نفسـية ..!
- الأخ عبدالعزيز ؟
- نعم.. أنا هو.. خير إن شاء الله..
..
..
و لا أدري، كيف انتهى الإتصال الغريب، مع أنثى لا أعرفها، إلى موعد فنجان من القهوة صباح الغد، في سماء برج الفيصلية..
وحتى الغد.. تناهبتني الهواجس والظنون في أمرها.. من تكون؟ ماذا تريد؟ وكيف.. كيف عرفتني ؟. بل كيف قـَبِلتُ بموعد معها، وكأن الأمر يكون بهذه البساطة.. وفي الرياض.!
ومضى الليل، ورايات الأرق لم تنكس، إلا حينما فركت الشمس جفونها.
صباح الخميس، في الفيصلية، وقبل أن يـُعانق مكانُ الموعد زمانـَه، كنت قريباًً من هناك. انتقي أحد الكراسي وأزرع حيرتي فيه. المكان غير مزدحم، والناس متفرقون بين الطاولات. بعثرت قلق الانتظار، ورهبته، متشاغلاً بالنظر إلى الشارع في الأسفل، حيث السيارات تخنق أنفاسَها بأنفاسِها.. ورجال المرور المشاة.. والباعة الصغار، تحرقهم الشمس، وتبكي طفولتهم الموؤدة .
في غمرة الصمت.. بعث الهاتف نغمة خاصة. مظهراً على شاشته علامة استفهام كنتُ رمزتُ بها لاسمها. مددتُ يدي لأتفاجأ بعودة الهاتف للصمت مرةً أخرى. أَخَذَت النظراتُ عيني إلى الأنثى التي نهضت فجأة، من طاولة مقابلة، لتأتيني.. يسبقها عطرها. كانت أنثى تُربك الجمال إذ يراها، يَلُفـُّها الليل عدا وجهها الذي يضئ بدراً. أتتني تتهادى كغيمة لاتعد بالمطر. وبابتسامةٍ عذبةٍ قالت :
- أهلاً .. أظنك الأستاذ عبدالعزيز .
سري الإرتباك في خلايا جسدي، الذي استنهضته، لأهتف :
- نعم أنا هو .. هل من خدمة أستطيع تقديمها لكِ ..
اتسعت ابتسامتها أكثر، لتفضح غمازتين فاتنتين، وتمنحني هدوءً أكثر :
- وهل ستقدمها لي.. ونحن واقفون ؟!
- عفواً .. عفواً سيدتي .. تفضلي ..
لم أستطع إدامة النظر إليها، الرموش رماح منصوبة تهدد بالطعن، أمام بحور تتوعد بالغرق ..خفضت نظري إلى الوردة المستحلة منتصف الطاولة، وردة بيضاء تزيد مساحة الإرتباك في داخلي.
حاولت تنظيم أنفاسي، ولملمة شتاتي أمام سطوة حضورها .. وغموضه ..
- علمتُ أنك على وشك الزواج .. أحببت أن أبارك لك مقدماً ..
أخبرها سقوط فكي السفلي، بحجم المفاجأة عليَّ، فتابعَتْ معتذرة :
- كان من الواجب أن أُعَرَّفـَك بنفسي، أنا الدكتورة هنادي منصور .. اخت زميلك فارس .. فارس منصور ..
برزت في ذهني صورة فارس فجأة، شاب وسيم، مفرط بالخجل ، جمعتنا لقمة العيش للعمل في مكتب واحد. صادقته لا لتوافق بيننا، إنما إشفاقاً عليه من صمته و انطوائيته، ومن كلمة “نفسية” التي ارتبطت به همساً بين الزملاء.
انتبهت إلى عدم التشابه بينهما، رغم الجمال المشترك، وكأن الخالق سبحانه قد تفنن في خلقهما، كل على حدة، ابتسمتُ بعدما تقلصت مساحة الحيرة قليلاً :
- والنعم والله بالأستاذ فارس .. وبك يا دكتورة ..
هزت رأسها شاكرة، وهي تتابع :
- والنعم بحالك.. في الواقع أن أخي فارس يثني عليك كثيراً ..
