يوماً... اختبار صعب للسعوديين
جمال بنون *
الإثنين ١٠ يونيو ٢٠١٣
أن تغير سلوكيات مجتمع خلال 90 يوماً، وتفرض عليه نظاماً جديداً وأسلوباً مغايراً في التعامل عما كان عليه لعقود طويلة، فهذا اختبار صعب، وهو أشبه بمن يريد أن يخيط ثقب «الأوزون»، وخطوة سلطات العمل السعودية بتحسين صورة سوق العمل وتنظيفه هي بالفعل محل اهتمام ومطلب مهم من أجل تحسين بيئة العمل ومناخ الاقتصاد والاستثمار المحلي، إلا أن هناك فريقاً لا يزال يراهن إذا كانت الأجهزة الحكومية قادرة على أن تصمد أمام التحديات الاجتماعية. وإن كانت ستنجح أو ستفشل في أول تجربة، وهل تملك الإمكانات والقدرات وأيضاً نزاهة العاملين في تطبيق هذه الأنظمة. والشيء الأهم كيف سيتعامل السعوديون مع الوضع بعد التصحيح.
المجتمع السعودي الذي تعود أن يعيش فوضى اجتماعية في كل شيء نتيجة غياب القوانين والأنظمة وعدم تطبيقها، وأسهم في تفشي هذه الفوضى المحسوبيات وانتشار الرشاوى والواسطات بمختلف أشكالها، ما ساعد في اتساعها حتى وصلت إلى تهديد أمن واستقرار المجتمع وحرب على انتزاع اللقمة، سواء كانت للمقيم المقبل بطريقة نظامية، أو من أنباء البلد بحثاً عن لقمة العيش، فضلاً عن المتسللين والهاربين والمخالفين لنظام الإقامة، حتى أصبحت الفوضى هي الصورة المثالية للشارع في السعودية، اشترك المواطن والمسؤول في ذبح القانون بدم بارد.
يتساءل الكثيرون هل تكفي 90 يوماً لأن يتحول الشارع السعودي إلى منظم ومظهره جميل وغير فوضوي بهذه السهولة، وهل غامرت سلطات العمل السعودية بهذا القرار، أم أنه كان ينبغي عليها أن تتدرج في تنفيذ القرارات، في الحقيقة جزء من القرار هو اندفاع عاطفي وغير مدروس، وجزء آخر أن الكثير من مؤسسات الدولة غير مستعدة وليست مهيأة لتنفيذ هذه القرارات، كما أن البعض منها لم يأخذ الموضوع بجدية واهتمام بالغ، فموظفو الإدارات الحكومية التي عملت خلال أيام المهلة بكامل طاقتها وساعات عمل إضافية، كل هذا من أجل إنهاء معاملات الراغبين في التصحيح، بينما يتطلب أن تكون هذه الحماسة طوال العام وبالقوة نفسها، وليس خلال فترة موقتة.
قالت وزارة العمل في بيانها الأخير، الذي نُشر السبت الماضي في صحيفة «الحياة»، إنها أتمت تصحيح أوضاع 451 ألف عامل منذ بدء فترة المهلة التصحيحية حتى الأسبوع السابع، حسناً هل تضمن لنا شركات العمرة والحج أنها ستُرحل كل المعتمرين والحجاج الذين يأتون في المواسم؟ وهل يضمن لنا جهاز حرس الحدود أنه لديه الإمكانات والكفاءات البشرية والآليات لمواجهة تسلل اليمنيين والجبشيين والأثيوبيين من بوابة الجنوب، وأنهم لن يتمكنوا من الدخول إلى المدن والمناطق الأخرى؟ وهل تضمن البلدية أنها ستلاحق مغسلي السيارات، والباعة المتجولين، وعربات الخضار، ومحال الصيانة والورش، ووزارة الشؤون الاجتماعية؟ هل لديها قوة بشرية لمواجهة المتسولين، ونساء جمع العلب الفارغة وغيرها من الجنسيات التي تنتشر عند الإشارات؟... قرار تصحيح سوق العمل، يتطلب تعاون وتضافر جهات عدة وليس مقصوراً على مؤسسة حكومية واحدة، وليس الهدف إيجاد فرص عمل للسعوديين، إنما هي عملية جراحية كبرى للاقتصاد السعودي، يقول البعض قد تنجح العملية ويموت المريض وقتها لم نحقق النتيجة مادام المريض مات، إن ما يهمنا من كل هذا أن تنجح العملية ويتعافى المريض، وهي مقياس لمدى قدرة الجهات الحكومية والشارع السعودي للتكيف مع الأنظمة والقوانين.
