الطريق طويل بين المعدة والعقل فى مجتمعاتنا العربية
الطريق طويل بين المعدة والعقل فى مجتمعاتنا العربيةلن نكون شعبا متحضرا الا اذا انفقنا على الكتب اضعاف ما ننفقه على المياه الغازية والوجبات السريعة … فالمياه الغازية ليست من ضروريات الحياة … الماء وحدة هو الضرورة الاهم فى الحياة … ولكنها جميعا كماليات مثل الكعك والبسبوسة اذا قورنت بالخبز …. وربما ادت النهضة ( اى استيعاب العلوم والفنون وتوظيفها لتطوير المجتمع ) الى ان يكون الكعك والمشروبات الغازية وغيرها من ضروريات الحياة ..كاجهزة التكييف والكمبيوتر والنت والتلفاز والطائرات ….. ولكن لو نظرنا الى اركان بيوتنا , صغيرة او كبيرة , فكم من الكتب نجد … وكم عدد الذين يقرأون فى كل اسرة كتبا اشتروها … وكم عدد الذين يترددون على المكتبات العامة …
ثم كم عدد الساعات التى تشغلها الثقافة والادب والفن فى الاذاعة والتليفزيون والفضائيات … ثم كم عدد الذين اذا ارادوا ان يقدموا هدية لاحد الاصدقاء , اعطوه كتابا او مكتبة … نحن الان فى ظل عيد الام وسيأتى يوما ما عيد الفطر والاضحى المبارك .. وبين ذلك اعيادنا السياسية , فهل ظهر اعلان واحد عن كتاب نقدمه هدية فى واحد من هذه الاعياد … ان اختفاء مثل هذا الاعلان , لهو دليل واضح على ان الكتاب ليس شيئا هاما فى اعماقنا .. ولذلك فالطريق طويل بين المعدة والعقل … اطول بكثير جدا مما هو موجود فى الجسم الانسانى … فالكتاب هو خلاصة تجارب الجنس البشرى .. وهو القنطرة التى من خلالها نتعرف على تجارب وحضارات الشعوب … فمن خلال الكتاب نعرف العجب العجاب … واذا كان هناك نصيحة لاحد فى هذه المناسبة … فأننى اقترح ان يشترى كتابا للامام ( جلال الدين السيوطى ) عنوانه : ( تنبيه الغبى فى تبرئة ابن عربى ) …
ابن عربى هذا فيلسوف يرى الكون صورة لله …. ويرى الكائنات مفردات فى قاموس القدرة الالهية ….. فاذا كانت قدرة الله مطرا فنحن قطراتها … واذا كانت القدرة شمسا فنحن شعاعها … والله فى كل شىء …. وقد تأثر ابن عربى بفيلسوف مصرى اسمه افلوطين , وفيلسوف اغريقى اسمه افلاطون … وتأثر به فيلسوف هولندى اسمه اسبنيوزا …. وليس جديدا على ابن عربى ان يتهمه احد بالالحاد والزندقة … فقد اتهمه العلماء فى زمانه , لانه لايفرق بين المذاهب والاديان فى تفسيرها لحكمة الله … وهو يرى ان كل انسان يحاول ان يهتم وان يتذوق ( التجليات ) و (الفيوضات ) الالهية … تستوى فى ذلك الاديان السماوية وغير السماوية … وهذه المساواة بين الاديان هى التى اغضبت منه العلماء … لذلك قد يستغرب القارىء اذا عرف ان مجلس الشعب المصرى فى عام 1989 اتخذ قرارا عاجلا بتحريم كتابه ( الفتوحات المكية ) …
وهذا الكتاب قد طبع فى مصر منذ اكثر من 170 عاما .. … لا اعرف من اين دخل محيى الدين ابن عربى الفيلسوف الصوفى الاندلسى ( 1165 – 1240 م ) مجلس الشعب المصرى …من اى باب ومع اى مشروع … ولماذا اتخذ مجلس الشعب هذا القرار العاجل بتحريم كتابه ( الفتوحات المكية ) … وما دخل مجلس الشعب بقضية فلسفية صوفية متخصصة جدا … مع ان هناك قضايا شعبية حيوية عاجلة قابلها مجلس الشعب باغلبية ساحقة من المقاعد الخالية !!! ومن العجيب حقا ان ابن عربى ابا بكر محمد بن على محيى الدين الحاتمى الطائى الاندلسى , قد تعرض للاغتيال فى مصر منذ سبعة قرون !!! فهل نهنىء انفسنا نحن المصريين على هذا الاصرار الغريب على قتل ابن عربى حيا وميتا !!!! المشكلة عندنا فى مصر بصفة خاصة هى : اننا اذا اتهمنا شخصا ما بتهمة تفرغنا له تماما وراح كل انسان ينحنى على اى حجر ويرمى به هذا المتهم … مع انه برىء …ويتكرر ذلك كل يوم … حتى يؤمن الناس بأن المتهم مجرم حقا وخارج عن الملة … وفجأة تسقط كل هذه التهم … غير ان هذه البراءة لا تلقى الحفاوة التى لقيتها الاتهامات … لان البراءة ليست مثيرة ولا تشبع رغبة الناس فى استطعام الفضيحة والتلذذ فى التشفى … ولان البراءة تتهم الناس بانهم ظلموه … والناس لا يحبون ان يتهمهم احد او يسد افواههم عن الكلام وآذانهم عن متابعة المسلسلات الفاضحة لغيرهم من الناس !!!! لذلك انصح كل قارىء بكتاب ( تنبيه الغبى فى تبرئة ابن عربى )… حتى تعود للكتاب اهميته فى حياتنا لاننا نرى الكتاب كشىء ليس هاما فى حياتنا واعماقنا … لذلك الطريق طويل بين المعدة والعقل اطول بكثير مما هو موجود فى الجسم البشرى … ويوم يكون للكتاب متعة المياة الغازية والمأكولات الامريكية والايطالية السريعة وضرورتها الآن فى حياتنا … نستطيع ان نقول : اننا متحضرون
حمدى السعيد سالم