تمتمت بمزيج من الإشفاق، والفخر :
- هذا من طيب أصله.. وأصلك..
- شكراً لك.. وهذا شيء لا ينقصك..
وكأن يداً هزتني من داخلي، تذكرني بواجب الضيافة، هتفتُ وأنا أهم بالنهوض :
- نسيت أن أضيّفكِ .. ماذا تشربين ؟.
- لا .. لا يحتاج أن تكلف على نفسك..
نهضت قائلاً:
- حتى بعد نهوضي ؟.
ابتسمت ابتسامة الشاكرين ، وهي تقول :
- لا بأس إذن بقليل من النعناع المغربي ..
طلبتُ كأسين من النعناع المغربي، وعدت بهما على عجل :
- آسف إن كنت قطعت عليكِ الحديث ..
- لا .. لا يهم ..
أخَذتْ نفساً عميقاً، وسرَّحَتْ طرفـَها قليلاً، وكأنها تشرع لي الضوء الأخضر للتبصر في جمال خلق الله، تمشت عيناي على وجهها الفتان، جزءاً.. جزءاً.. وردة.. وردة.. الشفتان الجمريتان.. الأنف الناعم.. الخد الملبّس ورداً.. العينان الـ.. توقفت عند العينين قليلاً.. شئٌ ما في عينيها ينغص علي التمتع بجمالهما، شيء يشبه الحزن، إن كان ثمة ما يشبهه، غيره!. التفتت إلي وهي تستعيد ابتسامتها الجميلة.. سمعتها تقول :
- في الحقيقة يا أستاذ عبدالعزيز.. أود أن أخبرك في البدء .. أني طبيبة نفسانية ..
قالت كلماتها الأخيرة بهدوء.. مقصود ربما، قالتها وهي تدرس ملامحي، لذا لم تفتـها رعشة الارتباك التي مرت سريعاً على وجهي. ثم تابَعَتْ بنفس الهدوء:
- وأنا أحتاجك، وأثق فيك تماماً .. لذا طلبت لقاءك لمساعدتي..
حاولتُ أن أُلبِسَ صوتي ثقته وأنا أقول :
- وأنا في الخدمة..
بدأت تسرد لي جزءاً من حياة أخيها.. خجله.. انطوائيته.. الرهاب الإجتماعي الذي حرمه من الأصدقاء، والخـُلطة، وكيف أن هذا الأمر أقلقهم عليه منذ صغره، بل إنه هو الذي حدا بها للتخصص في الطب النفسي تحديداً.
كانت تنتزع من ذهني علامات استفهامٍ كثيرةٍ عنه، وتضع مكانها علامات أخرى .. عنها هي. تتكلم عنه ، وأنا استمع عنها.. كنت أرى هذا الذي يشبه الحزن في عينيها يكبر ويتعاظم .. حتى أدمى عينها بدمعة!.
هتفتُ :
- ولـِمَ أنتِ حزينة !.
توقفت عن الكلام وهي ترمقني بذهول أعْدَتني فيه!. حتى أنا لا أدري لماذا سألتها هذا السؤال الأقل ما يقال عنه.. أحمق!
ابتسمت بارتباك، قبل أن تقول:
- عندما تسأل الإنسان عن حزنه، فلا تتوقع إجابة محددة..
ثم تابعت بلهجة جادة:
- أكثر ما يحزنني هو وضع أخي، فقد تجاوز الثلاثين ولم يزل يعاني من إنطوائيته.. وأنت يا…
“عزوووز.. عزووووز”
دهشت وأنا أسمع تدليل اسمي!
لا بأس أن يناديني به أحد الأصدقاء..الجيران..الأهل، لكن..
الدكتورة؟ معقول؟.
لم يكن الأمر بهذه البساطة..!
“عزيـّز..”
كانت شفاهها منطبقة تماماً، وأنا أنظر لها بدهشة من لم يستوعب بعد أن يسمع اسمه يدلّل بهذا الشكل، وبهذا المكان، وبهذا الوقت.. ومن هذه الفاتنة تحديداً..
