ورد الشام

ورد الشام
عزيزي الزائر
هنالك فرق في التصفح كـ زائر والتصفح كــ صديق مسجل مع أننا أتحنا كل أقسام ورد الشام لكي يستفاد بها الجميع الزائرين
كثيرة المنتديات التي يسجل بها البعض ولكن قد يهمل دخولهم وتسجيلهم
هنا في ورد الشام
جرب أن تهتم وسوف نهتم


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ورد الشام

ورد الشام
عزيزي الزائر
هنالك فرق في التصفح كـ زائر والتصفح كــ صديق مسجل مع أننا أتحنا كل أقسام ورد الشام لكي يستفاد بها الجميع الزائرين
كثيرة المنتديات التي يسجل بها البعض ولكن قد يهمل دخولهم وتسجيلهم
هنا في ورد الشام
جرب أن تهتم وسوف نهتم

ورد الشام

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أجتماعي ثقافي أدبي ترفيهي


3 مشترك

    (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ


    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:19

    اغتياب الآخرين أمام الملك

    ومن حق الملك أن لا يعاب عنده أحد، صغر أو كبر غير أن من أخلاقها التحريش بين اثنين، والاغراء بينهما.

    فمن الملوك من يدبر في هذا تدبيراً يجب في السياسة؛ وذاك أنه يقال: قل إثنان استويا في منزلة عند الملك والجاه والتبع والعز والحظوة عند السلطان فاتفقا، إلا كان ذلك الاتفاق وهنأ على المملكة والملك، كانا، متى شاءا أن ينقصنا ما ابرم الملك ويحلا ما عقد، ويوهيا ما أكثر، قدراً على ذلك للاتفاق والمجامعة.

    ومتى انفصلا حتى يتباينا أو يتحاربا، كان تباينهما أثبت في نظام الملك، وأوكد في عز المملكة.

    وكان متى أراد هذا شيئاً، أراد الآخر خلافه. فإذا تباينا في ذات أنفسهما، اجتمعا على نصيحة الملك، شاءا أم أبيا، وآثرها كل واحد منهما على هوى نفسه، وانتظم للملك تدبيره، وتم له أمره.

    ومن الملوك من لا يقصد إلى هذا، ولا يكون غرضه الإغراء بين وزرائه وبطانته لهذه العلة، بل ليعرف معايب كل واحدٍ منهما. فإن معرفة ذلك تقطع الوزير عن الانبساط في حوائجه، والتحسب على ملكه.

    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:21

    بحث آداب رسول الملك

    ومن الحق على الملك أن يكون رسوله صحيح الفطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته، مؤدياً لألفاظ الملك ومعانيها، صدوق اللهجة، لا يميل إلى طمع ولا طبع، حافظاً لما حمل.

    وعلى الملك أن يمتحن رسوله محنةً طويلةً، قبل أن يجعله رسولاً.

    وكانت ملوك الأعاجم، إذا آثرت أن تختار من رعيتها من تجعله رسولاً إلى بعض ملوك الأمم، تمتحنه أولاً، بأن توجهه رسولاً إلى بعض خاصة الملك، ومن في قرار داره في رسائلها.

    ثم تقدم عيناً عليه، يحضر رسالته ويكتب كلامه. فإذا رجع الرسول الرسالة، جاء العين بما كتب من ألفاظه وأجوبته. فقابل بها الملك ألفاظ الرسول. فإن اتفقت أو اتفقت معانيها، عرف الملك صحة عقله، وصدق لهجته، ثم جعله الملك رسولاً إلى عدوه، وجعل عليه عيناً يحفظ ألفاظه ويكتبها، ثم يرفعها إلى الملك. فإن اتفق كلام الرسول وكلام عين الملك، وعلم أن رسوله قد صدقه عن عدوه ولم يتزيد عليه للعداوة بينهما، جعله رسوله إلى ملوك الأمم، ووثق به. ثم كان بعد ذلك يقيم خبره مقام الحجة.

    وكان أردشير بن بابك يقول: كم من دمٍ قد سفكه الرسول بغير حله! وكم من جيوش قد قتلت، وعساكر قد هزمت، وحرمةٍ قد انتهكت، ومال قد انتهب، وعهدٍ قد نقض بخيانة الرسول وأكاذيبه!

    وكان يقول: على الملك، إذا وجه رسولاً إلى ملك آخر، أن يردفه بآخر.

    وإن وجه رسولين، أتبعهما باثنين، وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسولين في طريقٍ ولا ملاقاةٍ ولا يتعارفان فيتواطآ، فعل. ثم عليه، إن أتاه رسوله بكتاب أو رسالة من ملك في خير أو شر، أن لا يحدث في ذلك خيراً أو شراً، حتى يكتب إليه مع رسول ربما حرم بعض ما أمل، فافتعل الكتب، وحرض المرسل على المرسل إليه، فأغراه به، وكذب عليه.

    ويقال إن الأسكندر وجه رسولاً إلى بعض ملوك الشرق، فجاءه برسالة شك في حرفٍ منها فقال له الاسكندر: ويلك! إن الملوك لا تخلو من مقوم ومسدد، إذا مالت.

    وقد جئتني برسالةٍ صحيحة الألفاظ، بينة العبارة؛ غير أن فيها حرفاً ينقضها؛ أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه؟ فقال الرسول: بل على يقين أنه قاله. فأمر الاسكندر أن تكتب ألفاظه حرفاً حرفاً، ويعاد إلى الملك مع رسولٍ آخر، فيقرأ عليه ويترجم له.

    فلما قريء الكتاب على الملك، فمر بذلك الحرف، أنكره فقال للمترجم: ضع يدي على هذا الحرف فوضعها.

    فأمر أن يقطع ذلك الحرف بسكينة، فقطع من الكتاب. وكتب إلى الإسكندر: إن رأس المملكة صحة فطرة الملك، ورأس الملك صدق لهجة رسوله، إذ كان عن لسانه ينطق، وإلى أذنه يؤدي. وقد قطعت بسكينتي ما لم يكن من كلامي، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلاً.

    فلما جاء الرسول بهذا إلى الإسكندر، دعا الرسول الأول، فقال: ما حملك على كلمةٍ أردت بها فساد ملكين؟ فأقر الرسول أن ذلك كان لتقصير رآه من الموجه إليه. فقال الاسكندر: فأراك لنفسك لسعيت، لا لنا! فلما فاتك بعض ما أملت، جعلت ذلك ثأراً في الأنفس الخطيرة الرفيعة! فأمر بلسانه، فنزع من قفاه.




    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:24

    احتياط الملك


    ومن أخلاق الملك أن يكون لمنامه في ليل ولا نهار موضع يعرف به، ولا حوى يقصد إليه؛ إذ كانت أنفس الملوك هي المطلوب غرتها، والموكل برعاية سنتها، وساعة غفلتها.

    ويقال إن ملوك آل ساسان لم يعرف مبيت أحد منهم قط، ولا مقيله.

    فأما أردشير بن بابك، وسابور، وبهرام، ويزدجرد، وكسرى أبرويز، وكسرى أنوشروان، فكان يفرش للملك منهم أربعون فراشاً، في أربعين موضعاً، ليس منها فراش إلا ومن رآه من بعيد على الانفراد، لا يشك أنه فراش الملك خاصةً، وأنه نائم فيه. ولعله أن لا يكون على واحد منها، بل لعله ينام على مجلس رقيق، وربما توسد ذراعه، فنام.

    ولو لم يجب على ملوكنا حفظ منامهم، وصيانته عن كل عين تطرف، وأذن تسمع، غلا النبي صلى الله عليه وسلم، فعله، وهو من الله بمكانه المخصوص من كلاءته إياه، وحراسة الروح الأمين له، لقد كان يحق عليهم أن يقتدوا به، ويمتثلوا فعله. وقد كان المشركون هموا بقتله، فأخبره جبريل، صلى الله عليهما، عن الله، جل ثناؤه، بذلك، فدعا علي بن أبي طالب عليه السلام، فأنامه على فراشه، ونام هو، صلى الله عليه وسلم، بمكان آخر. فلما جاء المشركون إلى فراشه، فنهض منه علي، انصرفوا عنه.

    ففي هذا أكبر الأدلة، وأوضح الحجة على ما ذكرنا، إذ كانت أنفس الملوك هي الأنفس الخطيرة الرفيعة التي توزن بنفوس كل من أظلت الخضراء، وأفلت الغبراء.

    وكانت الأعاجم تقول: " لا ينبغي للملك أن يطلع على موضع منامه إلا الوالدان فقط؛ فأما من دونهما، فالوحشة منه وترك الثقة به أبلغ في باب الحزم وأوكد في سياسة الملك، وأوجب في الشريعة، وأوقع في الهوينا.

    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:26

    معاملة ابن الملك للملك

    ومن حق الملك أن يعامله ابنه كما يعامله عبده، وأن لا يدخل مداخله إلا عن أذنه، وأن يكون الحجاب عليه أغلظ منه على من هو دونه من بطانة الملك وخدمه، لئلا تحمله الدالة على غير ميزان الحق.

    فإنه يقال أن يزدجرد رأى بهرام ابنه بموضعٍ لم يكن له، فقال: مررت بالحاجب؟ قال: نعم. قال: وعلم بدخولك؟ قال: نعم. قال: فاخرج إليه واضربه ثلاثين سوطاً، ونحه عن الستر، ووكل بالحجابة أرادمرد.

    ففعل ذلك بهرام، وهو إذ ذاك ابن ثلاث عشرة؛ ولم يعلم الحاجب فيم غضب الملك عليه.

    فلما جاء بهرام، بعد ذلك ليدخل،أرادمرد في صدره دفعةً وقذه منها، وقال: إن رأيتك بهذا الموضع ثانيةً، ضربتك ستين سوطاً: ثلاثين منها لجنايتك على الحاجب أمس، وثلاثين لئلا تطمع في الجناية علي. فبلغ ذلك يزدجرد، فدعا أرادمرد، فخلع عليه وأحسن إليه.