نتيجة اختبار التصحيح سنعرفها من حجم المبالغ التي ستحول إلى الخارج، هي الآن 140 بليون ريال، وسنعرف أيضاً من انخفاض نسب التستر التي أعلنتها وزارة التجارة التي يحتل قطاع المقاولات نسبة 43 في المئة من قطاعات التستر التجاري، ثم السلع الاستهلاكية 19.2 في المئة، والتجارة العامة 16 في المئة، والسلع الغذائية 8 في المئة، وأعمال أخرى 15.8 في المئة، ويحتل العرب المرتبة الأولى في ممارسة الأنشطة التجارية بواسطة التستر التجاري بنسبة 50 في المئة، ويليهم الآسيويون وبنسبة 28 في المئة. واختبار المهلة يمكن رصده أيضاً من خلال تدني قيمة تأشيرات العمل التي وصلت إلى 15 ألف ريال و20 ألفاً، واختفاء البقالات والمحال الصغيرة التي لا تضيف للاقتصاد المحلي ولا لسوق العمل شيئاً، فهل لا تصنف ضمن قائمة المؤسسات الصغيرة... فهي أنشطة تجارية متناهية الصغر، اختبار نجاح المهلة ستعرفه وزارة العمل حينما ترفع إليها المؤسسات والجهات الحكومية بعقود العمل المبرمة بين المقيم وجهة العمل، ضمن توثيق العقود، فمثلما وضعت نظاماً لمراقبة الأجور فعليها أن تتأكد من سلامة عقود العمل.
قال لي صحافي أميركي التقيته في منتدى الإعلام العربي، الذي أقيم في «دبي» الشهر الماضي، مشكلتكم يا أخ جمال في الشارع، إذا استطعتم ضبطه ستنجحون، وحاول أن يحول موضوع مهلة التصحيح، إلى موضوع إنساني حزين قائلاً إنكم تقطعون فرصة العيش للكثير من الناس والعمال لديكم، وهذا لا يقبله أي منطق إنساني، خصوصاً اليمنيين والجنسيات الآسيوية والإفريقية، وأراد أن أتفاعل معه وأتأثر، إنما أخبرته أن قرار تصحيح أوضاع سوق العمل في السعودية هو قرار سيادي ومن حق أي دولة أن تضع الضوابط والشروط لحماية مجتمعها وهو قرار يحمي بالدرجة الأولى حقوق العمال. أثناء الحديث انضم معنا صحافي مصري فقال لي يا أستاذ جمال وهل سيستغني السعوديون عن مغسلي السيارات في الشوارع والطرقات، والباعة الذين ينتشرون عند إشارات المرور، والسيدات اللاتي يتجولن بالعربات ويجمعن العلب الفارغة، والمتسولين، والباعة الجائلين، وسيارات خصوصية تنقل الركاب، وعمال منتشرين على الأرصفة يبحثون عن وظائف، وأجانب في مكاتب العقار، وبائعي شرائح الهاتف، ومحرجي الجوالات المستعملة، وباعة عربات الخضار، قلت له تهمل... هل أنت سعودي؟ قال: لا... إنما وضع الشارع السعودي معروف للجميع، وهل أزيدك من الشعر بيتاً، قلت له: هات... فقال: الأطفال الصغار من الأفغان وهم يبيعون المناشف واللبان، محال صيانة السيارات والورش، عاملات منزليات هاربات، نساء أجنبيات يمارسن البيع في الطرقات والبسطات أمام المدارس والمستشفيات، أنتم مش بتوع نظام... أنتم شكلكم كدا أحسن. تواريت في الزحام حتى لا يراني صديقي المصري، ولا حتى زميل آخر، واكتفيت بشرب القهوة في بهو الفندق وكل أملي ألا تنتهي المهلة، وإلا كانت فضيحتنا «بجلاجل»، على قول إخوتنا المصريين، إن لم تنجح.
