جاءت هذه الآية الكريمة في مطلع الربع الأخير من سورة النازعات , وهي سورة مكية , تعنى كغيرها من سور القرآن المكي بقضية العقيدة , ومن أسسها الإيمان بالله , وملائكته , وكتبه ورسله , واليوم الآخر , وغالبية الناس منشغلين عن الآخرة وأحوالها , والساعة وأهوالها , وعن قضايا البعث , والحساب , والجنة , والنار وهي محور هذه السورة .
وتبدأ السورة الكريمة بقسم من الله ـ تعالى ـ بعدد من طوائف ملائكته الكرام , وبالمهام الجسام المُكلَّفين بها , أو بعدد من آياته الكونية المُبهِرة , على أن الآخرة حق واقع , وأن البعث والحساب أمر جازم , وربنا ـ تبارك وتعالى ـ غني عن القسم لعباده , ولكن الآيات القرآنية تأتي في صيغة القسم لتنبيه الناس إلى خطورة الأمر المُقسم به , وأهميته أو حتميته .
ثم تعرض الآيات لشيء من أهوال الآخرة مثل (الراجفة والرادفة) ـ وهما الأرض والسماء ـ وكل منهما يُدمَّر في الآخرة , أو النفختان الأولى التي تميت كل حي , والثانية التي تحيي كل ميت بإذن الله , وتنتقل الآيات إلى وصف حال الكفار , والمشركين , والملاحدة , المتشككين , العاصين لأوامر رب العالمين في ذلك اليوم الرهيب , وقلوبهم خائفة وجلة , وأبصارهم خاشعة ذليلة , بعد أن كانوا ينكرون البعث في الدنيا , ويتساءلون عنه استبعاداً له , واستهزاءاً به : هل في الإمكان أن نُبعث من جديد بعد أن تبلى الأجساد , وتُنخَر العظام؟
وترد الآيات عليهم حاسمة قاطعة بقرار الله الخالق ، أن الأمر بالبعث صيحة واحدة، فإذا بكافة الخلائق قيام يبعثون من قبورهم ليواجهوا الحساب , أو كأنهم حين يبعثون يظنون أنهم عائدون للدنيا مرة ثانية فيفاجأون بالآخرة ...
وبعد ذلك تلمح الآيات إلى قصة موسي ـ عليه السلام ـ مع فرعون وملئه , من قبيل مواساة رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشدائد التي كان يلقاها من الكفار , وتحذيرهم مما حل بفرعون وبالمُكذِّبين من قومه من عذاب , وجعل ذلك عبرة لكل عاقل يخشى الله ـ تعالى ـ، ويخاف حسابه .
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلى منكري البعث من كفار قريش، وإلى الناس عامة بسؤال تقريعي توبيخي : هل خُلق الناس ـ على ضآلة أحجامهم , ومحدودية قدراتهم , وأعمارهم , وأماكنهم من الكون ـ أشد من خلق السماء وبنائها , ورفعها بلا عمد مرئية إلى هذا العلو الشاهق ؟ ـ مع ضخامة أبعادها , وتعدد أجرامها , ودقة المسافات بينها , وإحكام حركاتها , وتعاظم القوي الممسكة بها وإظلام ليلها , وإنارة نهارها ـ وأشد من دحو الأرض , وإخراج مائها ومرعاها منها بعد ذلك , وإرساء الجبال عليها , وإرساء الأرض بها ؛ تحقيقاً لسلامتهم وأمنهم على سطح الأرض , ولسلامة أنعامهم ومواشيهم .
وبعد الإشارة إلى بديع صنع الله في خلق السماوات والأرض كدليل قاطع على إمكانية البعث ، عاودت الآيات الحديث عن القيامة وسمتها "بالطامة الكبرى" ؛ لأنها داهية عظمى ؛ تعم بأهوالها كل شيء , وتغطي على كل مصيبة مهما عَظمت , وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان أعماله من الخير والشر , ويراه مُدوَّناً في صحيفة أعماله , وبرزت جهنم للناظرين , فرآها كل إنسان عياناً بياناً , وحينئذٍ ينقسم الناس إلى شقي وسعيد , فالشقي هو الذي جاوز الحد في الكفر والعصيان , وفضل الدنيا على الآخرة , وهذا مأواه جهنم وبئس المصير , والسعيد هو الذي نهى نفسه عن اتباع هواها انطلاقاً من مخافة مقامه بين يدَيْ ربه يوم الحساب , وهذا مأواه ومصيره إلى جنات النعيم بإذن الله .
