فقالا لي: هذا صاحبُ أبي القاسم، ما قولك فيه يا أنف الناقة؟ قال: فتًى لم أعرف على من قرأ. فقلت لنفسي: العصا من العُصية! إن لم تُعربي عن ذاتك، وتُظهري بعض أدواتك، وأنت بين فرسانِ الكلامِ، لم يطر لك بعدها طائر، وكنت غرضاً لكل حجرٍ عابر.
وأخذتُ للكلام أهبته، ولبستُ للبيان بزتهُ، فقلتُ: وأنا أيضاً لا أعرف على من قرأت. قال: ألمثلي يُقال هذا؟ فقلت: فكان ماذا؟ قال: فطارحني كتاب الخليل.
قلتُ: هو عندي في زنبيل. قال: فناظرني على كتاب سيبويه. قلتُ: خريت الهرَّةُ عندي عليه، وعلى شرح ابن درستويه. فقال لي: دع عنك، أبا أبو البيان.
قلت: لاه اللهُ! إنّما كمُغن وسط، لا يُحسنُ فيُطرب، ولا يُسيء فيلهي. قال: لقد علّمنيه المؤدِّبُون. قلتُ: ليس هو من شأنهم، إنما هو من تعليم الله تعالى حيث قال: "الرَّحمنُ عَلَّمَ القُرآنَ خلقَ الإنسانَ عَلّمَهُ البَيان". ليس من شعرٍ يُفسَّر، ولا أرضٍ تُكسَّر. هيهات، حتى يكون المسكُ من أنفاسك، والعنبرُ من أنفاسك، وحتى يكون مساقُكَ عذباً، وكلامُك رطباً، ونفسُك من نَفسك، وقليبُك من قلبِك، وحتى تتناول الوضيع فترفعه، والرفيعَ فتضعه، والقبيح فتحسنه! قال: أسمعني مثالاً. قلتُ: حتى تصف بُرغُوثاً فتقول:
صفة برغوث
أسودُ زنجي، وأهيٌّ وحشي؛ ليس بوانٍ ولا زُميل، وكأنه جُزء لا يتجزأ من ليل؛ أو شُونيزة، أوثقتها غريزة؛ أو نقطةُ مِداد، أو سويداءُ قلبِ قُراد؛ شُربه عب، ومشيه وثب؛ يكمنُ نهاره، ويسري ليله؛ يدارك بطعنٍ مؤلم، ويستحلُّ دم كل كافرٍ ومُسلم؛ مُساورٌ للأساورة، يجُرُّ ذيله على الجبابر يتكفر بأرفع الثياب، ويهتكُ ستر كل حِجاب، ولا يحفل ببوَّاب؛ مناهل العيش العذبة، ويصلُ إلى الأحراج الرَّطبة، لا يمنعُ منه أمير، ولا ينفعُ فيه غيرةُ غيور، وهو أحقر كل حقير؛ شرُّه مبثوث، وعهده منكوث، وكذلك كلُّ بُرغُوث، كفى نقصاً للإنسان، ودلالةً على قُدرةِ الرَّحمَن.
صفة ثعلب
وحتى تصف ثعلباً فتقول: أدهى من عمرو، وأفتكُ من قاتل حُذيفة ابن بدر؛ كثيرُ الوقائع في المسلمين، مُغرى بإراقة دماء المؤذنين؛ إذا رأى الفُرصة انتهزها، وإذا طلبته الكُماةُ أعجزها؛ وهو مع ذلك يُقراطُ في إدامه، وجالينوسُ في اعتدال طعامه، غداؤه حمامٌ أو دجاج، عشاؤه تدرُج أو دُرَّاج.
صاحب بديع الزمان
وكان فيما يقابلُني من ناديهم متًى قد رماني بطرفه، واتّكأ لي على كفّه، فقال: تحيُّلٌ على الكلام لطيفٌ، وأبيك! فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أوما علمت أنَّ الواصف إذا وصف لم يتقدَّم إلى صفته، ولا سُلط الكلامُ على نعته، اكتفى بقليل الإحسان، واحجتزى بيسير البيان؟ لأنه لم يتقدم وصفٌ بُقرنُ بوصفه، ولا جرى مساقٌ يُضاف إلى مساقه. وهذه نسكتةٌ بغذاذية، أنى لك بها يا فتى المغرب؟ فقلتُ لزُهير: من هذا؟ قال: زبدةُ الحقب، صاحب بديع الزمان. فقلتُ: يا زبدة الحقب، اقترح لي قال: صف جاريةً. فوصفتُها. قال: أحسنت ما شئت أن تُحسن! قلتُ: أسمعني وصفك للماء. قال: ذلك من العُقم. قلت: بحياتي هاته.
قال: أزرق كعين السنّور، صافٍ كقضيب البلور؛ انتُخب من الفُرات واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة.