    ويقال أن يزيد بن معاوية كان بينه وبين أبيه باب. فكان إذا أراد الدخول عليه قال: يا جارية! انظري هل تحرك أمير المؤمنين.

    فجاءت الجارية مرة حتى فتحت الباب، فإذا معاوية قاعد، وفي حجره مصحف، وبين يديه جارية تصفح عليه. فأخبرت يزيد بذلك.

    فجاء يزيد، فدخل على معاوية. فقال له: أي بني! إني إنما جعلت بيني وبينك باباً، كما بيني وبين العامة. فهل ترى أحداً يدخل من الباب إلا بإذنٍ؟ قال: لا قال: فكذلك فليكن بابك! فإذا قرع عليك فهو إذنك.

    وهكذا ذكر لنا أن موسى الهادي دخل على أمير المؤمنين المهدي، فزبره، وقال: إياك أن تعود إلى مثلها إلا أن يفتح بابك! وذكر لنا أن المأمون لما استعر به الوجع، سأل بعض بنيه الحاجب أن يدخله عليه ليراه، فقال: لا والله! ما إلى ذلك سبيل. ولكن إن شئت أن تراه من حيث لا يراك، فاطلع عليه من ثقبٍ في ذلك الباب. فجاء حتى اطلع عليه، وتأمله، ثم انصرف.

    وذكر لنا أن إيتاخ بصر بالواثق في حياة المعتصم واقفاً في موضعٍ لم يكن له أن يقف فيه، فزبره، وقال: تنح! فوالله لولا أنى لم أتقدم إليك في ذلك، لضربتك مائة عصاً.

    وليس لابن الملك من الملك إلا ما لعبده من الاستكانة والخضوع والخشوع، ولا له أن يظهر دالة الأبوة وموضع الوراثة. فإن هذا إنما يجوز في النمط الأوسط من الناس، ثم الذين يلونهم.

    فأما الملوك، فترقى عن كل شيء يمت به.

    وليس لابن الملك أن يسفك دماً، وإن أوجبت الشريعة سفكه، وجاءت الملة به، إلا عن إذن الملك ورأيه، لأنه متى تفرد بذلك، كان هو الحاكم دون الملك. وفي هذا وهن على الملك، وضعف في المملكة.

    وكذلك ليس له أن يحكم في الحلال والحرام والفروج والأحكام، وإن كان ولي عهد الملك، والمقلد إرث أبيه، والمحكوم له بالطاعة، إلا عن أمره ورأيه.

    وليس له، إذا جمعته والملك دار واحدة، أن يأكل إلا بأكل الملك. ولا أن يشرب إلا بشربه، ولا أن ينام إلا بمنامه. وكذا يجب عليه، في كل شيء من أموره السارة والضارة أن يكون له تابعاً، ولحركته تالياً.

    وليس هذا على من دون ابن الملك من بطانته وسائر رعيته. لأن ابن الملك عضو من أعضائه، وجزء من أجزائه، والملك اصل، والابن فرع، والفرع تابع للأصل، والأصل مستغنٍ عن الفرع.

    وليس لابن الملك أن يرضى عمن سخط عليه الملك، وإن كان المسخوط عليه لا ذنب له عنده، لأن من العدل والحق عليه أن يوالي من والى الملك، ويعادي من عاداه. ولا ينظر في هذا إلى خط نفسه، وارادة طبعه، حتى يبلغ من حق الملك ما أن وجد إلى غيلته سبيلاً أن يقتله، وعلى هذا ينبغي أن يكون نظام العامة لملكها.


    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:27

    شهوة الاستبدال لدى الملك: وقد تحدث في أخلاق الملك ملالة لشهوة الاستبدال فقط. فليس لصاحب الملك، إذا أحدث الملك خلقاً، أن يعارضه بمثله، ولا إذا رأى نبوةً وازورارةً، أن يحدث مثله، فإنه متى فعل ذلك فسدت نيته، ومن فسدت نيته عادت طاعته معصيةً، وولايته عداوةً. ومن عادى الملك، فنفسه عادى، وإياها أهان.

    ولكن عليه، إذا أحدث الملك الخلق الذي عليه بنية أكثر الملوك، أن يحتال في صرف قلبه إليه. والحيلة في ذلك يسيرة: إنما هو يطلب خلوته، فيلهيه بنادرةٍ مضحكة، أو ضرب مثلٍ نادرٍ، أو خيرٍ كان عنه مغطى، فيكشفه له. كما فعل بعض سمار ملوك الأعاجم: أظهر الملك له جفوة الملالة فقط، فلما رأى ذلك، تعلم نباح الكلاب، وعواء الذئاب، ونهيق الحمير، وصياح الديوك، وشحيج البغال، وصهيل الخيل.

    ثم احتال حتى دخل موضعاً يقرب من مجلس الملك وفراشه يخفي أمره. فنبح نباح الكلاب، فلم يشك الملك أنه كلب وابن كلب. فقال: انظروا ما هذا؟ فعوى عواء الذئاب، فنزل الملك عن سريره.

    فنهق نهيق الحمار، ومر الملك هارباً.

    وجاء غلمانه يتبعون الصوت، فلما دنوا منه، أحدث معنىً آخر، فأحجموا عنه. ثم اجتمعوا فاقتحموا عليه، فأخرجوه وهو عريان مختبئ.

    فلما نظروا إليه، قالوا للملك:

    هذا مازيار المضحك! فضحك الملك حتى تبسط، وقال: ويلك! ما حملك على هذا؟ قال: إن الله مسخني كلباً وذئباً وحماراً، لما غضب علي الملك.

    فأمر أن يخلع عليه، ويرد إلى موضعه.

    وهذا لا يفعله إلا أهل الطبقة السفلى. فأما الاشراف، فلهم حيل غير هذه، مما يشبه أقدارهم.

    كما فعل روح بن زنباع، وكان أحد دهاة العرب. رأى من عبد الملك بن مروان نبوةً وإعراضاً. فقال للوليد: ألا ترى ما أنا فيه من إعراض أمير المؤمنين عني بوجهه، حتى لقد فغرت السباع أفواهها نحوي، وأهوت بمخالبها إلى وجهي؟ فقال له الوليد: احتل في حديث يضحكه! فقال روح: إذا اطمأن بنا المجلس، فسلني عن عبد الله بن عمر، هل كان يمزح أو يسمع مزاحاً؟ فقال الوليد: أفعل.

    وتقدم، فسبقه بالدخول، وتبعه روح. فلما اطمأن بهم المجلس، فقال الوليد لروح: هل كان ابن عمر يسمع المزاح؟ قال: حدثني ابن أبي عتيق أن امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن هجته فقالت:

    ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت ليلك أيما قمر

    أنفقت مالك غير محتشمٍ ... في كل زانيةٍ وفي الخمر!

    قال: وكان ابن أبي عتيق صاحب غزل وفكاهة، فأخذ هذين البيتين، وهما في رقعة، فخرج بهما، فإذا هو بعبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! انظر في هذه الرقعة، وأشر علي برأيك فيها.

    فلما قرأها، استرجع عبد الله. فقال: ما ترى فيمن هجاني بهذا؟ قال عبد الله: أرى أن تصفو وتصفح! قال: والله، يا أبا عبد الرحمن، لئن لقيت قائلها لأنيلنه نيلاً جيداً! فأخذ ابن عمر أفكل واربد لونه، وقال: ويلك، أما تستحي أن تعصي الله؟ قال: هو والله ما قلت لك! وافترقا. فلما كان بعد ذلك بأيام، لقيه فأعرض ابن عمر بوجهه. فقال: بالقبر ومن فيه، إلا ما سمعت كلامي! فتحوب عبد الله، فوقف وأعرض عنه بوجهه. فقال: علمت، يا أبا عبد الرحمن، أني لقيت قائل ذلك الشعر فنلته؟ فصعق ابن عمر، ولبط به. فلما رأى ما حل به، دنا من أذنه فقال: إنها امرأتي.

    فقام ابن عمر، فقبل ما بين عينيه.


    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:29

    صلاح الجفوة في التأديب

    وعلى أنه ربما كانت جفوة الملك أصلح في تأديب الصاحب من اتصاله بالأنس، وإن كان ذلك لا يقع بموافقة المجفو، لأن فيها فراغ المجفو لنفسه، وتخلصه لأمره، ولما كان لا يمكنه الفراغ له من مهم أمره. وفيها أيضاً أنه إن كان المجفو من أهل السمر، وأصحاب الفكاهات، فبالحرى أن يستفيد بتلك الجفوة علماً طريفاً محدثاً له بالكتب ودراستها أو بالمشاهدة والملاقاة، وربما كان لا يمكنه قبل ذلك، وهو في شغله. ومنها أن جفوة الملك ربما أدبت الصاحب الأدب الكبير.

    وذاك أنه كل من أنفس الملك مجلسه، وطال معه قعوده، وبه أنسه تمنى الفراغ، وطلبت منه نفسه التخلص والراحة والخلوة لإرادة نفسه. كما أنه من كثر فراغه وقل أناسه، جفي واطرح، وطلب الشغل والأنس وما أشبه ذلك. فبهذه الأخلاق ركبت الفطر، وجبلت النفوس.

    فإذا جاءه الفراغ الذي كان يطلبه ويتمناه من الجهة التي لم يقدرها، طلبت نفسه الموضع الذي يمله، والشغل الذي كان يهرب منه.

    ومنها أنه كان في عز ومنعةٍ، وأمرٍ ونهيٍ، وكان مرغوباً إليه، مرهوباً منه، ثم لما حدثت جفوة الملك، أنكرها ما كان يعرف، وعصاه من كان له مطيعاً، وجفاه من كان به براً.

    ومنها أن جفوة الملك تحدث رقة على العامة، ورأفةً بهم، وتحدث للمجفو حسن نيةٍ.

    ومنها أن الرضى، إذا كان يعقب الجفوة، وجب على المجفو شكر الله تعالى على ما ألهم الملك فيه، فتصدق وأعطى، وصام وصلى.

