كتبت يارا المحاميد -
يانيس ريتسوس .. شاعر الخلود
كان لي دوما موعدا منتظرا مع الخيبة وسوء الحظ الدائم من الفرح .. كان هناك دوما مباغتات للحزن في خبايا المجهول في موعدي الاول مع بيروت، حملتُ احلامي وخبأتُ في حقيبتي ذاكرتي المنسية غلفتها ببضع أوراق ووشمتها بحبر أزرق، لتكون امتداد البحر هناك .. خانني الفرح مجددا كعاشق ساذج .. ففي بيروت وفي ليالي وحدتي المضنية التقيت به .. لا أدري كيف ساقني القدر اليه ربما لفتني اسمه الغارق في الاسطورة.
(يانيس ريتسوس ) إسم يصعب علي لفظه الى ان إستوطن حبره مدن كتبي.. ذاك الشاعر الاغريقي الذي حملني من غربة بيروت الى (مونيمفاسيا) تلك القرية التي ولد فيها جنوب اليونان عام 1909 من أسرة مفككة ليعاني طفولة قاسية فقد كان والده مدمنا على القمار فخسر كل أمواله .. فقد شقيقه البكر عام 1921 بداء السل وبعده ثلاثة أشهر فقد والدته بالمرض نفسه الذي غزا القرية آنذاك مخلفا جثثا كثيرة وموت كبير وشاعر عظيم في 1917.
بدأ ريتسوس يكتب قصائده الأولى وراح يغيب بشغف الموسيقى والرسم والنحت تلك الهوايات التي لم تفارقه طيلة حياته..
درس ريتسوس في مدرسة القرية لينتقل بعدها الى اثينا التي كانت تعج بالمهاجرين فذاق طعم الفقر وغصت حنجرته بالألم، مما اضطره الى التوقف عن الدراسة والعمل لإيجاد مصدر رزق، فعمل ككاتب في نقابة المحامين وراقص هامشي بإحدى الفرق الفنية وممثل صامت، ثم عمل مصححا وقارئا لبروفات الطباعة لدى أحد الناشرين، فاستفاد جدا من ذلك فقد كان يتشرب الكتابات التي يقرأ ويزيد من اكتشافاته الحبرية.
مع بداية الثلاثينيات تحوّل ريتسوس إلى صرح في الثقافة اليونانية ففي عام 1934 أصدر ريتسوس باكورة أعماله (تركتورات ) ويليه بعام (اهرامات ) الذين كتب أغلب قصائدهم في المصح الذي دخله للعلاج من مرض السل وفي عام 1934 أطلقت الشرطة اليونانية النار على عمال التبغ المتظاهرين في مدينة تسالونيك، ووقع ضحيتها 30 قتيل وما يقارب 300 جريح مما دفع ريتسوس للانكفاء في غرفته لمدة 3 ايام ليخرج بقصيدته الشهيرة (ابيتافيوس) وهي مرثية للأبطال الذين سقطوا.. قصيدة جنائزية تتكون من عشرين نشيد أو ترنيمة فقد كان ريتسوس صوت من لا صوت له وعندما وصل (الجنرال ميتاكساس) للسلطة أمر بمصادرة كتاب ابيتافيوس ، وفي عام 1937 يصدركتابه الوجداني (أغنية أختي ) وبعده بعام يصدر(سيمفونية الربيع) ثم يتجه نحو النشيد الكوني في (مسيرة المحيط) وخلال سنوات الحرب ما بين 1940و1944 تسوء حالته الصحية وسط الأوضاع المأساوية التي كانت تعاني منها بلاده تجمعت النخبة المثقفة وقامت بجمع التبرعات له ولكنه رفضها وقال وزعوها على الشعراء المحتاجين وهو طريح الفراش يكتب (مازوكا العجوز على ايقاع المطر)و(القرن الأخير قبل الانسان)و(تجربة) ثم يتجه بكتاباته نحو استعادة الأساطير اليونانية في (فليوكتيت)1965و(أوريست)1966 كما كتب (سوناتا في ضوء القمر) التي بدأ بها مرحلة المونولوجات الشعرية الدرامية ونالت قصيدته الجائزة الوطنية الكبرى للشعر الهيليني سنة1956ثم كتب (مرمدة)وهي مستوحاة من موت فتاة صغيرة وفيه القصيدة المعروفة (شكل الغياب) في عام 1962 يزور ريتسوس براغ ويلتقي الشاعر الكبير ناظم حكمت، وفي عام 1963 يكتب: (شجرة السجن والنساء ) ويصدر «شهادات» وهو كتاب يضم قصائده القصيرة المستلهمة من الحياة اليومية، وهي نصوص مكثفة تأخذ شكل شذرات وهي قصائد مكتوبة خلال سنوات متباعدة حيث صدر في جزأين 1963و1966 ثم اخترق بقصائد (ايماءات) العمق الانساني كما مجد التواصل الجسدي الانساني الحميم في (ايروتيكا) .
