الحج المبرور .. ؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فالحج ركن من أركان الإسلام وشعيرة من الشعائر العظام تهفوا إليه الأفئدة وتحنو إليه القلوب، وتتوق في أشهره النفوس إلى زياره تلك البقاع الطاهرة تحقيقا لقول الله عز وجل (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) وقوله(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).
يتدافع الحجاج كل عام يحدوهم الشوق إلى تلك البقاع الطاهرة وكلهم أمل في أن يرجعوا من ذنوبهم كاليوم الذي خرجوا فيه من بطزن أمهاتهم ؛ (فالحج يهدم ما كان قبله" كما في صحيح مسلم ، و"من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" كما في صحيح البخاري، و(الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب ) كما في سنن الترمذي والنسائي وابن ماجة.
ومن لم يوفق للحج ولم يستطع السير إليه فإنه يودع الحجيج ويتابع مناسكهم ولسان حاله:
( يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم ألا وهو الحرص على أن يكون حجنا مبرورا ؛ فمغفرة الذنوب بالحج و دخول الجنة به مرتب على كون الحج مبرورا .
وقد أشارت الأحاديث إلى ذلك ، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سُئِل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- :« أيُّ العمل أفْضَل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهادُ في سبيل الله ، قيل: ثم ماذا ؟ قال:حَجّ مبرور ».
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
فما هو الحج المبرور:
قال أهل العلم يكون الحج مبرورا باجتماع عدة أمور منها:
1- إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل ، فقد بين النبي صلى الله مناسك الحج للأمة قوليا وعمليا في حجة الوداع وقال هناك (خُذُوا عَني مَناسِكَكُمْ ، لا أدري لَعَلَّي لا أَحُجُّ بعد حَجَّتي هذه) أخرجه مسلم.
2- ومنها الإتيان فيه بأعمال البر: أي فعل الطاعات كلها و قد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله : { و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }البقرة(177) فتضمنت الآية –كما يقول الإمام ابن رجب في لطائف المعارف-: أن أنواع البر ستة أنواع من استكملها فقد استكمل البر : أولها : الإيمان بأصول الإيمان الخمسة و ثانيها : إيتاء المال المحبوب لذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و ثالثها : إقام الصلاة و رابعها : إيتاء الزكاة و خامسها : الوفاء بالعهد و سادسها : الصبر على البأساء و الضراء و حين البأس و كلها يحتاج الحاج إليها ،فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان و لا يكمل حجه و يكون مبرورا بدون إقام الصلاة و إيتاء الزكاة فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض فلا يكمل الإيمان و الإسلام حتى يؤتي بها كلها و لا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات و المشاركات المحتاج إليها في سفر الحج و إيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه و يحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر فهذه خصال البر .
3- ومنها حسن معاملة الناس والتحلي بحسن الخلق : فالإحسان إلى الناس من البر كما يقال البر والصلة ، و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن البر ؟ فقال : [البر حسن الخلق ] و كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : إن البر شيء هين : وجه طليق و كلام لين.
و هذا يحتاج إليه في الحج كثيرا أي معاملة الناس بالإحسان بالقول و الفعل-كما يقول الإمام ابن رجب- قال بعضهم : إنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، وفي المسند والمستدرك عن جابر رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بر الحج ؟ قال:إطعام الطعام و إفشاء السلام وفي لفظ(و طيب الكلام) ضعفه ابن حجر وحسنه الألباني.
و من أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصى به النبي صلى الله عليه و سلم أبا جري جابر بن سليم الهجيمي حيث قال : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تنحي الشئ من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ولو أن تؤنس الوحشان في الارض وإن سبك رجل بشئ يعلمه فيك وأنت تعلم فيه نحوه فلا تسبه فيكون أجره لك ووزره عليه وما سر أذنك أن تسمعه فاعمل به وما ساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه. (أخرجه الحاكم).
وفي رواية« و إن امرؤ شتمك و عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه و لا تسبن أحدا " قال : فما سببت بعده حرا و لا عبدا و لا بعيرا و لا شاة " .وفي الحديث قصة وهي مروية عند أحمد ، وأبي داود ، والنسائى ، ، والطبرانى ، وابن حبان ، والبيهقى فى شعب الإيمان وغيرهم وصححه الألباني. .
و في الجملة : فخير الناس أنفعهم للناس و أصبرهم على أذى الناس كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين } و الحاج يحتاج إلى مخالطة الناس ، و المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم و لا يصبر على أذاهم .
4- ومنها كثرة ذكر الله تعالى فيه و قد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى كما قال سبحانه :(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) البقرة .
و خصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام بالتلبية و التكبير ، ففي سنن الترمذي وابن ماجه و غيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أفضل الحج العج و الثج ] والعج: هو رفع الصوت بالتكبير والتلبية ، والثج: هو إراقة دماء الهدايا و النسك .