وتختتم السورة بخطاب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُتعلِّق بسؤال كفار قريش له عن الساعة متى قيامها ؟ , وترد الآيات بأن علمها عند الله الذي استأثر به , دون كافة خلقه , فمردُّها ومرجعها إلى الله وحده , وأما دورك أيها النبي الخاتم والرسول الخاتم فهو إنذار من يخشاها , وهؤلاء الكفار والمشركون يوم يشاهدون قيامها، فإن هول المفاجأة سوف يمحو من الذاكرة معيشتهم على الأرض , فيرونها كأنها كانت ساعة من ليل أو نهار , بمقدار عشية أو ضحاها , احتقاراً للحياة الدنيا , واستهانة بشأنها أمام الآخرة . ويأتي ختام السورة مُتوافقاً مع مطلعها الذي أقسم فيه ربنا ـ تبارك وتعالى ـ على حقيقة البعث وحتميته , وأهواله وخطورته , لزيادة التأكيد على أنه أخطر حقائق الكون وأهم أحداثه؛ لكي يتم تناسق البدء مع الختام , وهذا من صفات العديد من سور القرآن الكريم .
وهنا يبرز التساؤل عن معنى دحو الأرض , وعلاقته بإخراج مائها ومرعاها , ووضعه في مقابلة مع بناء السماء ورفعها ـ على عظم هذا البناء ـ، وذلك الرفع كصورة واقعة لطلاقة القدرة المُبدِعة في الخلق , وقبل التعرض لذلك لابد من استعراض الدلالة اللغوية للفظة الدحو الواردة في الآية الكريمة :
الدلالة اللغوية لدحو الأرض :
(الدَّحَو) في اللغة العربية هو المد والبسط والإلقاء , يقال : (دَحًا) الشيء (يَدْحُوه) (دَحْوَاً) أي بسطه ومدَّه , أو ألقاه ودحرجه , ويقال : (دَحًا) المطرُ الحصى عن وجه الأرض أي دحرجه وجرفه , ويقال : مر الفرس (يَدْحُو) (دَحْوَاً) إذا جر يده على وجه الأرض، فيدحو ترابها و (مَدْحَى) النعامة هو موضع بيضها , و(أُدْحيها) موضعها الذي تفرخ فيه .
شروح المفسرين للآية الكريمة :
في شرح الآية الكريمة : " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " ذكر ابن كثير ـ يرحمه الله ـ ما نصه : " فسَّره بقوله تعالى " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " , وقد تقدم في سورة فصلت أن الأرض خُلقت قبل خلق السماء , ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل , عن ابن عباس " دَحَاهَا " ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى , وشقَّق فيها الأنهار , وجعل فيها الجبال والرمال , والسبل والآكام , فذلك قوله: " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " .
وذكر صاحبا تفسير الجلالين ـ رحمهما الله ـ : " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " أي بسطها ومهَّدها لتكون صالحة للحياة , وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو. " أَخْرَجَ " حالٌ بإضمار (قد) أي: دحاها مُخرِجاً " مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " بتفجير عيونها , و " وَمَرْعَاهَا " ما ترعاه النعم من الشجر والعشب , وما يأكله الناس من الأقوات والثمار , وإطلاق المرعى عليه استعارة .
وذكر صاحب الظلال ـ يرحمه الله ـ : ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها , بحيث تصبح صالحة للسير عليها , وتكوين تربة تصلح للإنبات ,... , والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع , أو ما ينزل من السماء، فهو أصلاً من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر، وأخرج من الأرض مرعاها , وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام , وتعيش عليه الأحياء مباشرة أو بالواسطة ..
