نبذةٌ عن الفيلسوف: إيمانويل كانت/
ولد إيمانويل كنت في كونيجزبرج الألمانية في ( 22 إبريل 1724 ) من أصول
اسكتلندية كما يحكي هو عن نفسه فهو يخبرنا عن جده أنه «هاجر
في ختام القرن الماضي من اسكتلندا إلى بروسيا، ولا أدري لم». يعني
اسم إيمانويل بالألمانية «الله معنا» مما
يشير إلى نشأة دينية.
تزوج أبوه يوهان جيورج من آنا رويتر وكان إيمانويل رابع أبنائهما الأحد عشر
الذين ماتوا في سن مبكرة ولم يتبق منهم إلا أربعة.
٭ النشأة
كان والد كنت سرّاجا مجتهدا في عمله. أما والدته آنا رويتر فكانت شديدة
التدين حريصة على سماع المواعظ مما دعاها إلى إلحاق إيمانويل بمعهد فردريك
الذي بقي فيه لمدة ثماني سنوات قاسية يصفها بقوله «إن
الخوف والرعدة يغلبانه حين يتذكر تلك الأيام». توفيت أمه وهو في
الثالثة عشرة من العمر فيما توفي والده حين كان عمره اثنتين وعشرين سنة مما
يعني تحمله لجزء من مصاريف أسرته. يفسر البعض بهذه النشأة القاسية تلك
الصرامة والجدية التي كانت إحدى سمات هذا الفيلسوف.
٭ العمر كله للعلم
ذكرنا أن كنت دخل بدفع من أمه معهد فردريك وبقي فيه لمدة ثماني سنوات ثم
التحق بعد ذلك بجامعة المدينة «كونيجزبرج» في
سبتمبر سنة 1740. تعلم كنت في المعهد الكلاسيكيات الرومانية واستظهر الكثير
من نصوص الأدب اللاتيني الشعرية والنثرية. أما في الجامعة فقد حضر دروس
مارتن كنتوسن في الفلسفة والرياضيات، ومحاضرات شولتس في علم أصول الدين
ودروس تسكه في الفيزياء. وبسبب ظروفه المادية ترك الدراسة ليعمل مدرسا
خصوصيا عند بعض الأسر الثرية في المدينة وريفها إلا أنه تابع دراسته في
أوقات الفراغ وأعد رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه سنة 1755 بعنوان «في النار» كما أعد أطروحة ثانية عن «المبادئ الأساسية للمعرفة الميتافيزيقية» سمح له بعد
ذلك بأن يحاضر في الجامعة بوصفه «معلماً خاصاً» لا يكافأ إلا بالرسوم التي
يقرر الطلبة دفعها. استمر على هذا الوضع القلق لمدة خمسة عشر سنة إلى أن
خلا كرسي المنطق والميتافيزيقيا فعين فيه سنة 1770 حتى 1796. في سنة 1780
أصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأكاديمي وبعد سنوات أصبح عضوا في الملكية
للعلوم في برلين. وتولى عمادة كلية الآداب خمس مرّات، وكان مديرا للجامعة
لفترتين كل فترة سنتان. استمر في عمله في إلقاء المحاضرات في الجامعة
وإجراء البحوث والمشاركة في المؤتمرات إلى أن بلغ سن الشيخوخة واقتربت
حياته من النهاية.
٭ الفقر رفيق الدرب
يمكن لنا القول أن كنت عاش أغلب فترات حياته خصوصا بدايتها وفترة الشباب في
حال اقتصادية سيئة. فقد ولد كما سلف في عائلة فقيرة وتحمل جزءا من
مسؤولية الأسرة وهو في العشرين من عمره. كما أنه بقي في الجامعة بدون دخل
ثابت فقد كان دخله يأتي من خلال ما يدفعه طلابه فقط وقد رفض طلبه
الأستاذية في هذه الفترة مرّتين. وظل فقيرا ينتقل من نزل إلى نزل. وقد
حاضر في مواضيع متباينة من أجل اجتذاب عدد أكبر من الطلاب. وكان عليه أن
يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بد كما يذكر بعض المؤرخين أن كنت
المعلم كان يختلف عنه كمؤلف اشتهر بغموضه وتعسر فهمه.
٭ «كنت» العزوبي الشهير
شهيرة هي عزوبية «كنت» طوال حياته، تناولها
الباحثون بشكل واسع فمنهم من عزا إليها الصرامة والجدية التي وسمت حياة كنت
ومنهم من حاول أن يستنتج منها موقفا لكنت تجاه المرأة. الكثير ينسى أن
الفلاسفة العزاب ليسوا بالقلة نذكر هنا المشاهير أفلاطون وديكارت وليبنيتز
وهوبس ولوك وهيوم. ولكن هل كان كنت معرضا لمبدأ الزواج ؟ شهادات عدة
محفوظة تثبت أنه لم يكن رافضا لمبدأ الزواج بل إنه أحب وعشق وفكر
بالاقتران مرتين. يقول أحد أصدقائه «حسبما أعلم»،
أبدى كنت عن عزمه الحادّ على الزواج مرتين: في الأولى تعلّق الأمر بأرملة
رقيقة جميلة أجنبية (أي ليست من مدينته) كانت تزور أقاربها في «كونيغسبرغ» ولم ينكر كنت أن هذه السيدة كان يود أن
يعيش معها، لكنه فكر في الدخل والتكاليف، فراح يؤجل القرار يوما إثر يوم.