    فكل شيءٍ من أمر الملك حسن في الرضا والسخط، والأخذ والمنع، والبذل والإعطاء، والسراء والضراء. غير أنه يجب على الحكيم المميز أن يجهد بكل وسع طاقته أن يكون من الملك بالمنزلة بين المنزلتين. فإنها أحرى المنازل بدوام النعمة، واستقامة الحال، وقلة التنافس، ومصارعة أهل الحسد والوشاة.

    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:30

    صفات المقربين من الملك


    وليس من أخلاق الملك أن يدني من عظم قدره، واتسع علمه، وطاب مركبه، أو ظهرت أمانته، أو كملت آدابه.

    وهذه الصفات هي جنس آخر يحتاج الملك إلى أصحابه ضرورة، لحاجته من القضاة إلى الفقه والأمانة، وحاجته من الطبيب إلى الحذق بالصناعة والركانة، وحاجته من الكاتب تحبير الألفاظ، ومعرفة مخارج الكلام، والإيجاز في الكتب، وما أشبه ذلك.

    فأما القرناء والمحدثون وأصحاب الملاهي ومن أشبههم، فكل من دنا منهم من الملك، وعلق به، كائناً من كان، ومن حيث كان.

    وكذا وجدنا في كتب الأعاجم وملوكها.

    وفيما يذكر عن أنوشروان انه قال: صاحبك من علق بثوبك.

    وكذا وجدنا في أمثال كليلة ودمنة أن الملك مثل الكرم الذي لا يتعلق بأكرم الشجر، إنما يتعلق بمن دنا منه. وقد نجد مصداق ذلك عياناً في كل دهر، وأخبار كل زمان.

    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:31

    سخاء الملك وحياؤه


    ومن أخلاق الملك الكرم والسخاء.

    فهما قرينا كل ملكٍ كان على وجه الأرض. ولو قال قائل إنهما ركبا في الملوك كتركيب الأعضاء والجوارح، كان له أن يقول؛ إذ كنا لم نشاهد، ولم يبلغنا عمن مضى من الملوك، ملوك العجم ومن كان قبلهم، وملوك الطوائف وغيرهم، القحة والبخل.

    فأما السخاء، فلو لم يكن أحد طبائع الملوك، كان يجب أن يكون باكتسابٍ إن كان الملك من أهل التمييز؛ وذلك انه يفيد أكثر مما ينفق. فإذا كانت هذه صفة كل ملك، فما عليه من اتخاذ الصنائع، وعم المنن، والإحسان إلى من نأى عنه أو دنا منه من أو ليائه، والرحمة للفقير والمسكين، والعائدة إلى أهل الحاجة. وأما الحياء، فهو من أجناس الرحمة.

    وحقيق للملك، إذ كان الراعي، أن يرحم رعيته؛ وإذ كان الإمام، أن يرق على المؤتم به، وإذ كان المولى، أن يرحم عبده.

    فقد تخطي العامة، وكثير من الخاصة، في الملوك، حتى يسمونهم بغير أسمائهم، ويصفونهم بغير صفاتهم، وينحلونهم البخل والإمساك، إذا رأوا الملك على سننٍ من القصد، وعدلٍ من حد الإنفاق، ويغفلون عما أدب الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم، بقوله عز وجل: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ".

    وبمدحه الصالحين من عباده بالقصد في ذات أيديهم، بعلمهم أن أرضى الأحوال عنده، ما دخل في باب الاقتصاد، بقوله: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ".

    وقد ذكر بعض من لا يعلم، في كتاب ألفه في البخلاء من الملوك، أن هشام بن عبد الملك بن مروان، ومروان بن محمد، وأبا جعفر المنصور وغيره منهم. ولولا أنا احتجنا إلى الأخبار عن جهل هذا، لم يكن لذكره معنى، ولا للتشاغل بالرد عليه. وكيف يكون المنصور ممن دخل في جملة هذا القول، ولا يعلم أن أحداً من خلفاء الإسلام، ولا ملوك الأمم، وصل بألف ألفٍ لرجلٍ واحدٍ غيره! ولقد فرق على جماعة من أهل بيته عشرة آلاف ألف درهم. ذكر ذلك الهيثم بن عدي والمدايني.

    وحدثني بعض أصحابنا عن أبيه عن زيد مولى عيسى بن نهيك، قال: دعاني المنصور، بعد موت مولاي،

    فقال: يا زيد! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: كم خلف أبو يزيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها. قال: فأين هي؟ قلت: أنفقتها الحرة في مأتمه.

    قال: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قال: كم خلف من البنات؟ قلت: ستاً! فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه وقال: أغد إلى باب المهدي.

    فغدوت، فقيل لي: معك بغال؟ فقلت: لم أؤمر بإحضار بغلٍ ولا غيره، ولا أدري لم دعيت.

    قال: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع لكل واحدةٍ من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار. ففعلت. ثم دعاني المنصور فقال: قبضت ما أمرنا به لبنات أبي يزيد؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين! قال: أغد علي بأكفائهن، حتى أزوجهن منهم.

    قال: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيكٍ من بني عمهن. فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن يجعل صداقهن من ماله. وأمرني أن أشتري بما أمر لهن ضياعاً يكون معاشهن منها.

    فلما سمع هذا الجاهل المائن بمثل هذه المكارم لعربي أو أعجمي! ولو أردنا أن نذكر محاسن المنصور على التفصيل والتقصي، لطال بها الكتاب، وكثرت فيه الأخبار.

    وقلما استعملت العامة وكثير من الخاصة التمييز، إيثاراً للتقليد. إذ كان أقل في الشغل، وأدل على الجهل، وأخف في المؤونة. وحسبك من جهل العامة أنها تفضل السمين على النحيف، وإن كان السمين مأفوناً، والنحيف ذا فضائل؛ وتفضل الطويل على القصير، لا للطول ولكن لشيء آخر لا ندري ما هو، وتفضل راكب الدابة على راكب البغل، وراكب البغل على راكب الحمار، اقتصاراً على التقليد إذ كان أسهل في المأتى، وأهون في الاختيار.

    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    عدد الرسائل : 5243
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:32

    اعتلال الملك


    ومن حق الملك إذا اعتل، أن لا تطلب خاصته الدخول عليه في ليل ولا نهار، حتى يكون هو الذي يأمر بالإذن لمن حضر، وأن لا يرفع إليه الحاجب أسماءهم مبتدئاً، حتى يأذن له. فإذا أذن له بالدخول، فمن حقه أن لا تدخل عليه الطبقة العالية مع التي دونها، ولا يدخل عليه من هذه الطبقة جماعة، ومن غيرها جماعة.

    ولكن على الحاجب أن يحضر الطبقات الثلاث كلها أو من حضر منها، ثم يأذن للعليا جملةً. فإذا دخلت، قامت بحيث مراتبها، فلم تسلم عليه، فتحوجه إلى رد السلام، فإذا علمت أنه قد لاحظها، دعت له دعاءً يسيراً موجزاً، ثم خرجت.

    ودخلت التي تليها، فقامت على مراتبها أقل من قيام الأولى، ودعت دعاءً أقل من دعاء الأولى، ثم دخلت بعدهما الثالثة، فكان حظها أن يراها فقط. وليس من عادة الملوك وقوف هذه الطبقة الثالثة، تتأمل الملك، وتدعو له، وتنظر إليه. وإنما مراتبها أن يراها فقط.


    ومن حق الملك أن لا ينصرف أحد من هذه الطبقات إلى رحله إلا في اليوم الذي كان فيه ينصرف في صحة الملك. وبالحرى ينبغي أن يبرح فناءً سيده ومالكه، انتظاراً لإفاقته من علته، وفحصاً عن ساعات مرضه.
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:34

    جوائز البطانة


    ومن الحق على الملك تعهد بطانته وخاصته بجوائزهم وصلاتهم، إن كان ذلك يكون مشاهرةً أو مساناةً.

    ومن أخلاق الملك أن يوكل باد كاره صلاتهم، ولا يحوج أحداً منهم إلى رفع رقعةٍ أو إذكار أو تعريضٍ. فإن هذا ليس من أخلاق المتيقظ من الملوك.

    وكانت ملوك آل ساسان يفعلون في هذا فعلاً بقي لهم ذكره إلى هذه الغاية، وإلى انقضاء مدة العالم.

    فكان الملك منهم يقدر الرجل من خاصته وبطانته تقديراً وسطاً بين الإسراف والاقتصاد في مؤنة كلها، وحوائجه خاصها وعامها، فإذا كان التقدير على الجهة التي وصفنا، عشرة آلاف درهم في الشهر، وكانت للرجل ضيعة، أمر أن يدفع إليه في كل ثلاثين ليلة عشرة آلاف درهم، لأنزاله ونفقاته وحوائجه.

    ويقول له الملك: قد علمنا أن الضيعة التي أفدتها هي مما تقدم من صلاتنا لك، وقد تسلفنا شكر تلك النعمة منك، وليس من العدل أن تكون في خدمتنا، وتكون نفقتك من شيء أفدته بشكرٍ قد تقدم، وحرمة قد تأكدت. فليكن ما أثمرت لك ضيعتك ظهرياً لنوائب الزمان، وتخرم الأيام، وانقلاب الدول، وحوادث الموت، ولتكن مؤنك وكلفك على خاص أموالنا.

    وكذلك الطبقات على هذا النظام والإحكام، فيمضي على أحدهم عشرون سنة لا يفتح فاه بطلب درهم ولا غيره، منبسطاً لزمانه، مبتهجاً بنعم ملكه، مسروراً بما يكفي عن التذكار وشكوى الحال.
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:35

    هدايا المهرجان والنيروز



    ومن حق الملك هدايا المهرجان والنيروز.

    والعلة في ذلك أنهما فصلا السنة.

    فالمهرجان دخول الشتاء وفصل البرد، والنيروز إذن بدخول فصل الحر. إلا أن في النيروز أحوالاً ليست في المهرجان؛ فمنها استقبال السنة، وافتتاح الخراج، وتولية العمال، والاستبدال، وضرب الدراهم والدنانير، وتذكية بيوت النيران، وصب الماء، وتقريب القربان، وإشادة البنيان، وما أشبه ذلك.

