بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإنه يجوز شرعًا لكافل الطفل اليتيم أو مجهول النسب أن ينسب لقب عائلته للطفل اليتيم (معلوم الأبوين، أو الأب فقط) أو مجهول النسب (مجهول الأبوين، أو الأب فقط)، يستوي في ذلك أن يكون الكافل رجلا أو امرأة.
وذلك يكون بإضافة لقب عائلة الكافل (الاسم الأخير) إلى الاسم الأخير للطفل، بحيث يظهر مطلق الانتماء إلى العائلة دون الإخلال أو التدليس بأنه ابنه أو ابنته من صلبه؛ حتى لا يدخل في نطاق التبني المحرّم شرعًا، بل إن تلك الإضافة التي تكون في آخر اسم الطفل اليتيم أو مجهول النسب ستكون مثل عُلقة الولاء التي كانت بين القبائل العربية قديمًا، وليس في ذلك شيء من التبني المحرم في الشرع؛ فالتبني: وهو إضافة ولد غيره إليه، وإقامته مقام ولده في الميراث، والنسب، والخلوة بنساء العائلة على أنهن محارمه، وغير ذلك مما كان شائعًا في الجاهلية وصَدْر الإسلام ثم حرّمه الإسلام حرصًا علي عدم اختلاط الأنساب. أما مجرد الانتماء للكافل فإنه مما لا يترتب عليه أي أثر من آثار التبني المحرّم شرعًا، بل ذلك مثل ما كان حاصلا مع العلماء والرواة المنسوبين إلى غير قبائلهم، فإنه قد أُطْلِقت النسبة في كل منهم بحيث يُظَنُّ أنه ممن نسب صَلِيـبة، أي: من ولد الصُّلْب.
وفي كلام المفسرين إشارة إلى هذا، فقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 5] أن المراد بالولاء في قوله {وَمَوَالِيكُمْ} ولاء المحَالفة([1]).
وقال العلامة الآلوسي: "قوله {وَمَوَالِيكُمْ} أي وأولياؤكم فيه –أي في الدين- فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين، وبهذا المعنى قيل لسالم - بعد نزول الآية- مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل، وقيل: {وَمَوَالِيكُمْ} أي بنو أعمامكم، وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط"([2]).
وقال أيضًا: "وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة: يا ابني، وكثيرًا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.
وفي «حواشي الخفاجي» على تفسير البيضاوي: البنوة وإن صح فيها التأويل كالأخوة لكن نهي عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة؛ فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية" اهـ([3]).
وقال الإمام القرطبي في تفسيره: "ولا يجرى هذا المجرى -أي مجرى التبني المحرَّم- ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الاسود فإن الاسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقى الاطلاق عليه.
ولم يُسمَع فيمن مضى مَن عصَّى مُطلِقَ ذلك عليه وإن كان متعمدًا، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة كان يدعى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن تُبُنِّيَ وانتسب لغير أبيه وشهر بذلك وغلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: (ولكن ما تعمدت قلوبكم) أي فعليكم الجناح. والله أعلم" اهـ([4]).
وقال الإمام ابن كثير في التفسير: "فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن الحسن العُرَني، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرَات لنا من جَمْع، فجعل يَلْطَخ أفخاذنا ويقول: "أُبَيْنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"، قال أبو عبيد وغيره: "أُبَيْنيّ" تصغير بني. وهذا ظاهر الدلالة، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر، وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} في شأن زيد بن حارثة، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان، وأيضا ففي صحيح مسلم، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري، عن الجَعْد أبي عثمان البصري، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بُني". ورواه أبو داود والترمذي" اهـ([5]).
وفي السنة النبوية ما يُستدل لهذا ففي حديث الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال: "هل فيكم أحد من غيركم". قالوا لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم"([6]).
قال المناوي: "قوله: (ابن أخت القوم منهم) لأنه ينسب إلى بعضهم وهي أمه فهو متصل بأقربائه في كل ما يجب أن يتصل به كنصرة ومشورة ومودة وإفشاء سر ومعونة وبر وشفقة وإكرام ونحو ذلك" ([7]).
ففي هذا الحديث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الابن ينتسب إلى قبيلة أمه وليس هو منها على الحقيقة.
وفي صحيح البخاري: أن حاطبًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم" ([8]).