ثم إن هذه السيدة الجميلة قامت بزيارة أصدقائها في الجبال وهناك تزوجت برجل
آخر. وفي المرّة الثانية جذبته آنسة جميلة من وستفاليا، كانت مرافقة سفر
لسيدة نبيلة لها أملاك في بروسيا الشرقية. واجتمع كنت بالفتاة في
اجتماعات، وكانت رقيقة وتحسن القيام بشؤون البيت، وأبدى كنت تعلقه بها،
لكنه تردد كثيرا في التقدم إليها برغبته، حتى أنه فكر في الذهاب إلى
زيارتها لما كانت قد غادرت بروسيا ووصلت إلى حدود وستفاليا. ومنذ ذلك
الوقت لم يفكر في الزواج.
طبعا كان هذا السؤال يطرح كثيرا على كنت. وحين كان يلقى عليه هذا السؤال،
خصوصا في السنوات الأخيرة من حياته، لم يكن يتلقاه بقبول حسن، بل كان يغيّر
مجرى الحديث، ويرى أن ذلك إلحاح في تفقد شؤونه الخاصة. كان كنت يستمتع
بالحديث والحضور مع المثقفات مع النساء لكنه، وهذا يدعو للتأمل، إذا أرادت
امرأة أن تذكّره ب«نقد العقل المحض» كتابه
الأشهر أو أن تحدثه في الثورة الفرنسية، وهو موضوع كان يحب الحديث فيه في
اجتماعات الرجال، فإنه كان ينصرف عنها.
وقد ورد في إحدى رسائله إلى إحدى النساء حين دعاها إلى لقائه التالي «وإني أبعث إليك بقبلة، وأرجو أن يكون الهواء متعاطفا، حتى
لا تفقد القبلة حرارة عاطفتها». يقول كنت في إحدى إجاباته القليلة
عن عدم زواجه وكان قد بلغ الخامسة والسبعين بروح من النكتة «عندما كنت في حاجة إلى زوجة، لم أكن قادرا على إطعامها،
وعندما أصبحت قادرا على إطعام زوجة، لم أعد في حاجة إليها». فهل كان
الفقر هو سبب عزوف كنت عن الزواج الذي كان يعرّفه بأنه «ارتباط بين شخصين مختلفي الجنس غايته التملك المتبادل
المستديم لخصائصهما الجنسية» والذي جعل شرطا لنجاحه «أن يكون الزوجان مثل شخص معنوي واحد، يحيا ويسلك بفضل عقل
الرجل وذوق المرأة».
٭ الفيلسوف والموقف من السياسة
«كنت» هو أحد رموز التنوير الكبار وفي عصر
الملك فردريك الثاني (1740 - 6871) ازدهرت أفكار التنوير وأثرت الفلسفة
الكنتية في أوساط المفكرين والأدباء وبعض الأوساط في إدارة الدولة لأن هذا
الملك كان مشجعا للعلم والثقافة وحرية الرأي. ولكن بعد تولي ابن أخيه
فردريك فلهلم الثاني، العرش في برلين (1786 - 7971) بدأت حملة ضد التنوير
وحرية الفكر وانتشرت الرقابة في أرجاء المملكة وكان كنت أبرز من استهدفتهم
هذه الحملة وصدر مرسوم ملكي يمنعه من الاستمرار في الكتابة والنشر (1791)
لكنه لم يتوقف عن الكتابة ووصل الأمر بالناشرين إلى رفع التماس إلى الملك.
ولما نشر كنت كتابه «الدين في حدود العقل فقط»
سنة 1793 صدر قرار من مجلس الوزراء مخاطبا الفيلسوف «إنك
لا بد تدرك كم أنت مسؤول بوصفك معلما للشباب وأمام واجباتنا وأغراضنا
الوطنية المعروفة جدا. ونرجو من سيادتك الشريفة أن تتحلى بالمسؤولية
الواعية، ونأمل منكم - تجنبا لعدم رضانا العالي - ألا ترتكب أمرا من تلك
الأمور، بل تستخدم مكانتك وموهبتك ووفقا لما يمليه عليك واجبك - في تحقيق
نوايانا الوطنية، وإلا فإن استمرارك في هذا الطريق سيؤدي بنا حتما إلى
اتخاذ إجراءات غير مرضية لك». وتحت هذا التهديد المغلف بالاحترام
قرر كنت الصمت في ما يخص الموضوعات الدينية يقول في رد على الرسالة الملكية
«إن إنكار واستنكار ما يقتنع به المرء أمر مهين
دنيء، لكن السكوت في حالة كهذه هو واجب المحكومين، وحتى لو كان كل ما
يقوله الإنسان صحيحا فليس من الواجب أن يصرّح بكل الحقيقة علانية».