    فهذه فضيلة النيروز على المهرجان.

    ومن حق الملك أن يهدي إليه الخاصة والحامة.

    والسنة في ذلك عندهم أن يهدي الرجل ما يحب من ملكه، إذا كان في الطبقة العالية. فإن كان يحب المسك، أهدي مسكاً لا غيره. وإن يحب العنبر،

    أهدى عنبراً. وإن كان صاحب بزة ولبسة، أهدى كسوةً وثياباً، وإن كان الرجل من الشجعاء والفرسان، فالسنة أن يهدي فرساً أو رمحاً أو سيفاً. وإن كان رامياً، فالسنة أن يهدي نشاباً. وإن كان من أصحاب الأموال، فالسنة أن يهدي ذهباً أو فضةً. وإن كان من عمال الملك، وكانت عليه موانيذ للسنة الماضية، جمعها وجعلها في بدرٍ حريرٍ صيني، وشريحات فضة، وخيوط إبريسم، وخواتيم عنبر، ثم وجهها.

    وكذلك، إنما كان يفعل من العمال من أراد أن يتزين بفضل نفقاته أو بفضل عمالته أو أداء أمانته.

    وكان يهدى الشاعر الشعر، والخطيب الخطبة، والنديم التحفة والطرفة والباكورة من الخضروات.

    وعلى خاصة نساء الملك وجواريه أن يهدين إلى الملك ما يؤثرنه ويفضلنه كما قدمنا في الرجال. غير أنه يجب على المرأة من نساء الملك، إن كانت عندها جارية تعلم أن الملك يهواها ويسر بها، أن تهديها إليه بأكمل حالاتها، وأفضل زينتها، وأحسن هيآتها. فإذا فعلت ذلك، فمن حقها على الملك أن يقدمها على نسائه، ويخصها بالمنزلة، ويزيدها في الكرامة، ويعلم أنها قد آثرته على نفسها، وبذلت له مالا تجود النفس به، وخصته بما ليس في وسع النساء، إلا القليل منهن، الجود به.

    ومن حق البطانة والخاصة على الملك، في هذه الهدايا، أن تعرض عليه، وتقوم قيمة عدل.

    فإذا كانت قيمة الهدية عشرة آلافٍ، أثبتت في ديوان الخاصة. فإن كان صاحبها ممن يرغب في الفضل، ويذهب إلى الربح، ثم نابته نائبة من مصيبةٍ يصاب بها أو بناءٍ يتخذه، أو مأدبةٍ يأدبها، أو عرسٍ يكون من تزويج ابنٍ، أو إهداء ابنةٍ إلى بعلها، نظر إلى ماله في الديوان وقد وكل بذلك رجل يرعى هذا وما أشبهه ويتعهده، فإذا كانت قيمة الهدية عشرة آلافٍ، أضعفت له ليستعين بها على نائبته.

    وإن كان الرجل ممن أهدى نشابةً أو درهماً أو تفاحةً أو أترجة، فإن تلك الهدية إنما قدمها لتثبت له في الديوان، ويخبر الملك إن نابته نائبة. فعلى الملك إعانته عليها، إذا كان من أساورته وبطانته أو محدثيه. فإذا رفع للملك أن له في الديوان نشابةً أو درهماً أو أترجةً أو تفاحةً، أمر الملك أن تؤخذ أترجة، فتملأ دنانير منظومة ويوجه بها إليه.

    وكان لا يعطي صاحب التفاحة إلا كما يعطي صاحب الأترجة، وأما صاحب النشابة، فكانت تخرج نشابته من الخزانة، وعليها اسمه، فتنصب ويوضع بإزائها من كسوة الملك ومن سائر الكساء. فإذا ارتفعت حتى توازي نصل النشابة، دعي صاحبها، فدفعت إليه تلك الكسوة.

    وكان من تقدمت له هدية في النيروز والمهرجان، صغرت أم كبرت، كثرت أم قلت، ثم لم يخرج له من الملك صلة عند نائبه تنوبه أو حقٍ يلزمه، فعليه أن يأتي ديوان الملك ويذكر بنفسه، وأن ر يغفل عن إحياء السنة ولزوم الشريعة. وإن غفل عن أمره بعارضٍ يحدث، فإن ترك ذلك على عمدٍ، فمن سنة الملك أن يحرمه أرزاقه لستة أشهر، وأن يدفعها إلى عدو، إن كان له. إذ أتى شيئاً فيه شين على الملك، وضعة في المملكة.

    وكان أردشير بن بابك، وبهرام جور، وأنوشروان يأمرون بإخراج ما في خزانتهم في المهرجان والنيروز من الكسى فتفرق كلها على بطانة الملك وخاصته، ثم على سائر الناس على مراتبهم.

    وكانوا يقولون: إن الملك يستغني عن كسوة الصيف في الشتاء، وعن كسوة الشتاء في الصيف، وليس من أخلاق الملوك أن تخبأ كسوتها في خزائنها، فتساوي العامة في فعلها.

    فكان يلبس في يوم المهرجان الجديد من الخز والوشي والملحم. ثم تفرق كسوة الصيف على ذكرنا.

    فإذا كان يوم النيروز، لبس خفيف الثياب ورقيقها، وأمر بكسوة الشتاء كلها ففرقت.

    ولا نعلم أن أحداً بعدهم اقتفى آثارهم إلا عبد الله بن طاهر، فإني سمعت من محمد بن الحسن بن مصعب يذكر أنه كان يفعل ذلك في النيروز والمهرجان، حتى لا يترك في خزائنه ثوباً واحداً إلا كساه. وهذا من أحسن ما حكي لنا من فضائله.



    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:36

    لهو الملوك وشربهم


    ومن أخلاق الملوك اللهو.

    غير أن أسعدهم من جعل للهوه وقتاً واحداً، وأخذ نفسه بذلك. فإنه إذا فعل ذلك، استطاب اللهو والهزل والمفاكهة. وإذا أدمن ذلك خرج به اللهو من بابه، حتى يجعله جداً لا هزل فيه، وحقاً لا باطل معه، وخلقاً لا يمكنه الانصراف عنه.

    وليس هذا صفة الملك السعيد.

    ومن أدمن شيئاً من ملاذ الدنيا، لم يجد له من اللذة وجود القرم النهم المشتاق.

    وهذا قد نراه عياناً. وذلك أن ألذ الطعام وأطيبه ما كان على جوع شديدٍ، وألذ الجماع وأطيبه إذا اشتد الشبق وطالت العزبة، وألذ النوم وأهنأه ما كان بعقب التعب والسهر.

    وعلى هذا جميع ملاذ الدنيا.

    فالملوك الماضية إنما جعلت للملاذ وقتاً واحداً من اليوم والليلة، لهذه الفضيلة التي فيها.

    فعلى الملك السعيد أن يقسم يومه أقساماً: فأوله لذكر الله تعالى وتعظيمه وتهليله؛ وصدره لرعايا وإصلاح أمرها؛ ووسطه لأكله ومنامه، وطرفه للهوه وشغله. وأن لا يثابر على إدمان الشغل في كل يوم. وإن طالت هذه الأقسام بمواضعها، فلا يجد للهو لذته، ولا للنعيم موضعه الذي هو به.

    وكانت الملوك الماضية من الأكاسرة تشرب في كل ثلاثة أيامٍ يوماً، إلا بهرام جور والأردوان الأحمر وسابور؛ فإنهم كانوا يدمنون الشرب في كل يوم.

    وكان ملوك العرب، كالنعمان، وملوك الحيرة، وملوك الطوائف، أكثرها يشرب في كل يومٍ وليلةٍ، مرةً. وكان ملوك الإسلام، من يدمن على شربه، يزيد بن معاوية. وكان لا يمسي إلا سكران، ولا يصبح إلا مخموراً. وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كل شهر مرةً، حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء، ويقول: إنما أقصد في هذا إلى إشراق العقل، وتقوية منة الحفظ، وتصفية موضع الفكر.

    غير أنه كان إذا بلغ آخر هذا السكر، أفرغ ما كان في بدنه حتى لا يبقى في أعضائه منه شيء؛ فيصبح خفيف البدن ذكي العقل والذهن، نشيط النفس، قوي المنة.

    وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً، ويدع يوماً.

    وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كل ثلاث ليالٍ، ليلةً.

    ولم يشرب عمر بن عبد العزيز منذ أفضت إليه الخلافة إلى أن فارق الدنيا، ولا سمع غناءً.

    وكان هشام يسكر في كل جمعة.

    وكان يزيد بن الوليد والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشرب. فأما يزيد بن الوليد، فكان دهره بين حالين، بين سكر وخمارٍ؛ ولا يوجد أبداً إلا ومعه إحدى هاتين.

    وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء، وليلة السبت.

    وكان أبو العباس السفاح يشرب عشية الثلاثاء وحدها، دون السبت.

    وكان المهدي والهادي يشربان يوماً، ويدعان يوماً.

    وكان الرشيد يشرب ظاهراً، إلا أنه كان يقعد هذين اليومين لندمائه.

    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:38

    وكان المأمون في أول أيامه يشرب الثلاثاء والجمعة؛ ثم أدمن الشرب عند خروجه إلى الشام في سنة خمس عشرة ومائتين، إلى أن توفي.

    وكان المعتصم لا يشرب يوم الخميس، ولا يوم الجمعة.

    وكان الواثق ربما أدمن الشرب، وتابعه. غير أنه لم يكن يشرب في ليلة الجمعة ولا يومها.

    لبس الملوك وتطيبهم: وأخلاق الملوك تختلف في اللبسة والطيب. فمن الملوك من كان لا يلبس القميص إلا يوماً واحداً أو ساعةً واحدةً. فإذا نزعه، لم يعد إلى لبسه.