قال ابن حجر في شرحه: "قوله: (كنت امرأ من قريش) أي بالحلف؛ لقوله بعد ذلك (ولم أكن من أنفسهم). قوله: (كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم) ليس هذا تناقضًا بل أراد أنه منهم بمعنى أنه حليفهم، وقـد ثبـت حديث: (حليف القـوم منهـم) اهـ([9]).
وفي هذا الحديث ذكر حاطب أنه ينتسب إلى قبيلة قريش بالمحالفة مع أنه لا ينتسب إليها في الحقيقة.
وما نحن فيه من منح اليتيم لقب كافله يتخرج على مثل هذه الصور التي مرت في شرح الآية والأحاديث.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ»، فقد نقل الإمام ابن بطال المالكي في "شرحه على البخاري" عن الإمام الطبري أنه قال:
"فإن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد كان من خيار الناس من ينسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود الذي نسب إليه، وإنما هو المقداد بن عمرو، ومنهم من يدعى إلى غير مولاه الذى أعتقه كسالم مولى أبي حذيفة، وإنما هو مولى امرأة من الأنصار وهؤلاء خيار الأمة؟
قيل: لا يدخل أحد منهم فى معنى هذه الأحاديث، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يستنكرون ذلك أن يتبنى الرجل منهم غير ابنه الذى خرج من صلبه فنسب إليه، ولا أن يتولى من أعتقه غيره فينسب ولاؤه إليه، ولم يزل ذلك أيضًا فى أول الإسلام حتى أنزل الله: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4] ونزلت {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} [الأحزاب: 5] الآية فنسب كل واحد منهم إلى أبيه ومن لم يعرف له أب ولا نسب عرف مولاه الذى أعتقه وألحق بولائه عنه غير أنه غلب على بعضهم النسب الذى كان يدعى به قبل الإسلام، فكان المعروف لأحدهم إذا أراد تعريفه بأشهر نسبه عرفه به من غير انتحال المعروف به، ولا تحول به عن نسبه وأبيه الذى هو أبوه على الحقيقة رغبة عنه فلم تلحقهم بذلك نقيصة، وإنما لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتبرئ من أبيه والمدعي غير نسبه، فمن فعل ذلك فقد ركب من الإثم عظيمًا وتحمل من الوزر جسيمًا، وكذلك المنتمي إلى غير مواليه"([10]).
وعلى ذلك جرى عمل السلف وأهل الحديث من غير نكير؛ حيث اشتهرت بينهم النسبة لأقل عارض وأدنى ملابسة، ولو كان ذلك حرامًا أو مستلزمًا للتبني المحظور لبادروا إلى إنكاره.
يقول الحافظ السخاوي في "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" (3/297) شرحًا لقول الحافظ العراقي في ألفيته (ونسبـوا لعارض كالبدري ... نزل بدرا عقبة بن عمرو):
"(ونسبوا) أي: المحدِّثين، بعضَ الرواة إلى مكان كانت به وقعة، أو إلى بلد، أو قبيلة، أو صنعة، أو صفة، أو ولاء، أو غير ذلك مما ليس ظاهرُه الذي يسبق إلى الفهم منه مرادًا، بل النسبة لذلك (لعارض) عَرَضَ وأمثلة ذلك كثيرة"([11]).
ويقول الحافظ السيوطي في "تدريب الراوي": "قد يُنْسب الرَّاوي إلى نِسْبةٍ: من مكانٍ, أو وقعةٍ به, أو قَبِيلةٍ, أو صَنْعةٍ, وليسَ الظَّاهرُ الَّذي يَسْبق إلى الفَهْم من تلكَ النِّسبة مرادًا, بل لعارض عرضَ من نُزوله ذلكَ المكان, أو تلك القَبِيلة, ونحو ذلك"([12]).
وقد ذكروا أن النسبة إذا خرجت عن كونها لأصل الشخص، فإنها من الممكن أن تكون لصور أخرى متعددة كما يلي:
وقد أبطل الإسلام من حِلْف الولاء ما كان في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل أو الغارات دون نصر المظلوم وصلة الأرحام.
ونِسبة الإنسان إلى غير قبيلته أمر شائع وواقع، شهدت به الكتب؛ فقد ذكر ابن الصلاح في مقدمته أن هناك من الرجال ممن نسبوا إلى غير آبائهم، فمنهم من نسب إلى أمه كشرحبيل بن حَسَنة وهي أمه، ومنهم من نسب إلى جدته كيعلى بن مُنْيَة الصحابي، ومنهم من نسب إلى جده كأبي عبيدة بن الجراح، ومنهم من نسب إلى رجل غير أبيه هو منه بسببٍ كالمقداد بن الأسود فهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي وكان في حجر الأسود بن عبد يغوث فنسب إليه.
