نلسون مانديلا بطل الكفاح ضد العنصرية وأسطورة الإخلاق السامية .. هكذا عاش الرجل الرمز وهكذا رحل في هدوء بمنزله في جوهانسبرغ الخميس (5 ديسمبر 2013) بعد صراع طويل مع مرض في الرئة..
كان مانديلا بين اوائل من تبنوا المقاومة المسلحة لسياسة العزل العنصري في جنوب إفريقيا (أبارتيد) في 1960 لكنه سارع إلى الدعوة إلي المصالحة والعفو عندما بدأت الأقلية البيضاء في البلاد تخفيف قبضتها على السلطة بعد ذلك بثلاثين عاما رافضاً لمنطق الانتقام .. انتخب مانديلا، الذي قضى حوالي ثلاثة عقود في السجن، رئيسا لجنوب إفريقيا في انتخابات تاريخية متعددة الأعراق في 1994 وتقاعد في 1999 .
وحصل على جائزة نوبل للسلام في 1993 وشاركه فيها فريدريك دي كليرك الزعيم الأبيض الذي أفرج عن أشهر سجين سياسي في العالم. وفي 1999 سلم مانديلا السلطة إلي زعماء أكثر شبابا وأكثر تأهيلا لإدارة اقتصاد حديث في رحيل طوعي نادر عن السلطة ضرب كمثل للزعماء الأفارقة الذين نادراً ما يتركون السلطة طواعية .
ومع تقاعده حول مانديلا جهوده إلي مكافحة مرض الايدز في جنوب إفريقيا خصوصا بعد أن توفي ابنه مصاباً بهذا المرض في 2005 . وكان اخر ظهور رئيسي لمانديلا على الساحة العالمية في 2010 عندما حضر مباراة في نهائيات كأس العالم لكرة القدم حيث لقي استقبالا حافلا من 90 ألف مشاهد في ملعب في سويتو الحي الذي شهد بزوغه كزعيم للمقاومة.
دهشة
لقد خرج نلسون مانديلا من السجن، بعد 27 سنة قضاها فى غياهبه ،و تعجب العالم من سخاء روحه، لا بل حتى من مزاجه، وأسلوبه المهذب، ، وابتسامته الدائمة وغياب المرارة لديه رغم كل هذه السنوات التى قضاها خلف القضبان .
لقد كانت سمات مانديلا وافعاله موضع إعجاب للكثيرين، مادفع البعض للسعى لتفسير عبقريته السياسية. فقد كان مانديلا ، ذا ارادة حديدية، مندفعا وازدرائيا ـ واكثر حدّة مما بدا عليه. كانت سماته تلك ضرورية له ـ لين وصلابة ـ كي يهندّس معجزة سياسية تتمثل فى إقناع الحكومة بالجلوس الى التفاوض على تنحيها هي بمنحها السلطة للناس الذين قمعتهم بلا رحمة لسنوات طويلة .
تحولات
يؤكد التاريخ أن التحولات التاريخية بذلك الحجم الكبير قد تحدث تقليديا تحت تهديد السلاح. لكن مانديلا كان يعرف انه كي يأخذ السلطة سلميا، كان مضطرا لتهدئة المخاوف العنصرية والأحقاد التي امتلئت بها جنوب افريقيا الجميلة منذ ان استقر البيض فيها قبل اربعة قرون. كان عليه ان يعلّم المسلحين السود ألاّ ينبغي منهم الانتقام، وان يعلم البيض الخائفين ألاّ يخشون ثأرا ممن اضطهدوهم لعدة عقود .
كان مانديلا يستعمل احيانا هالة الشهيد المحيطة به ضد انصاره هو شخصيا. ففي حملة انتخابية في العام 1994، عندما عمد بعض الشبان السود المتهورين الى تمزيق لافتة حزب سياسي صغير كانوا يعدونه فاسدا، وصفهم مانديلا بانهم "غوغاء" و "حيوانات" وقال إنهم عار على حركة التحرر. وأمر ان يقوم اولئك المراهقين المعاقَبْين بإعادة تعليق اللافتة، وهو ما قاموا به بسرعة.
