دعوة للبكاء
الخميس 23/4/2009رياض درويش
بكى حينما سقطت قرطاج . سألوه أتبكيك هزيمة دولة معادية؟ هل نسيت أنّ القرطاجيين حاربونا عشرين عاماً , وأنّ قائدهم حنابعل حاصر عاصمتنا روما وكاد أن يسيطر عليها؟ ألم يكن الأجدر بك أن تفرح بانتصار بلدك , بدل أن تذرف الدمع؟ صمت الفيلسوف الروماني قليلاً , ثم شرع يجيب : إنني أبكي كلّما أتصوّرنفسي مكان أهل قرطاج . حياتهم اختصرتها الحروب , ومعالم حضارتهم أبيدت. بيوتهم احترقت ولم تعد قادرة على استعادة نبض ساكنيها. سأظل أنتحب ما بقيت ذاكرتي مفتوحة على الماضي، و مادامت موجات الألم تحقن احساسي . ... وهكذا فإنّ الفيلسوف رأى أنّ المأتم الإنساني لا يصلح إلاّ لإطلاق تعابير الحزن. وتمضي الأيام فيردّد - بعد ألفي عام ونيّف - بابلونيرودا شاعر تشيلي الكبير جملته الشهيرة: «لا أستطيع أن أرقص في مأتم الوطن». لقد تشابه أحساسا فيلسوف مرهف, وشاعر يمثّل الوطن عنده صورة البلدان المقهورة. وحّدت المعاناة الأصيلة نبل مشاعرهما , فأنجزا صياغة رائعة للألم العظيم. صار الحزن لديهما إمتيازاً يحفظ صوت السماء في الضّمير. عارٌ على الفرح -عندهما - أن يصول في مأتم أمّة أو جماعة أو فرد. وإذا لم يتعاطف الإنسان مع الآخر يحقُّ لنا أن نتّفق مع مارك توين، حين رأى أنّه من المؤسف أن ينقذ نوح السفينة . إذا لم تتجسّد هموم الآخرين في النفس، فقد تسود ثقافة خوف الإنسان من ذاته . ربّما تضعف الذاكرة ويخونه واجب البكاء كلّما فقد قريباً أو صديقاً أو جاراً او استشهدت أمامه القيم الانسانية. إنّ لبؤس المشاعر تداعيات كثيرة تجعل الآذان لاتسمع، والعيون لاترى، والوجدان لايصحو.. وبالمقابل فإن للمشاعر النبيلة تجليات تستنفر الأسى حتّى على هزيمة الخصم . ولكي لانعيش تداعيات بؤس المشاعر وتجليات نبلها , أضحت لدينا مدرسة يؤمن روادها بضرورة فتح صفحة جديدة من التاريخ لامنتصر فيها ولا مهزوم . لايريدون من الحرب أن تصنع نمراً جريحاً , ولا من الحب أن يخلق عاطفة مأزومة، ولا من التجارة ان تنتج حساب افلاس .. الخ لايريدون الانتصار نفسه اذا فاز في الفرد عيبٌ على قيمة، أو شهوة على ارادة؟ أو غدر على أخلاق فروسية .. الخ التعادل السلبي او الايجابي هو المطلوب لديهم في نتيجة أية مباراة رياضية أو غير رياضية . لكن كيف تعيد نتائجُ التعادل في معارك الدفاع عن الامة حقّاً وتحرّر أرضاً؟ عفواً أيّها السؤال .. لن أهديك إلى غيري، فأنا أملك الإجابة عنك: إنّ الحريّة لاتنجبها إلّا الانتصارات البيّنة , والكرامة لايحقّقها إلّا عنفوان متمرّد على الظلم. قد يسأل سائل: أما عُدنا إلى نقطة البداية؟ هل هناك انتصار لايترك على الطرف الآخر بصمات الموت والدمار، ويشعل بالتالي لهيب العاطفة لدى هذا الفيلسوف أو ذاك المتوقد احساساً؟ بالطبع لا، لكن هناك حروب تستثني المدنيين والبنى التحتية من براكين حممها، فيبارز فيها الحديد الحديد . هناك حروب تستهدف تحقيق الانتصارات على حقد كوارث الطبيعة، والأمراض المستعصية، وعلى الفقر والجهل والتخلف. إنّ الانتصار في مثل هذه الحروب أمر مطلوب . ولا ننسى أن ملاحم الساحات التي انتهت إلى : لا غالب ولا مغلوب قد عادت . أما الملاحم التي يكون فيها مهزوم ومنتصر , فقد انتهت بتفاوض . ولعلّ الأسوأ في سيناريوهات الحروب هو ما حدّده كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق . سألوه : من تتمنّى أن ينتصر : العراق أم ايران؟ ودون انتظار أجاب : أتمنى أن يُهزم الطرفان . وأقول : حينما تتحقق الأمنيات الشريرة في هزيمة كلّ الأطراف، فإنّ فيلسوف روما - رحمه الله - مدعو للبكاء مرّتين .
الخميس 23/4/2009
رياض درويش
المصدر
http://wehda.alwehda.gov.sy/_kuttab_a.asp?FileName=29158846420090425120224