البوليميا.. مرض نفسي - غذائي
مما لا شك فيه أنّ الطفولة مرحلة أساسية في عملية نموالإنسان جسدياً ونفسياً على حد سواء، وربما
يكون الجزء النفسي أكثر تأثيراً على شخصية الطفل ونموه، إذ إنّ أي خلل نفسي
يتفاقم مع الوقت ليصبح مرضاً، والأخطر من ذلك أنه يكبر مع الإنسان من دون وعيه
سبب ما يحصل معه، فيستيقظ فجأة على مرض سببه سنوات من التراكم النفسي.
فالإنسان كتلة من المشاعر ونفسيّته هي سبب كل تصرفاته وكل ما ينمّ عن شخصه،
وهذا ما أجمع عليه الجميع منذ الدراسات الأولى التي أخذت الإنسان محوراً لها،
مروراً بعلم النفس وصولاً إلى الطب الحديث.
وقد يكون مرض البوليميا أحد أبرز الأمراض النفسية، ولكنه لم ينل حقّه إذ إنّ كثيرين
يجهلون هذا المرض وإن سمع البعض به،فهو لا يدرك بالضرورة أسبابه ولا عوارضه
كما يجهل التصرف معه.
ما هي "البوليميا" وما أسبابها؟
يعاني عدد لا بأس به من الأطفال من مرض البوليميا، أو بعبارة أخرى من "الشراهة في الأكل".
وهذا المرض يتمثّل بنمط معين من الأكل ذي طابع مرضي،إذ يقوم الشخص المصاب بالبوليميا بإلتهام
الكثير من الطعام من دون وعي أو مراقبة ثم يعمل على تقيئه بواسطة دواء أو عبر إدخال
الإصبع في الفم وذلك خوفاً من إكتساب الوزن، لذلك يعمد فور إنتهائه من الطعام إلى التخلص
من كل ما دخل معدته.وهذه العادة تتكرّر عدة مرات في اليوم
لتصبح نمط أكل ثابت في حياته.أجمع كل من تحدثت إليهم "النشرة" على تعريف
البوليميا الذي سبق وذكرناه،مفندين أسبابه،
فالدكتورة في علم النفس
المرضي والتحليل النفسي جانيت دكاش ردّت أساس المرض إلى السنوات الأولى
من حياة الانسان، والتي تعرف بـ"المرحلة الفموية"، موضحةً ان "البوليميا تبدأ وتتركز
في "المرحلة الفموية"، وخلال مرحلة المراهقة
تظهر عوارضها جلية، وهي عبارة عن مشكلة لا واعية، يعاني فيها المريض من عدم قدرته
على السيطرة على نفسه، حيث يشعر أنهمرتبط بشكل وثيق بعدم إستطاعته على
السيطرة على المشكلة، كما انه يرىنفسه عاجزاً عن السيطرة على ذاته
إذ ان هناك إنفصالا بين ما يريده عقله وما يفرضه سلوكه".
وفي السياق ذاته، عرّفت أخصائية التغذية
نغم طنوس البوليميا بأنه مرض نفسي إجتماعي بالدرجة الأولى يؤدي إلى إضطراب غذائي،
لافتةً إلى ان "النمط الغذائي الذي يتّبعه الفرد يؤثر تأثيراً هاماً عليه"، مضيفةً "ان حالة الفرد
النفسية تؤثر على غذائه، والعكس صحيح،
إذ ان الغذاء والنفسية على إرتباط وثيق".ومن جهته، أشار طبيب الأطفال بطرس رزي،
إلى ان "مرض البوليميا موجود لدى قسملا بأس به من الأشخاص،
وهو متعلّق بالنمط الغذائي المتّبع في مرحلة الطفولة،
وبتغيير هذا النمط فجأة".