لكن مع تفرق الجموع، رد لهم كرامتهم. فقد قال لهم إنه يحبهم، وأنهم سيكونون رفاقه الى الابد. تقريع، وتقرّب، ومطالبة، ومداهنة ـ فعندما تكون لديك أخلاقيات سامية، فان خياراتك التكتيكية لا حدود لها في المستوى العملي. وكانت تلك من سمات عبقرية مانديلا .....في تلك الأيام، كانت جنوب افريقيا تمتلىء بالمسلحين البيض. واخطر لحظة في حملة مانديلا الرئاسية جاءت عندما ترك آلاف عدة من البيض المدججين بالسلاح مزارعهم وتوجهوا الى بوفوثاتسوانا، وهي احدى مناطق السود، التي أقيمت لهم في ظل الفصل العنصري، حيث كانوا يخططون للانضمام الى القوات المناصرة للفصل العنصري، المتكونة من سود كانوا ألعوبة بيد الحكومة، ويسعون للانحراف بالانتخابات عن مسارها.
وعلى خلاف المتوقع، انقلب حلفاؤهم السود المفترضون عليهم، وفشلت المؤامرة وبعد مضي شهرين، انتخب مانديلا رئيسا. استغرق عد بطاقات الاقتراع اياما قلائل، ولقضاء ذلك الوقت، عمد مانديلا الى دعوة مجموعات صغيرة من المراسلين الاجانب الى جناح بفندق حيث اجرى لقاءات معهم. ركز فيها على أن حكم القانون يجب ان يسود.
محطات
حمل نيلسون مانديلا على ظهره تاريخ شعب جنوب إفريقيا، من النضال إلى الحرية، ومن الفصل العنصري إلى المساواة بين أبناء البلد الواحد، إذ يعد رمزا لمكافحة التمييز العنصري في العالم.
فهو الرئيس الأسبق لجمهورية جنوب إفريقيا، وأحد أبرز المناضلين والمقاومين لسياسة التمييز العنصري التي كانت متبعة في جنوب إفريقيا.
لقبَّه أفراد قبيلته باسم "ماديبا" وتعني العظيم المبجل، وهو لقب يطلقه أفراد عشيرة مانديلا على الشخص الأرفع قدرا بينهم وأصبح مرادفا لاسم نلسون مانديلا.
ودائما ما اعتبر مانديلا أن المهاتما غاندي المصدر الأكبر لإلهامه في حياته وفلسفته حول نبذ العنف والمقاومة السلمية ومواجهة المصائب والصعاب بكرامة وكبرياء.
حياة مانديلا
ولد نلسون مانديلا، في 18 يوليو 1918 بقرية صغيرة تدعى ميزو في منطقة ترانسكاي، وكان والده رئيس قبيلة، وقد توفي عندما كان نيلسون لا يزال صغيرا، إلا انه انتخب مكان والده، وبدأ إعداده لتولي المنصب عندما كان صغيرا، إذ كان مانديلا أول عضو في عائلته يذهب إلى المدرسة، حيث أعطاه معلمه اسم "نلسون".
بدأ الإعداد لنيل البكالوريوس من جامعة فورت هار، ولكنه فصل من الجامعة، مع رفيقه أوليفر تامبو، عام 1940 بتهمة الاشتراك في إضراب طلابي.
عاش مانديلا فترة دراسية مضطربة وتنقل بين العديد من الجامعات وتابع الدراسة بالمراسلة من مدينة جوهانسبرغ، وحصل على الإجازة ثم تسجل لدراسة الحقوق في جامعه ويتواتر ساند.
وفي تلك الفترة، كانت جنوب إفريقيا خاضعة لحكم يقوم على التمييز العنصري الشامل، إذ لم يكن يحق للأفارقة الانتخاب ولا المشاركة في الحياة السياسية أو إدارة شؤون البلاد.
أحس مانديلا وهو يتابع دروسه الجامعية بمعاناة شعبه فانتمى إلى "المجلس الوطني الإفريقي" المعارض للتمييز العنصري عام 1944، وفي العام نفسه ساهم في إنشاء "اتحاد الشبيبة" التابع للحزب، وأشرف على إنجاز "خطة التحرك"، وهي برنامج عمل لاتحاد الشبيبة ، وقد تبناها الحزب عام 1949.
ضد العنصرية
في عام 1952، بدأ الحزب ما عرف بـ"حملة التحدي"، وكان مانديلا مشرفا مباشرا على هذه الحملة، فجاب البلاد كلها ليحض الناس على مقاومة قوانين التمييز العنصري.
افتتح مانديلا مع رفيقه أوليفر تامبو أول مكتب محاماة للأفارقة في جنوب إفريقيا، وخلال تلك السنة صار رئيس الحزب في منطقة الترانسفال، ونائب الرئيس العام في جنوب إفريقيا كلها.
أتاحت له ممارسة المحاماة فرصة الاطلاع مباشرة على المظالم التي كانت ترتكب ضد أبناء الشعب، وفي الوقت نفسه اطلع على فساد وانحياز الســلطات التنفيذية والقضائية.