    ومنهم من كان يلبس القميص والجبة أياماً، فإذا ذهب رونقه، رمى به فلم يلبسه بعد. فأما أردشير بن بابك، ويزدجرد، وبهرام، وكسرى أبرويز، وكسرى أنوشروان،

    وقباذ، فإنهم كانوا يلبسون القميص، ويغسل لهم، ثم يلبسونه ويغسل لهم. فإذا غسل ثلاث عركاتٍ لم يغسل بعدها، وجعل في الخلع التي تخلع على الولد والقرابات والعم وابن العم والأخ وابن الأخ. ولم يكونوا يخلعون ما قد لبسوه إلا على القرابات من أهل بيت المملكة خاصةً، لا يجاوزونهم إلى غيرهم. فأما الخلع التي تقطع وتتخذ للطبقات وسائر الناس، فتيك صنف آخر. وكان ملوك العرب، منهم من يلبس القميص مراراً، ويغسل له غسلاتٍ: معاوية وعبد الملك وسليمان وعمر بن عبد العزيز وهشام ومروان بن محمدٍ وأبو العباس وأبو جعفر والمأمون.

    فأما يزيد بن معاوية، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، والمهدي والهادي والرشيد والمعتصم والواثق، فإنهم كانوا لا يلبسون القميص إلا لبسةً واحدةً، إلا أن يكون الثوب نادراً معجباً غريباً.

    فأما الجباب والأردية، فلم تزل الملوك تلبسها السنة أو أكثر أيام السنة، ومنهم من كان يلبس الجبة والمطرف، السنين الكثيرة. وليس الجباب والأردية، كالقميص والسراويل، لأن القميص والسراويل هما الشعار، وسائر الثياب الدثار. ولذلك كره من كره إعادة لبسها.

    وأخلاق الملوك في البطر ومس الطيب وتغلل الغالية تختلف.

    فمن الملوك من إذا مس الطيب وتغلل بالغالية، لم يعد إلى مس طيبٍ ما دام عبقها في ثوبه.

    ومن الملوك من كان إذا مس الطيب، وتغلل بالغالية، فتضوعت منه وعلقت بثيابه، أمر بصب ماء الورد على رأسه حتى يسيل. فإذا كان من غدٍ، فعل مثل ذلك.

    فأما من كان لا يمس طيباً ما دام يجد عبق الطيب في ثيابه: فأردشير بن بابك، وقباذ بن فيروز بن يزدجرد، وكسرى ابرويز، وكسرى أنوشروان؛ ومن ملوك العرب: معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز وهشام ومروان بن محمد؛ ومن خلفاء بني العباس، وأبو جعفر، والمأمون.

    وكان المعتصم قلما يمس الطيب. وكان يذهب في ذلك إلى تقوية بدنه وإعانته على شدة البطش والأيد. وأما في أيام حروبه، فكان من دنا منه، وجد رائحة صدأ السلاح والحديد من جسمه.



    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:39

    زيارة الملوك لأخصانهم


    ومن أخلاق الملوك الزيارة لمن خص بالتكرمة منهم وآثروه المنزلة ورفع المرتبة.

    وزيارة الملك على أربعة أقسام: فمنها الزيارة للمطاعمة والمنادمة، ومنها الزيارة للعيادة، ومنها الزيارة للتعزية في المصيبة، ومنها الزيارة للتعظيم فقط.

    وأكبر هذه الأقسام وأرفعها ذكراً الزيارة للتعظيم. لأن هذه الأقسام الثلاثة أكثر ما تقع وتتفق بسؤال المزور الملك، وتلطفه في ذلك.

    وربما رفع الملك مرتبة الوزير، وخصه، وقدمه على سائر بطانته، فيكون من حيل الوزير أن يتعالل فيعوده الملك، فيظهر للعامة منزلته عنده وتكرمته إياه وإيثاره له.

    وأيضاً، فقل ملك سأله وزيره أو صاحب جيشه أو أحد عظمائه زيارته إلا أجابه إلى ذلك، ولا سيما إذا علم أن غرضه في ذلك الزيارة في المرتبة، والتنويه بالذكر.

    فإذا كانت الزيارة من الملك على أحد هذه الأقسام الثلاثة، فهي منزلة كان صاحبها يحاولها فبلغها، وأمنية طلبها فأدركها.

    فأما الزيارة للتعظيم، فإنها لا تقع بسؤالٍ، ولا بإرادة المزور، إذ كان ليس من أخلاق وزيرٍ ولا شريفٍ أن يقول للملك: زرني لتعظمني، ولترفع في الناس من ذكري وقدري.

    فإذا كان ذلك من الملك ابتداءً، فقد علمنا أن تلك أرفع مراتب الوزراء، وأفضل درجات الأشراف.

    وكان أردشير وأنوشروان إذا زار وزيراً من وزرائهما أو عظيماً من عظمائها للتعظيم لا لغيره، أرخت الفرس تلك الزيارة، وخرجت بذلك التاريخ كتبهم إلى الآفاق والأطراف.

    وكانت سنة من وزاره الملك للتعظيم أن توغر ضياعه، وتوسم خيله ودوابه، لئلا تسخر، ولا تمتهن. ويأتيه خليفة صاحب الشرطة في كل يوم مع ثلاثمائة راكبٍ ومائة راجلٍ، يكون بابه إلى غروب الشمس. فإن ركب كانت الرجالة مشاةً أمامه والركبان من خلفه. ولا يحبس أحد من حامته وخاصته لجنايةٍ جناها، ولا يحكم على أحدٍ من عبيده بحكمٍ، وإن وجب على أحدٍ من بطانته حد، وجه به إليه ليرى فيه رأيه، ويؤخر عليه وظيفة ما عليه من خراج أرضه حتى يكون هو الحامل له، وتقدم هداياه في النيروز والمهرجان على كل هدية، وتعرض على الملك، ويكون أول من يأذن له الحاجب، ويكون من الملك، إذا ركب عن يمينه، منزوياً، وتكون مرتبته إذا قعد عن يمينه، وإذا خرج من دار المملكة، لم يقعد بعده أحد.

    وكانت ملوك آل ساسان لا تزور أحداً لعلةٍ من هذه العلل التي قدمنا ذكرها، فينصرف بخلعه أو طيبٍ أو تحفةٍ أو هديةٍ من جاريةٍ أو غلام. غير أنه كان إذا نزل الملك، وطأ لرجله فرساً رائعاً بسرج مذهبٍ، وأداةٍ تامة، فقدم إليه إذا أراد الانصراف.

    فكان الأمر كذلك، حتى ملك بهرام بن يزدجرد. فكان ينادم الاساورة من أبناء أهل الشرف، فيخلع عليه في كل ساعةٍ خلعة مجددة، ويشتهي الزامرة والمغنية والرقاصة، فيأخذها. وكان أول من أطلق يده في ذلك، لغلبة اللهو علي، وإيثاره هواه.

    فأما من كان من ملوكهم، فعلى الأمر الذي ذكرنا، والحكاية التي أدينا.
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:40

    استقبال الملوك للناس في الأعياد


    ومن أخلاق الملك القعود للعامة يوماً في النيروز، ولا يحجب عنه أحد في هذين اليومين من صغير ولا كبير، ولا جاهلٍ ولا شريف.

    وكان الملك يأمر بالنداء قبل قعوده بأيام، ليتأهب الناس لذلك، فيهيئ الرجل القصة، ويهيئ الآخر الحجة في مظلمته، ويصالح الآخر صاحبه إذا علم أن خصمه يتظلم منه إلى الملك.

    فيأمر الموبذ أن يوكل رجالاً من ثقات أصحابه، فيقفون بباب العامة، فلا يمنع أحد من الدخول على الملك. وينادي مناديه: من حبس رجلاً عن رفع مظلمته، فقد عصى الله، وخالف سنة الملك، ومن عصى الله، فقد أذن بحربٍ منه، ومن الملك.

    ثم يؤذن للناس، وتؤخذ رقاعهم فينظر فيها. فإن كان فيها شيء يتظلم فيه من الملك، بدي به أولاً، وقدم على مظلمة. ويحضر الملك الموبذ الكبير والدبيربذ ورأس سدنة بيوت النار، ثم يقوم المنادي فينادي: ليعتزل كل من تظلم من الملك. فيمتازون.

    ويقوم الملك مع خصومه حتى يجثو بين يدي الموبذ فيقول له: أيها الموبذ، إنه ما من ذنبٍ أعظم عند الله من ذنب الملوك! وإنما خولها الله تعالى رعاياها لتدفع عنها الظلم، وتذب عنه بيضة الملك جور الجائرين، وظلم الظالمين. فإذا كانت هي الظالمة الجائرة، فحق لمن دونها هدم بيوت النيران، وسلب ما في النواويس من الأكفان. ومجلسي هذا منك، وأنا عبد ذليل، يشبه مجلسك من الله غداً، فإن آثرت الله آثرك، وإن آثرت الملك عذبك.

    فيقول له الموبذ: إن الله إذا أراد سعادة عباده، اختار لهم خير أهل أرضه. فإذا أراد أن يعرفهم قدره عنده، أجرى على لسانه ما أجرى على لسانك.

    ثم ينظر في أمره، وأمر خصمه بالحق والعدل. فإن صح على الملك شيء، أخذه به، وإلا حبس من ادعى عليه باطلاً، ونكل به، ونودي عليه: هذا جزاء

    من أراد شين الملك، وقدح في المملكة.

    فإذا فرغ الملك من مظالمه في نفسه، قام فحمد الله ومجده طويلاً، ثم وضع التاج على رأسه، وجلس على سرير الملك، والتفت إلى قرابته وحامته وخاصته، وقال: إني لم أبدأ بنفسي فأنصف منها إلا لئلا يطمع طامع في حيفي. فمن كان قبله حق، فليخرج إلى خصمه منه، إما بصلحٍ وإما بغيره.

    فكان أقرب الناس إلى الملك في الحق كأبعدهم، وأقواهم كأضعفهم.