لقد اختبر ريتسوس طيلة حياته الظلم وواجه عنف والده وتعسف القوات النازية و الحكومات اليونانية المتعاقبة ولذلك ظل اطارا للتمرد اليوناني ورمزا للحرية الهيلينية كما وصفه الفنان اليوناني الشهير ميكيس ثيودوراكيس (ريتسوس روح هيلينية مقدسة حلقت في سماء الشعر)، ريتسوس الذي كتب (البحث عن النهار) في ظلمة السجن والذي نفي عن محبوبته اثينا قسرا لجزيرة ليمينوس ومن ثم الى جزيرة ماكرونيس وذلك بهدف إعادة تثقيفه وطنيا لم تمنعه قسوة المنفى من مواصلة ابداعه فكان يكتب يوميا على علب السجائر ثم يطمرها داخل قنان زجاجية فارغة بانتظار ان يخرجها ويرسلها خارج المعسكر ..مما دفع شاعر فرنسا الاشهر لويس أراغون إلى المطالبة بالافراج عنه حيث قال:(الدموع التي تستقطرها قصائد ريتسوس من عينيك هي تلك الدموع التي سوف تزرفها دائما على آلام الانسانية وغباء الساسة.. ريتسوس هو آخر صوت للفقراء والمقهورين في هذا العالم) هذه القصائد هي برهان حي لنزعة الكلمة في مواجهة عنف التاريخ ريتسوس الذي يتركنا أسرى الذهول بكتابته البسيطة العميقة قد حرر الشعر اليوناني من السكون وأطلق في روحه الثورة والتمرد ونفخ فيه الحياة رغم اليأس المستوطن زواياه النحيلة وهذا ما نلمسه في مقولته الشهيرة(أكتب ليشرق النهار)
كان الشاعر غنياً بمحصوله الشعري فقد استطاع خلال 80 عام ان يخط مائة مجموعة شعرية وان يحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعات مختلفة في العالم ورشح 11 مرة لجائزة نوبل للآداب ويذكر كلمة للشاعر بابلو نيرودا عندما حصل على جائزة نوبل 1968(أعلم تماما ان ذلك الاغريقي ريتسوس يستحقها أكثر مني) .
شاعرنا الذي احب الحياة ولم يمنعه عن ممارستها الا فترات السجن والمنفى والجدير بالذكر انه دافع مرارا عن القضية الفلسطينية وبعد 43 عام من النضال الشعري حاز على جائزة لينين وجائزة ديمتروف
وفي أعوامه الأخيرة كان يقول عن نفسه: «أحس بأنني طفل يافع وأن عمري يمتد إلى ملايين السنين. أنا شيخ شاب، وطفل عجوز وأنا أغتني بما أفقد، وكل عام يمر، أزداد فتوة بما أكسب، أي بما أفقد»..
ويتحدث عن نفسه وعن تجربته فيقول(حينما كنت في الثالثة والعشرين كتبت: عندما أستيقظ كل صباح، أرى من خلال النافذة المفتوحة السماء المزهرة في البحر، أشعر أني أبدية أصغر من البارحة، والآن، وبعد كل هذه الأعوام، كم من الأبديات أحمل فوق أكتافي وفي جسدي وروحي، لقد عبرت ميتات كثيرة، وسأموت في النهاية وأنا أحمل بعض الأبدية، أجل أنا متفائل، لقد خرجت من أحلك الظلمات، خرجت حياً من الأمراض، ومن جلسات التعذيب، ويمكنني القول: إنني خرجت من أغوار الموت، التفاؤل ليس سهلاً، وليس وسيلة سهلة لتجاوز صعوبات أو تجاهلها. تفاؤلي لا يتزعزع، وهو راسخ لأنه ينجم تحديداً عن اليأس).
ريتسوس اسطورة التفرد والابداع في الحضارة اليونانية تصلبك كلماته على حافة الحياة فتردى قتيلا حيا..
في 11 تشرين الثاني من عام 1990 احيل قلم ريتسوس الى التقاعد الابدي ليبقى صرحا شعريا خالدا ليبقى لسان حاله:
كيف لك أن تصف قبلة
وأن تختبر الكتابة بالشفتين
ذروتها أن تفقد حروفك
وكلما تقدم بك الحب
تغرق ببركة من حبر
شفتان تبقيانك على شفا الخطيئة
ولا مهرب أن اطبقتا على عمرك
يامن وضعت اعجاز الحب قبلة.
صديقة مقربة