المناضل
كان مانديلا في البداية يدعو للمقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري، لكن بعد مجزرة شاربفيل التي راح ضحيتها عدد كبير من الأفارقة عام 1960، وإقرار قوانين تحظر الجماعات المضادة للعنصرية، قرر مانديلا وزعماء المجلس الإفريقي القومي فتح باب المقاومة المسلحة.
حظرت السلطات العنصرية جميع أنشطة حزب "المجلس الوطني الإفريقي"، واعتقل مانديلا حتى 1961، وبعد الإفراج عنه قاد المقاومة السرية التي كانت تدعو إلى ضرورة التوافق على ميثاق وطني جديد يعطي السود حقوقهم السياسية.
وفي العام نفسه أنشأ مانديلا وقاد ما عرف بالجناح العسكري للحزب.
في 1962 غادر مانديلا إلى الجزائر للتدرب العسكري ولترتيب دورات تدريبية لأفراد الجناح العسكري في الحزب. وعند عودته إلى جنوب إفريقيا في عام 1962 ألقي القبض عليه بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف.
مانديلا سجينا
فى أثناء محاكمته تولى الدفاع عن نفسه بنفسه، ولكن المحكمة أدانته بالتهم الموجهة إليه وحكمت عليه بالسجن مدة 5 سنوات، وفيما هو يمضي عقوبته بدأت محاكمة "ريفونيا" التي ورد اسمه فيها، حكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة القيام بأعمال التخريب.
خلال سنوات سجنه، أصبح النداء بتحرير مانديلا من السجن رمزا لرفض سياسة التمييز العنصري، وفي 10 يونيو 1980 تم نشر رسالة استطاع مانديلا إرسالها للمجلس الإفريقي القومي قال فيها: "إتحدوا ! وجهزوا! وحاربوا! إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري".
تحولت جزيرة "روبن" التي سجن فيها مانديلا إلى مركز للتعليم، وصار هو الرمز في سائر صفوف التربية السياسية التي انتشرت في طول البلاد وعرضها .
لم يغير مانديلا مواقفه وهو داخل السجن، بل ثبت عليها كلها، وكان مصدرا لتقوية عزائم سواه من المسجونين وتشديد هممهم.
وفي سبعينيات القرن العشرين، رفض عرضا بالإفراج عنه إذا قبل بأن يعود إلى قبيلته وأن يخلد إلى الهدوء والسكينة، كما رفض عرضاً آخر بالإفراج عنه في عام 1985 مقابل إعلانه رفض العنف.
تم الإفراج عنه بعد أن أمضى 27 عاما في السجن لتصديه لنظام الفصل العنصري، وذلك في 11 فبراير 1990 ليعلن بعدها وقف الصراع المسلح ويبدأ سلسلة مفاوضات أدت إلى إقرار دستور جديد في البرلمان في نهاية 1993، معتمداً مبدأ حكم الأكثرية وسامحاً للأفارقة بالتصويت.
منح مانديلا مع رئيس جنوب إفريقيا فريدريك ويليام ديكليرك جائزة نوبل، كما نال شهادات شرف جامعية عدة.
مانديلا رئيسا
أجريت أولى الانتخابات الرئاسية في 27 أبريل 1994 وأدت إلى فوز مانديلا، وشغل منصب رئاسة المجلس الإفريقي (من يونيو 1991- إلى ديسمبر 1997)، وأصبح أول رئيس إفريقي لجنوب إفريقيا (من مايو 1994- إلى يونيو 2000).
وخلال فترة حكمه شهدت جنوب إفريقيا انتقالا كبيراً من حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية، وفي يونيو 2004 قرر نيلسون مانديلا ذو الـ 85 عاما التقاعد وترك الحياة العامة، ذلك أن صحته أصبحت لا تسمح بالتحرك والانتقال، كما أنه فضل أن يقضي ما تبقى من عمرة بين عائلته.
وتزامناً مع يوم ميلاده التسعين في يوليو 2008 أقر الرئيس الأميركي جورج بوش قرار شطب اسم مانديلا من على لائحة الإرهاب في الولايات المتحدة.
وأصبح ظهوره علناً أمراً متزايد الندرة، ونقل إلى المستشفى عدة مرات بسبب مرض بالجهاز التنفسي.
لقد عاش مانديلا ومات رمزا للنضال، ، وغيرَّ وجه وطنه إلى الأفضل، وألهم العالم ملحمة للكفاح من أجل الحرية.