى الجبل كل يوم فيأتي بفاكهة لا تعرف فيطعم ابن الملك شطرها. ويطعم فرخه شطرها. فأسرع ذلك في نشأتهما وزاد في شبابهما وبان عليهما أثره عند الملك: فازداد لفنزة إكراماً وتعظيماً ومحبة حتى إذا كان يوم من الأيام وفنزة غائب في اجتناء الثمرة وفرخه في حجر الغلام ذرق في حجره فغضب الغلام وأخذ الفرخ فضرب به الأرض فمات. ثم إن فنزة أقبل فوجد فرخه مقتولاً فصاح وحزن وقال: قبحاً للملوك الذين لا عهد لهم ولا وفاء ويل لمن ابتلى بصحبة الملوك الذين لا حمي لهم ولا حرمة ولا يحبون أحد ولا يكرم عليهم إلا إذا طمعوا فيما عنده من غناه واحتاجوا إلى ما عنده من علم: فيكرمونه لذلك فإذا ظفروا بحاجتهم منه فلا ود ولا إخاء ولا إحسان ولا غفران ذنب ولا معرفة حق هم الذين أمرهم مبني على الرياء والفجور. وهم يستصغرون ما يرتكبونه من عظيم الذنوب ويستعظمون اليسير إذا خولفت فيه أهواؤهم. ومنهم هذا الكفور الذي لا رحمة له الغادر بأليفه وأخيه. ثم وثب في شدة حنقه على وجه الغلام ففقأ عينه، وطار فوقع على شرفة المنزل. ثم إنه بلغ الملك ذلك، فجزع أشد الفزع، ثم طمع أن يحتال له فوقف قريباً منه وناداه وقال له: إنك آمن فنزل يا فنزة. فقال له: أيها الملك إن الغادر مأخوذ بغدره وإنه إن أخطأه عاجل العقوبة لم يخطئه الآجل حتى إنه يدرك الأعقاب وأعقاب الأعقاب وإن ابنك غدر بابني، فعجلت له العقوبة. قال الملك: لعمري قد غدرنا بابنك، فانتقمت منا: فليس لك قبلنا ولا لنا قبلك وتر مطلوب. فارجع إلينا آمناً. قال فنزة: لست براجع إليك أبداً فإن ذوي الرأي قد نهوا عن قرب الموتور فإنه لا يزيدك لطف الحقود ولينه وتكرمه إياك إلا وحشة منه، وسوء ظن به: فإنك لا تجد للحقود الموتور أماناً هو أوثق لك من الذعر منه ولا أجود من البعد عنه ولأحترس منه أولى. وقد كان يقال: إن العاقل يعد أبويه أصدقاء والأخوة رفقاء والأزواج ألفاء والبنين ذكراً، والبنات خصماء والأقارب غرماء ويعد نفسه فريداً. وأنا الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت من عنكم من الحزن عبئاً ثقيلاً لا يحمله معي أحد. وأنا ذاهب. فعليك مني السلام.
قال الملك: إنك لو لم تكن اجتزيت منا فيما صنعناه بك، بل كان صنيعك بنا من غير ابتداء منا بالغدر كان الأمر كما ذكرت. وأما إذا كنا نحن بدأناك، فما ذنبك؟ وما الذي يمنعك من الثقة بنا؟ هلم فارجع: فإنك آمن. قال فنزة: اعلم أن الأحقاد لها في القلوب مواقع ممكنة موجعة. فالألسن لا تصدق في خبرها عن القلوب، والقلب أعدل شهادة من اللسان على القلب. وقد علمت أن قلبي لا يشهد للسانك، ولا قلبك للساني. قال الملك: ألم تعلم أن الضغائن ولأحقاد تكون بين كثير من الناس: فمن كان ذا عقل كان على إماتة الحقد أحرص منه على تربيته. قال فنزة: إن ذلك لكما ذكرت، ولكن ليس ينبغي لذي الرأي مع ذلك أن يظن أن الموتور الحقود ناس ما وتر به، مصروف عنه فكره فيه. وذو الرأي يتخوف المكر والخديعة والحيل ويعلم أن كثيراً من العدو لا يستطاع بالشدة والمكابرة، حتى يصاد بالرفق والملاينة، كما يصاد الفيل الوحشي بالفيل الداجن. قال الملك: إن العاقل الكريم لا يترك إلفه، ولا يقطع إخوانه ولا يضيع الحفاظ، وإن هو خاف على نفسه، حتى إن هذا الخلق يكون قي أوضع الدواب منزلة: فقد علمت أن اللعابين يلعبون بالكلاب، ثم يذبحونها ويأكلونها. ويرى
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثل أهل التِّرات الذين لا بد لبعضهم من اتقاء بعض. قال بيدبا: زعموا أن ملكاً من ملوك الهند كان يقال له بريدون، وكان له فرخ وكان هذا الطائر وفرخه ينطقان بأحسن منطق، وكان الملك بهما معجباً، فأمر بهما أن يجعلا عند امرأته، وأمرها بالمحافظة، عليهما. واتفق أن امرأة الملك ولدت غلاماً، فألف الفرخ الغلام. وكلاهما طفلان يلعبان جميعاً، وكان فنزة يذهب إلى الجبل كل يوم فيأتي بفاكهة لا تعرف فيطعم ابن الملك شطرها. ويطعم فرخه شطرها. فأسرع ذلك في نشأتهما وزاد في شبابهما وبان عليهما أثره عند الملك: فازداد لفنزة إكراماً وتعظيماً ومحبة حتى إذا كان يوم من الأيام وفنزة غائب في اجتناء الثمرة وفرخه في حجر الغلام ذرق في حجره فغضب الغلام وأخذ الفرخ فضرب به الأرض فمات. ثم إن فنزة أقبل فوجد فرخه مقتولاً فصاح وحزن وقال: قبحاً للملوك الذين لا عهد لهم ولا وفاء ويل لمن ابتلى بصحبة الملوك الذين لا حمي لهم ولا حرمة ولا يحبون أحد ولا يكرم عليهم إلا إذا طمعوا فيما عنده من غناه واحتاجوا إلى ما عنده من علم: فيكرمونه لذلك فإذا ظفروا بحاجتهم منه فلا ود ولا إخاء ولا إحسان ولا غفران ذنب ولا معرفة حق هم الذين أمرهم مبني على الرياء والفجور. وهم يستصغرون ما يرتكبونه من عظيم الذنوب ويستعظمون اليسير إذا خولفت فيه أهواؤهم. ومنهم هذا الكفور الذي لا رحمة له الغادر بأليفه وأخيه. ثم وثب في شدة حنقه على وجه الغلام ففقأ عينه، وطار فوقع على شرفة المنزل. ثم إنه بلغ الملك ذلك، فجزع أشد الفزع، ثم طمع أن يحتال له فوقف قريباً منه وناداه وقال له: إنك آمن فنزل يا فنزة. فقال له: أيها الملك إن الغادر مأخوذ بغدره وإنه إن أخطأه عاجل العقوبة لم يخطئه الآجل حتى إنه يدرك الأعقاب وأعقاب الأعقاب وإن ابنك غدر بابني، فعجلت له العقوبة. قال الملك: لعمري قد غدرنا بابنك، فانتقمت منا: فليس لك قبلنا ولا لنا قبلك وتر مطلوب. فارجع إلينا آمناً. قال فنزة: لست براجع إليك أبداً فإن ذوي الرأي قد نهوا عن قرب الموتور فإنه لا يزيدك لطف الحقود ولينه وتكرمه إياك إلا وحشة منه، وسوء ظن به: فإنك لا تجد للحقود الموتور أماناً هو أوثق لك من الذعر منه ولا أجود من البعد عنه ولأحترس منه أولى. وقد كان يقال: إن العاقل يعد أبويه أصدقاء والأخوة رفقاء والأزواج ألفاء والبنين ذكراً، والبنات خصماء والأقارب غرماء ويعد نفسه فريداً. وأنا الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت من عنكم من الحزن عبئاً ثقيلاً لا يحمله معي أحد. وأنا ذاهب. فعليك مني السلام.
