[url=#][/url]
من يفتح الموسوعة البريطانية أو الموسوعة الفرنسية "لاروس" على كلمة "أوفا" (OFFA)، فإنه يقرأ تاريخ هذا الملك الأنجلوسكسوني الذي حكم إنجلترا 39 عامًا (اعتبارًا من 757م حتى 796م)، وكان من أقوى ملوكها في ذلك العهد المبكر من تاريخ إنجلترا. كان ملكًا أول الأمر على "مارسيا" (Mercia)، أو ما يُطلق عليه اسم "إنجلترا الوسطى" (Middle England) التي كانت مملكة ملكية ضمن 7 ملكيات كانت موجودة آنذاك. وقد وسّع مملكته بعد أن فتح هذه الملكيات الصغيرة حوله أمثال "كنت" (Kent) و"وست" (West) و"ساكسونس" (Saxons) و"ولش" (Welsh)، كما قام بتزويج بناته من حاكم "وساكس" (Wessex)، وحاكم "نورثومبيا" (Northumbia)؛ فوسع بذلك دائرة نفوذه حتى شمل كل أجزاء إنجلترا تقريبًا، ودخل في معاهدات مع ملك فرنسا "شارلمان" ومع البابا "أندريان الأول".
والأثر المهم الباقي من عهده هو السور أو السد الذي بناه بين "مارسيا" و"واش"، الذي يُعرف حتى الآن بـ"سور أوفا".
إلى هنا فكل شيء اعتيادي..
ولكن عام 1841م حمل معه مفاجأة كبيرة للمؤرخين؛ فقد تم العثور فيه على قطعة نقد ذهبية غريبة تمامًا تعود لعهد هذا الملك الإنجليزي القوي.
ولكن أي غرابة في هذه القطعة الذهبية المحفوظة الآن في شعبة النقود القديمة في المتحف البريطاني لكي تُعدّ مفاجأة؟!
الغرابة أننا نجد كلمة الشهادة وآية قرآنية مكتوبة باللغة العربية على وجهي هذه القطعة النقدية.
وإليكم التفاصيل:
ففي أحد وجهي القطعة توجد كتابة باللغة العربية، وهي "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي الحافة كتبت عبارة "محمد رسول الله"، ثم الآية الكريمة {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33].
أما في وسط الوجه الثاني فنجد كتابة عربية أخرى وهي "محمد رسول الله"، وفي وسط هذه الجملة سجل اسم الملك "أوفا" باللغة الإنجليزية. أما في الحافة فقد كتب باللغة العربية: "بسم الله.. ضرب هذا الدينار سبع وخمسين ومائة".
وكما يفهم من إمضاء الملك أوفا فإن هذه القطعة ضربت خلال الأعوام 757 - 796م، وسنة 157 هجرية الواردة في قطعة النقد تصادف عام 774م، وهي ضمن فترة حكم الملك "أوفا".
لقد كتبت بحوث عديدة حول هذه القطعة النقدية، وألقيت محاضرات كثيرة حولها، وقدم المؤرخون فرضيات ونظريات عديدة لتفسير لغز هذه القطعة النقدية.
أهم هذه الفرضيات هي:
1- الفرضية الأولى: إن الملك "أوفا" اعتنق الإسلام.
2- الفرضية الثانية: إن الملك "أوفا" استعمل هذه الجمل والكلمات العربية والآيات كزخرفة أو كزينة دون أن يفهم معناها.
3- الفرضية الثالثة: كان الملك "أوفا" قد عقد سنة 787م معاهدة مع البابا "أندريان الأول" تقضي بقيام الملك بدفع فدية سنوية إليه؛ فقد تكون هذه القطع الذهبية قد سُكّت خصيصى لهذا الغرض.
4- الفرضية الرابعة: إن الملك "أوفا" سكّ هذه النقود لمساعدة الحجاج من مواطنيه من الراغبين في زيارة القدس؛ لكي تستعمل من قبلهم من أجل تأمين سهولة السفر إلى هذه الديار؛ أي أن السبب كان سياسيًّا.
مناقشة هذه الفرضيات
من الواضح أن الفرضية الثانية لا تتفق مع المنطق الإنساني السليم؛ إذ من المستحيل أن يقوم أي ملك بكتابة جمل لا يعرف معناها على النقود التي يقوم بسكها ومن أجل الزينة فقط، علمًا بأن هذه الجمل هي كلمة الشهادة التي تلخص أساس العقيدة الإسلامية، وكلمة الشهادة هذه هي التي تجعل الشخص مسلمًا؛ أي ليست أي عبارة يمكن أن تكتب من أجل الزينة.