وجاء في (صفوة البيان لمعاني القرآن) : " ودحا الأرض ـ بمعنى بسطها وأوسعها ـ , بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء , ورفع سمكها , وتسويتها , وإغطاش ليلها , وإظهار نهارها , وقد بين الله الدحو بقوله : " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا " بتفجير العيون , وإجراء الأنهار والبحار العظام . " وَمَرْعَاهَا " أي جميع ما يقتات به الناس والدواب بقرينة قوله بعد : " مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ " وأخبرنا بعد ذلك بأنه هو الذي بسط الأرض , ومهدها لسكنى أهلها ومعيشتهم فيها . وقدم الخبر الأول لأنه أدل على القدرة الباهرة لعظم السماء , وانطوائها على الأعاجيب التي تحار فيها العقول . فبعدية الدحو إنما هي في الذكر لا في الإيجاد , وبجعل المشار إليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليها لا أنفسها , لا يكون في الآية دليل على تأخر الدحو عن خلق السماوات وما فيها .
وجاء في (صفوة التفاسير) : " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهدها لسكنى أهلها " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " أي أخرج من الأرض عيون الماء المُتفجِّرة , وأجرى فيها الأنهار , وأنبت فيها الكلأ والمرعى مما يأكله الناس والأنعام .
وجاء في (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) : والأرض بعد ذلك بسطها ومهدها لسكني أهلها , وأخرج منها ماءها بتفجير عيونها , وإجراء أنهارها , وإنبات نباتها ليقتات به الناس والدواب ..وهذا الاستعراض يدل على أن المفسرين السابقين يجمعون على أن من معاني دحو الأرض ، هو إخراج الماء والمرعي من داخلها , على هيئة العيون وإنبات النبات .
دحو الأرض في العلوم الكونية:
أولاًً : إخراج كل ماء الأرض من جوفها :
كوكب الأرض هو أغنى كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه , ولذلك يطلق عليه اسم (الكوكب المائي) ، أو (الكوكب الأزرق) وتغطي المياه نحو71% من مساحة الأرض , بينما تشغل اليابسة نحو29% فقط من مساحة سطحها , وتُقدَّر كمية المياه على سطح الأرض بنحو1360 مليون كيلو متر مكعب (1.36×10^9); وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه على سطح الأرض , من أين أتي؟ وكيف نشأ؟ . وقد وُضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض , تقترح إحداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولى من خلق الأرض , وذلك بتفاعل كلٌ من غازي الأيدروجين والأوكسجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض , وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المُذنَّبات , وترى ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلاً من داخل الأرض . والشواهد العديدة التي تجمَّعت لدى العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أُخرج أصلاً من جوفها , ولا يزال خروجه مُستمِراً من داخل الأرض عبر الثورات البركانية .
وتبدأ السورة الكريمة بقسم من الله ـ تعالى ـ بعدد من طوائف ملائكته الكرام , وبالمهام الجسام المُكلَّفين بها , أو بعدد من آياته الكونية المُبهِرة , على أن الآخرة حق واقع , وأن البعث والحساب أمر جازم , وربنا ـ تبارك وتعالى ـ غني عن القسم لعباده , ولكن الآيات القرآنية تأتي في صيغة القسم لتنبيه الناس إلى خطورة الأمر المُقسم به , وأهميته أو حتميته .
ثم تعرض الآيات لشيء من أهوال الآخرة مثل (الراجفة والرادفة) ـ وهما الأرض والسماء ـ وكل منهما يُدمَّر في الآخرة , أو النفختان الأولى التي تميت كل حي , والثانية التي تحيي كل ميت بإذن الله , وتنتقل الآيات إلى وصف حال الكفار , والمشركين , والملاحدة , المتشككين , العاصين لأوامر رب العالمين في ذلك اليوم الرهيب , وقلوبهم خائفة وجلة , وأبصارهم خاشعة ذليلة , بعد أن كانوا ينكرون البعث في الدنيا , ويتساءلون عنه استبعاداً له , واستهزاءاً به : هل في الإمكان أن نُبعث من جديد بعد أن تبلى الأجساد , وتُنخَر العظام؟
وترد الآيات عليهم حاسمة قاطعة بقرار الله الخالق ، أن الأمر بالبعث صيحة واحدة، فإذا بكافة الخلائق قيام يبعثون من قبورهم ليواجهوا الحساب , أو كأنهم حين يبعثون يظنون أنهم عائدون للدنيا مرة ثانية فيفاجأون بالآخرة ...