أما أسباب البوليميا فهي نفسية بالدرجة الأولى،
بحسب ما أكدت طنوس، لافتةً إلى ان
"بعض هذه الأسباب تعرّض الفرد لعنف أو إغتصاب، وجود حالة طلاق في العائلة،
قلة ثقة الفرد بنفسه، الهوس بالجسم والضغوطالإجتماعية، نظرة سلبية للجسم،
بالإضافة إلى الإضطرابات النفسية المتنوعة وحالات الإكتئاب وبسبب ضغط المجتمع والعائلة أو وجود
حالة عصبية معينة".
أما دكاش من جهتها، فلفتت الى أن
"الإضطراب في نمط الغذاء ممكن ان يؤدي إلى زيادة الوزن، وبعد إتباع نظام غذائي
معين يستند إلى معتقدات خاطئة حول الحميات، تتعزّز ظاهرة البوليميا وتتطوّر"،
لافتةً إلى ان "التغيرات الهرمونية تساهم أيضاً في ظواهر عدم الاستقرار العاطفي
بما في ذلك الاندفاع في الشراهة عند تناول الطعام، كما انه في سن المراهقة يزداد
إهتمام الفرد بجسمه وبنظرة المجتمع إليه".كما وإعتبر رزي ان "عدم مشاركة الفرد
بنشاطات إجتماعية ورياضية ونشاطات أخرى تساهم بنموه الإجتماعي والفكري والنفسي،
يزيد من إحتمال الإصابة بالبوليميا، إذ يصبح لدى الفرد وقت فراغ أكبر"،
مضيفاً ان "حالات طلاق الأهل من أسباب الإصابة بالبوليميا، بالإضافة إلى كل الأمور التي تؤثر
سلباً على نفسية الطفل".
من هو الشخص البوليمي وما العوارض التي يتعرض لها؟
وفيما ان عدداً لا بأس به من الأهل لا يعرفون ما يحصل مع ولدهم وما يعاني من عوارض،
فالبعض منهم يحاول معالجة نموه من خلال نصائحه الخاصة، غير مدرك انه يتعامل مع
مرض نفسي يستوجب الوعي واللجوء إلى أخصّائيين. وتجدر الإشارة، بحسب ما أجمع
رزي ودكاش وطنوس، ان النساء هنّ الأكثر عرضة للإصابة بمرض البوليميا، كون المرأة
أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والاكتئاب من الرجل ونسبة التحمل لديها أقل، كما أن
هاجس البدانة غالباً ما يعايش المرأة أكثر من الرجل وخاصة في فترة المراهقة والبلوغ
نتيجة للتغيرات النفسية والفيزيولوجية. فالإنسان البوليمي شخص مهووس بجسمه وكل
همه إتباع الحميات الغذائية، فيتناول كميات كبيرة من الطعام بوقت قصير، وبسبب خجله
من الوضع الذي هو فيه، يلجأ إلى التقيؤ الإرادي ولا يدرك ان ذلك لن يزيل الوحدات الحرارية التي تناولها،
بحسب ما أكدت طنوس لـ"النشرة"،مضيفةً ان "البوليمي يتحوّل إلى
إلتهام كميات كبيرة من الطعام بشراهة غير طبيعية ومرضية ومن دون الإحساس بلذة
ونكهة ما يأكل، إلى درجة تفوق الشبع من
دون أن يراه أحد وبسرعة قصوى وسرية تامة،
وبعدها تنتابه مشاعر الضيق والاشمئزاز والخجل والندم على ما تناوله من طعام لكونه يهتم
بمظهره وشكل جسده فيلجأ إلى التقيؤ والتخلص
مما تناوله، ويحاول أحياناً تناول المشروبات
الغازية بشكل مفرط، كما ويلجأ إلى الرياضة المكثفة والحميات الغذائية القاسية
مما يؤذي الجسم بدل ان يؤدي إلى الأهداف المرجوة".