قال الملك: إنك لو لم تكن اجتزيت منا فيما صنعناه بك، بل كان صنيعك بنا من غير ابتداء منا بالغدر كان الأمر كما ذكرت. وأما إذا كنا نحن بدأناك، فما ذنبك؟ وما الذي يمنعك من الثقة بنا؟ هلم فارجع: فإنك آمن. قال فنزة: اعلم أن الأحقاد لها في القلوب مواقع ممكنة موجعة. فالألسن لا تصدق في خبرها عن القلوب، والقلب أعدل شهادة من اللسان على القلب. وقد علمت أن قلبي لا يشهد للسانك، ولا قلبك للساني. قال الملك: ألم تعلم أن الضغائن ولأحقاد تكون بين كثير من الناس: فمن كان ذا عقل كان على إماتة الحقد أحرص منه على تربيته. قال فنزة: إن ذلك لكما ذكرت، ولكن ليس ينبغي لذي الرأي مع ذلك أن يظن أن الموتور الحقود ناس ما وتر به، مصروف عنه فكره فيه. وذو الرأي يتخوف المكر والخديعة والحيل ويعلم أن كثيراً من العدو لا يستطاع بالشدة والمكابرة، حتى يصاد بالرفق والملاينة، كما يصاد الفيل الوحشي بالفيل الداجن. قال الملك: إن العاقل الكريم لا يترك إلفه، ولا يقطع إخوانه ولا يضيع الحفاظ، وإن هو خاف على نفسه، حتى إن هذا الخلق يكون قي أوضع الدواب منزلة: فقد علمت أن اللعابين يلعبون بالكلاب، ثم يذبحونها ويأكلونها. ويرى
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 51
رد: (( كليلة ودمنة ))
الكلب الذي قد ألفهم ذلك، فلا يدعوه إلى مفارقتهم، ولا يمنعه من إلفته إياهم. قال فنزة: إن الأحقاد مخوفة حيثما كانت. فأخوفها وأشدها ما كان في أنفس الملوك: فإن الملوك يدينون بالانتقام، ويرون الدرك والطلب بالوتر مكرمة وفخراً. وإن العاقل لا يغتر بسكون الحقد إذا سكن فإنما مثل الحقد في القلب، إذا لم يجد محركاً، مثل الجمر المكنون، ما لم سجد حطباً، فليس ينفك القد متطلعاً إلى العلل، كما تبتغي النار الحطب فإذا وج علة استعر استعار النار، فلا يطفئه حسن كلام، ولا لين ولا رفق ولا خضوع ولا تضرع ولا مصانعة، ولا شيء دون تلف الأنفس. مع أنه رب واتر يطمع في مراجعة الموتور بما يرجو أن يقدر عليه من النفع له، والدفع عنه. ولكني أنا أضعف عن أن أقدر على شيء يذهب به ما في نفسك. ولو كانت نفسك منطوية لي على ما تقول ما كان ذلك عني مغنياً ولا أزل في خوف ووحشة وسوء ظن، ما اصطحبنا. فليس الرأي بيني وبينك إلا الفراق. وأنا أقرأ عليك السلام.
قال الملك: لقد علمت أنه لا يستطيع أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، وأنه لا شيء من الأشياء صغيراً ولا كبيراً يصيب أحد ألا بقضاء وقدر معلوم. وكما أن خلق ما يخلق، وولادة ما يولد، وبقاء ما يبقى ليس إلى الخلائق منه شئ، كذلك فناء ما يفنى وهلاك ما يهلك. وليس لك في الذي صنعت بابني ذنب، ولا لا بني فيما صنع بابنك ذنب. إنما كان ذلك كله قدراً مقدوراً، وكلانا له علة: فلا نوأخذ بما به القدر. قال فنزة: إن القدر لكما ذكرت، لكن لا يمنع ذلك الحازم من توقى المخاوف، والاحتراس من المكاره. ولمنه يجمع تصديقاً بالقدر وأخذاً بالحزم والقوة. وأنا أعلم أنك تكلمني بغير ما في نفسك. والأمر بيني وبينك غير صغير: لأن ابنك قتل ابني، وأنا فقأت عين ابنك، وأنت تريد أن تشتفي بقتلي، وتخلني عن نفسي، والنفس تأبى الموت. وقد كان يقال: الفاقة بلاء والحزن بلاء وقرب العدو بلاء وفراق الأحبة بلاء والسقم بلاء والهرم بلاء، ورأس البلايا كلها الموت. وليس أحد بأعلم بما في نفس الموجع الحزين ممن ذاق مثل ما به. فأنا بما في نفسي عالم بما نفسك: للمثل الذي عندي من ذلك. ولا خير لي في صحبتك: فإنك لن تتذكر صنيعي بابنك، ولن أتذكر صنيع ابنك بابني، إلا أحدث ذلك لقلوبنا تغييراً.
قال الملك: لا خير فيمن لا يستطيع الإعراض عما في نفسه، وينساه ويهمله، حتى لا بذكر منه شيئاً، ولا يكون له في نفسه موقع. قال فنزة: إن الرجل الذي في باطن قدمه قرحة، إن هو حرص على المشي فلا بد أنه لا يزال يشتكي قرحته، والرجل الأرمد العين إذا استقبل بها الريح، تعرض لأن تزداد رمداً. وكذلك الواتر إذا دنا من الموتور، فقد عرض نقسه للهلاك. ولا ينبغي لصاحب الدنيا إلا توقي المهالك والمتالف، وتقدير الأمور وقلة الاتكال على الحول والقوة، وقلة الاغترار بمن لا يأمن: فإنه من اتكل على قوته، فحمله ذلك على أن يسك الطريق المخوف، فقد سعى في حتف نفسه. ومن لا يقدر لطاقته طعامه وشرابه وحمل نفسه ما لا تطيق ولا تحمل فقد قتل نفسه. ومن لا يقدر لقمته، وعظمها فوق ما يسع فوه، فربما غص بها فمات. ومن اغتر بكلام عدوه، وانخدع له وضيع الحزم، فهو أعدى الحزم لنفسه من عدوه. وليس لأحد النظر في القدر الذي لا يدري ما يأتيه منه ولا ما يصرف عنه، ولكن عليه العمل بالحزم والأخذ بالقوة ومحاسبة نفسه في ذلك. والعاقل لا يثق بأحد ما استطاع، ولا يقيم على خوف وهو يجد عنه مذهباً. وأنا كثير المذاهب وأرجو ألا أذهب وجهاً ألا أصبت فيه مت يغنيني: فإن خلالاً خمساً من تزودهن كفينه في كل وجه، وآنسنه في غربة، وقربن له البعيد، وأكسبنه المعاش الإخوان: أولهن كف الأذى والثانية حسن الأدب، والثالثة مجانبة الريب والرابعة كرم الخلق، والخامسة النبل في العمل. وإذا خاف الإنسان على نفسه شيئاً طابت نفسه عن المال والأهل والولد والوطن: فإنه يرجو الخلف من ذلك كله ولا يرجو عن النفس خلفاً. وشر المال ما لا إنفاق منه وشر الأزواج التي لا تواتي بعلها، وشر الولد العاصي العاق لوالديه وشر الإخوان الخاذل لأخيه عند النكبات والشدائد، وشر الملوك الذي يخافه البريء، ولا يواظب على حفظ أهل مملكته، وشر البلاد بلاد بلا خصب فيها ولا أمن، وإنه لا أمن لي عندك أيها الملك ولا طمأنينة لي في جوارك. وثم ودع الملك وطار. فهذا مثل ذوي الأوتار الذين لا ينبغي لبعضهم أن يثق ببعض.
قال الملك: لقد علمت أنه لا يستطيع أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، وأنه لا شيء من الأشياء صغيراً ولا كبيراً يصيب أحد ألا بقضاء وقدر معلوم. وكما أن خلق ما يخلق، وولادة ما يولد، وبقاء ما يبقى ليس إلى الخلائق منه شئ، كذلك فناء ما يفنى وهلاك ما يهلك. وليس لك في الذي صنعت بابني ذنب، ولا لا بني فيما صنع بابنك ذنب. إنما كان ذلك كله قدراً مقدوراً، وكلانا له علة: فلا نوأخذ بما به القدر. قال فنزة: إن القدر لكما ذكرت، لكن لا يمنع ذلك الحازم من توقى المخاوف، والاحتراس من المكاره. ولمنه يجمع تصديقاً بالقدر وأخذاً بالحزم والقوة. وأنا أعلم أنك تكلمني بغير ما في نفسك. والأمر بيني وبينك غير صغير: لأن ابنك قتل ابني، وأنا فقأت عين ابنك، وأنت تريد أن تشتفي بقتلي، وتخلني عن نفسي، والنفس تأبى الموت. وقد كان يقال: الفاقة بلاء والحزن بلاء وقرب العدو بلاء وفراق الأحبة بلاء والسقم بلاء والهرم بلاء، ورأس البلايا كلها الموت. وليس أحد بأعلم بما في نفس الموجع الحزين ممن ذاق مثل ما به. فأنا بما في نفسي عالم بما نفسك: للمثل الذي عندي من ذلك. ولا خير لي في صحبتك: فإنك لن تتذكر صنيعي بابنك، ولن أتذكر صنيع ابنك بابني، إلا أحدث ذلك لقلوبنا تغييراً.