صحيح أن بعض ملوك أوربا المنبهرين بالحضارة الإسلامية قاموا بكتابة أسمائهم باللغة العربية على النقود التي سكّوها؛ أمثال "ألفانسو الثامن" و"فاسيلس ديميتريش"، وبعض أمراء النورمان أمثال "وليام دروجر"، حتى إن الإمبراطور الألماني "هنري الرابع" سكّ اسم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" على نقود بلده لإعجابه به، ولكن لم يقم أي واحد منهم بكتابة كلمة وشهادة التوحيد على نقود بلده مثلما فعل الملك "أوفا" دون وعي، على حد زعمهم.
بالنسبة للفرضية الثالثة فإنها فرضية غريبة جدًّا وغير واقعية؛ إذ كيف يطلب البابا من الملك أوفا القيام بكتابة شهادة التوحيد على نقود الجزية التي فرضها عليه؟! فهذه الفرضية تبدو غير منطقية وربما مستحيلة؛ ذلك لأن المقام البابوي كان آنذاك من أعدى أعداء الإسلام؛ لذا فمن الطبيعي أن يرفض البابا رؤية شعار وعقيدة عدوه على النقود، حتى وإن كان على شكل زينة أو زخرفة.
بالنسبة للفرضية الرابعة:
هذه الفرضية أيضًا فرضية بعيدة الاحتمال وضعيفة؛ إذ من الصعب الاقتناع بأن الملك أوفا قد سك هذه النقود لمساعدة مواطنيه من الحجاج وتسهيل زيارتهم للقدس؛ ذلك لأن المسلمين في ذلك العهد لم يكونوا يمنعون، ولا يضعون أي عقبات أو عراقيل أمام المسيحيين من جميع الأقطار المسيحية في أوربا في زيارة المدن المقدسة لديهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسيحيين كانوا يتجولون أصلاً في البلدان الإسلامية بكل حرية قبل عهد الملك أوفا وفي عهده وبعده أيضًا. أي لم تكن هناك أي حاجة لمثل هذا التدبير.
وقد يتبادر إلى الذهن احتمال أن بلد هذا الملك كان عاجزًا آنذاك عن القيام بسك النقود؛ لذا اضطر إلى القيام بسك نقوده في أحد البلدان العربية.
ولكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا أيضًا؛ لأن الموسوعة البريطانية تذكر أن أهم إنجاز باق حول حكم هذا الملك هو تأسيسه وسكه لنوع جديد من العملات تحمل اسم الملك واسم ضاربها، وهناك الكثير من العملات التي تحمل صورة الملك أوفا، أو صورة زوجته الملكة "كانثريز".
وقد استخدم هذا النظام في سك النقود في إنجلترا لعدة عصور، ومن الممكن مشاهدة نماذج أخرى من النقود التي تم سكها في عهد هذا الملك في مبحث العملات، وفي مبحث حياة هذا الملك في الموسوعة البريطانية؛ أي أن احتمال عجز هذا الملك عن سك النقود في بلده غير وارد على الإطلاق.
الحقيقة الواضحة هي أن الملك أوفا كان قد اعتنق الإسلام، ولكننا لا نعثر على دليل آخر، ولا على أي وثيقة أخرى عدا هذه النقود، كما لا نعلم شيئًا عن كيفية إسلامه. ويرجع السبب في هذا -كما يقول المؤرخون- إلى أن الكنيسة الإنجليزية قامت بالقضاء على كل الوثائق العائدة لهذا الملك؛ بسبب اعتناقه الإسلام.
هل اعتنق هذا الملك الإسلام وحده، أم مع أفراد عائلته ومع مقربيه؟ هذا ما لا نعرفه ولا نملك حوله أي معلومات حاليًا. والذي نعتقده هو أن هذا الملك قد يكون قد التقى بعض علماء الإسلام عند زيارته لمدينة القدس، فآمن بالإسلام واعتنقه، أو قد يكون قد اتصل بالإسلام عن طريق الأندلس.
والشيء الغريب أنه لا الموسوعة البريطانية ولا الموسوعة الفرنسية "لاروس" تشيران إلى هذه الناحية بل تهملانها تمامًا، وهذا يدعم اعتقاد الذين يرون أنه حتى هذه الموسوعات المعروفة لا تتحلى بالروح العلمية وبالروح الحيادية المفروض توفرها فيها.. ولا نقول حاليًا أكثر من هذا؛ فالحر تكفيه الإشارة. ويا حبذا لو قام المؤرخون المسلمون بدراسة تاريخ هذا الملك، فلا شك أنهم سيصلون إلى نتيجة إيجابية.