تتنوع عوارض البوليميا وتتعدد،
فأكثرهاشبيهة بعوارض أمراض أخرى، حيث لفت رزي إلى ان "من هذه العوارض التقيؤ
الإرادي والأكل من دون شهية"، فيما أشارت طنوس إلى أن "من عوارضه تغيير بمعالم
الشفاه، إصفرار الأسنان، جفاف الجلد، وجع بطن وإمساك، حريق بالمريء،
إنفجار في شرايين العيون، فقر دم، نظرة سلبية إلى الجسم وبالتالي فقدان الثقة بالنفس
والتقوقع والخجل والإنغلاق على الذات، الأكل من دون شهية وكأنه إنتقام،والصوم عن الأكل لفترة معينة".
علاج البوليميا
يتم على شقّين: نفسي وطبّي غذائي يكمن الحل بحالة البوليميا في تقبّل المشكلة
من المريض أولاً، ثم من عائلته ومحيطه، بالإضافة إلى البحث عن الأسباب، وعندها يتم
اللجوء إلى معالج نفسي لتخفيض نسبة الضغط النفسي عند المريض بطريقة معتدلة وليس
بشكل قاسٍ يؤذي الجسد والنفسية، بحسب ما أكدت طنوس، مضيفةً ان "علاج البوليمي
يكون بتعاون بين المعالج النفسي وأخصائي التغذية والعائلة والمحيط والأصدقاء والطبيب
إذا إستدعى الأمر"، موضحةً ان "المعالج النفسي يقوم بالبحث عن الأسباب النفسية والإجتماعية
التي ساهمت في وصول البوليمي إلى هذا الوضع ومحاولة إيجاد الحلول ليتقبل ذاته
وليستطيع ان يُكمل حياته بطريقة طبيعية؛ ويأتي أخصائي التغذية ليعمل على تنظيم
وجبات الفرد والحرص على عدم وجود أكل مضر بكمية كبيرة أمامه، وتكون
النصيحة الأولى التوقف عن تناول المشروباتالغازية والنوم من 7 إلى 8 ساعات أي بإنتظام؛
وإذا كانت الحالات متقدمة، يصف الطبيب النفسي أدوية للكآبة وأدوية نفسية أخرى للتخفيف من الضغط النفسي،
ويتجه أخصائي التغذية أحياناً إلى وصف مكمّل غذائي".وفي السياق ذاته، أكد رزي وأخصائية التغذية برنا نجم ان
"الشق الطبي في العلاج أقل أهمية من الشق النفسي الذي هو الأساس"،
وأضافت نجم انه "على المريض البوليمي ان يغيّر عاداته الغذائية، وهذا
يكون بتعاون بين المعالج النفسي وأخصائي التغذية، وليس بقرار ذاتي".
وبدورها،رأت دكاش ان "الحل للشخص البوليمي
يكون بإيجاد نوع من الانسجام بين سلامة الجسم البيولوجية والنفسية للشخص".
الأمراض النفسية شائعة وتتطلّب نوعاً خاصاً من الإهتمام والتقبّل
بحسب رزي، فإن الأمراض النفسية غالباً ما تبدأ من دون علم الفرد، ولا ينتبه انه
مريض إلا بعد المضاعفات والعوارض،مؤكداً "أهمية دور الأهل في هذا الإطار،
للإنتباه وليكون لديهم الوعي الكامل ودقة الملاحظة لمراقبة نمو ولدهم ومعرفة إن كان
يعاني من مرض ما للإسراع في عرضه على طبيب". كما وشددت طنوس على
"وجوب الإضاءة على الأمراض ذي الأسباب النفسية والإجتماعية"، معتبرةً
انها "الأخطر والأكثر أهمية من سائرالأمراض، وتتطلّب نوعاً خاصاً من الإهتمام
والتقبّل من قبل المحيط"، مشيرةً إلى ان "القليل من الناس يدرك خطورة تأثيرات
المجتمع على نفسية الفرد، كما أن القليل منهم يعرفون كيفية التعاطي مع الواقع في ظل ظروف إستثنائية".
[center]