    فلم يزل الناس على هذا في عهد أردشير بن بابك ثم هلم جراً، حتى ملكهم يزدجرد الأثيم، وهو النحس البارتكر. فغير سنن آل ساسان، وعاث في الإرض، وظلم الرعايا، وأظهر الجبرية والفساد، وقال: ليس للرعية أن تنتصب من الراعي، ولا للسوقة أن تتظلم من الملوك، ولا للوضيع أن يساوي الرفيع في حق ولا باطل.
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:43

    عقوبة الملك الظالم

    فذكرت الأعاجم في كتبها وسير ملوكها أنه بينا هو قاعد في الإيوان، والناس على طبقاتهم ومراتبهم، إذ دخل من باب الإيوان فرس مسرج ملجم، لم ير قط شيء أحسن منه منظراً، ولا أكمل أداةً. فأهوى نحو يزدجرد الأثيم. فقامت إليه الاساورة

    لتدفعه عنه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا رمحه فأرداه، وهو في خلال ذلك يقصد إلى الملك، فقام إليه يزدجرد، وقال للأساورة: دعوه، فإنه إلي يقصد.

    فدنا منه حتى أخذ بمعرفته، فذل له الفرس، وتطامن حتى ركبه. فلما جال في متنه، خطا به خطىً، ثم رده إلى قرار مجلسه، فنزل عنه، وجعل يمسحه بيده، مقبلاً ومدبراً. حتى إذا وجد الفرس منه ممكناً وغفلةً، رمحه فأصاب حبة قلبه، فقتله. فقالت الفرس: هذا ملك من الملائكة، جعله الله في صورة فرس، فبعثه لقتل يزدجرد، لما ظلم الرعية، وعاث في الأرض.

    وكان بهرام جور بن يزدجرد في حجر النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، وضعه أبوه عنده ليتأدب بآداب العرب، ويعرف أيامها وأخبارها ولغاتها فبلغه خبر أبيه، وأن الفرس ملكت عليها رجلاً ليس من أبناء ملوكها. فاستنهض النعمان بن المنذر واستنجده، وقال: إن لي عليك حقاً، إذ كنت أحد أولادك. وإن أبي قد مات، وملكت الفرس رجلاً من غير بيت الملك. فإن أنت خذلتني، ذهب ملك آل ساسان. فقال له النعمان: ما أوآل ساسان، وهم الملوك وأنا رعية؟ ولكني أخرج معك في جيشي لتقوى نيتك، وتصح عزمتك. ثم أنت أولى بقومك، وهم أولى بك. قال: فهذا أريد. فخرج النعمان مع بهرام حتى صار بالمداين، وبلغ الفرس قدومهما، فخرجوا إلى بهرام، فقالوا: ما تريد؟ فقال: ملك أبي وإرث آل ساسان.

    قالوا: إن أباك سامنا العذاب أيام مدته، فانفرد الله بقتله. فلا حاجة لنا في أحدٍ من عقبه. فقال بهرام: إن جور أبي وظلمه لا يلزمني لائمةً، ولا يكسبني ذماً. وأنتم لم تخبروني، فيجب علي حمد أو ذم. قالوا: فإنا قد أقمنا رجلاً نرضاه.

    فقال: إن هذا فساد في صلب الملكة أن تملكوا من ليس من أهلها. فإذا فعلتم، فامتحنوني وهذا الرجل محنةً توجب المملكة.

    قالوا: وما هي؟ قال: تعمدون إلى أسدين ضاريين فتجمعونهما في موضعٍ واحدٍ، وتضعون تاج المملكة بينهما، وتقولون لهذا الذي ملكتموه أمركم يأخذ من بينهما، فإن فعل فهو أحق بالملك وأولى. وإن أبى أن يفعل، وفعلت أنا ذلك، كنت أحق بالملك منه.

    قالوا: نعرض عليه هذا.

    فقالوا ذلك له، فقال: ما أقدر على هذا، ولكن قولوا له فليفعل. فإن أخذ التاج من بين الأسدين، فهو أحق بالملك وأولى.

    فأخذوا التاج، وعمدوا إلى أسدين فأجاعوهما، ثم وضعوا التاج بينهما، وقالوا لبهرام: شأنك!.

    فنزل بهرام عن فرسه، وأخذ الطبرزين ومضى نحوهما. ثم بدا له، فجعل الطبرزين في منطقته؛ ودنا من الأسدين، فأهويا نحوه، فأخذ برأس أحدهما فأدناه من رأس الآخر ثم نطحه به حتى قتلهما جميعاً. وشد على التاج، فأخذه من موضعه، فجعله على رأسه.

    فملكته الفرس أمرهم، وانصرف النعمان إلى الحيرة، وسار بهرام سيرةً حسنةً،وعدل فيهم، حتى كان أحب إليهم من جميع ملوك آل ساسان.

    إلا أن اللهو واللعب كان أغلب أحواله عليه.
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:44

    استقصاء أحوال الرعية


    ومن أخلاق الملك السعيد البحث عن سرائر خاصته وحامته، وإذكاء العيون عليهم خاصةً، وعلى الرعية عامة.

    وإنما سمي الملك راعياً، ليفحص عن دقائق أمور الرعية وخفي نياتهم. ومتى غفل الملك عن فحص أسرار رعيته، والبحث عن أخبارها، فليس له من اسم الراعي إلا رسمه، ومن الملك إلا ذكره.

    فأما الملك السعيد، فمن أخلاقه البحث عن كل خفي ودفين حتى يعرفه معرفة نفسه عند نفسه، وأن لا يكون شيء أهم ولا أكبر في سياسته ونظام ملكه من الفحص عما قدمنا ذكره.

    ولم ير ملك قط كان أعجب في هذا الأمر من أردشير بن بابك. ويقال إنه كان يصبح فيعلم كل شيء بات عليه من كان في قصبه دار مملكته من خيرٍ أو شر، ويمسي فيعلم كل شيءٍ أصبحوا عليه. فكان متى شاء قال لأرفعهم وأوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت.

    ثم يحدثه بكل ما كان فيه إلى أن أصبح.

    فقال إن بعضهم كان يقول إنه كان يأتيه ملك من السماء، فيخبره. وما كان ذلك إلا لتيقظه وكثرة تعهده لأمور رعيته.

    ثم كان فيمن نأى من أهل مملكته على مثل هذه الحال.

    فيقال إن الأمم كلها، أولها وآخرها، وقديمها وحديثها، لم تخف أحداً من ملوكها، خوفها أردشير بن بابك من ملوك الأعاجم، ومن كان قبلهم، وعمر بن الخطاب من خلفاء الإسلام.

    فإن عمر كان علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه في مهادٍ واحدٍ، وعلى وسادٍ واحد. فلم يكن له في قطر من الأقطار، ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيشٍ إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده. فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسً ومصبح.

    وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم، حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه، وأخصهم به. فساس الرعية سياسة أردشير بن بابك في الفحص عن أسرارها خاصةً.

    ثم اقتفى معاوية فعله، وطلب أثره، فانتظم له أمره، وطالت له مدته.

    وكذا كان زياد ابن أبيه يحتذي فعل معاوية، كاحتذاء معاوية فعل عمر.

    وفيما يحكى عنه أن رجلاً كلمه في حاجةٍ له، فتعرف إليه، وهو يظن أنه، لا يعرفه، فقال: أصلح الله الأمير! أنا فلان بن فلان.

    فتبسم زياد وقال: تتعرف إلي، وأنا أعرف منك بأبيك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وجدك وأمك وجدتك، وأعرف هذا البرد الذي عليك، وهو لفلان بن فلان.

    فبهت الرجل وأرعب حتى أرعد، وكاد يغشى عليه.

    وعلى هذا كان عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف.

    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:45

    ثم لم يكن بعد هؤلاء أحد في مثل هذه السياسة حتى ملك المنصور. فكان أكثر الأمور عنده معرفة أحوال الناس، حتى عرف الولي من العدو، والمداجي من المسالم. فساس الرعية ولبسها، وهو من معرفتها على مثل وضح النهار. ثم درست هذه السياسة حتى ملك الرشيد، فكان أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عنايةً، وأحزمهم فيها أمراً.

    وعلى نحو هذا كان المأمون أيامه. والدليل على ما قلنا فيه ما شاهدنا من رسالته إلى اسحق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث، وهو بالشأم. خبر فيها عن عيب واحدٍ واحدٍ، وعن حالته وأموره التي خفيت، أو أكثرها، عن القريب والبعيد.

    ثم ما علمت أن أحداً ممن كان دون السلطان الأعظم في دهرنا هذا كان أشد على الأسرار بحثاً وأكثر لها فحصاً، حتى بلغ من هذا الجنس أقصى حده، وآخر نهايته، وأبعد مداه، وجعله أكثر شغله في ليله ونهاره، إلا اسحق بن إبراهيم.

    فحدثني موسى بن صالح بن شيخ، قال: كلمته في امرأةٍ من بعض أهلنا، وسألته النظر لها، فقال: يا أبا محمد! من قصة هذه المرأة ومن حالها ومن فعلها.

    قال: فوالله! لم يزل يصفها ويصف أحوالها حتى بهت.

    وحدث أبو البرق الشاعر، قال: كان يجري علي أرزاقاً، فدخلت عليه، فقال بعد أن أنشدته: كم عيالك؟ تحتاج في كل شهرٍ من الدقيق إلى كذا ومن الحطب إلى كذا.

    فأخبرني بشيءٍ من أمر منزلي مما جهلت بعضه، وعلمه كله.

    وحدثني بعض من كان في ناحيتة، قال: رفعت إليه رقعةً أسأله فيها إجراء أرزاقي.

    فقال: كم عيالك؟ فزدت في العدد. فقال: كذبت! فبهت، وقلت في نفسي: يا نفس، من أين علم أني كذبت؟ فأقمت سنةً، لا أجتري على كلامه. ثم رفعت إليه رقعةً أخرى في إجراء أرزاقي. فقال: كم عيالك؟ فقلت: أربعة. فقال: صدقت فوقع في حاشية رقعتي: يجرى على عياله كذا وكذا.

    ولولا أن يطول كتابنا في إسحاق وذكره، لحكينا عنه أخباراً كثيرةً، وهي من هذا الجنس، وفيما ذكرناه كفاية. فعلى الملك أن يميز بين أوليائه وأعدائه بالفحص عن أسرارهم ودقيق أخبارهم، حتى إن أمكنه أن يعرف مبيت أحدهم ومقيله، وما أحدث فيهما، فعل.

