وسف ضمرةالمهاجرون إلى أستراليا اكتشفوا أن هنالك بجعا أسود، وقد شكل هذا الاكتشاف هزة عقلية جديدة، فأنت لا تستطيع أن تفكر نمطيا إلى آخر العمر، وأنت لا تستطيع رسم صورةالعالم من خلال ما عرفته فقط، فثمة أشياء لم تعرفها بعد.
قصة البجعة السوداء استوحاها المفكر اللبناني المغترب نسيم طالب ليؤلف كتابا أسماه "البجعة السوداء". وقد جعل البجعة السوداء بمثابة الصدمة للعقل الغربي، الذي يمتاز بيقينية عالية بناء على قدرته على التخطيط والقراءة ووضع الإستراتيجيات وما إلى ذلك. ولا يختلف هذا في بعض جوانبه عن قراءة دريدا للعقل الغربي، الذي يعتبره عقلا مركزيا والبواقي هوامش تدور في فلكه.
ويستعرض نسيم طالب في كتابه كثيرا من البجعات السود في الوقت الراهن، التي واجهت العقل الغربي، كاحتلال العراق والأزمة الاقتصادية العالمية. فقد ظن الأميركان أن احتلال العراق أمر بسيط وعادي.. يعني بجعة بيضاء تقليدية، لكنهم فوجئوا بالمقاومة العراقية التي لم تنتظر شهورا، وفوجئوا بحجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدوها.
وكذلك الحال مع الأزمة المالية، حيث أدى الإفراط في الاعتماد على القروض البنكية وارتفاع أسعار النفط بشكل خيالي، إلى فقدان الكثير من المؤسسات المالية الضخمة قدرتها على الاستمرار من دون دعم حكومي، فأُغلقت مئات المصارف وتشرد الآلاف من الموظفين، وطردت الآلاف من العائلات من منازلها المرتهنة.
ولا يختلف الأمر كثيرا عن ما جرى في أفغانستان، ولا عن حرب يوليو/تموز عام 2006 في لبنان، وسواهما من الوقائع -الصدمات- أو البجعات السود، وسوف يظل الغرب يعاني طويلا جراء رؤية هذه البجعات السود، وربما لعقود مقبلة.
رؤية نمطية
ولكن الغريب في الأمر، بل والمحير أيضا، هو أن الغرب نفسه الذي رأى البجعات السود أكثر من مرة، لا يزال يصر على أن البجع لونه أبيض، وأبيض فقط. فهو لا يزال يتصرف وفق هذه الرؤية النمطية القديمة، التي ترسخت إثر انهيار الاتحاد السوفياتي أكثر من قبل. وها هو يندفع مسعورا إلى حيث البراكين الثائرة، ويظن أن في استطاعته تطويعها لتنفث حممها باتجاه محدد يريده هو.
وهو يعتقد في قراءة نمطية كما يبدو، أن الحراك الشعبي العربي معني فقط بالسلطات الاستبدادية والحكومات البوليسية الفاسدة في الوطن العربي، فتراه يندفع مباركا هذا الحراك نحو الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية وما إلى ذلك. ولكنه لم يفكر لحظة واحدة في تبعات هذه النتائج، فهو يعتقد أن الديمقراطية المقبلة سوف تكون مرتبطة به ارتباطا عضويا، الأمر الذي يجعلها تدور في فلكه سياسيا واقتصاديا، على غرار ما جرى في دول أوروبا الشرقية.
ولكنه يتناسى أو يتجاهل أمرا شديد الخصوصية والحساسية في العالم العربي، وهو القضية الفلسطينية. فالشعب العربي كله، الساخط على أنظمته القمعية، لا يقصر سخطه على هذه الأنظمة فحسب، لأنه لا ينسى أن أحد الأسباب الرئيسية التي أنشأت هذه النظم هو منح فلسطين للعدو الصهيوني، وتشريد الفلسطينيين إلى خارج أرضهم، واستمرار معاناتهم حتى اللحظة.
وهو يتناسى أن الدول العربية في معظمها تعاني جراء هذا التيه الفلسطيني، وأن هذه القضية قد أخذت كثيرا من وقت الشعوب على حساب الأوضاع الداخلية.
هذا يعني أن أي نتائج يتمخض عنها الحراك العربي لن تؤدي إلى صفح عربي عن العدو الصهيوني، وعن الغرب الداعم لهذا العدو في كل ما ارتكبه وما يرتكبه حتى اليوم. بل ويمكن القول إن أنظمة ديمقراطية جديدة قد تعني سعيا جادا نحو مجابهة هذا الاحتلال، لأن هذه هي أشواق الإنسان العربي وطموحاته وآماله التي لم تمت يوما.