ابتسمت ابتسامة بلهاء..و..
“أبو العزّ”
.
.
وخبطة على كتفي!
التفت لأرى من خلفي!. كان ..
- ناصر!!
- يا واد يا حركات.. مسكسك اليوم!.
حاولت أن أكمم فمه، لكنه كالسيل، تتدفق منه الكلمات بلا وعي، ولا ذوق..
انتبه متأخراً للمرأة معي، فأدار ظهره وهو يقول:
- اووه أعتذر.. لم أكن أدري أن أهلك معك!.
ضحكت وأنا أحاول ترقيع الموقف:
- أُعَرِّفـَك على الدكتورة هنادي..
التفت مستغرباً:
- دكتورة ؟؟ سلامات؟؟ دكتورة أيش؟؟.
رفعت صوتي محاولاً تضييع صوته:
- هذا يا دكتورة نسيبي ناصر.. أخو خطيبتي..
كان يهم بمدّ يده ليصافحها وأنا أكمل التعارف:
- الدكتورة هنادي.. طبيبة نفسانية..
فإذا به يكف كفه فجأة! ويهتف:
- نفسية؟؟ تشرفنا يا دكتورة..
- الشرف لي..
قاطعتهما موجهاً كلامي لناصر:
- ماشاء الله متى جئت من مصر؟.
- هاه..؟
قالها وهو يرسل نظره للدكتورة.. هتفت فيه محنقاً:
- كيف هي أخبار الوالد ؟.
- طيب.. طيب..
أمسكت يده وأنا أقول:
- تفضل اجلس معنا..
- لا..
قالها وكأنها صرخة.. وأردف:
- أنا مرتبط مع الشباب هناك..
وأشار بيده لآخر الصالة، قبل أن يستدرك:
- ورأيتك، قلت أسلم ..
- فيك الخير والله.. أتمنى أن أراك قريباً..
ابتسم ابتسامة غريبة، قبل أن يقول:
- ايه.. إن شاء الله..
ثم نظر للدكتورة مجدداً، قبل أن يقول:
- نراكم على خير..
ومضى إلى أصدقائه، خاطفاً قلبي.. عسى أن لا يخبر حنان أنه رآني مع امرأة!.
كيف سأفسر لها الموقف؟.
عدت بالحديث للدكتورة، محاولاً تلطيف الجو :
- هذا أخو زوجة المستقبل، لا تـُغرّي بفظاظته وقبحه، فهي لا تشبهه، أظنها أخذت الجمال والرقة ولم تبقِ له شيئاً.. لكنه طيب القلب..
ابتسمت الدكتورة و لم تعقب.
- أين وقفنا في الحديث؟.
قلتها لأقطع عليها شرودها، عادت تبتسم، وتكمل:
- أخي فخور بك ويحبك كثيراً، وأظنك تبادله حباً بحب.
- بالتأكيد يا دكتورة، بالتأكيد..
أَخَذَتْ نفساً وهي تنتظرني أصمت.. يالها من طبيبة نفسية! أثق في أنها تعرف تماماً لماذا قلت “بالتأكيد” بهذا الإندفاع.. حتى وإن كان مخالفاً للواقع.. لا بارك الله فيك يا ناصر!.
- و أود أن أطلب منك طلباً صغيراً..
- أنتِ تأمرين إن شئتِ..
- شكراً للطفك..
أخذت نفساً قبل أن تكمل:
- كل ما أريده منك هو الإهتمام بأخي فارس قليلاً، كي تزيد ثقته بنفسه، وأن تشركه في النشاطات الإجتماعية، وتسافر معه لو لمرة..
سكتت قليلاً، ولم أعقب.. ثم أردفت:
- ليس كل العمر، مع أنه سيتشرف بك كثيراً، لكني حريصة على ذلك في الأشهر القليلة القادمة، لأني برمجت له جدولاً علاجياً مكثفاً عسى أن يفيده، وكنت أحتاج بشدة لخدماتك.. ولك كل ما تطلبه..