وهناك من نسبوا إلى ما باطنه على خلاف ظاهره الذي يسبق إلى الفهم كأبي مسعود البدري عقبة بن عمرو فإنه لم يشهدا بدرًا في قول الأكثر، ولكنه نزل بها فنسب إليها ([15]).
فهذه أمثلة واقعية تدل على وقوع نسبة الإنسان إلى غير أبيه لا قبيلته فحسب، طالما أن هذا لا يندرج تحت المحذور الشرعي وهو التبني وما يترتب عليه من آثار، وأبعد من ذلك ما جاء في نسبة الإنسان إلى المكان الذي نزل فيه لمجرد نزوله كما في مثال أبي مسعود البدري.
وربما تُوسِّع في النسبة حيث يُنْسَب للقبيلة مَن يكون مولى المولى لها، نحو: سعيد بن يَسَار أبي الحباب الهاشمي، فإنه لكونه مولى شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم نُسِبَ لبني هاشم([16]).
فالنسبة لغير الأصل في الأمثلة السابقة لا يترتب عليها المحذورات الشرعية التي في التبني، وكذلك الحالة التي نحن بصددها من نسبة اليتيم إلى عائلة كافله؛ لأن المقصود من هذه النسبة هو مجرد الإضافة في الاسم لا في الحقيقة.
وهذه النِسبة تحقق مصالح كثيرة للطفل، فإن ذلك يضيف إلى حياة الطفل الكثير من الاستقرار والأمل، فهو يتمتع بحقوق مماثلة لحقوق الأبناء الشرعيين، فيصبح له مَن يقوم مقام الأب والأم أمام الناس في مراحله العمرية المختلفة وخاصة حين زواجه، وذلك مع الاحتفاظ بالأحكام الشرعية من حرمة التبني وما يترتب عليه من آثار شرعية، فنحن هنا راعينا مقاصد الشرع ولم نقع في شيء مما حذرنا منه.
فإنه يجوز شرعًا لكافل الطفل اليتيم أو مجهول النسب أن ينسب لقب عائلته للطفل اليتيم (معلوم الأبوين، أو الأب فقط) أو مجهول النسب (مجهول الأبوين، أو الأب فقط)، يستوي في ذلك أن يكون الكافل رجلا أو امرأة.
وذلك يكون بإضافة لقب عائلة الكافل (الاسم الأخير) إلى الاسم الأخير للطفل، بحيث يظهر مطلق الانتماء إلى العائلة دون الإخلال أو التدليس بأنه ابنه أو ابنته من صلبه؛ حتى لا يدخل في نطاق التبني المحرّم شرعًا، بل إن تلك الإضافة التي تكون في آخر اسم الطفل اليتيم أو مجهول النسب ستكون مثل عُلقة الولاء التي كانت بين القبائل العربية قديمًا، وليس في ذلك شيء من التبني المحرم في الشرع؛ فالتبني: وهو إضافة ولد غيره إليه، وإقامته مقام ولده في الميراث، والنسب، والخلوة بنساء العائلة على أنهن محارمه، وغير ذلك مما كان شائعًا في الجاهلية وصَدْر الإسلام ثم حرّمه الإسلام حرصًا علي عدم اختلاط الأنساب. أما مجرد الانتماء للكافل فإنه مما لا يترتب عليه أي أثر من آثار التبني المحرّم شرعًا، بل ذلك مثل ما كان حاصلا مع العلماء والرواة المنسوبين إلى غير قبائلهم، فإنه قد أُطْلِقت النسبة في كل منهم بحيث يُظَنُّ أنه ممن نسب صَلِيـبة، أي: من ولد الصُّلْب.
وفي كلام المفسرين إشارة إلى هذا، فقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 5] أن المراد بالولاء في قوله {وَمَوَالِيكُمْ} ولاء المحَالفة([1]).
وقال العلامة الآلوسي: "قوله {وَمَوَالِيكُمْ} أي وأولياؤكم فيه –أي في الدين- فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين، وبهذا المعنى قيل لسالم - بعد نزول الآية- مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل، وقيل: {وَمَوَالِيكُمْ} أي بنو أعمامكم، وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط"([2]).