فقلتُ: انظره، يا سيدي، كأنه عصيرُ صباح، أو ذوبُ قمرٍ لياح؛ ينضبُّ من إنائه، انصباب الكوكب من سمائه؛ العين حانُوته، والفمُ عفريتُه، كأنه خيطٌ من غزلٍ فُلق، أو مخصرٌ يُضربُ به من ورق يُرفعُ عنك فتردى، ويُصدع به قلبك فتحيا.
فلمّا انتهيت في الصفة، ضرب زُبدةُ الحقب الأرض برجله، فانفرجت له عن مثل برهُوت، وتد هدى إليها، واجتمعت عليه، وغابت عينه، وانقطع أثره. فاستضحك الأستاذان من فعله، واشتدَّ غيظُ أنفٍ النّاقةِ عليَّ.
رجع إلى أنف الناقة
فقال: وقعت لك أوصافٌ في شعرك تظنُّ أني لا أستطيعُها؟ فقلتُ له: وحتى تصف عارضاً فتقول:
ومُرتجزٍ ألقى بذي الأثـل كـلـكـلاً
وحطَّ بجرعاء الأبـارقِ مـا حـطـا
وسعى في قيادِ الرِّيحِ يُسمحُ للصَّـبـا،
فألقت على غيرٍ التِّلاعِ بـه مِـرطـا
وما زال يُروي حتى كسـا الـرُّبـى
درانك، والغيطان من نسجه بُسـطـا
وعنت له ريحٌ تُـسـاقـطُ قـطـرهُ
كما نثرت حسناءُ من جيدها سمـطـا
ولـم أر دُراً بـدَّدتـه بـدُ الـصَّـبـا
سواهُ، فبات النَّورُ يلقُطُـه لـقـطـا
وبتنا نُراعي الليل لـم نـطـوِ بُـرده،
ولم يجر شيبُ الصُّبح في فرعه وخطا
تراه كملك الزَّنجِ في فـرط كـبـرهِ،
إذا رام مشياً في تبـخـتُـره أبـطـا
مُطلاً على الآفاقِ والـبـدرُ تـاجُـهُ،
وقد علق الجوزاء من أذنه قُـرطـا
وحتى تصف ذئباً فتقول:
إذا اجتاز عُلويُّ الرّياحِ بأُفـقـه
أجدَّ، لعرفانِ الصَّبا، يتنـفـس
تذكرَ روضاً من شوي وباقـرٍ،
تولته أحراسٌ من الذُّعر تُحرس
إذا انتابها من أذؤُبِ القفرِ طارقٌ
حثيث، إذا استشعر اللحظ يهمسُ
أزلُّ كسا جُثمانه مُـتـسـتـراً
طيالس سوُداً للدُّجى وهو أطلسُ
فدلَّ عليهِ لحظُ خبٍ مُـخـادعٍ،
ترى نارهُ من ماء عينيه تُقبـسُ
فصاح فتيانُ الجن عند هذا البيت الأخير: زاه! وعلت أنف الناقة كآبةٌ، وظهرت عليه مَهابةٌ، واختلط كلامه، وبدا منه ساعتئذٍ بوادٍ في خطابه، رحمهُ لها من حضر، وأشفق عليه من أجلها من نظر.
صاحب أبي إسحاق بن حمام
وشمَّر لي فتًى، كان إلى جانبه، عن ساعدٍ، وقال لي: وهل يضُرُّ قريحتك، أو ينقُص من بديهتك لو تجافيت لأنف الناقة، وصبرت له؟ فإنه على علاَّته زيرُ علم، وزنبيلُ فهم، وكنفُ رواية. فقلت لزهير: من هذا؟ فقال: هو أبو الآداب صاحب أبي إسحاق بن حُمامٍ جارل. فقلت: يا أبا الآداب، وزهرة ريحانةِ الكُتاب، رفقاً على أخيك بغرب لسانك، وهل كان يُضُرُّ أنف الناقة، أو ينقص من علمه، أو يُفلُّ شفرة فهمه، أن يصبر لي على زلةٍ تمرُّ في شعرٍ أو خُطبة، فلا يهتفُ بها بين تلاميذه، ويجعلها طرمذةً من طراميذه؟ فقال: إنَّ الشيُوخَ قد تهفو أحلامهم في النَّدرة. فقلت: إنها المرَّةُ بعد المرَّة.
ثم قال لي الأستاذان عُتبةُ بن أرقم، وأبو هُبيرة صاحب عبد الحميد: إنا لنخبطُ منك ببيداء حيرة، وتُفتقُ أسماعنا منك بعبرة، وما ندري أنقولُ: شاعرٌ أم خطيب؟ فقلتُ: الإنصاف أولى، والصَّدعُ بالحق أحجى ولا بُدَّ من قضاء. فقالا: اذهب فإنك شاعرٌ خطيب. وانفضَّ الجمع والأبصارُ إليَّ ناظرة، والأعناق نحوي مائلة.