- استغفر الله، وماذا سأطلب؟. بالعكس أنا فخور بثقتك وأتشرف بأخيك..
- لا حرمك الله مما تحب.. سأكتفي بموافقتك الآن، وبقية الأمور سنرتبها لاحقاً..
- كما تحبين.. أنا في الخدمة بأي وقت..
نهضت بدون مقدمات، لتنهي اللقاء. وترحل في خشوع. وما أن اختفت عن نظري، حتى انهار عليّ سقف الأسئلة : متى عاد هذا المأفون من مصر؟. ومنذ متى وهو يرتاد هذه الأماكن الفاخرة!. وإن تركته، هل سيخبر حنان ؟.
تباً لك من حظٍ ردئ..
تلفتُّ بحثاً عنه، ولم أجده..
بالتأكيد أنه مضى للبيت..
وبعد أن استويت راكباً في سيارتي، أخرجت هاتفي وطلبت رقم حنان..
رنة.. ونبضتان
رنتان.. وعشر نبضات..
ثلاث رنات.. وزلزال من النبضات..
والعرق يهطل.. يهطل.. يهطل..
.
.
ولا إجابة..
ايييه.. لا بد أنه أخبرها..
وأصبحت وجهة سيارتي، بيتها..
ضغطت على الجرس، ولم يحفل بي أحد. هذه سيارة ناصر، وهذه سيارة عمي، لا بد أن يفتح أحدهم..
ضغت مرة أخرى، وأخرى، إلى أن داهمني صوت:
- من ؟؟
كان الصوت صوت عمي، خارجاً من الانترفون.. قلت بارتباك :
- أنا.. أنا عبدالعزيز..
- واللعنة..
- ليييييه؟؟
- ماذا تريد؟؟.
- أنا نسيبكم يا عمي.. كيف تسألني ماذا أريد؟.
- ومن قال لك أننا نزوج مرضى نفسيين ؟؟.
- ماذا ؟؟
- لا تعد مرة أخرى يا “نفسيّة”.
وأغلق الجهاز في وجهي..
سليمان الطويهر
- الأخ عبدالعزيز ؟
- نعم.. أنا هو.. خير إن شاء الله..
..
..
و لا أدري، كيف انتهى الإتصال الغريب، مع أنثى لا أعرفها، إلى موعد فنجان من القهوة صباح الغد، في سماء برج الفيصلية..
وحتى الغد.. تناهبتني الهواجس والظنون في أمرها.. من تكون؟ ماذا تريد؟ وكيف.. كيف عرفتني ؟. بل كيف قـَبِلتُ بموعد معها، وكأن الأمر يكون بهذه البساطة.. وفي الرياض.!
ومضى الليل، ورايات الأرق لم تنكس، إلا حينما فركت الشمس جفونها.
صباح الخميس، في الفيصلية، وقبل أن يـُعانق مكانُ الموعد زمانـَه، كنت قريباًً من هناك. انتقي أحد الكراسي وأزرع حيرتي فيه. المكان غير مزدحم، والناس متفرقون بين الطاولات. بعثرت قلق الانتظار، ورهبته، متشاغلاً بالنظر إلى الشارع في الأسفل، حيث السيارات تخنق أنفاسَها بأنفاسِها.. ورجال المرور المشاة.. والباعة الصغار، تحرقهم الشمس، وتبكي طفولتهم الموؤدة .
في غمرة الصمت.. بعث الهاتف نغمة خاصة. مظهراً على شاشته علامة استفهام كنتُ رمزتُ بها لاسمها. مددتُ يدي لأتفاجأ بعودة الهاتف للصمت مرةً أخرى. أَخَذَت النظراتُ عيني إلى الأنثى التي نهضت فجأة، من طاولة مقابلة، لتأتيني.. يسبقها عطرها. كانت أنثى تُربك الجمال إذ يراها، يَلُفـُّها الليل عدا وجهها الذي يضئ بدراً. أتتني تتهادى كغيمة لاتعد بالمطر. وبابتسامةٍ عذبةٍ قالت :
- أهلاً .. أظنك الأستاذ عبدالعزيز .