* كاتب وصحافي اقتصادي.
جمال بنون *
الإثنين ١٠ يونيو ٢٠١٣
أن تغير سلوكيات مجتمع خلال 90 يوماً، وتفرض عليه نظاماً جديداً وأسلوباً مغايراً في التعامل عما كان عليه لعقود طويلة، فهذا اختبار صعب، وهو أشبه بمن يريد أن يخيط ثقب «الأوزون»، وخطوة سلطات العمل السعودية بتحسين صورة سوق العمل وتنظيفه هي بالفعل محل اهتمام ومطلب مهم من أجل تحسين بيئة العمل ومناخ الاقتصاد والاستثمار المحلي، إلا أن هناك فريقاً لا يزال يراهن إذا كانت الأجهزة الحكومية قادرة على أن تصمد أمام التحديات الاجتماعية. وإن كانت ستنجح أو ستفشل في أول تجربة، وهل تملك الإمكانات والقدرات وأيضاً نزاهة العاملين في تطبيق هذه الأنظمة. والشيء الأهم كيف سيتعامل السعوديون مع الوضع بعد التصحيح.
المجتمع السعودي الذي تعود أن يعيش فوضى اجتماعية في كل شيء نتيجة غياب القوانين والأنظمة وعدم تطبيقها، وأسهم في تفشي هذه الفوضى المحسوبيات وانتشار الرشاوى والواسطات بمختلف أشكالها، ما ساعد في اتساعها حتى وصلت إلى تهديد أمن واستقرار المجتمع وحرب على انتزاع اللقمة، سواء كانت للمقيم المقبل بطريقة نظامية، أو من أنباء البلد بحثاً عن لقمة العيش، فضلاً عن المتسللين والهاربين والمخالفين لنظام الإقامة، حتى أصبحت الفوضى هي الصورة المثالية للشارع في السعودية، اشترك المواطن والمسؤول في ذبح القانون بدم بارد.
يتساءل الكثيرون هل تكفي 90 يوماً لأن يتحول الشارع السعودي إلى منظم ومظهره جميل وغير فوضوي بهذه السهولة، وهل غامرت سلطات العمل السعودية بهذا القرار، أم أنه كان ينبغي عليها أن تتدرج في تنفيذ القرارات، في الحقيقة جزء من القرار هو اندفاع عاطفي وغير مدروس، وجزء آخر أن الكثير من مؤسسات الدولة غير مستعدة وليست مهيأة لتنفيذ هذه القرارات، كما أن البعض منها لم يأخذ الموضوع بجدية واهتمام بالغ، فموظفو الإدارات الحكومية التي عملت خلال أيام المهلة بكامل طاقتها وساعات عمل إضافية، كل هذا من أجل إنهاء معاملات الراغبين في التصحيح، بينما يتطلب أن تكون هذه الحماسة طوال العام وبالقوة نفسها، وليس خلال فترة موقتة.
قالت وزارة العمل في بيانها الأخير، الذي نُشر السبت الماضي في صحيفة «الحياة»، إنها أتمت تصحيح أوضاع 451 ألف عامل منذ بدء فترة المهلة التصحيحية حتى الأسبوع السابع، حسناً هل تضمن لنا شركات العمرة والحج أنها ستُرحل كل المعتمرين والحجاج الذين يأتون في المواسم؟ وهل يضمن لنا جهاز حرس الحدود أنه لديه الإمكانات والكفاءات البشرية والآليات لمواجهة تسلل اليمنيين والجبشيين والأثيوبيين من بوابة الجنوب، وأنهم لن يتمكنوا من الدخول إلى المدن والمناطق الأخرى؟ وهل تضمن البلدية أنها ستلاحق مغسلي السيارات، والباعة المتجولين، وعربات الخضار، ومحال الصيانة والورش، ووزارة الشؤون الاجتماعية؟ هل لديها قوة بشرية لمواجهة المتسولين، ونساء جمع العلب الفارغة وغيرها من الجنسيات التي تنتشر عند الإشارات؟... قرار تصحيح سوق العمل، يتطلب تعاون وتضافر جهات عدة وليس مقصوراً على مؤسسة حكومية واحدة، وليس الهدف إيجاد فرص عمل للسعوديين، إنما هي عملية جراحية كبرى للاقتصاد السعودي، يقول البعض قد تنجح العملية ويموت المريض وقتها لم نحقق النتيجة مادام المريض مات، إن ما يهمنا من كل هذا أن تنجح العملية ويتعافى المريض، وهي مقياس لمدى قدرة الجهات الحكومية والشارع السعودي للتكيف مع الأنظمة والقوانين.