كان شعار كنت في هذا الموقف كما يقول عبدالرحمن بدوي «لا أقول إلا ما أعتقد أنه الحق ولكنّي لا أصرّح بكل ما
أعتقد أنه حق».
٭ كنت والثورة الفرنسية
بدأت الثورة الفرنسية ( 1789 ) وكنت في أوجه الفلسفي وكان موقفه منها معبرا
عن حقيقة تقييمه للأحداث السياسية في عصره. واشتد حماسه لها قناعة
بمبادئها (الحرية والإخاء والمساواة) رغم أن حماسه قد فتر مع التحولات
الدموية التي جرّت الثورة نفسها إليها وراحت تأكل بنيها. إلا أن كنت بقي
وفيّا للقيم كان مؤمنا بها مع فلاسفة الثورة فولتير وروسو وديدرو الذين كان
متواصلا معهم بشكل كبير، كتب كنت عن الثورة الفرنسية يقول «مثل هذه الظاهرة لا يمكن أن تنسى، إذ هي كشفت في الطبيعة
الإنسانية عن استعداد للعمل لما هو أفضل لأن هذا الحادث هو من العظمة ومن
الارتباط الوثيق بمصالح الإنسانية ومن سعة التأثير في العالم بكل أجزائه،
إلى حد أنه ينبغي أن تذكّر به الشعوب في الظروف المناسبة، وعند المحاولات
الجديدة من هذا النوع».
٭ كنت والدين
عرفنا أن كنت قد نشأ في أسرة متدينة خصوصا والدته إلا أنه مع تطوّره
الفلسفي بدأ في فهم خاص للدين. فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة
والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل
في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين
للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية.
وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق
إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ
العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه
وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته
وحريته. كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من
تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول
يوم دراسي «اليوم الأكاديمي» بالمدينة حتى
يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال
الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب
واتجه لبيته.
٭ الجدول اليومي الصارم
اشتهر كنت بجدوله اليومي الصارم ومن المبالغات في هذا الشأن أن جيرانه
كانوا يضبطون ساعاتهم على خروجه للمشي يوميا في الساعة الرابعة والنصف عصرا
مرتديا معطفه الرمادي وعصاه في يده. يذكر أنه لم يتأخر عن هذه النزهة إلا
مرّة واحدة بسبب قراءته لرواية «إميل»
للفرنسي جان جاك روسو ولا يزال الشارع الذي كان يسير فيه يسمى «نزهة الفيلسوف». كان يستيقظ يوميا في الخامسة صباحا
ويذكر عن نفسه أن لم يستغرق في النوم لما بعد الخامسة على مدى ثلاثين
عاما، يبدأ يومه بشرب القهوة، فالكتابة، فالمحاضرة فالغداء ثم الخروج
للنزهة والمشي. كما أنه كان يخلد للنوم في العاشرة مساء. وبسبب اعتلال
صحته أنه كان لا يتنفس إلا من أنفه في البرد ولذا لم يكن يسمح لأحد
بالحديث معه أثناء نزهته اليومية في فصول الشتاء والخريف والربيع، إذ
سيضطره الكلام إلى التنفس من فمه. وكان يقول: الصمت خير من المرض. ويذكر
ديورانت أنه طبق الفلسفة حتى على ربط جواربه، فكان له طريقة خاصة في ربطها
برباط يمر بجيوب بنطلونه. وكان يفكر في كل شيء تفكيرا طويلا قبل أن يقدم
عليه.
٭ نهاية الرحلة واستمرار الفلسفة
في 8- 10 - 1803 أصابت كنت نوبة قلبية فلازم الفراش طيلة أربعة أيام ثم نهض
وكان يتناول الطعام مع زائريه. لكن قوته بدأت تتلاشى وفي الساعة العاشرة
من صباح 12- 2- 1804 سمعه أحد تلامذته يهمس بآخر كلماته «حسن» وأغمض عينيه. يقول مرافقه «كان
موته توقفا للحياة، لا فعلا عنيفا للطبيعة» وودعت مدينة وجامعة كونيغسبرغ
فيلسوفها في مأتم مهيب، ودفن في «قبو الأساتذة» في مقبرة الجامعة
دون أية مراسم دينية، وبعد أن نقل رفاته مرارا بسبب تقلّب الأحوال أنشئ له
ضريح في سنة 1924 بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده ونقشت عليه
العبارة الشهيرة من خاتمة كتابه «نقد العقل العملي»:
«شيئان يملآن الوجدان بإجلال وإعجاب يتجددان
ويزدادان على الدوام كلما أمعن التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي
والقانون الأخلاقي في صدري». يقول ديورانت عن كنت «هذا الفيلسوف الضئيل الحجم الذي لم يتجاوز الخمسة أقدام في
طوله، والذي امتاز بالاعتدال والانطواء على نفسه، كان يحمل في رأسه أعظم
ثورة في الفلسفة الحديثة». فيما يصفه عبدالرحمن بدوي في موسوعة الفلاسفة
ب«أعظم فلاسفة العصر الحديث».
قراءة ممتعة ارجوها لكم
رابط التحميل المباشر:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]