سري الإرتباك في خلايا جسدي، الذي استنهضته، لأهتف :
- نعم أنا هو .. هل من خدمة أستطيع تقديمها لكِ ..
اتسعت ابتسامتها أكثر، لتفضح غمازتين فاتنتين، وتمنحني هدوءً أكثر :
- وهل ستقدمها لي.. ونحن واقفون ؟!
- عفواً .. عفواً سيدتي .. تفضلي ..
لم أستطع إدامة النظر إليها، الرموش رماح منصوبة تهدد بالطعن، أمام بحور تتوعد بالغرق ..خفضت نظري إلى الوردة المستحلة منتصف الطاولة، وردة بيضاء تزيد مساحة الإرتباك في داخلي.
حاولت تنظيم أنفاسي، ولملمة شتاتي أمام سطوة حضورها .. وغموضه ..
- علمتُ أنك على وشك الزواج .. أحببت أن أبارك لك مقدماً ..
أخبرها سقوط فكي السفلي، بحجم المفاجأة عليَّ، فتابعَتْ معتذرة :
- كان من الواجب أن أُعَرَّفـَك بنفسي، أنا الدكتورة هنادي منصور .. اخت زميلك فارس .. فارس منصور ..
برزت في ذهني صورة فارس فجأة، شاب وسيم، مفرط بالخجل ، جمعتنا لقمة العيش للعمل في مكتب واحد. صادقته لا لتوافق بيننا، إنما إشفاقاً عليه من صمته و انطوائيته، ومن كلمة “نفسية” التي ارتبطت به همساً بين الزملاء.
انتبهت إلى عدم التشابه بينهما، رغم الجمال المشترك، وكأن الخالق سبحانه قد تفنن في خلقهما، كل على حدة، ابتسمتُ بعدما تقلصت مساحة الحيرة قليلاً :
- والنعم والله بالأستاذ فارس .. وبك يا دكتورة ..
هزت رأسها شاكرة، وهي تتابع :
- والنعم بحالك.. في الواقع أن أخي فارس يثني عليك كثيراً ..
تمتمت بمزيج من الإشفاق، والفخر :
- هذا من طيب أصله.. وأصلك..
- شكراً لك.. وهذا شيء لا ينقصك..
وكأن يداً هزتني من داخلي، تذكرني بواجب الضيافة، هتفتُ وأنا أهم بالنهوض :
- نسيت أن أضيّفكِ .. ماذا تشربين ؟.
- لا .. لا يحتاج أن تكلف على نفسك..
نهضت قائلاً:
- حتى بعد نهوضي ؟.
ابتسمت ابتسامة الشاكرين ، وهي تقول :
- لا بأس إذن بقليل من النعناع المغربي ..
طلبتُ كأسين من النعناع المغربي، وعدت بهما على عجل :
- آسف إن كنت قطعت عليكِ الحديث ..
- لا .. لا يهم ..
أخَذتْ نفساً عميقاً، وسرَّحَتْ طرفـَها قليلاً، وكأنها تشرع لي الضوء الأخضر للتبصر في جمال خلق الله، تمشت عيناي على وجهها الفتان، جزءاً.. جزءاً.. وردة.. وردة.. الشفتان الجمريتان.. الأنف الناعم.. الخد الملبّس ورداً.. العينان الـ.. توقفت عند العينين قليلاً.. شئٌ ما في عينيها ينغص علي التمتع بجمالهما، شيء يشبه الحزن، إن كان ثمة ما يشبهه، غيره!. التفتت إلي وهي تستعيد ابتسامتها الجميلة.. سمعتها تقول :
- في الحقيقة يا أستاذ عبدالعزيز.. أود أن أخبرك في البدء .. أني طبيبة نفسانية ..
قالت كلماتها الأخيرة بهدوء.. مقصود ربما، قالتها وهي تدرس ملامحي، لذا لم تفتـها رعشة الارتباك التي مرت سريعاً على وجهي. ثم تابَعَتْ بنفس الهدوء:
- وأنا أحتاجك، وأثق فيك تماماً .. لذا طلبت لقاءك لمساعدتي..