وبعد ذلك تلمح الآيات إلى قصة موسي ـ عليه السلام ـ مع فرعون وملئه , من قبيل مواساة رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشدائد التي كان يلقاها من الكفار , وتحذيرهم مما حل بفرعون وبالمُكذِّبين من قومه من عذاب , وجعل ذلك عبرة لكل عاقل يخشى الله ـ تعالى ـ، ويخاف حسابه .
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلى منكري البعث من كفار قريش، وإلى الناس عامة بسؤال تقريعي توبيخي : هل خُلق الناس ـ على ضآلة أحجامهم , ومحدودية قدراتهم , وأعمارهم , وأماكنهم من الكون ـ أشد من خلق السماء وبنائها , ورفعها بلا عمد مرئية إلى هذا العلو الشاهق ؟ ـ مع ضخامة أبعادها , وتعدد أجرامها , ودقة المسافات بينها , وإحكام حركاتها , وتعاظم القوي الممسكة بها وإظلام ليلها , وإنارة نهارها ـ وأشد من دحو الأرض , وإخراج مائها ومرعاها منها بعد ذلك , وإرساء الجبال عليها , وإرساء الأرض بها ؛ تحقيقاً لسلامتهم وأمنهم على سطح الأرض , ولسلامة أنعامهم ومواشيهم .
وبعد الإشارة إلى بديع صنع الله في خلق السماوات والأرض كدليل قاطع على إمكانية البعث ، عاودت الآيات الحديث عن القيامة وسمتها "بالطامة الكبرى" ؛ لأنها داهية عظمى ؛ تعم بأهوالها كل شيء , وتغطي على كل مصيبة مهما عَظمت , وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان أعماله من الخير والشر , ويراه مُدوَّناً في صحيفة أعماله , وبرزت جهنم للناظرين , فرآها كل إنسان عياناً بياناً , وحينئذٍ ينقسم الناس إلى شقي وسعيد , فالشقي هو الذي جاوز الحد في الكفر والعصيان , وفضل الدنيا على الآخرة , وهذا مأواه جهنم وبئس المصير , والسعيد هو الذي نهى نفسه عن اتباع هواها انطلاقاً من مخافة مقامه بين يدَيْ ربه يوم الحساب , وهذا مأواه ومصيره إلى جنات النعيم بإذن الله .
وتختتم السورة بخطاب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُتعلِّق بسؤال كفار قريش له عن الساعة متى قيامها ؟ , وترد الآيات بأن علمها عند الله الذي استأثر به , دون كافة خلقه , فمردُّها ومرجعها إلى الله وحده , وأما دورك أيها النبي الخاتم والرسول الخاتم فهو إنذار من يخشاها , وهؤلاء الكفار والمشركون يوم يشاهدون قيامها، فإن هول المفاجأة سوف يمحو من الذاكرة معيشتهم على الأرض , فيرونها كأنها كانت ساعة من ليل أو نهار , بمقدار عشية أو ضحاها , احتقاراً للحياة الدنيا , واستهانة بشأنها أمام الآخرة . ويأتي ختام السورة مُتوافقاً مع مطلعها الذي أقسم فيه ربنا ـ تبارك وتعالى ـ على حقيقة البعث وحتميته , وأهواله وخطورته , لزيادة التأكيد على أنه أخطر حقائق الكون وأهم أحداثه؛ لكي يتم تناسق البدء مع الختام , وهذا من صفات العديد من سور القرآن الكريم .
وهنا يبرز التساؤل عن معنى دحو الأرض , وعلاقته بإخراج مائها ومرعاها , ووضعه في مقابلة مع بناء السماء ورفعها ـ على عظم هذا البناء ـ، وذلك الرفع كصورة واقعة لطلاقة القدرة المُبدِعة في الخلق , وقبل التعرض لذلك لابد من استعراض الدلالة اللغوية للفظة الدحو الواردة في الآية الكريمة :
الدلالة اللغوية لدحو الأرض :
(الدَّحَو) في اللغة العربية هو المد والبسط والإلقاء , يقال : (دَحًا) الشيء (يَدْحُوه) (دَحْوَاً) أي بسطه ومدَّه , أو ألقاه ودحرجه , ويقال : (دَحًا) المطرُ الحصى عن وجه الأرض أي دحرجه وجرفه , ويقال : مر الفرس (يَدْحُو) (دَحْوَاً) إذا جر يده على وجه الأرض، فيدحو ترابها و (مَدْحَى) النعامة هو موضع بيضها , و(أُدْحيها) موضعها الذي تفرخ فيه .