نتيجة اختبار التصحيح سنعرفها من حجم المبالغ التي ستحول إلى الخارج، هي الآن 140 بليون ريال، وسنعرف أيضاً من انخفاض نسب التستر التي أعلنتها وزارة التجارة التي يحتل قطاع المقاولات نسبة 43 في المئة من قطاعات التستر التجاري، ثم السلع الاستهلاكية 19.2 في المئة، والتجارة العامة 16 في المئة، والسلع الغذائية 8 في المئة، وأعمال أخرى 15.8 في المئة، ويحتل العرب المرتبة الأولى في ممارسة الأنشطة التجارية بواسطة التستر التجاري بنسبة 50 في المئة، ويليهم الآسيويون وبنسبة 28 في المئة. واختبار المهلة يمكن رصده أيضاً من خلال تدني قيمة تأشيرات العمل التي وصلت إلى 15 ألف ريال و20 ألفاً، واختفاء البقالات والمحال الصغيرة التي لا تضيف للاقتصاد المحلي ولا لسوق العمل شيئاً، فهل لا تصنف ضمن قائمة المؤسسات الصغيرة... فهي أنشطة تجارية متناهية الصغر، اختبار نجاح المهلة ستعرفه وزارة العمل حينما ترفع إليها المؤسسات والجهات الحكومية بعقود العمل المبرمة بين المقيم وجهة العمل، ضمن توثيق العقود، فمثلما وضعت نظاماً لمراقبة الأجور فعليها أن تتأكد من سلامة عقود العمل.
قال لي صحافي أميركي التقيته في منتدى الإعلام العربي، الذي أقيم في «دبي» الشهر الماضي، مشكلتكم يا أخ جمال في الشارع، إذا استطعتم ضبطه ستنجحون، وحاول أن يحول موضوع مهلة التصحيح، إلى موضوع إنساني حزين قائلاً إنكم تقطعون فرصة العيش للكثير من الناس والعمال لديكم، وهذا لا يقبله أي منطق إنساني، خصوصاً اليمنيين والجنسيات الآسيوية والإفريقية، وأراد أن أتفاعل معه وأتأثر، إنما أخبرته أن قرار تصحيح أوضاع سوق العمل في السعودية هو قرار سيادي ومن حق أي دولة أن تضع الضوابط والشروط لحماية مجتمعها وهو قرار يحمي بالدرجة الأولى حقوق العمال. أثناء الحديث انضم معنا صحافي مصري فقال لي يا أستاذ جمال وهل سيستغني السعوديون عن مغسلي السيارات في الشوارع والطرقات، والباعة الذين ينتشرون عند إشارات المرور، والسيدات اللاتي يتجولن بالعربات ويجمعن العلب الفارغة، والمتسولين، والباعة الجائلين، وسيارات خصوصية تنقل الركاب، وعمال منتشرين على الأرصفة يبحثون عن وظائف، وأجانب في مكاتب العقار، وبائعي شرائح الهاتف، ومحرجي الجوالات المستعملة، وباعة عربات الخضار، قلت له تهمل... هل أنت سعودي؟ قال: لا... إنما وضع الشارع السعودي معروف للجميع، وهل أزيدك من الشعر بيتاً، قلت له: هات... فقال: الأطفال الصغار من الأفغان وهم يبيعون المناشف واللبان، محال صيانة السيارات والورش، عاملات منزليات هاربات، نساء أجنبيات يمارسن البيع في الطرقات والبسطات أمام المدارس والمستشفيات، أنتم مش بتوع نظام... أنتم شكلكم كدا أحسن. تواريت في الزحام حتى لا يراني صديقي المصري، ولا حتى زميل آخر، واكتفيت بشرب القهوة في بهو الفندق وكل أملي ألا تنتهي المهلة، وإلا كانت فضيحتنا «بجلاجل»، على قول إخوتنا المصريين، إن لم تنجح.
* كاتب وصحافي اقتصادي.