5- ومنها اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث و الفسوق و المعاصي ، قال الله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة (197).
و في الحديث الصحيح:[من حج فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ] رواه البخاري ومسلم.
فما تزود حاج و لا غيره بأفضل من زاد التقوى و لا دعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى .
وقد روى الترمذي وقال : (( حديث حسن )) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : قال : « جاء رجلٌ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال : إِني أُرِيدُ السفر ، فزَوِّدني ، قال : زَوَّدك اللهُ التَّقوى ، قال : زِدني ، قال : وغفر ذَنبَكَ ، قال : زدني، - بأبي أنتَ وأُمِّي - قال : ويَسَّرَ لك الخير حيثما كنتَ».
وقال بعض السلف: لمن ودعه للحج أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا حين ودعه : [ اتق الله حيثما كنت و أتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن ]
6- ومنها أن يطيب نفقته في الحج وأن لا يجعلها من كسب حرام، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وقد قيل:
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل صالحة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
7- ومنها أن لا يقصد بحجه رياء و لا سمعة و لا مباهاة و لا فخرا و لا خيلاء و لا يقصد به إلا وجه الله و رضوانه و يتواضع في حجه و يستكين و يخشع لربه.
إذلايُقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجه الله ، فقدقال الله تعالى(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). وروى أبو داود والنسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه).
روي ابن ماجة والتِّرْمِذِيّ في (الشَّمائل) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل رث و قطيفة ما تساوي أربعة دراهم و قال : اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها و لا سمعة ] .
( أتاك الوافدون إليك شعثا ... يسوقون المقلدة الصواف )
( فكم من قاصد للرب رغبا ... و رهبا بين منتعل و حاف )
8- وقيل ( المبرور ) : المقبول. قالوا : ومن علامات قبول الحج، أن يرجع العبد خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي.
وعلى كل فكما قال الإمام الْقُرْطُبِيّ : الْأَقْوَال الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيره مُتَقَارِبَة الْمَعْنَى ، وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامه وَوَقَعَ مَوْافقا لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّف عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل. نقله ابن حجر في (فتح الباري) وَاَللَّه تعالى أَعْلَم .
أسأل الله تعالى أن يرزقنا حجا مبرورا وسعيا مشكورا وعملا متقبلا إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصجبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فالحج ركن من أركان الإسلام وشعيرة من الشعائر العظام تهفوا إليه الأفئدة وتحنو إليه القلوب، وتتوق في أشهره النفوس إلى زياره تلك البقاع الطاهرة تحقيقا لقول الله عز وجل (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) وقوله(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).
يتدافع الحجاج كل عام يحدوهم الشوق إلى تلك البقاع الطاهرة وكلهم أمل في أن يرجعوا من ذنوبهم كاليوم الذي خرجوا فيه من بطزن أمهاتهم ؛ (فالحج يهدم ما كان قبله" كما في صحيح مسلم ، و"من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" كما في صحيح البخاري، و(الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب ) كما في سنن الترمذي والنسائي وابن ماجة.
ومن لم يوفق للحج ولم يستطع السير إليه فإنه يودع الحجيج ويتابع مناسكهم ولسان حاله:
( يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم ألا وهو الحرص على أن يكون حجنا مبرورا ؛ فمغفرة الذنوب بالحج و دخول الجنة به مرتب على كون الحج مبرورا .
وقد أشارت الأحاديث إلى ذلك ، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سُئِل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- :« أيُّ العمل أفْضَل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهادُ في سبيل الله ، قيل: ثم ماذا ؟ قال:حَجّ مبرور ».
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
فما هو الحج المبرور:
قال أهل العلم يكون الحج مبرورا باجتماع عدة أمور منها:
1- إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل ، فقد بين النبي صلى الله مناسك الحج للأمة قوليا وعمليا في حجة الوداع وقال هناك (خُذُوا عَني مَناسِكَكُمْ ، لا أدري لَعَلَّي لا أَحُجُّ بعد حَجَّتي هذه) أخرجه مسلم.
2- ومنها الإتيان فيه بأعمال البر: أي فعل الطاعات كلها و قد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله : { و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }البقرة(177) فتضمنت الآية –كما يقول الإمام ابن رجب في لطائف المعارف-: أن أنواع البر ستة أنواع من استكملها فقد استكمل البر : أولها : الإيمان بأصول الإيمان الخمسة و ثانيها : إيتاء المال المحبوب لذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و ثالثها : إقام الصلاة و رابعها : إيتاء الزكاة و خامسها : الوفاء بالعهد و سادسها : الصبر على البأساء و الضراء و حين البأس و كلها يحتاج الحاج إليها ،فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان و لا يكمل حجه و يكون مبرورا بدون إقام الصلاة و إيتاء الزكاة فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض فلا يكمل الإيمان و الإسلام حتى يؤتي بها كلها و لا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات و المشاركات المحتاج إليها في سفر الحج و إيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه و يحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر فهذه خصال البر .