ولكن السؤال الكبير المحير هو: لماذا يصر الغرب على إنكار البجعة السوداء؟
نسق مهيمن
إن الإجابات كامنة في نسق الحكم المهيمن منذ قيام الشركات العابرة للقوميات والهويات. فهذه الشركات هي التي تختار الحكام والمسؤولين في الغرب، وإن بدا الأمر في صيغة ديمقراطية حقيقية. فمن هو القادر على صرف ملايين الدولارات في الولايات المتحدة الأميركية مثلا، كي يترشح لانتخابات الكونغرس؟ ومن هو القادر على صرف المليارات للترشح لمنصب الرئيس؟
إن الشركات الكبرى، غير المعنية إلا بالأرباح واستمرار النمو، لا تعنيها السياسات الخارجية، إلا بمقدار ما تحققه هذه السياسات من خلق أسواق جديدة.
وعلى سبيل المثال، فإن مصانع الأسلحة المتنوعة لا تستطيع البقاء من دون حروب هنا أو هناك. وهي لذلك تضع ممثلين لها، علنا أو سرا، في دوائر صنع القرار، لكي ينفذوا ما تطلبه هذه المصانع، وبخاصة حين تتزايد الكميات في المستودعات، ويقل الطلب في بعض الأحيان. هكذا يتم تحريك منطقة ما، وافتعال حروب أهلية حينا وإقليمية حينا آخر، لأن المستودعات بحاجة ماسة إلى تفريغها، ولأن خطوط الإنتاج بحاجة ماسة إلى زيادة سرعتها.
هذه الشركات لا يهمها إن كان البجع أبيض أو أسود، المهم هو أن تظل ممسكة بالأسواق العالمية وقادرة على فتح أسواق جديدة، لأن المنافسة الاقتصادية لا تتيح لأحد فرصة السكون، الذي يعني الموات والانكفاء.
وهكذا لن يكون غريبا أبدا أن يظل الغرب يرتكب الحماقات واحدة تلو أخرى، وأن يدير ظهره للبجعة السوداء، الذي يعرف أنها موجودة كاحتمال كبير في أي لحظة وفي أي مكان. ولعل ما يحدث في مصر الآن يعد دليلا ربما يسطع أكثر في قادم الأيام، على أن التخلص من الرئيس المصري لم يكن ليضع حدا لتطلعات الشارع المصري الكبيرة والمحقة.
وها هي الوقائع تثبت يوميا أن الناس مستعدون لميدان التحرير حتى تحقيق ما يريدون. وفي نهاية المطاف سوف تكون العلاقة المصرية الإسرائيلية في وضع قلق. أما في بلد مثل سوريا، فإن الإطاحة بالقيادة السورية قد تؤدي إلى بجعات سود كثيرة، حيث الإقليم كله قابل للاشتعال، ولا يعلم أحد إلى أين ستمتد النيران.
خلاصة القول هي إن الغرب قد فقد القدرة على التحكم في مسار الشعوب وإراداتها، وكل ما نراه من مواقف داعمة أو رافضة ليس سوى محاولات لاستباق النتائج، التي يعلم الغرب جيدا أنها قد تحمل الكثير من البجعات السود، وهو ما لا يريده.
قصة البجعة السوداء استوحاها المفكر اللبناني المغترب نسيم طالب ليؤلف كتابا أسماه "البجعة السوداء". وقد جعل البجعة السوداء بمثابة الصدمة للعقل الغربي، الذي يمتاز بيقينية عالية بناء على قدرته على التخطيط والقراءة ووضع الإستراتيجيات وما إلى ذلك. ولا يختلف هذا في بعض جوانبه عن قراءة دريدا للعقل الغربي، الذي يعتبره عقلا مركزيا والبواقي هوامش تدور في فلكه.
ويستعرض نسيم طالب في كتابه كثيرا من البجعات السود في الوقت الراهن، التي واجهت العقل الغربي، كاحتلال العراق والأزمة الاقتصادية العالمية. فقد ظن الأميركان أن احتلال العراق أمر بسيط وعادي.. يعني بجعة بيضاء تقليدية، لكنهم فوجئوا بالمقاومة العراقية التي لم تنتظر شهورا، وفوجئوا بحجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدوها.
وكذلك الحال مع الأزمة المالية، حيث أدى الإفراط في الاعتماد على القروض البنكية وارتفاع أسعار النفط بشكل خيالي، إلى فقدان الكثير من المؤسسات المالية الضخمة قدرتها على الاستمرار من دون دعم حكومي، فأُغلقت مئات المصارف وتشرد الآلاف من الموظفين، وطردت الآلاف من العائلات من منازلها المرتهنة.
ولا يختلف الأمر كثيرا عن ما جرى في أفغانستان، ولا عن حرب يوليو/تموز عام 2006 في لبنان، وسواهما من الوقائع -الصدمات- أو البجعات السود، وسوف يظل الغرب يعاني طويلا جراء رؤية هذه البجعات السود، وربما لعقود مقبلة.
رؤية نمطية
ولكن الغريب في الأمر، بل والمحير أيضا، هو أن الغرب نفسه الذي رأى البجعات السود أكثر من مرة، لا يزال يصر على أن البجع لونه أبيض، وأبيض فقط. فهو لا يزال يتصرف وفق هذه الرؤية النمطية القديمة، التي ترسخت إثر انهيار الاتحاد السوفياتي أكثر من قبل. وها هو يندفع مسعورا إلى حيث البراكين الثائرة، ويظن أن في استطاعته تطويعها لتنفث حممها باتجاه محدد يريده هو.