وقال أيضًا: "وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة: يا ابني، وكثيرًا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.
وفي «حواشي الخفاجي» على تفسير البيضاوي: البنوة وإن صح فيها التأويل كالأخوة لكن نهي عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة؛ فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية" اهـ([3]).
وقال الإمام القرطبي في تفسيره: "ولا يجرى هذا المجرى -أي مجرى التبني المحرَّم- ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الاسود فإن الاسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقى الاطلاق عليه.
ولم يُسمَع فيمن مضى مَن عصَّى مُطلِقَ ذلك عليه وإن كان متعمدًا، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة كان يدعى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن تُبُنِّيَ وانتسب لغير أبيه وشهر بذلك وغلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: (ولكن ما تعمدت قلوبكم) أي فعليكم الجناح. والله أعلم" اهـ([4]).
وقال الإمام ابن كثير في التفسير: "فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن الحسن العُرَني، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرَات لنا من جَمْع، فجعل يَلْطَخ أفخاذنا ويقول: "أُبَيْنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"، قال أبو عبيد وغيره: "أُبَيْنيّ" تصغير بني. وهذا ظاهر الدلالة، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر، وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} في شأن زيد بن حارثة، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان، وأيضا ففي صحيح مسلم، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري، عن الجَعْد أبي عثمان البصري، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بُني". ورواه أبو داود والترمذي" اهـ([5]).
وفي السنة النبوية ما يُستدل لهذا ففي حديث الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال: "هل فيكم أحد من غيركم". قالوا لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم"([6]).
قال المناوي: "قوله: (ابن أخت القوم منهم) لأنه ينسب إلى بعضهم وهي أمه فهو متصل بأقربائه في كل ما يجب أن يتصل به كنصرة ومشورة ومودة وإفشاء سر ومعونة وبر وشفقة وإكرام ونحو ذلك" ([7]).
ففي هذا الحديث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الابن ينتسب إلى قبيلة أمه وليس هو منها على الحقيقة.
وفي صحيح البخاري: أن حاطبًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم" ([8]).
قال ابن حجر في شرحه: "قوله: (كنت امرأ من قريش) أي بالحلف؛ لقوله بعد ذلك (ولم أكن من أنفسهم). قوله: (كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم) ليس هذا تناقضًا بل أراد أنه منهم بمعنى أنه حليفهم، وقـد ثبـت حديث: (حليف القـوم منهـم) اهـ([9]).
وفي هذا الحديث ذكر حاطب أنه ينتسب إلى قبيلة قريش بالمحالفة مع أنه لا ينتسب إليها في الحقيقة.
وما نحن فيه من منح اليتيم لقب كافله يتخرج على مثل هذه الصور التي مرت في شرح الآية والأحاديث.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ»، فقد نقل الإمام ابن بطال المالكي في "شرحه على البخاري" عن الإمام الطبري أنه قال:
"فإن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد كان من خيار الناس من ينسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود الذي نسب إليه، وإنما هو المقداد بن عمرو، ومنهم من يدعى إلى غير مولاه الذى أعتقه كسالم مولى أبي حذيفة، وإنما هو مولى امرأة من الأنصار وهؤلاء خيار الأمة؟
قيل: لا يدخل أحد منهم فى معنى هذه الأحاديث، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يستنكرون ذلك أن يتبنى الرجل منهم غير ابنه الذى خرج من صلبه فنسب إليه، ولا أن يتولى من أعتقه غيره فينسب ولاؤه إليه، ولم يزل ذلك أيضًا فى أول الإسلام حتى أنزل الله: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4] ونزلت {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} [الأحزاب: 5] الآية فنسب كل واحد منهم إلى أبيه ومن لم يعرف له أب ولا نسب عرف مولاه الذى أعتقه وألحق بولائه عنه غير أنه غلب على بعضهم النسب الذى كان يدعى به قبل الإسلام، فكان المعروف لأحدهم إذا أراد تعريفه بأشهر نسبه عرفه به من غير انتحال المعروف به، ولا تحول به عن نسبه وأبيه الذى هو أبوه على الحقيقة رغبة عنه فلم تلحقهم بذلك نقيصة، وإنما لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتبرئ من أبيه والمدعي غير نسبه، فمن فعل ذلك فقد ركب من الإثم عظيمًا وتحمل من الوزر جسيمًا، وكذلك المنتمي إلى غير مواليه"([10]).