حاولتُ أن أُلبِسَ صوتي ثقته وأنا أقول :
- وأنا في الخدمة..
بدأت تسرد لي جزءاً من حياة أخيها.. خجله.. انطوائيته.. الرهاب الإجتماعي الذي حرمه من الأصدقاء، والخـُلطة، وكيف أن هذا الأمر أقلقهم عليه منذ صغره، بل إنه هو الذي حدا بها للتخصص في الطب النفسي تحديداً.
كانت تنتزع من ذهني علامات استفهامٍ كثيرةٍ عنه، وتضع مكانها علامات أخرى .. عنها هي. تتكلم عنه ، وأنا استمع عنها.. كنت أرى هذا الذي يشبه الحزن في عينيها يكبر ويتعاظم .. حتى أدمى عينها بدمعة!.
هتفتُ :
- ولـِمَ أنتِ حزينة !.
توقفت عن الكلام وهي ترمقني بذهول أعْدَتني فيه!. حتى أنا لا أدري لماذا سألتها هذا السؤال الأقل ما يقال عنه.. أحمق!
ابتسمت بارتباك، قبل أن تقول:
- عندما تسأل الإنسان عن حزنه، فلا تتوقع إجابة محددة..
ثم تابعت بلهجة جادة:
- أكثر ما يحزنني هو وضع أخي، فقد تجاوز الثلاثين ولم يزل يعاني من إنطوائيته.. وأنت يا…
“عزوووز.. عزووووز”
دهشت وأنا أسمع تدليل اسمي!
لا بأس أن يناديني به أحد الأصدقاء..الجيران..الأهل، لكن..
الدكتورة؟ معقول؟.
لم يكن الأمر بهذه البساطة..!
“عزيـّز..”
كانت شفاهها منطبقة تماماً، وأنا أنظر لها بدهشة من لم يستوعب بعد أن يسمع اسمه يدلّل بهذا الشكل، وبهذا المكان، وبهذا الوقت.. ومن هذه الفاتنة تحديداً..
ابتسمت ابتسامة بلهاء..و..
“أبو العزّ”
.
.
وخبطة على كتفي!
التفت لأرى من خلفي!. كان ..
- ناصر!!
- يا واد يا حركات.. مسكسك اليوم!.
حاولت أن أكمم فمه، لكنه كالسيل، تتدفق منه الكلمات بلا وعي، ولا ذوق..
انتبه متأخراً للمرأة معي، فأدار ظهره وهو يقول:
- اووه أعتذر.. لم أكن أدري أن أهلك معك!.
ضحكت وأنا أحاول ترقيع الموقف:
- أُعَرِّفـَك على الدكتورة هنادي..
التفت مستغرباً:
- دكتورة ؟؟ سلامات؟؟ دكتورة أيش؟؟.
رفعت صوتي محاولاً تضييع صوته:
- هذا يا دكتورة نسيبي ناصر.. أخو خطيبتي..
كان يهم بمدّ يده ليصافحها وأنا أكمل التعارف:
- الدكتورة هنادي.. طبيبة نفسانية..
فإذا به يكف كفه فجأة! ويهتف:
- نفسية؟؟ تشرفنا يا دكتورة..
- الشرف لي..
قاطعتهما موجهاً كلامي لناصر:
- ماشاء الله متى جئت من مصر؟.
- هاه..؟
قالها وهو يرسل نظره للدكتورة.. هتفت فيه محنقاً:
- كيف هي أخبار الوالد ؟.
- طيب.. طيب..
أمسكت يده وأنا أقول:
- تفضل اجلس معنا..
- لا..
قالها وكأنها صرخة.. وأردف:
- أنا مرتبط مع الشباب هناك..
وأشار بيده لآخر الصالة، قبل أن يستدرك:
- ورأيتك، قلت أسلم ..
- فيك الخير والله.. أتمنى أن أراك قريباً..
ابتسم ابتسامة غريبة، قبل أن يقول:
- ايه.. إن شاء الله..