قال الملك: لا خير فيمن لا يستطيع الإعراض عما في نفسه، وينساه ويهمله، حتى لا بذكر منه شيئاً، ولا يكون له في نفسه موقع. قال فنزة: إن الرجل الذي في باطن قدمه قرحة، إن هو حرص على المشي فلا بد أنه لا يزال يشتكي قرحته، والرجل الأرمد العين إذا استقبل بها الريح، تعرض لأن تزداد رمداً. وكذلك الواتر إذا دنا من الموتور، فقد عرض نقسه للهلاك. ولا ينبغي لصاحب الدنيا إلا توقي المهالك والمتالف، وتقدير الأمور وقلة الاتكال على الحول والقوة، وقلة الاغترار بمن لا يأمن: فإنه من اتكل على قوته، فحمله ذلك على أن يسك الطريق المخوف، فقد سعى في حتف نفسه. ومن لا يقدر لطاقته طعامه وشرابه وحمل نفسه ما لا تطيق ولا تحمل فقد قتل نفسه. ومن لا يقدر لقمته، وعظمها فوق ما يسع فوه، فربما غص بها فمات. ومن اغتر بكلام عدوه، وانخدع له وضيع الحزم، فهو أعدى الحزم لنفسه من عدوه. وليس لأحد النظر في القدر الذي لا يدري ما يأتيه منه ولا ما يصرف عنه، ولكن عليه العمل بالحزم والأخذ بالقوة ومحاسبة نفسه في ذلك. والعاقل لا يثق بأحد ما استطاع، ولا يقيم على خوف وهو يجد عنه مذهباً. وأنا كثير المذاهب وأرجو ألا أذهب وجهاً ألا أصبت فيه مت يغنيني: فإن خلالاً خمساً من تزودهن كفينه في كل وجه، وآنسنه في غربة، وقربن له البعيد، وأكسبنه المعاش الإخوان: أولهن كف الأذى والثانية حسن الأدب، والثالثة مجانبة الريب والرابعة كرم الخلق، والخامسة النبل في العمل. وإذا خاف الإنسان على نفسه شيئاً طابت نفسه عن المال والأهل والولد والوطن: فإنه يرجو الخلف من ذلك كله ولا يرجو عن النفس خلفاً. وشر المال ما لا إنفاق منه وشر الأزواج التي لا تواتي بعلها، وشر الولد العاصي العاق لوالديه وشر الإخوان الخاذل لأخيه عند النكبات والشدائد، وشر الملوك الذي يخافه البريء، ولا يواظب على حفظ أهل مملكته، وشر البلاد بلاد بلا خصب فيها ولا أمن، وإنه لا أمن لي عندك أيها الملك ولا طمأنينة لي في جوارك. وثم ودع الملك وطار. فهذا مثل ذوي الأوتار الذين لا ينبغي لبعضهم أن يثق ببعض.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 52
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب الأسد والشغبر الناسك وهو ابن آوى
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي مثل الملك الذي يراجع من أصابته منه عقوبة من غير جرم أو جفوة من غير ذنب. قال الفيلسوف: إن الملك لو لم يراجع من أصابته منه جفوة عن ذنب أو عن غير ذنب، ظلم أولم يظلم لأضر ذلك ويخبر ما عنده من المنافع فإن كان ممن يوثق به في رأيه وأمانته، فإن الملك حقيق بالحرص على مراجعته: فإن الملك لا يستطاع ضبطه إلا مع ذوي الرأي وهم الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا مودة ولا نصيحة إلا لذوي الرأي والعفاف. وأعمال السلطان كثيرة، والذين يحتاج إليهم من العمال والأعوان كثيرون. ومن يجمع منهم ما ذكرت من النصيحة والعفاف قليل. والمثل في ذلك مثل الأسد وابن آوى. قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أن ابن آوى كان يسكن في بعض الدحال وكان متزهداً متعففاً، مع بنات آوى وذئاب وثعالب. ولم يكن يصنع ما يصنعن، ولا يغير كما يغرن، ولا يهريق دماً ولا يأكل لحماً. فخاصمه تلك السباع، وقلن لا نرضى بسيرتك و لا رأيك الذي أنت عليه من تزهدك: مع أن تزهدك لا يغني عنك شيئاً. وأنت لا تستطيع أن تكون إلا كأحدنا: تسعى معنا، وتفعل فعلنا فما الذي كفك عن الدماء وعن أكل اللحم؟ قال ابن آوى: إن صحبتي إياكن لا تؤثمني إذا لم أؤثم نفسي: لأن الآثام ليست من قبل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قبل القلوب والأعمال. ولو كان صاحب المكان الصالح يكون عمله فيه صالحاً، وصاحب المكان السيء يكون عمله فيه سيئاً، كان حينئذ من قتل الناسك في محرابه لم يأثم، ومن استحياه في معركة القتال أثم. وإني إنما صحبتكن بنفسي، ولم أصحبكن بقلبي وأعمالي: لأني أعرف ثمرة الأعمال: فلزمت حالي: وثبت ابن آوى على حاله تلك واشتهر بالنسك والتزهد حتى بلغ ذلك أسداً كان ملك تلك الناحية فرغب فيه: لما بلغه عنه من العفاف والنزاهة والزهد والأمانة فأرسل إليه يستدعيه. فلما حضر كلمه وآنسه فوجده في جميع الأمور وفق غرضه. ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته وقال له: تعلم أن عمالي كثير وأعواني جم غفير وأنا مع ذلك إلى الأعوان محتاج. وقد بلغني عنك عفاف وأدب وعقل ودين فازددت فيك رغبة. وأنا موليك من عملي جسيماً ورافعك إلى منزلة شريفة وجاعلك من خاصتي. قال ابن آوى: إن الملوك أحقاء باختيار الأعوان فيما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم. وهم أحرى ألا يكرهوا على ذلك أحداً: فإن المكره لا يستطيع البالغة في العمل. وإني لعمل السلطان كاره. وليس لي به تجربة ولا بالسلطان رفق. وأنت ملك السباع وعندك من أجناس الوحوش عدد كثير فيهم أهل نبل وقوة ولهم على العمل حرص وعندهم به وبالسلطان رفق: فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا لأنفسهم بما أصابهم من ذلك. قال الأسد: دع عنك هذا: فإني غير معفيك من العمل. قال ابن آوى: إنما يستطيع خدمة السلطان رجلان لست بواحد منهما: إما فاجر مصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته وإما مغفل لا يحسده أحد. فن أراد أن يخدم السلطان بالصدق والعفاف فلا يخلط ذلك بمصانعته وحينئذ قل أن يسلم على ذلك: لأنه يجتمع عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد. أما الصديق فينافسه في منزلته ويبغى عليه فيها ويعاديه لأجلها وأما عدو السلطان فيضطغن عليه لنصيحته لسلطانه وإغنائه
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي مثل الملك الذي يراجع من أصابته منه عقوبة من غير جرم أو جفوة من غير ذنب. قال الفيلسوف: إن الملك لو لم يراجع من أصابته منه جفوة عن ذنب أو عن غير ذنب، ظلم أولم يظلم لأضر ذلك ويخبر ما عنده من المنافع فإن كان ممن يوثق به في رأيه وأمانته، فإن الملك حقيق بالحرص على مراجعته: فإن الملك لا يستطاع ضبطه إلا مع ذوي الرأي وهم الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا مودة ولا نصيحة إلا لذوي الرأي والعفاف. وأعمال السلطان كثيرة، والذين يحتاج إليهم من العمال والأعوان كثيرون. ومن يجمع منهم ما ذكرت من النصيحة والعفاف قليل. والمثل في ذلك مثل الأسد وابن آوى. قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أن ابن آوى كان يسكن في بعض الدحال وكان متزهداً متعففاً، مع بنات آوى وذئاب وثعالب. ولم يكن يصنع ما يصنعن، ولا يغير كما يغرن، ولا يهريق دماً ولا يأكل لحماً. فخاصمه تلك السباع، وقلن لا نرضى بسيرتك و لا رأيك الذي أنت عليه من تزهدك: مع أن تزهدك لا يغني عنك شيئاً. وأنت لا تستطيع أن تكون إلا كأحدنا: تسعى معنا، وتفعل فعلنا فما الذي كفك عن الدماء وعن أكل اللحم؟ قال ابن آوى: إن صحبتي إياكن لا تؤثمني إذا لم أؤثم نفسي: لأن الآثام ليست من قبل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قبل القلوب والأعمال. ولو كان صاحب المكان الصالح يكون عمله فيه صالحاً، وصاحب المكان السيء يكون عمله فيه سيئاً، كان حينئذ من قتل الناسك في محرابه لم يأثم، ومن استحياه في معركة القتال أثم. وإني إنما صحبتكن بنفسي، ولم أصحبكن بقلبي وأعمالي: لأني أعرف ثمرة الأعمال: فلزمت حالي: وثبت ابن آوى على حاله تلك واشتهر بالنسك والتزهد حتى بلغ ذلك أسداً كان ملك تلك الناحية فرغب فيه: لما بلغه عنه من العفاف والنزاهة والزهد والأمانة فأرسل إليه يستدعيه. فلما حضر كلمه وآنسه فوجده في جميع الأمور وفق غرضه. ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته وقال له: تعلم أن عمالي كثير وأعواني جم غفير وأنا مع ذلك إلى الأعوان محتاج. وقد بلغني عنك عفاف وأدب وعقل ودين فازددت فيك رغبة. وأنا موليك من عملي جسيماً ورافعك إلى منزلة شريفة وجاعلك من خاصتي. قال ابن آوى: إن الملوك أحقاء باختيار الأعوان فيما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم. وهم أحرى ألا يكرهوا على ذلك أحداً: فإن المكره لا يستطيع البالغة في العمل. وإني لعمل السلطان كاره. وليس لي به تجربة ولا بالسلطان رفق. وأنت ملك السباع وعندك من أجناس الوحوش عدد كثير فيهم أهل نبل وقوة ولهم على العمل حرص وعندهم به وبالسلطان رفق: فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا لأنفسهم بما أصابهم من ذلك. قال الأسد: دع عنك هذا: فإني غير معفيك من العمل. قال ابن آوى: إنما يستطيع خدمة السلطان رجلان لست بواحد منهما: إما فاجر مصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته وإما مغفل لا يحسده أحد. فن أراد أن يخدم السلطان بالصدق والعفاف فلا يخلط ذلك بمصانعته وحينئذ قل أن يسلم على ذلك: لأنه يجتمع عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد. أما الصديق فينافسه في منزلته ويبغى عليه فيها ويعاديه لأجلها وأما عدو السلطان فيضطغن عليه لنصيحته لسلطانه وإغنائه
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 53
رد: (( كليلة ودمنة ))
عنه. فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهلاك. قال الأسد: لا يكونن بغي أصحابي عليك وحسدهم إياك مما يعرض في نفسك: فأنت معي وأنا أكفيك ذلك وأبلغ بك من درجات الكرامة والإحسان على قدر همتك. قال ابن آوى: إن كان الملك يريد الإحسان إلي فليدعني في هذه البرية أعيش آمناً قليل الهم راضياً بعيشي من الأذى والخوف في ساعة واحدة ما لا يصل إلى غيره في طول عمره وإن قليلاً من العيش في آمن وطمأنينة خير من كثير من العيش في خوف ونصب. قال الأسد: قد سمعت مقالتك، فلا تخف شيئاً مما أراك تخاف منه. وست أجد بداً من الاستعانة بك في أمري. قال ابن آوى : أنا إذا أبى الملك إلا ذلك فليعجل لي عهداً إن بغى على أحد من أصحابه عنده، ممن هو فوقي: مخافة على منزلته، أو ممن هو دون: لينازعني في منزلتي فذكر عند الملك منهم ذاكر بلسانه، أو على لسان غيره ما يريد به تحميل الملك على ألا يعجل في أمر وأن يتثبت فيما يرفع إليه ويذكر عنده من ذلك ويفحص عنه ثم ليصنع ما بدا له. فإذا وثقت منه بذلك أعنته بنفسي فيما يحب وعملت له فيما أولاني بنصيحة واجتهاد وحرصت على ألا أجعل له على نفسي سبيلاً. قال الأسد: لك ذلك على وزيادة. ثم ولاه خزائنه واختص به دون أصحابه وزاد في كرامته. فلما رأى أصحاب الأسد ذلك غاظهم وساءهم؟ فأجمعوا كيدهم، واتفقوا كلهم على أن يحملوا عليه الأسد وكلن الأسد قد استطاب لحماً فعزل منه مقدراً، وأمره بالاحتفاظ به، وأن يرفعه في أحصن موضع طعامه وحملوه إلى بيت ابن آوى، فخبئوه فيه، ولا علم له به، ثم حضروا يكذبونه إن جرت في ذلك حال. فلما كان من الغد ودعا الأسد بغدائه، فقد ذلك اللحم، فالتمسه ولم يجده، وابن آوى لم يشعر بما صنع في حقه من المكيدة. فحضر الذين عملوا المكيدة، وقعدوا في المجلس. ثم إن الملك سأل عن اللحم، وشدد فيه، وقي المسألة عنه، فنظر بعضهم إلى بعض، فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بد لنا من أن نخبر الملك بما يضره وينفعه، وإن شق ذلك على من يشق عليه. وإنه بلغني أن ابن آوى هو الذي ذهب باللحم إلى منزله. قال الآخر: لا أراه يفعل هذا، ولكن انظروا وفحصوا فإن معرفة الخلائق شديدة. فقال الآخر: لعمري ما تكاد السرائر تعرف، وأظنكم إن فحصتم عن هذا وجدتم اللحم ببيت ابن آوى، وكل شيء يذكر من عيوبه وخيانته نحن أحق أن نصدقه. قال الآخر: لئن وجدنا هذا حقاً فليست بالخيانة فقط، ولكن مع الخيانة كفر النعمة، والجراءة على الملك. قال الآخر: أنتم أهل العدل والفضل، لا أستطيع أن أكذبكم، ولكن سيبين هذا لو أرسل إلى الملك من يفتشه. قال الآخر: إن كان الملك مفتشاً منزله فليعجل: فإن عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان. ولم يزالوا في الكلام و أشباهه، حتى وقع في نفس الأسد ذلك، فأمر بابن آوى فحضر فقال له: أين اللحم الذي أمرتك بالاحتفاظ به، قال: دفعته إلى صاحب الطعام ليقربه إلى الملك. فدعا الأسد بصاحب الطعام، وكان ممن وبايع مع القوم على ابن آوى. فقال: ما دفع إلى شيئاً. فأرسل الأسد أميناً إلى بيت ابن آوى ليفتشه، فوجد فيه ذلك اللحم، فأتى به الأسد. فدنا من الأسد ذئب لم يكن تكلم في شيء من ذلك. وكان يظهر أنه من العدول الذين لا يتكلمون فيما لا يعلمون، حتى يتبين لهم الحق. فقال: بعد أن اطلع الملك على خيانة ابن آوى فلا يعفونَّ عنه: فإنه إن عفا عنه لم يطلع الملك بعدها على خيانة خائن، ولا ذنب مذنب. فأمر الأسد بابن آوى أن يخرج، ويحتفظ به. فقال بعض جلساء الملك: إني لأعجب من رأي الملك ومعرفته بالأمور كيف يخفى عليه أمر هذا، ولم يعرف خبثه ومخادعته؟ وأعجب من هذا أني أراه سيصفح عنه، بعد الذي ظهر منه. فأرسل الأسد بعضهم رسولاً إلى ابن آوى يلتمس منه العذر، فرجع إليه الرسول برسالة كاذبة اخترعها فغضب الأسد من ذلك وأمر بابن آوى أن يقتل. فعلمت أم الأسد أنه قد عجّل في أمره، فأرسلت إلى الذين أمروا بقتله
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 54
رد: (( كليلة ودمنة ))
أن يؤخروه، ودخلت على ابنها، فقالت: يا بني بأي ذنب أمرت بقتل ابن آوى؟ فأخبرها بالأمر. فقالت: يا بنيَّ عجّلت. وإنما يسلم العاقل من الندامة بترك العجلة وبالتثبت. والعجلة لا يزال صاحبها يجتني ثمرة الندامة، بسبب ضعف الرأي. وليس أحد أحوج إلى التُّؤدة والتثبت من الملوك: فإن المرأة بزوجها، والولد بوالديه، والمتعلم بالمعلم والجند بالقائد، والناسك بالدين، والعامة بالملوك، والملوك بالتقوى، والتقوى بالعمل، والعقل بالتثبت والأناة، ورأس الكل الحزم، ورأس الحزم للملك معرفة أصحابه، وإنزالهم منازلهم على طبقاتهم، واتهامه بعضهم على بعض. فإنه لو وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلاً لفعل. وقد جربت ابن آوى، وبلوت رأيه وأمانته ومروءته، ثم لم تزل مادحاً له راضياً عنه. وليس ينبغي للملك أن يخوّنه بعد ارتضائه إياه وائتمانه له، ومنذ مجيئه إلى الآن لم يطلع له على خيانة إلا على العفة والنصيحة. وما كان رأي الملك أن يعجل عليه لأجل طابق لحم. وأنت أيها الملك حقيق أن تنظر في حال ابن آوى: لتعلم أنه لم يكن ليتعرّض للحم استودعته إياه. ولعل الملك إن فحص عن ذلك ظهر له أن ابن آوى له خصماء هم الذين أتمروا بهذا الأمر. وهم الذين ذهبوا باللحم إلى بيته فوضعوه فيه: فإن الحدأة إذا كان في رجلها قطعة لحم اجتمع عليها سائر الطير، والكلب إذا كان معه عظم اجتمع عليه الكلاب. وابن آوى منذ كان إلى اليوم نافع، وكان محتملاً لكل ضرر في جنب منفعة تصل إليك، ولكل عناء يكون لك فيه راحة، ولم يطوى دونك سراً.
