الإنسانية ..
أهي اسمٌ يحملُ في طياته رتوشات الإنسان المادية فحسب، من وجهٍ فملامحٍ فأيدٍ وأرجلٍ، ليُعرَف أنه إنسيٌ لا مخلوقٌ غيره؟.. أم أنها حركاتٌ مُختلفةٌ نلمحُها في بني البشر المُمَارِسين لمختلف النشاطات الإنسانية، المُتنقلين بين ربوع الحياة؟..
أم أنها أمرٌ معنويٌ بحثٌ، يضم بعمقه صفاتٍ مُعينةٍ غير مرئيةٍ -ولكن محسوسة- على الإنسان التحلي بها؟
لطالما كانت لي رغبةٌ كُبرى بالتغلغل في هذه الصفة، ولطالما تمنيتُ تجريدها من لباسِها الرَّسمي، والتفتـُن بها عاريةً دون أي زيٍ يتستر عليها.. لربما كانت النظرة حينها أوسع وأشمل، بل أدق وأعـمَـق..
لا أظن نفسي ولا غيري ملاكًا.. لم أُربَّ أن أكون ملاكًا يمشي على الأرض، ولم أُلقـَّن أيضًا أن البشر ملائكةً لا يُخطؤون، تعلمتُ ثم خبرتُ بعدها بنفسي أن الإنسان خطاءٌ، وأنه غير معصوم.. ويذوق من الزلل والخطأ والوهن الكـَثير..
ولـكــن ...
الشيء الذي لازلتُ أقتنعُ به منذ وعيي.. للآن، ولا أظنني إلا سأبقى كذلك.. هو أن الإنسانية الحقة واجبٌ التحلي بها من قـِبل جميـع البـشر، أشرارًا كانوا أم طيبين، مهما كانت ديانتهم، مسلمين أم ملحدين.. مهما كان جنسهم، ذكورًا أم إناثًا.. ومهما كانت أهدافهم وسُبلهم في الحياة.. فالإنسانية السليمة هي مطمحٌ أراه مزروعًا في أرضِ كل نفسٍ تتنفس وتعـقِل، وتمشي فوق هذه الأرض على إثنين..
ولنأخذ جولةً بسيطة لمجتمعاتنا بصفةٍ عامةٍ، إلى شوارعنا وأحيائنا وأسواقنا حتى.. إلى مدارسنا وجامعاتنا.. إلى مُختلف المكاتب والمراكز الإدارية.. فمُختلف المؤسسات والشركات والوزارات حتى.. تـُرى أين ملامح الإنسانية فيها؟؟.. إنها إلى زوال.. أو انقراض.. أو أنها السراااب.. لا شيء غير السراب..
مِن غياب إحترام وتوقير الصغير للكبير.. وغياب إتقاءٍ في معاملة الشيخ والعجوز فالطفل الصغير.. واندثار مساعدة إنسانية لعجوز طاعن في السن.. أو مساعدة موظف مكتب لمن يُقبلون على مكتبه كل وقت وحين.. إلى معلم يُدَرّس.. فطالبٍ يَدْرُس.. فصاحب محل في محله يبيع.. فسَيلٍ من المارين في الطرقات، أو الراكبين في الحافلات.. فالمُهللين في الأسواق.. فـ.... فـ... إلخ
ثم فلنـُلقي جولة أكبر، وأكثر شمولية على ملامح أوطاننا العربية ككل.. ظـُلمٌ مسكوتٌ عنه، جورٌ مغضوضٌ الطرف عنه.. إهاناتٌ مُتجـَاهلة.. حُرُماتٌ مُنتهكة.. أعراضٌ مُستباحة.. باختصار.. إنسانيةٌ في طريق الضياع.. والزوال..
إن لم يُفكر الإنسان في إنسانيته وتقويمها بشكل سليم.. وإن لم يفكر الإنسان بغيره وإخوته البشر -حتى لا نقول مسلمين أم كفار-.. وحين يعيش الإنسان طيلة الحياة ومعالمُ الإنسانية غائبة عنه، فأي روح؟ وأي حياة؟ وأي لذة يجدها في وجوده يا تـُرى؟؟
لربما يرى غيري كما أرى، كثيرًا من التجاوزات في مختلف الأماكن في مجتمعاتنا، لربما يفسرها البعض أنها غياب أخلاق.. أو غياب وازع ديني.. أو تلاشي خشية الله.. أو تراجع اهتمامٍ بالآخر.. ولكنها صدقًا تصبُّ كلها في غياب الإنسانية.. بل وتـُولد كلها من بذرة غياب الإنسانية السليمة..
الإنسانية مَعـْلمٌ من معالم الوجود، بوجودها يرقى البشر، وتستمر الحياة بشكل معقول مقبول، كيفما كانت وُجهة البشر، وعقيدة المجتمع، وديانته، وانتماؤه..
الإنسانية مطلبٌ ضروري، وسعيٌ واجبٌ لمـَن وعــَى..
الإنسانية القيّمة الحقة، توحـّد البشـر كافة، على اختلاف دياناتهم، وأعراقهم، وانتماءاتهم، ومُعتقداتهم
أحين يُطـَالـَبُ الإنسان بالتحلي بالإنسانية الحقة بمجتمعه وحياته ككل، يكون قد طـُولبَ بالمستحيل؟ أم أنه قد طولبَ بالكمال والمثالية !
هل الإنسان الواقعي الذي يرغب بتواجد الإنسانية في ثنايا مجتمعه، يُطالـِبُ بشيء غير واقعي وغير منطقي؟ فأين الواقعية إن لم تكـن في هـذه؟