شروح المفسرين للآية الكريمة :
في شرح الآية الكريمة : " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " ذكر ابن كثير ـ يرحمه الله ـ ما نصه : " فسَّره بقوله تعالى " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " , وقد تقدم في سورة فصلت أن الأرض خُلقت قبل خلق السماء , ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل , عن ابن عباس " دَحَاهَا " ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى , وشقَّق فيها الأنهار , وجعل فيها الجبال والرمال , والسبل والآكام , فذلك قوله: " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " .
وذكر صاحبا تفسير الجلالين ـ رحمهما الله ـ : " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " أي بسطها ومهَّدها لتكون صالحة للحياة , وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو. " أَخْرَجَ " حالٌ بإضمار (قد) أي: دحاها مُخرِجاً " مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " بتفجير عيونها , و " وَمَرْعَاهَا " ما ترعاه النعم من الشجر والعشب , وما يأكله الناس من الأقوات والثمار , وإطلاق المرعى عليه استعارة .
وذكر صاحب الظلال ـ يرحمه الله ـ : ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها , بحيث تصبح صالحة للسير عليها , وتكوين تربة تصلح للإنبات ,... , والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع , أو ما ينزل من السماء، فهو أصلاً من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر، وأخرج من الأرض مرعاها , وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام , وتعيش عليه الأحياء مباشرة أو بالواسطة ..
وجاء في (صفوة البيان لمعاني القرآن) : " ودحا الأرض ـ بمعنى بسطها وأوسعها ـ , بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء , ورفع سمكها , وتسويتها , وإغطاش ليلها , وإظهار نهارها , وقد بين الله الدحو بقوله : " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا " بتفجير العيون , وإجراء الأنهار والبحار العظام . " وَمَرْعَاهَا " أي جميع ما يقتات به الناس والدواب بقرينة قوله بعد : " مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ " وأخبرنا بعد ذلك بأنه هو الذي بسط الأرض , ومهدها لسكنى أهلها ومعيشتهم فيها . وقدم الخبر الأول لأنه أدل على القدرة الباهرة لعظم السماء , وانطوائها على الأعاجيب التي تحار فيها العقول . فبعدية الدحو إنما هي في الذكر لا في الإيجاد , وبجعل المشار إليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليها لا أنفسها , لا يكون في الآية دليل على تأخر الدحو عن خلق السماوات وما فيها .
وجاء في (صفوة التفاسير) : " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهدها لسكنى أهلها " أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " أي أخرج من الأرض عيون الماء المُتفجِّرة , وأجرى فيها الأنهار , وأنبت فيها الكلأ والمرعى مما يأكله الناس والأنعام .
وجاء في (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) : والأرض بعد ذلك بسطها ومهدها لسكني أهلها , وأخرج منها ماءها بتفجير عيونها , وإجراء أنهارها , وإنبات نباتها ليقتات به الناس والدواب ..وهذا الاستعراض يدل على أن المفسرين السابقين يجمعون على أن من معاني دحو الأرض ، هو إخراج الماء والمرعي من داخلها , على هيئة العيون وإنبات النبات .
دحو الأرض في العلوم الكونية:
أولاًً : إخراج كل ماء الأرض من جوفها :
كوكب الأرض هو أغنى كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه , ولذلك يطلق عليه اسم (الكوكب المائي) ، أو (الكوكب الأزرق) وتغطي المياه نحو71% من مساحة الأرض , بينما تشغل اليابسة نحو29% فقط من مساحة سطحها , وتُقدَّر كمية المياه على سطح الأرض بنحو1360 مليون كيلو متر مكعب (1.36×10^9); وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه على سطح الأرض , من أين أتي؟ وكيف نشأ؟ . وقد وُضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض , تقترح إحداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولى من خلق الأرض , وذلك بتفاعل كلٌ من غازي الأيدروجين والأوكسجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض , وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المُذنَّبات , وترى ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلاً من داخل الأرض . والشواهد العديدة التي تجمَّعت لدى العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أُخرج أصلاً من جوفها , ولا يزال خروجه مُستمِراً من داخل الأرض عبر الثورات البركانية .