فبينما أم الأسد تقص عليه هذه المقالة، إذ دخل على الأسد بعض ثقاته، فأخبره ببراءة ابن آوى. فقالت أم الأسد، بعد أن اطلع الملك على براءة ابن آوى: إن الملك حقيق ألا يرخّص لمن سعى به لئلا يتجرءوا إلى ما هو أعظم من ذلك بل يعاقبهم عليه لكي لا يعودوا إلى مثله: فأنه لا ينبغي للعاقل أن يراجع في أمر الكفور للحسنى، الجريء على الغدر، الزاهد في الخير الذي لا يوقن بالآخرة. وينبغي أن يجزى بعمله، وقد عرفت سرعة الغضب وفرط الهفوة، ومن سخط باليسير لم يبلغ رضاه بالكثير. والأولى لك أن تراجع ابن آوى، وتعطف عليه، ولا يوئسنك من مناصحته ما فرط منك إليه من الإساءة: فإن من الناس من لا ينبغي تركه على حال من الأحوال، وهو من عرف بالصلاح والكرم وحسن العهد والشكر والوفاء والمحبة للناس والسلامة من الحسد والبعد من الأذى والاحتمال للإخوان والأصحاب وإن ثقلت عليه منه المئونة. وأما من ينبغي تركه فهو من عرف بالشراسة ولؤم العهد وقلة الشكر والوفاء والبعد من الرحمة والورع، واتصف بالجحود لثواب الآخرة وعقابها. وقد عرفت ابن آوى وجربته وأنت حقيق بمواصلته. فدعى الأسد بابن آوى وأعتذر إليه مما كان منه ووعده خيراً، وقال: إني معتذر إليك ورادّك إلى منزلتك. فقال ابن آوى: إن شر الأخلاء من التمس منعة نفسه بضر أخيه، ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه، أو كان يريد أن يرضيه بغير الحق لأجل إتباع هواه. وكثيراً ما يقع ذلك بين الأخلاء. وقد كان من الملك إلى ما علم فلا يغلظن على نفسه ما اخبره به إني به غير واثق، وإنه لا ينبغي لي أن أصحبه: فإن الملوك لا ينبغي أن يصحبوا من عاقبوه أشد العقاب، ولا ينبغي لهم أن يرفضوه أصلاً: فإن ذا السلطان إذا عزل كان مستحقاً للكرامة في حالة إبعاده والإقصاء له. فلم يلتفت الأسد إلى كلامه. ثم قال له: إني قد بلوت طباعك وأخلاقك، وجربت أمانتك ووفاءك وصدقك، وعرفت كذب من تمحّل الحيلة لتحملي عليك. وإني منزلك من نفسي منزلة الأخيار الكرماء، والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان، الخلال الكثيرة من الإساءة. وقد عدنا إلى الثقة بك، فعد إلى الثقة بنا: فإن لنا ولك بذلك غطة وسروراً. فعاد ابن آوى إلى ولاية ما كان يلي، وضاعف له الملك الكرامة، ولم تزده الأيام إلا تقرباً من السلطان.
فبينما أم الأسد تقص عليه هذه المقالة، إذ دخل على الأسد بعض ثقاته، فأخبره ببراءة ابن آوى. فقالت أم الأسد، بعد أن اطلع الملك على براءة ابن آوى: إن الملك حقيق ألا يرخّص لمن سعى به لئلا يتجرءوا إلى ما هو أعظم من ذلك بل يعاقبهم عليه لكي لا يعودوا إلى مثله: فأنه لا ينبغي للعاقل أن يراجع في أمر الكفور للحسنى، الجريء على الغدر، الزاهد في الخير الذي لا يوقن بالآخرة. وينبغي أن يجزى بعمله، وقد عرفت سرعة الغضب وفرط الهفوة، ومن سخط باليسير لم يبلغ رضاه بالكثير. والأولى لك أن تراجع ابن آوى، وتعطف عليه، ولا يوئسنك من مناصحته ما فرط منك إليه من الإساءة: فإن من الناس من لا ينبغي تركه على حال من الأحوال، وهو من عرف بالصلاح والكرم وحسن العهد والشكر والوفاء والمحبة للناس والسلامة من الحسد والبعد من الأذى والاحتمال للإخوان والأصحاب وإن ثقلت عليه منه المئونة. وأما من ينبغي تركه فهو من عرف بالشراسة ولؤم العهد وقلة الشكر والوفاء والبعد من الرحمة والورع، واتصف بالجحود لثواب الآخرة وعقابها. وقد عرفت ابن آوى وجربته وأنت حقيق بمواصلته. فدعى الأسد بابن آوى وأعتذر إليه مما كان منه ووعده خيراً، وقال: إني معتذر إليك ورادّك إلى منزلتك. فقال ابن آوى: إن شر الأخلاء من التمس منعة نفسه بضر أخيه، ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه، أو كان يريد أن يرضيه بغير الحق لأجل إتباع هواه. وكثيراً ما يقع ذلك بين الأخلاء. وقد كان من الملك إلى ما علم فلا يغلظن على نفسه ما اخبره به إني به غير واثق، وإنه لا ينبغي لي أن أصحبه: فإن الملوك لا ينبغي أن يصحبوا من عاقبوه أشد العقاب، ولا ينبغي لهم أن يرفضوه أصلاً: فإن ذا السلطان إذا عزل كان مستحقاً للكرامة في حالة إبعاده والإقصاء له. فلم يلتفت الأسد إلى كلامه. ثم قال له: إني قد بلوت طباعك وأخلاقك، وجربت أمانتك ووفاءك وصدقك، وعرفت كذب من تمحّل الحيلة لتحملي عليك. وإني منزلك من نفسي منزلة الأخيار الكرماء، والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان، الخلال الكثيرة من الإساءة. وقد عدنا إلى الثقة بك، فعد إلى الثقة بنا: فإن لنا ولك بذلك غطة وسروراً. فعاد ابن آوى إلى ولاية ما كان يلي، وضاعف له الملك الكرامة، ولم تزده الأيام إلا تقرباً من السلطان.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 55
رد: (( كليلة ودمنة ))
باب إيلاذ وبلاذ وايراخت
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثلاً في الأشياء التي يجب على الملك أن يلزم بها نفسه، ويحفظ ملكه ويثبت سلطانه، ويكون ذلك رأس أمره وملاكه: أبالحلم أم بالمروءة أم بالشجاعة أم بالجود؟ قال بيدبا: إن أحق ما يحفظ به الملك ملكه الحلم، وبه تثبت السلطنة، والحلم رأس الأمور وملاكها، وأجود ما كان في الملوك: كالذي زعموا من أنه كان ملك يدعى بلاذ، وكان له وزير يدعى إيلاذ. وكان متعبداً ناسكاً. فنام الملك ذات ليلة، فرأى في منامه ثمانية أحلام أفزعته، فاستيقظ مرعوباً. فدعا البراهمة، وهم النسّاك ليعبروا رؤياه. فلما حضروا بين يديه قص عليهم ما رأى. فقالوا بأجمعهم: لقد رأى الملك عجباً فإن أمهلتنا سبعة أيام جئناه بتأويله. قال الملك: قد أمهلتكم فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وأتمروا بينهم. وقالوا: قد وجدتم علماً واسعاً تدركون به ثأركم و تنقمون به من عدوكم، وقد علمتم أنه قتل منا بالأمس اثنى عشر ألفا. وها هو قد أطلعنا على سره وسألناه تفسير رؤياه: فهلم نغلظ له القول ونخوفه حتى يحمله الفرق والجزع على أن يفعل الذي نريد ونأمر. فنقول: ادفع إلينا أحباءك ومن يكرم عليك حتى نقتلهم: فإن قد نظرنا في كتابنا فلم نر أن يدفع عنك ما رأيت لنفسك وما وقعت فيه من هذا للشر إلا بقتل من نسمي لك فإن قال الملك: وما تريدون أن تقتلوا؟ سموهم لي. قلنا نريد الملكة ايراخت أم جوير المحمودة أكرم نسائك عليك. ونريد جوير أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك. ونريد ابن أخيك الكريم، وإيلاذ خليلك وصاحب أمرك. ونريد كالا الكاتب صاحب سرك وسيفك الذي لا يوجد مثله والفيل الأبيض الذي لا تلحقه الخيل والفرس الذي هو مركبك في القتال. ونريد الفيلين الآخرين العظيمين الذين يكونان مع الفيل الذكر. ونريد البختي السريع القوي. ونريد كباريون الحكيم الفاضل العالم بالأمور لننتقم منه بما فعل بنا. ثم نقول: إنما ينبغي لك أيها الملك أن تقتل هؤلاء الذين سميناهم لك، ثم تجعل دماءهم في حوض تملؤه، ثم تقعد فيه. فإذا خرجت من الحوض اجتمعنا نحن معاشر البراهمة من الآفاق الأربعة نجول حولك فنرقيك ونتفل عليك ونمسح عنك الدم ونغسلك بالماء والدهن الطيب. ثم تقوم إلى منزلك البهيّ فيدفع الله بذلك البلاء الذي نتخوفه عليك. فإن صبرت، أيها الملك، وطابت نفسك عن أحبائك الذين ذكرنا لك، وجعلتهم فداءك، تخلصت من البلاء، واستقام لك ملكك وسلطانك، واستخلفت من بعدهم من أحببت. وإن أنت لم تفعل
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 56
رد: (( كليلة ودمنة ))
تخوّفنا عليك أن يغضب ملكك أو تهلك. فإن هو أطاعنا فيما نأمره قتلناه أي قتلة شئنا. فلما أجمعوا على ما أتمروا به رجعوا إليه في اليوم السابع. وقالوا له: أيها الملك، إنّا نظرنا في كتبنا في تفسير ما رأيت، وفحصنا عن الرأي فيما بيننا. فلتكن لك أيها الملك الطاهر الصالح الكرامة. ولسنا نقدر أن نعلمك بما رأينا إلا أن تخلو بنا. فأخرج الملك من كان عنده وخلا بهم. فحدثوا بالذي ائتمروا به. فقال لهم: الموت خير لي من الحياة إن أنا قتلت هؤلاء الذين هم عديل نفسي. وأنا ميت لا محالة، والحياة قصيرة، ولست كل الدهر ملكاً، وإن الموت عندي وفراق الأحباء سواء. قال له البراهمة: إن أنت لم تغضب أخبرناك. فأذن لهم.