من يفتح الموسوعة البريطانية أو الموسوعة الفرنسية "لاروس" على كلمة "أوفا" (OFFA)، فإنه يقرأ تاريخ هذا الملك الأنجلوسكسوني الذي حكم إنجلترا 39 عامًا (اعتبارًا من 757م حتى 796م)، وكان من أقوى ملوكها في ذلك العهد المبكر من تاريخ إنجلترا. كان ملكًا أول الأمر على "مارسيا" (Mercia)، أو ما يُطلق عليه اسم "إنجلترا الوسطى" (Middle England) التي كانت مملكة ملكية ضمن 7 ملكيات كانت موجودة آنذاك. وقد وسّع مملكته بعد أن فتح هذه الملكيات الصغيرة حوله أمثال "كنت" (Kent) و"وست" (West) و"ساكسونس" (Saxons) و"ولش" (Welsh)، كما قام بتزويج بناته من حاكم "وساكس" (Wessex)، وحاكم "نورثومبيا" (Northumbia)؛ فوسع بذلك دائرة نفوذه حتى شمل كل أجزاء إنجلترا تقريبًا، ودخل في معاهدات مع ملك فرنسا "شارلمان" ومع البابا "أندريان الأول".
والأثر المهم الباقي من عهده هو السور أو السد الذي بناه بين "مارسيا" و"واش"، الذي يُعرف حتى الآن بـ"سور أوفا".
إلى هنا فكل شيء اعتيادي..
ولكن عام 1841م حمل معه مفاجأة كبيرة للمؤرخين؛ فقد تم العثور فيه على قطعة نقد ذهبية غريبة تمامًا تعود لعهد هذا الملك الإنجليزي القوي.
ولكن أي غرابة في هذه القطعة الذهبية المحفوظة الآن في شعبة النقود القديمة في المتحف البريطاني لكي تُعدّ مفاجأة؟!
الغرابة أننا نجد كلمة الشهادة وآية قرآنية مكتوبة باللغة العربية على وجهي هذه القطعة النقدية.
وإليكم التفاصيل:
ففي أحد وجهي القطعة توجد كتابة باللغة العربية، وهي "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي الحافة كتبت عبارة "محمد رسول الله"، ثم الآية الكريمة {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33].
أما في وسط الوجه الثاني فنجد كتابة عربية أخرى وهي "محمد رسول الله"، وفي وسط هذه الجملة سجل اسم الملك "أوفا" باللغة الإنجليزية. أما في الحافة فقد كتب باللغة العربية: "بسم الله.. ضرب هذا الدينار سبع وخمسين ومائة".
وكما يفهم من إمضاء الملك أوفا فإن هذه القطعة ضربت خلال الأعوام 757 - 796م، وسنة 157 هجرية الواردة في قطعة النقد تصادف عام 774م، وهي ضمن فترة حكم الملك "أوفا".
لقد كتبت بحوث عديدة حول هذه القطعة النقدية، وألقيت محاضرات كثيرة حولها، وقدم المؤرخون فرضيات ونظريات عديدة لتفسير لغز هذه القطعة النقدية.
أهم هذه الفرضيات هي:
1- الفرضية الأولى: إن الملك "أوفا" اعتنق الإسلام.
2- الفرضية الثانية: إن الملك "أوفا" استعمل هذه الجمل والكلمات العربية والآيات كزخرفة أو كزينة دون أن يفهم معناها.
3- الفرضية الثالثة: كان الملك "أوفا" قد عقد سنة 787م معاهدة مع البابا "أندريان الأول" تقضي بقيام الملك بدفع فدية سنوية إليه؛ فقد تكون هذه القطع الذهبية قد سُكّت خصيصى لهذا الغرض.
4- الفرضية الرابعة: إن الملك "أوفا" سكّ هذه النقود لمساعدة الحجاج من مواطنيه من الراغبين في زيارة القدس؛ لكي تستعمل من قبلهم من أجل تأمين سهولة السفر إلى هذه الديار؛ أي أن السبب كان سياسيًّا.
مناقشة هذه الفرضيات
من الواضح أن الفرضية الثانية لا تتفق مع المنطق الإنساني السليم؛ إذ من المستحيل أن يقوم أي ملك بكتابة جمل لا يعرف معناها على النقود التي يقوم بسكها ومن أجل الزينة فقط، علمًا بأن هذه الجمل هي كلمة الشهادة التي تلخص أساس العقيدة الإسلامية، وكلمة الشهادة هذه هي التي تجعل الشخص مسلمًا؛ أي ليست أي عبارة يمكن أن تكتب من أجل الزينة.