وهو يعتقد في قراءة نمطية كما يبدو، أن الحراك الشعبي العربي معني فقط بالسلطات الاستبدادية والحكومات البوليسية الفاسدة في الوطن العربي، فتراه يندفع مباركا هذا الحراك نحو الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية وما إلى ذلك. ولكنه لم يفكر لحظة واحدة في تبعات هذه النتائج، فهو يعتقد أن الديمقراطية المقبلة سوف تكون مرتبطة به ارتباطا عضويا، الأمر الذي يجعلها تدور في فلكه سياسيا واقتصاديا، على غرار ما جرى في دول أوروبا الشرقية.
ولكنه يتناسى أو يتجاهل أمرا شديد الخصوصية والحساسية في العالم العربي، وهو القضية الفلسطينية. فالشعب العربي كله، الساخط على أنظمته القمعية، لا يقصر سخطه على هذه الأنظمة فحسب، لأنه لا ينسى أن أحد الأسباب الرئيسية التي أنشأت هذه النظم هو منح فلسطين للعدو الصهيوني، وتشريد الفلسطينيين إلى خارج أرضهم، واستمرار معاناتهم حتى اللحظة.
وهو يتناسى أن الدول العربية في معظمها تعاني جراء هذا التيه الفلسطيني، وأن هذه القضية قد أخذت كثيرا من وقت الشعوب على حساب الأوضاع الداخلية.
هذا يعني أن أي نتائج يتمخض عنها الحراك العربي لن تؤدي إلى صفح عربي عن العدو الصهيوني، وعن الغرب الداعم لهذا العدو في كل ما ارتكبه وما يرتكبه حتى اليوم. بل ويمكن القول إن أنظمة ديمقراطية جديدة قد تعني سعيا جادا نحو مجابهة هذا الاحتلال، لأن هذه هي أشواق الإنسان العربي وطموحاته وآماله التي لم تمت يوما.
ولكن السؤال الكبير المحير هو: لماذا يصر الغرب على إنكار البجعة السوداء؟
نسق مهيمن
إن الإجابات كامنة في نسق الحكم المهيمن منذ قيام الشركات العابرة للقوميات والهويات. فهذه الشركات هي التي تختار الحكام والمسؤولين في الغرب، وإن بدا الأمر في صيغة ديمقراطية حقيقية. فمن هو القادر على صرف ملايين الدولارات في الولايات المتحدة الأميركية مثلا، كي يترشح لانتخابات الكونغرس؟ ومن هو القادر على صرف المليارات للترشح لمنصب الرئيس؟
إن الشركات الكبرى، غير المعنية إلا بالأرباح واستمرار النمو، لا تعنيها السياسات الخارجية، إلا بمقدار ما تحققه هذه السياسات من خلق أسواق جديدة.
وعلى سبيل المثال، فإن مصانع الأسلحة المتنوعة لا تستطيع البقاء من دون حروب هنا أو هناك. وهي لذلك تضع ممثلين لها، علنا أو سرا، في دوائر صنع القرار، لكي ينفذوا ما تطلبه هذه المصانع، وبخاصة حين تتزايد الكميات في المستودعات، ويقل الطلب في بعض الأحيان. هكذا يتم تحريك منطقة ما، وافتعال حروب أهلية حينا وإقليمية حينا آخر، لأن المستودعات بحاجة ماسة إلى تفريغها، ولأن خطوط الإنتاج بحاجة ماسة إلى زيادة سرعتها.
هذه الشركات لا يهمها إن كان البجع أبيض أو أسود، المهم هو أن تظل ممسكة بالأسواق العالمية وقادرة على فتح أسواق جديدة، لأن المنافسة الاقتصادية لا تتيح لأحد فرصة السكون، الذي يعني الموات والانكفاء.
وهكذا لن يكون غريبا أبدا أن يظل الغرب يرتكب الحماقات واحدة تلو أخرى، وأن يدير ظهره للبجعة السوداء، الذي يعرف أنها موجودة كاحتمال كبير في أي لحظة وفي أي مكان. ولعل ما يحدث في مصر الآن يعد دليلا ربما يسطع أكثر في قادم الأيام، على أن التخلص من الرئيس المصري لم يكن ليضع حدا لتطلعات الشارع المصري الكبيرة والمحقة.
وها هي الوقائع تثبت يوميا أن الناس مستعدون لميدان التحرير حتى تحقيق ما يريدون. وفي نهاية المطاف سوف تكون العلاقة المصرية الإسرائيلية في وضع قلق. أما في بلد مثل سوريا، فإن الإطاحة بالقيادة السورية قد تؤدي إلى بجعات سود كثيرة، حيث الإقليم كله قابل للاشتعال، ولا يعلم أحد إلى أين ستمتد النيران.
خلاصة القول هي إن الغرب قد فقد القدرة على التحكم في مسار الشعوب وإراداتها، وكل ما نراه من مواقف داعمة أو رافضة ليس سوى محاولات لاستباق النتائج، التي يعلم الغرب جيدا أنها قد تحمل الكثير من البجعات السود، وهو ما لا يريده.