فقالوا: أيها الملك إنك لم تقل صواباً حين تجعل نفس غيرك أعز عندك من نفسك. فاحتفظ بنفسك وملكك. واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقين. وقرّ عيناً بملكك في وجوه أهل مملكتك الذين شرفت وكرمت بهم. ولا تدع الأمر العظيم وتأخذ بالضعيف فتهلك نفسك إيثاراً لمن تحب. واعلم أيها الملك أن الإنسان إنما يحب الحياة محبة لنفسه. وأنه لا يحب من أحب من الأحباء إلا ليتمتع بهم في حياته. وإنما قوام نفسك بعد الله تعالى بملكك. وإنك لم تنل ملكك إلا بالمشقة والعناء الكثير في الشهور والسنين. وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك. فاستمع كلامنا. فانظر لنفسك مناها، ودع ما سواها: فإنه لا خطر له. فلما رأى الملك أن البراهمة قد أغلظوا له في القول واجترءوا عليه في الكلام اشتد غمّه وحزنه. وقام من بين ظهرانيهم ودخل إلى حجرته فخرّ على وجهه يبكي ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من الماء، وجعل يقول في نفسه: ما أدري أي الأمرين أعظم في نفسي؟ المملكة أم قتل أحبائي؟ ولن أنال الفرح ما عشت. وليس ملكي بباق عليّ إلى الأبد. ولست بالمصيب سؤلي في ملكي. وإني لزاهد في الحياة إذا لم أرى إيراخت. وكيف أقدر على القيام بملكي إذا هلك وزيري إيلاذ؟ وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي الأبيض وفرسي الجواد؟ وكيف أدعى ملكاً وقد قتلت من أشار البراهمة بقتله؟ وما أصنع بالدنيا بعدهم؟ ثم إن الحديث فشا في الأرض بحزن الملك وهمّه. فلما رأى إيلاذ ما نال الملك من الهم والحزن فكّر بحكمته ونظر وقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك فأسأله عن هذا الأمر الذي قد ناله من غير أن يدعوني. ثم انطلق إلى إيراخت فقال: إني منذ خدمت الملك إلى الآن لم يعمل عملاً إلا بمشورتي ورأيي. وأراه يكتم عني أمراً لا أعلم ما هو. ولا أراه يظهر منه شيئاً. وإني رأيته خالياً مع الجماعة البرهميين منذ ليال. وقد احتجب عنّا فيها. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره. فلست آمنهم أن يشيروا عليه بما يضره ويدخل عليه منه السوء. فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه. واخبريني بما هو عليه وأعلميني: فإني لست أقدر على الدخول عليه. فلعلّ البرهميين قد زينوا له أمراً أو حملوه على خطة قبيحة. وقد علمت أن من خُلُقِ الملك أنه إذا غضب لا يسأل أحداً. وسواء عنده صغير الأمور وكبيرها.
فقالوا: أيها الملك إنك لم تقل صواباً حين تجعل نفس غيرك أعز عندك من نفسك. فاحتفظ بنفسك وملكك. واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقين. وقرّ عيناً بملكك في وجوه أهل مملكتك الذين شرفت وكرمت بهم. ولا تدع الأمر العظيم وتأخذ بالضعيف فتهلك نفسك إيثاراً لمن تحب. واعلم أيها الملك أن الإنسان إنما يحب الحياة محبة لنفسه. وأنه لا يحب من أحب من الأحباء إلا ليتمتع بهم في حياته. وإنما قوام نفسك بعد الله تعالى بملكك. وإنك لم تنل ملكك إلا بالمشقة والعناء الكثير في الشهور والسنين. وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك. فاستمع كلامنا. فانظر لنفسك مناها، ودع ما سواها: فإنه لا خطر له. فلما رأى الملك أن البراهمة قد أغلظوا له في القول واجترءوا عليه في الكلام اشتد غمّه وحزنه. وقام من بين ظهرانيهم ودخل إلى حجرته فخرّ على وجهه يبكي ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من الماء، وجعل يقول في نفسه: ما أدري أي الأمرين أعظم في نفسي؟ المملكة أم قتل أحبائي؟ ولن أنال الفرح ما عشت. وليس ملكي بباق عليّ إلى الأبد. ولست بالمصيب سؤلي في ملكي. وإني لزاهد في الحياة إذا لم أرى إيراخت. وكيف أقدر على القيام بملكي إذا هلك وزيري إيلاذ؟ وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي الأبيض وفرسي الجواد؟ وكيف أدعى ملكاً وقد قتلت من أشار البراهمة بقتله؟ وما أصنع بالدنيا بعدهم؟ ثم إن الحديث فشا في الأرض بحزن الملك وهمّه. فلما رأى إيلاذ ما نال الملك من الهم والحزن فكّر بحكمته ونظر وقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك فأسأله عن هذا الأمر الذي قد ناله من غير أن يدعوني. ثم انطلق إلى إيراخت فقال: إني منذ خدمت الملك إلى الآن لم يعمل عملاً إلا بمشورتي ورأيي. وأراه يكتم عني أمراً لا أعلم ما هو. ولا أراه يظهر منه شيئاً. وإني رأيته خالياً مع الجماعة البرهميين منذ ليال. وقد احتجب عنّا فيها. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره. فلست آمنهم أن يشيروا عليه بما يضره ويدخل عليه منه السوء. فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه. واخبريني بما هو عليه وأعلميني: فإني لست أقدر على الدخول عليه. فلعلّ البرهميين قد زينوا له أمراً أو حملوه على خطة قبيحة. وقد علمت أن من خُلُقِ الملك أنه إذا غضب لا يسأل أحداً. وسواء عنده صغير الأمور وكبيرها.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 57
رد: (( كليلة ودمنة ))
فقالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك بعض العتاب فلست بداخلة عليه بهذه الحال. فقال لها إيلاذ: لا تحملي عليه الحقد في مثل هذا. ولا يخطرنّ ذلك على بالك فليس يقدر على الدخول عليه أحد سواك. وقد سمعته كثيراً يقول: ما أشتد غمّي ودخلت عليّ إيراخت إلا سرِّى عني، فقومي إليه واصفحي عنه. وكلميه بما تعلمين أنه تطيب به نفسه ويذهب الذي يجده. وأعلميني بما يكون جوابه: فإنه لنا ولأهل المملكة أعظم الراحة. فانطلقت إيراخت فدخلت على الملك فجلست عند رأسه. فقالت: ما الذي بك أيها الملك المحمود؟ وما الذي سمعت من البراهمة؟ فإني أراك محزوناً. فأعلمني ما بك، فقد ينبغي لنا أن نحزن معك ونواسيك بأنفسنا. فقال الملك: أيتها السيدة لا تسأليني عن أمري فتزيديني غمّاً وحزناً: فإنه أمر لا ينبغي أن تسأليني عنه. قالت: أو قد نزلت عندك منزلة من يستحق هذا؟ إنما أحمد الناس عقلاً من إذا نزلت به النازلة كان لنفسه أشد ضبطاً، وأكثرهم استماعاً من أهل النصح حتى ينجو من تلك النازلة بالحيلة والعقل والبحث والمشاورة. فعظيم الذنب لا يقنط من الرحمة. ولا تدخلّن عليك شيئاً من الهم والحزن. فإنهما لا يردان شيئاً مقضياً. إلا أنهما ينحلان الجسم ويشفيان العدو. قال لها الملك: لا يسأليني عن شيء فقد شققت عليّ. والذي تسألينني عنه لا خير فيه: لأن عاقبته هلاكي وهلاكك وهلاك كثير من أهل مملكتي ومن هو عديل نفسي. وذاك أن البراهمة زعموا أنه لا بد من قتلك وقتل كثير من أهل مودتي. ولا خير في العيش بعدكم. وهل أحد يسمع بهذا إلا اعتراه الحزن؟. فلما سمعت ذلك إيراخت جزعت. ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعاً. فقالت: أيها الملك لا تجزع فنحن لك الفداء. ولك في سواي ومثلي من الجواري ما تقر به عينك. ولكني أطلب منك، أيها الملك، حاجة يحملني على طلبها حبي لك وإيثاري إياك. وهي نصيحتي لك. قال الملك: وما هي؟ قالت: أطلب منك أن لا تثق بعدها بأحد من البراهمة. ولا تشاورهم في أمر حتى تتثبت في أمرك. ثم تشاور فيه ثقاتك مراراً: فإن القتل أمر عظيم، ولست تقدر على أن تحيي من قتلت. وقد قيل في الحديث: إذا لقيت جوهراً لا خير فيه فلا تلقيه من يدك حتى تريه من يعرفه. وأنت أيها الملك لا تعرف أعداءك. واعلم أن البراهمة لا يحبونك.