وعلى ذلك جرى عمل السلف وأهل الحديث من غير نكير؛ حيث اشتهرت بينهم النسبة لأقل عارض وأدنى ملابسة، ولو كان ذلك حرامًا أو مستلزمًا للتبني المحظور لبادروا إلى إنكاره.
يقول الحافظ السخاوي في "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" (3/297) شرحًا لقول الحافظ العراقي في ألفيته (ونسبـوا لعارض كالبدري ... نزل بدرا عقبة بن عمرو):
"(ونسبوا) أي: المحدِّثين، بعضَ الرواة إلى مكان كانت به وقعة، أو إلى بلد، أو قبيلة، أو صنعة، أو صفة، أو ولاء، أو غير ذلك مما ليس ظاهرُه الذي يسبق إلى الفهم منه مرادًا، بل النسبة لذلك (لعارض) عَرَضَ وأمثلة ذلك كثيرة"([11]).
ويقول الحافظ السيوطي في "تدريب الراوي": "قد يُنْسب الرَّاوي إلى نِسْبةٍ: من مكانٍ, أو وقعةٍ به, أو قَبِيلةٍ, أو صَنْعةٍ, وليسَ الظَّاهرُ الَّذي يَسْبق إلى الفَهْم من تلكَ النِّسبة مرادًا, بل لعارض عرضَ من نُزوله ذلكَ المكان, أو تلك القَبِيلة, ونحو ذلك"([12]).
وقد ذكروا أن النسبة إذا خرجت عن كونها لأصل الشخص، فإنها من الممكن أن تكون لصور أخرى متعددة كما يلي:
وقد أبطل الإسلام من حِلْف الولاء ما كان في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل أو الغارات دون نصر المظلوم وصلة الأرحام.
ونِسبة الإنسان إلى غير قبيلته أمر شائع وواقع، شهدت به الكتب؛ فقد ذكر ابن الصلاح في مقدمته أن هناك من الرجال ممن نسبوا إلى غير آبائهم، فمنهم من نسب إلى أمه كشرحبيل بن حَسَنة وهي أمه، ومنهم من نسب إلى جدته كيعلى بن مُنْيَة الصحابي، ومنهم من نسب إلى جده كأبي عبيدة بن الجراح، ومنهم من نسب إلى رجل غير أبيه هو منه بسببٍ كالمقداد بن الأسود فهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي وكان في حجر الأسود بن عبد يغوث فنسب إليه.
وهناك من نسبوا إلى ما باطنه على خلاف ظاهره الذي يسبق إلى الفهم كأبي مسعود البدري عقبة بن عمرو فإنه لم يشهدا بدرًا في قول الأكثر، ولكنه نزل بها فنسب إليها ([15]).
فهذه أمثلة واقعية تدل على وقوع نسبة الإنسان إلى غير أبيه لا قبيلته فحسب، طالما أن هذا لا يندرج تحت المحذور الشرعي وهو التبني وما يترتب عليه من آثار، وأبعد من ذلك ما جاء في نسبة الإنسان إلى المكان الذي نزل فيه لمجرد نزوله كما في مثال أبي مسعود البدري.
وربما تُوسِّع في النسبة حيث يُنْسَب للقبيلة مَن يكون مولى المولى لها، نحو: سعيد بن يَسَار أبي الحباب الهاشمي، فإنه لكونه مولى شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم نُسِبَ لبني هاشم([16]).
فالنسبة لغير الأصل في الأمثلة السابقة لا يترتب عليها المحذورات الشرعية التي في التبني، وكذلك الحالة التي نحن بصددها من نسبة اليتيم إلى عائلة كافله؛ لأن المقصود من هذه النسبة هو مجرد الإضافة في الاسم لا في الحقيقة.
وهذه النِسبة تحقق مصالح كثيرة للطفل، فإن ذلك يضيف إلى حياة الطفل الكثير من الاستقرار والأمل، فهو يتمتع بحقوق مماثلة لحقوق الأبناء الشرعيين، فيصبح له مَن يقوم مقام الأب والأم أمام الناس في مراحله العمرية المختلفة وخاصة حين زواجه، وذلك مع الاحتفاظ بالأحكام الشرعية من حرمة التبني وما يترتب عليه من آثار شرعية، فنحن هنا راعينا مقاصد الشرع ولم نقع في شيء مما حذرنا منه.