صحيح أن بعض ملوك أوربا المنبهرين بالحضارة الإسلامية قاموا بكتابة أسمائهم باللغة العربية على النقود التي سكّوها؛ أمثال "ألفانسو الثامن" و"فاسيلس ديميتريش"، وبعض أمراء النورمان أمثال "وليام دروجر"، حتى إن الإمبراطور الألماني "هنري الرابع" سكّ اسم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" على نقود بلده لإعجابه به، ولكن لم يقم أي واحد منهم بكتابة كلمة وشهادة التوحيد على نقود بلده مثلما فعل الملك "أوفا" دون وعي، على حد زعمهم.
بالنسبة للفرضية الثالثة فإنها فرضية غريبة جدًّا وغير واقعية؛ إذ كيف يطلب البابا من الملك أوفا القيام بكتابة شهادة التوحيد على نقود الجزية التي فرضها عليه؟! فهذه الفرضية تبدو غير منطقية وربما مستحيلة؛ ذلك لأن المقام البابوي كان آنذاك من أعدى أعداء الإسلام؛ لذا فمن الطبيعي أن يرفض البابا رؤية شعار وعقيدة عدوه على النقود، حتى وإن كان على شكل زينة أو زخرفة.
بالنسبة للفرضية الرابعة:
هذه الفرضية أيضًا فرضية بعيدة الاحتمال وضعيفة؛ إذ من الصعب الاقتناع بأن الملك أوفا قد سك هذه النقود لمساعدة مواطنيه من الحجاج وتسهيل زيارتهم للقدس؛ ذلك لأن المسلمين في ذلك العهد لم يكونوا يمنعون، ولا يضعون أي عقبات أو عراقيل أمام المسيحيين من جميع الأقطار المسيحية في أوربا في زيارة المدن المقدسة لديهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسيحيين كانوا يتجولون أصلاً في البلدان الإسلامية بكل حرية قبل عهد الملك أوفا وفي عهده وبعده أيضًا. أي لم تكن هناك أي حاجة لمثل هذا التدبير.
وقد يتبادر إلى الذهن احتمال أن بلد هذا الملك كان عاجزًا آنذاك عن القيام بسك النقود؛ لذا اضطر إلى القيام بسك نقوده في أحد البلدان العربية.
ولكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا أيضًا؛ لأن الموسوعة البريطانية تذكر أن أهم إنجاز باق حول حكم هذا الملك هو تأسيسه وسكه لنوع جديد من العملات تحمل اسم الملك واسم ضاربها، وهناك الكثير من العملات التي تحمل صورة الملك أوفا، أو صورة زوجته الملكة "كانثريز".
وقد استخدم هذا النظام في سك النقود في إنجلترا لعدة عصور، ومن الممكن مشاهدة نماذج أخرى من النقود التي تم سكها في عهد هذا الملك في مبحث العملات، وفي مبحث حياة هذا الملك في الموسوعة البريطانية؛ أي أن احتمال عجز هذا الملك عن سك النقود في بلده غير وارد على الإطلاق.
الحقيقة الواضحة هي أن الملك أوفا كان قد اعتنق الإسلام، ولكننا لا نعثر على دليل آخر، ولا على أي وثيقة أخرى عدا هذه النقود، كما لا نعلم شيئًا عن كيفية إسلامه. ويرجع السبب في هذا -كما يقول المؤرخون- إلى أن الكنيسة الإنجليزية قامت بالقضاء على كل الوثائق العائدة لهذا الملك؛ بسبب اعتناقه الإسلام.
هل اعتنق هذا الملك الإسلام وحده، أم مع أفراد عائلته ومع مقربيه؟ هذا ما لا نعرفه ولا نملك حوله أي معلومات حاليًا. والذي نعتقده هو أن هذا الملك قد يكون قد التقى بعض علماء الإسلام عند زيارته لمدينة القدس، فآمن بالإسلام واعتنقه، أو قد يكون قد اتصل بالإسلام عن طريق الأندلس.
والشيء الغريب أنه لا الموسوعة البريطانية ولا الموسوعة الفرنسية "لاروس" تشيران إلى هذه الناحية بل تهملانها تمامًا، وهذا يدعم اعتقاد الذين يرون أنه حتى هذه الموسوعات المعروفة لا تتحلى بالروح العلمية وبالروح الحيادية المفروض توفرها فيها.. ولا نقول حاليًا أكثر من هذا؛ فالحر تكفيه الإشارة. ويا حبذا لو قام المؤرخون المسلمون بدراسة تاريخ هذا الملك، فلا شك أنهم سيصلون إلى نتيجة إيجابية.