وقد قتلت منهم بالأمس اثني عشر ألفاً. ولا تظن أن هؤلاء ليسو من أولئك. ولعمري ما كنت جديراً أن تخبرهم برؤياك، ولا أن تطلعهم عليها. وإنما قالوا لك ما قالوا لأجل الحقد الذي بينك وبينهم: لعلهم يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك: فيبلغوا قصدهم منك. فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك، فيعود الملك إليهم كما كان. فانطلق إلى كباريون الحكيم، فهو عالم فطن فاخبره عمّا رأيت في رؤياك واسأله عن وجهها وتأويلها. فلما سمع الملك ذلك سرّى عنه وما كان يجده من الغم. فأمر بفرسه فأسرج فركبه ثم انطلق إلى كباريون الحكيم. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه وسجد له، وقام مطأطئاً الرأس بين يديه. فقال له الحكيم: ما بالك أيها الملك؟ وما لي أراك متغير اللون؟ فقال له الملك إني رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة.
وقد قتلت منهم بالأمس اثني عشر ألفاً. ولا تظن أن هؤلاء ليسو من أولئك. ولعمري ما كنت جديراً أن تخبرهم برؤياك، ولا أن تطلعهم عليها. وإنما قالوا لك ما قالوا لأجل الحقد الذي بينك وبينهم: لعلهم يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك: فيبلغوا قصدهم منك. فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك، فيعود الملك إليهم كما كان. فانطلق إلى كباريون الحكيم، فهو عالم فطن فاخبره عمّا رأيت في رؤياك واسأله عن وجهها وتأويلها. فلما سمع الملك ذلك سرّى عنه وما كان يجده من الغم. فأمر بفرسه فأسرج فركبه ثم انطلق إلى كباريون الحكيم. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه وسجد له، وقام مطأطئاً الرأس بين يديه. فقال له الحكيم: ما بالك أيها الملك؟ وما لي أراك متغير اللون؟ فقال له الملك إني رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة.
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 58
رد: (( كليلة ودمنة ))
وأنا خائف أن يصيبني من ذلك عظيم أمر مما سمعت من تعبيرهم لرؤياي. وأخشى أن يغصب مني ملكي أو أن أغلب عليه. فقال له الحكيم: إن شئت فاقصص رؤياك عليّ. فلما قص عليه الملك رؤياه. قال: لا يحزنك أيها الملك هذا الأمر ولا تخف منه: أما السمكتان الحمراوان اللتان رأيتهما قائمتين على أذنابهما فإنه يأتيك رسول من ملك نهاوند بعلبة فيها عقدان من الدر والياقوت الأحمر، قيمتهما أربعة آلاف رطل من ذهبٍ فيقوم بين يديك. وأما الوزتان اللتان رأيتهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك: فإنه يأتيك من ملك بلخ فرسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك. وأما الحية التي رأيتها تدب على رجلك اليسرى: فإنه يأتيك من ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديد لا يوجد مثله. وأما الدم الذي رأيت كأنه خضب به جسدك: فإنه يأتيك من ملك كازرون من يقوم بين يديك بلباس معجب يسمى حلّة أرجوان يضيء في الظلمة. وأما ما رأيت من غسلك جسمك بالماء: فإنه يأتيك من ملك رهزين من يقوم بين يديك بثياب كتان من لباس الملوك. وأما ما رأيت من أنك على جبل أبيض: لا تلحقه الخيل. وأما ما رأيت على رأسك شبيهاً بالنار: فإنه يأتيك من ملك أرزن من يقوم بين يديك بإكليل من ذهب مكللٍ بالدر والياقوت. وأما الطير الذي رأيته ضرب رأسك بمنقاره: فلست مفسراً ذلك اليوم. وليس بضارك، فلا توجلن منه. ولكن فيه بعض السخط والإعراض عمّن تحبه: فهذا تفسيره رؤياك أيها الملك، وأما هذه الرسل والبرد فإنهم يأتونك بعد سبعة أيامٍ جميعاً فيقومون بين يديك. فلما سمع الملك ذلك سجد لكباريون ورجع إلى منزله.
فلما كان بعد سبعة أيام جاءت البشائر بقدوم الرسل فخرج الملك فجلس على التخت، وأذن للأشراف، وجاءته الهدايا كما اخبره كباريون الحكيم. فلما رأى الملك ذلك اشتد عجبه وفرحه من علم كباريون. وقال: ما وفقت حين قصصت رؤياي على البراهمة فأمروني بما أمروني به. ولولا أن الله تعالى تداركني برحمته لكنت قد هلكت وأهلكت؛ وكذلك لا ينبغي لكل أحد أن يسمع إلا من الأخلاء ذوي العقول. وإن إيراخت أشارت بالخير فقلبته. ورأيت به النجاح. فضعوا الهدية بين يديها لتأخذ منها ما اختارت. ثم قال لإيلاذ: خذ الإكليل واحملها واتبعني بها إلى مجلس النساء. ثم إن الملك دعا إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بين يديه. فقال لإيلاذ: ضع الكسوة والإكليل بين يدي إيراخت لتأخذ أيها شاءت. فوضعت الهدايا بين يدي إيراخت. فأخذت منها الإكليل، وأخذت حورقناه كسوة من أفخر الثياب وأحسنها. وكان من عادة الملك أن يكون ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه. وكان من سنة الملك أن تهيء له المرأة التي يكون عندها في ليلتها أرزاً بحلاوة فتطعمه إياه. فأتى الملك إيراخت في نوبتها. وقد صنعت له أرزاً. فدخلت عليه بالصّحفة والإكليل على رأسها. فعلمت حورقناه بذلك فغارت من إيراخت. فلبست تلك الكسوة. ومرت بين يدي الملك وتلك الثياب تضيء عليها مع نور وجهها كما تضيء الشمس. فلما رآها الملك أعجبته. ثم التفت إلى إيراخت فقال: إنك جاهلة حين أخذت الإكليل وتركت الكسوة إلي ليس في خزائننا مثلها. فلما سمعت إيراخت مدح الملك لحورقناه وثناءه عليها وتجهيلها هي وذمّ رأيها أخذها من ذلك الغيرة والغيظ. فضربت بالصحفة رأس الملك. فسال الأرز على وجهه. فقام الملك من مكانه ودعا بإيلاذ. فقال له: ألا ترى، وأنا ملك العالم، كيف حقرتني هذه الجاهلة، وفعلت بي ما ترى؟ فانطلق بها فاقتلها ولا ترحمها. فخرج إيلاذ من عند الملك وقال: لا أقتاها حتى يسكن عنه الغضب. فالمرأة عاقلة سديدة الرأي من الملكات إلي ليس لها عديل في النساء. وليس الملك بصابر عنها. وقد خلصته من الموت، وعملت أعمالاً صالحة. ورجاؤنا فيها عظيم
فلما كان بعد سبعة أيام جاءت البشائر بقدوم الرسل فخرج الملك فجلس على التخت، وأذن للأشراف، وجاءته الهدايا كما اخبره كباريون الحكيم. فلما رأى الملك ذلك اشتد عجبه وفرحه من علم كباريون. وقال: ما وفقت حين قصصت رؤياي على البراهمة فأمروني بما أمروني به. ولولا أن الله تعالى تداركني برحمته لكنت قد هلكت وأهلكت؛ وكذلك لا ينبغي لكل أحد أن يسمع إلا من الأخلاء ذوي العقول. وإن إيراخت أشارت بالخير فقلبته. ورأيت به النجاح. فضعوا الهدية بين يديها لتأخذ منها ما اختارت. ثم قال لإيلاذ: خذ الإكليل واحملها واتبعني بها إلى مجلس النساء. ثم إن الملك دعا إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بين يديه. فقال لإيلاذ: ضع الكسوة والإكليل بين يدي إيراخت لتأخذ أيها شاءت. فوضعت الهدايا بين يدي إيراخت. فأخذت منها الإكليل، وأخذت حورقناه كسوة من أفخر الثياب وأحسنها. وكان من عادة الملك أن يكون ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه. وكان من سنة الملك أن تهيء له المرأة التي يكون عندها في ليلتها أرزاً بحلاوة فتطعمه إياه. فأتى الملك إيراخت في نوبتها. وقد صنعت له أرزاً. فدخلت عليه بالصّحفة والإكليل على رأسها. فعلمت حورقناه بذلك فغارت من إيراخت. فلبست تلك الكسوة. ومرت بين يدي الملك وتلك الثياب تضيء عليها مع نور وجهها كما تضيء الشمس. فلما رآها الملك أعجبته. ثم التفت إلى إيراخت فقال: إنك جاهلة حين أخذت الإكليل وتركت الكسوة إلي ليس في خزائننا مثلها. فلما سمعت إيراخت مدح الملك لحورقناه وثناءه عليها وتجهيلها هي وذمّ رأيها أخذها من ذلك الغيرة والغيظ. فضربت بالصحفة رأس الملك. فسال الأرز على وجهه. فقام الملك من مكانه ودعا بإيلاذ. فقال له: ألا ترى، وأنا ملك العالم، كيف حقرتني هذه الجاهلة، وفعلت بي ما ترى؟ فانطلق بها فاقتلها ولا ترحمها. فخرج إيلاذ من عند الملك وقال: لا أقتاها حتى يسكن عنه الغضب. فالمرأة عاقلة سديدة الرأي من الملكات إلي ليس لها عديل في النساء. وليس الملك بصابر عنها. وقد خلصته من الموت، وعملت أعمالاً صالحة. ورجاؤنا فيها عظيم