ثم نظر للدكتورة مجدداً، قبل أن يقول:
- نراكم على خير..
ومضى إلى أصدقائه، خاطفاً قلبي.. عسى أن لا يخبر حنان أنه رآني مع امرأة!.
كيف سأفسر لها الموقف؟.
عدت بالحديث للدكتورة، محاولاً تلطيف الجو :
- هذا أخو زوجة المستقبل، لا تـُغرّي بفظاظته وقبحه، فهي لا تشبهه، أظنها أخذت الجمال والرقة ولم تبقِ له شيئاً.. لكنه طيب القلب..
ابتسمت الدكتورة و لم تعقب.
- أين وقفنا في الحديث؟.
قلتها لأقطع عليها شرودها، عادت تبتسم، وتكمل:
- أخي فخور بك ويحبك كثيراً، وأظنك تبادله حباً بحب.
- بالتأكيد يا دكتورة، بالتأكيد..
أَخَذَتْ نفساً وهي تنتظرني أصمت.. يالها من طبيبة نفسية! أثق في أنها تعرف تماماً لماذا قلت “بالتأكيد” بهذا الإندفاع.. حتى وإن كان مخالفاً للواقع.. لا بارك الله فيك يا ناصر!.
- و أود أن أطلب منك طلباً صغيراً..
- أنتِ تأمرين إن شئتِ..
- شكراً للطفك..
أخذت نفساً قبل أن تكمل:
- كل ما أريده منك هو الإهتمام بأخي فارس قليلاً، كي تزيد ثقته بنفسه، وأن تشركه في النشاطات الإجتماعية، وتسافر معه لو لمرة..
سكتت قليلاً، ولم أعقب.. ثم أردفت:
- ليس كل العمر، مع أنه سيتشرف بك كثيراً، لكني حريصة على ذلك في الأشهر القليلة القادمة، لأني برمجت له جدولاً علاجياً مكثفاً عسى أن يفيده، وكنت أحتاج بشدة لخدماتك.. ولك كل ما تطلبه..
- استغفر الله، وماذا سأطلب؟. بالعكس أنا فخور بثقتك وأتشرف بأخيك..
- لا حرمك الله مما تحب.. سأكتفي بموافقتك الآن، وبقية الأمور سنرتبها لاحقاً..
- كما تحبين.. أنا في الخدمة بأي وقت..
نهضت بدون مقدمات، لتنهي اللقاء. وترحل في خشوع. وما أن اختفت عن نظري، حتى انهار عليّ سقف الأسئلة : متى عاد هذا المأفون من مصر؟. ومنذ متى وهو يرتاد هذه الأماكن الفاخرة!. وإن تركته، هل سيخبر حنان ؟.
تباً لك من حظٍ ردئ..
تلفتُّ بحثاً عنه، ولم أجده..
بالتأكيد أنه مضى للبيت..
وبعد أن استويت راكباً في سيارتي، أخرجت هاتفي وطلبت رقم حنان..
رنة.. ونبضتان
رنتان.. وعشر نبضات..
ثلاث رنات.. وزلزال من النبضات..
والعرق يهطل.. يهطل.. يهطل..
.
.
ولا إجابة..
ايييه.. لا بد أنه أخبرها..
وأصبحت وجهة سيارتي، بيتها..
ضغطت على الجرس، ولم يحفل بي أحد. هذه سيارة ناصر، وهذه سيارة عمي، لا بد أن يفتح أحدهم..
ضغت مرة أخرى، وأخرى، إلى أن داهمني صوت:
- من ؟؟
كان الصوت صوت عمي، خارجاً من الانترفون.. قلت بارتباك :
- أنا.. أنا عبدالعزيز..
- واللعنة..
- ليييييه؟؟
- ماذا تريد؟؟.
- أنا نسيبكم يا عمي.. كيف تسألني ماذا أريد؟.
- ومن قال لك أننا نزوج مرضى نفسيين ؟؟.
- ماذا ؟؟
- لا تعد مرة أخرى يا “نفسيّة”.
وأغلق الجهاز في وجهي..
سليمان الطويهر