يكتمل اليوم جزء من سلسلة أحلام جمال عبد الناصر, ويأتي هذا الاكتمال في عيد ميلاده السادس والتسعين, فحين ينتهي استفتاء الدستور,
يكون الرجل قد استراح في علياء الجنة لأن الشعب المصري قد تخلص بشكل نهائي وعملي من تسلط هذا المسلسل الطويل من مرتدي أقنعة التجارة بالدين والدنيا الذين قبلوا لأنفسهم دور القفازات في أيدي القوي التي أرادت لمصر أن تظل مجرد قرية خلف البحر المتوسط تتلقي الأوامر مع بعض من المعونات بينما يتم استنزاف خيراتها.
حين جاء عبد الناصر إلي العالم عام1918, بدا وكأنه تلقي النبوءة المرصودة لها حياته, فمصر كعادتها تبلور أحلامها من خلال المخلصين لقراءة أعماق ما في شعبها من أحلام. وشاء القدر أن يلتحق جمال وصحبه بالجيش في غفلة من قوي الحفاظ علي مصر متخلفة, فقد أنشئ هذا الجيش بعد هزيمة عرابي للزينة الاحتفالية
ثم فوجئ الكون بميلاد جديد لهذا الجيش في الثالث والعشرين من يوليو1952 كزلزال تسترد به مصر حقها في إقامة العدالة كرغيف علي مائدة الفلاح وصناعة الاستقلال ببندقية في يد المقاتل, ويقرأ تلك الحقائق صاحب البصيرة الفاقد للبصر طه حسين;فيكشف لنا بعد أسابيع قليلة من أيام يوليو1952 أن ما حدث هو ثورة تتخطي حدود آثارها هذا الوادي, ليتلقف تلك الرؤية الدكتور محمود فوزي الذي كان مندوبنا بالأمم المتحدة ليأتي إلي مصر ويبلغ جمال عبد الناصر وصحبه إطارات ثورة يوليو المؤثرة في ثلاث دوائر عربية وآسيوية وأفريقية.
وحين توهمت الولايات المتحدة أنها قادرة علي استخدام ثورة مصر كحصان طروادة لترويض العالم الثالث, فوجئت بأن جمال عبد الناصر لم يكن مجرد حاكم, بل هو كائن صاغه الوجدان المصري العربي كرسالة لها ضوء قادر علي أن يزيل آثار ظلمات الغياب عن أمة عربية مضي وقت طويل علي غيابها. وهنا درست الولايات المتحدة نقاط ضعف عبد الناصر فدبرت هزيمة الخامس من يونيو1967
وتفاجأ الولايات المتحدة كما فوجئ الكون كله بأن شعبا سريا خرج في التاسع من يونيو1967 ليقول لرحيل ناصر عن مسرح القيادة لا, فعل المصريون ذلك لأنهم لمسوا عبر رحلة حكم عبد الناصر أنه قادر علي تفجير قدراتهم ليبنوا سدا عاليا ويقيموا المصانع ويطوروا الزراعة, ولم يعد الرغيف موجودا علي مائدة الفقير كصدقة من أثرياء تضخمت ثرواتهم بالرضوخ للمستعمر والسراي بل من إنتاج عمل الإنسان. لم يكن صدفة أن يغادر عبد الناصر الحياة بعد أن قام بإعادة بناء جيش قادر علي تحقيق معجزة كونية باهرة هي عبور قناة السويس.
مازالت الذاكرة تحمل ما جري بعد هزيمة يونيو لحظة أن جلس الشهيد عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة ليدرس ملفات الضباط القادرين علي خوض أية معارك قادمة, ولم يكن الولاء لأي شخص أو قائد هو المعيار الأساسي لبقاء أي ضابط لنيل شرف المواجهة مع إسرائيل, بل كان الولاء أساسا لهذا الوطن. وقد قال الفريق أول يوسف صبري أبو طالب كيف استمر وجودك بالجيش وأنت من دفعة شمس بدران التي قيل إن معظمها له ولاء لوزير الحربية المهزوم شمس بدران؟ أجابني كانت كلمة جمال عبد الناصر للشهيد عبد المنعم رياض: الجيوش كما تعلم يا عبد المنعم لا تدافع عن شخص, ولكن تدافع عن وطن.
ومضت سنوات بعد إنتصار أكتوبر في محاولات لا تنتهي لطمس قدرة صناعة الأمل, ولتزدحم الساحة بسماسرة يتاجرون بكل شيء حتي بانتصار أكتوبر. ولم تنتبه القيادات العربية بأجمعها إلي ما قاله محمود رياض أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق علي الأمة العربية ألا تصدر برميلا واحدا من البترول إلا بعد أن تحصل علي ثمنه خبرة تكنولوجية وصناعية وعلمية تغير من الواقع الاجتماعي ليتحقق للعرب مكانا ومكانة. لكن التنافر بين زعامات قصيرة النظر لم تفطن إلي ما يمكن أن يحققه التكامل العربي, وهذا التنافر هو الذي وضع صدام حسين علي مشنقة بول برايمر الحاكم العسكري الأمريكي, وهو الذي سحل معمر القذافي في صحراء ليبيا, وهو الذي وضع مبارك خلف قضبان العجز عن قراءة منابع قوة المصريين, وإصرارهم علي أن يكونوا جزءا من العالم وصانعي حضارته المستقبلية.
لعل أوباما قد أيقن الآن أنه أخطأ حين ظن أنه دخل بهودج المنتصرين إلي قصر القبة ليلتقي بمبارك الذي أوشك علي الغروب; و كان أوباما يخفي خلف ظهره ورقة تسليم حكم مصر للمتأسلمين, فوقع في الخطأ الجوهري ألا وهو العجز عن قراءة ما يمكن أن يفعله أهل المحروسة. وإذا كان أوباما قد استراح بعض الوقت بمجيء محمد مرسي بالخديعة, فلابد أن قد أفاق علي هذا الغروب السريع والنادر لهذا الذي توهم هو الآخر أن تعاونه مع البيت الأبيض هو الضامن الأول له لحكم مصر, فجاءه القرار الشعبي العارم في الثلاثين من يونيو لينزله من قصر الاتحادية وليودعه خلف القضبان, ويكون التفويض العارم في السادس والعشرين من يوليو2013 للجيش المصري ليحمي الوطن من فيروسات الإرهاب والتجارة بالدين.
وها هو عيد ميلاد جمال عبد الناصر يأتي, وجموع الشعب التي صاغته من أحلامها تعيد صياغة قيادة جديدة لهذا الوطن وتعيد تعليم من ظنوا أنهم كبارا في هذا الكون,هذا البلد يسترد بأصوات وقدرات مواطنيه حق بناء مستقبل تتعامل فيه مصر مع العالم كرقم صعب لا يفلح معه ابتزاز, أو محاولات استنزاف أو استبداد.
عزيزي الشعب المصري الذي أهدانا جمال عبد الناصر كقارئ لخريطة أحلامنا, كل سنة وأنت طيب أيها الشعب النبيل والعظيم