محمد منسى- أسرة ورد الشام
- البلد : مصــــــــــــــــر
العمر : 45
صديقة مقربة : مــآآآري
صديقة مقربة : سما فكري
عدد الرسائل : 5243
العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
تاريخ التسجيل : 09/06/2009
مستوى النشاط : 23915
تم شكره : 24
- مساهمة رقم 59
رد: (( كليلة ودمنة ))
. ولست آمنة أن يقول: لمَ لمْ تؤخر قتلها حتى تراجعني؟ فلست قاتلها حتى أنظر رأي الملك فيها ثانية: فإن رأيته نادماً حزيناً على ما صنع جئت بها حية. وكنت قد عملت عملاً عظيماً. وأنجيت إيراخت من القتل. وحفظت قلب الملك. واتخذت عند عامة الناس بذلك يداً. وإن رأيته فرحاً مستريحاً مصوّباً رأيه في الذي فعله وأمر به فقتلها لا يفوت. ثم انطلق بها إلى منزله، ووكل بها خادماً من أمنائه، وأمره بخدمتها وحراستها، حتى ينظر ما يكون من أمرها وأمر الملك. ثم خضب سيفه بالدم ودخل على الملك كالكئيب الحزين. فقال أيها الملك: إني قد أمضيت أمرك في إيراخت. فلم يلبث الملك أن سكن عنه الغضب، وذكر جمال إيراخت وحسنها. واشتد أسفه عليها. وجعل يعزي نفسه عنها. ويتجلد وهو مع ذلك يستحي أن يسأل إيلاذ: أحقاً أمضى أمره فيها أم لا؟ ورجا لما عرف من عقل إيلاذ ألا يكون قد فعل ذلك. ونظر إليه إيلاذ بفضل عقله فعلم الذي به، فقال له: لا تهتم ولا تحزن أيها الملك: فإنه ليس في الهم والحزن منفعة. ولكنهما ينحلان الجسم ويفسدانه. فاصبر أيها الملك على ما لست بقادر عليه أبداً. وإن أحب الملك حدثته بحديث يسليه. قال: حدثني.
قال إيلاذ: زعموا أن حمامتين ذكراً وأنثى ملا عشهما من الحنطة والشعير. فقال الذكر للأنثى: إنا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به فلسنا نأكل مما هاهنا شيئاً. فإذا جاء الشتاء ولم يكن في الصحارى شيء رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك. وقالت له: نعم ما رأيت. وكان ذلك الحب ندياً حين وضعاه في عشهما. فانطلق الذكر فغاب. فلما جاء الصيف يبس الحب وانضمر. فلما رجع الذكر رأى الحب ناقصاً. فقال لها: أليس كنا أجمعنا رأينا على ألا نأكل منه شيئاً؟ فلم أكلته؟ فجعلت تحلف أنها ما أكلت منه شيئاً. وجعلت تعتذر إليه. فلم يصدقها. وجعل ينقرها حتى ماتت. فلما جاءت الأمطار ودخل الشتاء تندى الحب وامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر ذلك ندم. ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال: ما ينفعني الحب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك، ولم أقدر عليك، وإذا فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك، ولا أقدر على تدارك ما فات. ثم استمر على حزنه فلم يطعم طعاماً ولا شراباً حتى مات إلى جانبها. والعاقل لا يعجل في العذاب والعقوبة، ولا سيما من يخاف الندامة، كما ندم الحمام الذكر. وقد سمعت أيضاً أن رجلاً دخل الجبل وعلى رأسه كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره ليستريح. فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس وصعد إلى الشجرة. فسقطت من يده حبة فنزل في طلبها فلم يجدها. وانتثر ما كان في يده من العدس أجمع. وأنت أيضاً أيها الملك عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو بهن وتطلب التي لا تجد؟؟! فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت. فقال لإيلاذ: لم لا تأنيت وتثبت؟ بل أسرعت عند سماع كلمة واحدة فتعلقت بها، وفعلت ما أمرتك به من ساعتك؟ قال إيلاذ: إن الذي قوله واحد لا يختلف هو الله الذي لا تبديل لكلماته ولا اختلاف لقوله. قال الملك: لقد أفسدت أمري وشددت حزني بقتل إيراخت. قال إيلاذ: إثنان ينبغي لهما أن يحزنا: الذي يعمل الإثم في كل يوم، والذي لم يعمل خيراً قط: لأن فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل. وندامتهما إذ يعاينان الجزاء طويلة لا يستطاع إحصاؤها. قال الملك: لئن رأيت إيراخت حيةً لا أحزن على شيءٍ أبداً. قال إيلاذ: اثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا: المجتهد في البر كل يوم، والذي لم يأثم قط. قال الملك: ما أنا بناظرٍ إلى إيراخت أكثر مما نظرت قال إيلاذ: اثنان لا ينظران: الأعمى والذي لا عقل له. وكما أن العمى لا ينظر السماء ونجومها وأرضها ولا ينظر القرب والبعد، كذلك الذي لا عقل له لا يعرف الحسن من القبيح ولا المحسن من المسيء. قال الملك: لو رأيت إيراخت لاشتد فرحي
قال إيلاذ: زعموا أن حمامتين ذكراً وأنثى ملا عشهما من الحنطة والشعير. فقال الذكر للأنثى: إنا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به فلسنا نأكل مما هاهنا شيئاً. فإذا جاء الشتاء ولم يكن في الصحارى شيء رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك. وقالت له: نعم ما رأيت. وكان ذلك الحب ندياً حين وضعاه في عشهما. فانطلق الذكر فغاب. فلما جاء الصيف يبس الحب وانضمر. فلما رجع الذكر رأى الحب ناقصاً. فقال لها: أليس كنا أجمعنا رأينا على ألا نأكل منه شيئاً؟ فلم أكلته؟ فجعلت تحلف أنها ما أكلت منه شيئاً. وجعلت تعتذر إليه. فلم يصدقها. وجعل ينقرها حتى ماتت. فلما جاءت الأمطار ودخل الشتاء تندى الحب وامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر ذلك ندم. ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال: ما ينفعني الحب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك، ولم أقدر عليك، وإذا فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك، ولا أقدر على تدارك ما فات. ثم استمر على حزنه فلم يطعم طعاماً ولا شراباً حتى مات إلى جانبها. والعاقل لا يعجل في العذاب والعقوبة، ولا سيما من يخاف الندامة، كما ندم الحمام الذكر. وقد سمعت أيضاً أن رجلاً دخل الجبل وعلى رأسه كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره ليستريح. فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس وصعد إلى الشجرة. فسقطت من يده حبة فنزل في طلبها فلم يجدها. وانتثر ما كان في يده من العدس أجمع. وأنت أيضاً أيها الملك عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو بهن وتطلب التي لا تجد؟؟! فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت. فقال لإيلاذ: لم لا تأنيت وتثبت؟ بل أسرعت عند سماع كلمة واحدة فتعلقت بها، وفعلت ما أمرتك به من ساعتك؟ قال إيلاذ: إن الذي قوله واحد لا يختلف هو الله الذي لا تبديل لكلماته ولا اختلاف لقوله. قال الملك: لقد أفسدت أمري وشددت حزني بقتل إيراخت. قال إيلاذ: إثنان ينبغي لهما أن يحزنا: الذي يعمل الإثم في كل يوم، والذي لم يعمل خيراً قط: لأن فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل. وندامتهما إذ يعاينان الجزاء طويلة لا يستطاع إحصاؤها. قال الملك: لئن رأيت إيراخت حيةً لا أحزن على شيءٍ أبداً. قال إيلاذ: اثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا: المجتهد في البر كل يوم، والذي لم يأثم قط. قال الملك: ما أنا بناظرٍ إلى إيراخت أكثر مما نظرت قال إيلاذ: اثنان لا ينظران: الأعمى والذي لا عقل له. وكما أن العمى لا ينظر السماء ونجومها وأرضها ولا ينظر القرب والبعد، كذلك الذي لا عقل له لا يعرف الحسن من القبيح ولا المحسن من المسيء. قال الملك: لو رأيت إيراخت لاشتد فرحي