    فإن الرعية لا تسكن قلوبها جلالة ملكها، ولو عبدته الجن والإنس ودانت له ملوك الأمم كلها، حتى يكون أشد إشرافاً عليها، وأكثر بحثاً عن سرائرها من أم الفريد عن حركته وسكونه.

    خصال تطول بها مدة الملك: وأيضاً فإنه يقال في بعض كتب الأوائل في مواعظ الملوك وآدابها: إن الملك تطول مدته إذا كانت فيه أربع خصال: إحداهما: أنه لا يرضى لرعيته إلا ما يرضاه لنفسه، والأخرى: أن لا يسوف عملاً يخاف عاقبته، والأخرى: أن يجعل ولي عهده من ترضاه وتختاره رعاياه، لا من تهواه نفسه، والرابعة: أن يفحص عن أسرار الرعية، فحص المرضع عن منام رضيعها.

    وقد تجد مصداق هذا القول ونشهد به. وذلك أنا لم نر مدةً طالت لملك عربي ولا عجمي قط إلا لمن فحص عن الأسرار، وبحث عن خفي الأخبار، حتى يكون في أمر رعيته على مثل وضح النهار.



    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:47

    الملوك أمام الأمور الجليلة


    ومن أخلاق الملك، إذا دهمه أمر جليل من فتق ثغر، أو قتل صاحب جيشٍ، أو ظهور عدو يدعو إلى خلاف الملة، أو قوة مناويءٍ، أن يترك الساعات التي فيها لهوه، ويجعلها وسائر الساعات في تدبير مكايدة عدوه، وتجهيز جنوده وجيوشه، وأن يصرف في ذلك شغله وفكره وفراغه على مثل ما فعل من مضى من ملوك الأعاجم وغيرها، للتسويف والتمني وحسن الظن بالأيام نصيباً.

    فإن هذا عجز من الملك، ووهن يدخل على الملك.

    وكانت ملوك الأعاجم، إذا حزبها مثل هذا، أمرت بالموائد التي كانت توضع في كل يوم أن ترفع وظائفها، واقتصرت على مائدةٍ لطيفةٍ، ورأس الأساورة.

    فلا يوضع عليها إلا الخبز والملح، والخل والبقل، فيأخذ منه شيئاً هو ومن معه، ثم يأتيه الخباز بالبرماورد في طبقٍ، فيأكل

    منه لقمةً؛ ثم يرفع المائدة، ويتشاغل بتدبير حربه، وتجهيز عساكره. ولا تزال هذه حاله حتى يأتيه عن ذلك الفتق ما يرتقه، وعن ذلك العدو ما يحب. فإذا أتاه، أمر أن يتخذ له طعام مثل طعامه الأول، وأمر الخاصة والعامة بالحضور. وقامت الخطباء أولاً بالتهنئة له، والتحميد لله تعالى بالفتح عليه والنصر له. ثم قام الموبذ فتكلم، ثم الوزراء بنحوٍ من كلام الخطباء. ثم مد الناس أيديهم إلى الأطعمة على مراتبهم؛ فإذا فرغوا، بسط للعامة في ظهر الإيوان، وللخاصة في صحنه بحضرة الملك؛ وقعد صاحب الشرطة للعامة، كقعود الملك للخاصة. ثم دعا بالمغنين وأصحاب الملاهي.

    وكانوا يقولون: إن حق شكر النعمة أن يرى أثرها.

    وكانت الخلفاء والأمراء، إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المنابر، وحرضوا الناس على الطاعة، ولزوم الجماعة.

    وفيما يذكر عن معاوية أنه قال: ما ذقت أيام صفين لحماً ولا شحماً ولا حلواً ولا حامضاً؛ ما كان إلا الخبز والجبن وخشن الملح، إلى أن تم لي ما أردته.

    ويحكى عن عبد الملك بن مروان أن صاحب إفريقية أهدى إليه جاريةً تامة المحاسن، شهية المتأمل. قال: فلما أن دخلت على عبد الملك بن مروان، نظر إليها، وفي يده قضيب خيزران. فصعد ببصره إليها وصوبه، ثم رمى بالقضيب، وقال: رديه علي.

    فولت. فنظر إليها مقبلةً ومدبرةً، فقال: أنت والله أمنية المتمني.

    قالت: فما يمنعك يا أمير المؤمنين، إذ كانت هذه صفتي عندك؟ قال: بيت الأخطل:

    قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء، ولو باتت بأطهار

    وكان هذا في خروج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ثم أمر بها أن تصان وتخدم. فلما فتح عليه، كانت أول جاريةٍ دعا بها.

    ويحكى عن مروان بن محمد الجعدي أنه أقام ثلاثين شهراً، لم يطأ جاريةً إلى أن قتل. وكان إذا استهدفت إليه الجارية، قال: إليك عني! فوالله لا دنوت من أنثى،

    ولا حللت لها عقد حبوتي، وخراسان ترجف بنصر، وأبو مجرمٍ قد أخذ منه بالمخنق.
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:49

    الحرب خدعة


    ومن أخلاق الملوك المكايدة في حروبها.

    ولذلك كان يقال: ينبغي للملك السعيد أن يجعل المحاربة آخر حيله، فإن النفقة في كل شيء إنما هي من الأموال، والنفقة في الحروب إنما هي من الأنفس. فإن كان للحيل محمود عاقبةٍ، فذلك بسعادة الملك، إذا ربح ماله، وحقن دماء جيوشه. وإن أعيت الحيل والمكايد، كانت المحاربة من وراء ذلك.

    فاسعد الملوك من غلب عدوه بالحيلة والمكر والخديعة.

    وقد روينا عن نبينا، صلى الله عليه وسلم، ما يحقق هذا، ويؤكده بقوله: الحرب خدعة.

    وليس لأحدٍ من الخدع ما لملوك الأعاجم. والأخبار في ذلك عنهم كثيرة. ولكنا نقتصر من ذلك على حديثٍ أو حديثين. فمن ذلك ما يذكر عن بهرام جور أنه لما ملك بعد أبيه يزدجرد، بلغه أن ناحية من نواحي أطرافه قد أخذت، وغلب عليها العدو. فاستخف بها وأظهر الاستهانة به، حتى قوي أمر ذلك العدو واشتدت شوكته. فكان إذا أخبر بحاله، استخف بأمره، وصغر من شأنه. حتى قيل إنه قد زحف إليك، ووجه جيوشه إلى قرار دارك. فقال: دعوه فليس أمره بشيء.

    فلما رأى وزراؤه تهاونه وتراخيه عن أمر عدوه، واستهانته به، اجتمعوا إليه، فقالوا: إن تراخي الملك عن عدوه ليس من سياسة الملك، ولا تدبير المملكة، وقد قرب هذا العدو من قرار دار الملك، وأمره كل يوم في علو. فقال بهرام: دعوه، فأنا أعلم بضعفه وصغر شأنه منكم.

    وأقبل على اللهو واللعب، وترك

    ما يجب عليه من الصمد لعدوه والقصد له. فلما دنا عدوه منه، وأشرف عليه، وخاف الوزراء ورؤساء أهل المملكة اجتياحه، اجتمعوا فتآمروا بينهم على توبيخ الملك وتعنيفه وإعلامه ما قد أشرفوا عليه من البوار والهلكة.

    وبلغه الخبر، فأمر مائتي جاريةٍ من جواريه، فلبسن الثياب المصبغة المختلفة الألوان، ووضعن على رؤوسهن أكاليل الريحان، وركبن القصب.

    وفعل بهرام كما فعلن، فلبس من ثيابهن المصبوغة، وركب قصبةً، وأذن للوزراء فدخلوا عليه. فلما رآهم، صاح بالجواري، فمررن يخطرن، وبهرام خلفهن يغني، وهن يغنين معه، ويصحن ويلعبن.

    فلما رأى ذلك وزراؤه، يئسوا منه واجتمعوا على خلعه. وبلغه الخبر، فدعا جاريةً من خاص جواريه، وقال: لك الويل إن علم أحد من أهل المملكة ما أريد أن أفعل! ثم أمرها أن تحلق رأسه فحلقته. ودعا بمدرعة صوفٍ فتدرعها، وخرج في جوف الليل ومعه قوسه ونشابه. وتقدم إلى الجارية أن تخفي أمره، وتظهر أنه عليل إلى رجوعه إليها.

    ومضى وحده، حتى انتهى إلى طلائع العدو. فكمن في مغارٍ على ظهر الطريق. فجعل لا يمر به طائر في السماء، ولا وحش في البر، إلا وضع سهمه منه حيث أحب.

    وجعل يجمع كل ما صاد من ذلك، فجمعه بين يديه حتى صار كالشيء العظيم.

    قال: فمر به صاحب طليعة العدو، فنظر إلى أمرٍ بهت له. فأخذه وقال: ويلك! ما أنت، ومن أنت، ومن أين أنت؟ قال: إن أعطيتني الأمان، أخبرتك! قال: فلك الأمان! قال: أنا غلام سائس، وإن مولاي غضب علي - وكان لي محسناً - فأوجعني ضرباً، ونزع ثيابي، وحلق رأسي، وألبسني هذه المدرعة، وأجاعني. وإني طلبت غفلته، فخرجت أطلب شيئاً أصيده فآكله. فما أعجبني كثرة ما صدت، اردت أن أرمي بكل ما معي من هذه السهام، ثم أنصرف. فأخذه، فحمله إلى الملك، فأخبره بقصته. فقال له الملك: إرم بين يدي! فرمى بين يديه، فكان لا يضع سهمه في طائرٍ ولا غيره إلا أصابه حيث أراد. فبهت الملك، وطال تعجبه. فقال: ويلك! في هذه المملكة من يرمي رمايتك؟ فضحك بهرام، وقال: أيها الملك! أنا أخسهم رمايةً، وأحقرهم قدراً. وعندي جنس آخر من الثقافة. قال: وما هو؟ قال: ادع لي بإبرٍ.