3- ومنها حسن معاملة الناس والتحلي بحسن الخلق : فالإحسان إلى الناس من البر كما يقال البر والصلة ، و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن البر ؟ فقال : [البر حسن الخلق ] و كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : إن البر شيء هين : وجه طليق و كلام لين.
و هذا يحتاج إليه في الحج كثيرا أي معاملة الناس بالإحسان بالقول و الفعل-كما يقول الإمام ابن رجب- قال بعضهم : إنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، وفي المسند والمستدرك عن جابر رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بر الحج ؟ قال:إطعام الطعام و إفشاء السلام وفي لفظ(و طيب الكلام) ضعفه ابن حجر وحسنه الألباني.
و من أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصى به النبي صلى الله عليه و سلم أبا جري جابر بن سليم الهجيمي حيث قال : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تنحي الشئ من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ولو أن تؤنس الوحشان في الارض وإن سبك رجل بشئ يعلمه فيك وأنت تعلم فيه نحوه فلا تسبه فيكون أجره لك ووزره عليه وما سر أذنك أن تسمعه فاعمل به وما ساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه. (أخرجه الحاكم).
وفي رواية« و إن امرؤ شتمك و عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه و لا تسبن أحدا " قال : فما سببت بعده حرا و لا عبدا و لا بعيرا و لا شاة " .وفي الحديث قصة وهي مروية عند أحمد ، وأبي داود ، والنسائى ، ، والطبرانى ، وابن حبان ، والبيهقى فى شعب الإيمان وغيرهم وصححه الألباني. .
و في الجملة : فخير الناس أنفعهم للناس و أصبرهم على أذى الناس كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين } و الحاج يحتاج إلى مخالطة الناس ، و المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم و لا يصبر على أذاهم .
4- ومنها كثرة ذكر الله تعالى فيه و قد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى كما قال سبحانه :(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) البقرة .
و خصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام بالتلبية و التكبير ، ففي سنن الترمذي وابن ماجه و غيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أفضل الحج العج و الثج ] والعج: هو رفع الصوت بالتكبير والتلبية ، والثج: هو إراقة دماء الهدايا و النسك .
5- ومنها اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث و الفسوق و المعاصي ، قال الله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة (197).
و في الحديث الصحيح:[من حج فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ] رواه البخاري ومسلم.
فما تزود حاج و لا غيره بأفضل من زاد التقوى و لا دعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى .
وقد روى الترمذي وقال : (( حديث حسن )) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : قال : « جاء رجلٌ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال : إِني أُرِيدُ السفر ، فزَوِّدني ، قال : زَوَّدك اللهُ التَّقوى ، قال : زِدني ، قال : وغفر ذَنبَكَ ، قال : زدني، - بأبي أنتَ وأُمِّي - قال : ويَسَّرَ لك الخير حيثما كنتَ».
وقال بعض السلف: لمن ودعه للحج أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا حين ودعه : [ اتق الله حيثما كنت و أتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن ]
6- ومنها أن يطيب نفقته في الحج وأن لا يجعلها من كسب حرام، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وقد قيل:
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل صالحة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
7- ومنها أن لا يقصد بحجه رياء و لا سمعة و لا مباهاة و لا فخرا و لا خيلاء و لا يقصد به إلا وجه الله و رضوانه و يتواضع في حجه و يستكين و يخشع لربه.
إذلايُقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجه الله ، فقدقال الله تعالى(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). وروى أبو داود والنسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه).
روي ابن ماجة والتِّرْمِذِيّ في (الشَّمائل) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل رث و قطيفة ما تساوي أربعة دراهم و قال : اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها و لا سمعة ] .
( أتاك الوافدون إليك شعثا ... يسوقون المقلدة الصواف )
( فكم من قاصد للرب رغبا ... و رهبا بين منتعل و حاف )
8- وقيل ( المبرور ) : المقبول. قالوا : ومن علامات قبول الحج، أن يرجع العبد خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي.
وعلى كل فكما قال الإمام الْقُرْطُبِيّ : الْأَقْوَال الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيره مُتَقَارِبَة الْمَعْنَى ، وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامه وَوَقَعَ مَوْافقا لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّف عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل. نقله ابن حجر في (فتح الباري) وَاَللَّه تعالى أَعْلَم .
أسأل الله تعالى أن يرزقنا حجا مبرورا وسعيا مشكورا وعملا متقبلا إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصجبه وسلم.