    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:50

    فدعا له بها. فأخذ إبرةً، فرمى بها على عشرة أذرعٍ، ثم أتبعها بأخرى فشكلها، ثم اتبعها بأخرى فشكلها كذلك، حتى جعلها سلسلةً قد تعلق بعضها ببعض.

    فبهت الملك، وملي قلبه رعباً، فقال له: ويلك! ملككم هذا جاهل! أما يعلم أني قد قربت من قرار داره! فضحك بهرام، وقال: إن أعطاني الملك الأمان نصحته. قال: قد أعطيتك الأمان.

    قال: إن ملكنا إنما تركك استهانةً بأمرك، وتصغيراً لشأنك، وعلماً بأنك لا تخرج من قبضته. وذلك أني أخس من في دار مملكته، وأخملهم ذكراً. فإذا كنت، وأنا بهذه الحال، أقتل بألفٍ سهمٍ ألف رجلٍ، فما ظنك بالملك، وله مائة ألف عبدٍ في قرار داره، أصغرهم شأناً أكبر مني؟ فقال له الملك: صدقني فيما قلت! ولقد خبرت عن بهرام من تصغيره لشأني، واستخفافه بأمري ما طابق خبرك. وما تركني أبلغ هذا الموضع من ملكه إلا لما ذكرت؟ فأمر عظيم جيشه أن يرتحل من ساعته؛ ونادى في الناس بالرحيل. ثم خرج لا يلوي على شيء، وأطلق بهرام. فانصرف بعد ثالثةٍ، حتى دخل داره ليلاً؛ فلما أصبح،

    قعد للناس، ودخل عليه الوزراء والعظماء، فقال: ما عندكم من خبر عدونا هذا؟ فأخبروه بانصرافه عنهم. فقال: قد كنت أقول لكم إنه صغير الشأن، ضعيف المنة.

    ولم يعلم أحد منهم ما كانت العلة في انصرافه.

    مكايد كسرى أبرويز: وكان كسرى أبرويز، بعد بهرام جور، صاحب مكايدٍ وخدع في الحروب، ونكاية في العدو. وكان قد وجه شهر براز لمحاربة ملك الروم، وكان مقدماً عنده في الرأي والنجدة

    والبسالة ويمن النقيبة.

    فكان شهر براز قد ضيق على ملك الروم قرار داره، وأخذ بمخنقه، حتى هم بمهادنته، ومل محاربته، وطلب الكف عنه. فأبى ذلك عليه شهر براز.

    واستعد له ملك الروم بأفضل عدة، وأتم آلة، وأحد شوكة، وتأهب للقائه في البحر.

    فجاءه في جمع لا تحصى عدته. قد أعد في البحر كل ما يحتاج إليه من مالٍ وسلاحٍ وكراعٍ وآلةٍ وطعام وغير ذلك، والسفن مشحونة موقرة.

    فبينا هو كذلك إذ عصفت ريح في تلك الليالي، فقلعت أوتاد تلك السفن كلها وحملتها إلى جانب شهر براز، فصارت في ملكه.

    وأصبح ملك الروم، قد ذهب أكثر ما كان يملك من الأموال والخزائن والعدد والسلاح. فوجه شهر براز بتلك الخزائن والأموال إلى أبرويز. فلما رأى أبرويز ما وجه به شهر براز، كبر في عينه، وعظم في قلبه، وقال: ما نفس أحق بطيب الثناء، ورفيع الدعاء، والشكر على الفعل الظاهر من شهر براز! جادلنا بما لا تسخو به النفوس، ولا تطيب به القلوب! فجمع وزراءه، وأمر بتلك الأموال والخزائن، فوضعت نصب عينيه، ثم قال لوزرائه: هل تعلمون أحداً أعظم خطراً وأمانةً، وأحرى بالشكر من شهر براز؟ فقامت الوزراء، فتكلم كل واحدٍ منهم، بعد أن حمد الله وشكره ومجده، وأثنى على الملك وهنأه، ثم ذكر ما خص الله به الملك من يمن نقيبة شهر براز وعفافه وطهارته ونبله وعظيم عنايته.

    حتى إذا فرغوا، أمر بإحصاء تلك الأموال والخزائن. ثم قام أبرويز فدخل إلى نسائه. وكان للملك غلام يقال له رسته، وكان شيء الرأي في شهر براز؛ فقال: أيها الملك! قد ملأ قلبك قليل من كثيرٍ، وصغير من كبير، وتافه من عظيم، خانك فيه شهر براز، وآثر به نفسه. ولئن كان الملك مع رأيه الثاقب، وحزمه الكامل، يظن أن شهر براز أدى الأمانة، لقد بعد ظنه من الحق، وخس نصيبه.

    فوقع في نفس أبرويز ما قال رسته، فقال له: ما أظنك إلا صادقاً. فما الرأي عندك؟ قال: تكتب غليه بالقدوم، وتوهمه أن بك حاجةً إلى مناظرته ومشاورته في لم أمرٍ لم تجز الكتابة به، فإنه إذا قدم لم يخلف ما يملك وراءه، إذ كان لا يدري أيرجع إلى ما هناك أم لا؛ فيكون كل ما يقدم به نصب عينيك. فكتب أبرويز إلى شهر براز يأمره بالقدوم عليه لمناظرته ومشاورته في أمرٍ يدق عن الكتاب والمراسلة. فلما مضى الرسول، أردفه برسولٍ آخر وكتب إليه: إني كنت كتبت إليك آمرك بالقدوم لناظرك في مهم من أمري. ثم علمت أن مقامك هناك أقدح في عدوك، وأنكى له، وأصلح للملك، وأوفر على المملكة. فأقم، وكن من عدوك، على حذر، ومن غرته على تيقظ. فإنه من ذهب ماله، حمل نفسه على التلف أو الحتف. والسلام! وقال للرسول الثاني: إن قدمت فرأيته قد تأهب للخروج إلي وظهر ذلك في عسكره، فادفع إليه هذا الكتاب.. وكتب: أما بعد، فإني كتبت إليك، وقد استبطأت جواب قدومك وحركتك. وعلمت أن ذلك لأمرٍ تصلحه من أمر نفسك أو مكيدة عدوك. فإذا أتاك كتابي هذا، فخلف أخاك على عملك، وأغذ السير، ولا تعرج على مهم ولا غيره، إن شاء الله. وإن لم تره استعد للخروج، ولا تأهب له، فادفع إليه الكتاب الأول.


    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:51

    فقدم الرسول الثاني، وليس لشهر براز في الخروج وعزم ولا خاطر، ولا هم به. فدفع إليه الكتاب الأول. فقال شهر براز: أول كل قتلةٍ حيلة.

    وكان خليفة شهر براز: بباب الملك قد كتب إليه ما كان من قول رسته للملك، وما كان من جواب الملك له. ثم نازعت أبرويز نفسه، ودعاه شرهه إلى إعادة الكتاب إلى شهر براز بالقدوم عليه.

    فلما قرأ شهر براز كتابه الثالث، قال: كان الأمر قبل اليوم باطناً، فأما اليوم فقد ظهر.

    فلما علم أبرويز أن نية شهر براز قد فسدت، وأنه لا يقدم عليه، كتب إلى أخي شهر براز: إني قد وليتك أمر ذلك الجيش، ومحاربة ملك الروم. فإن سلم لك شهر براز ما وليتك، وإلا فحاربه! فلما أتاه كتابه، أظهره، وبعث إلى شهر براز يخبره أن الملك قد ولاه موضعه، وأمره بمحاربته إن أبى أن يسلم إليه ما ولاه. فقال له شهر براز: أنا أعلم بأبرويز منك. هو صاحب حيلٍ ومكايد، وقد فسدت بيته لي ولك. فإن قتلني اليوم قتلك غداً؛ وإن قتلك اليوم، كان قتلي غداً أقوى.

    ثم إن شهر براز صالح ملك الروم، لما خاف أبرويز. وتوثق كل واحدٍ منهما من صاحبه، واجتمعا على محاربة أبرويز. فقال له شهر براز: دعني أتولى محاربته، فإني

    أبصر بمكايده وعوراته. فأبى عليه ملك الروم، وقال: بل أقم في دار مملكتي حتى أتولى أنا محاربته بنفسي.

    فقال شهر براز: أما إذ أبيت علي، فإني مصور لك صورةً، فاعمل بما فيها، وامتثلها.

    ثم صور له كل منزلٍ ينزله بينه وبين أبرويز في طريقه كله، وأي المنازل ينبغي له أن يقيم فيه، وأيها يجعلها طريقاً وسيراً ماضياً، حتى إذا أقامه من طريقه كله على مثل وضح النهار، قال له: فإذا صرت بالنهروان، فأقم دونه، ولا تقطعه غليه، واجعله منزلك، وجهز جيوشك وعساكرك إليه.

    فمضى ملك الروم نحوه. وبلغ أبرويز الخبر، فضاق به ذرعه، وارتج عليه أمره، فكان أكثر جنوده قد تفرقوا لطلب المعاش، لقطعه عنهم ما كان يجب لهم من إقطاعاتهم وأرزاقهم. فبقي في جندٍ كالميت، أكثرهم هزلى أضراء.


    وكان ملك الروم يعمل على ما صوره له شهر براز في طريقه كله، حتى إذا أشرف على النهروان، عسكر هناك، واستعد للقاء أبرويز. وقد بلغه قلة جموعه، وتفرق جنوده، وسوء حال من بقي معه. وكان في أربعمائة ألفٍ، قد ضاقت بهم الفجاج والمسالك، فطمع في قتل أبرويز ولم يشك في الظفر به.

    فدعا أبرويز رجلاً من النصارى، كان جده قد أنعم على جد النصراني واستنقذه من القتل أيام قتل ماني وكان من أصحابه الذين استجابوا له، فقال له أبرويز: قد علمت ما تقدم من أيادينا عندكم، أهل البيت قديماً وحديثاً. قال: أجل أيها الملك! وإني لشاكر ذلك لك ولآباءك.

    قال: فخذ هذه العصا، وامض بها إلى شهربراز، فأته في قرار

    ملك الروم، فادفعها إليه من يدك إلى يده.

    وعمد إلى عصاً مثقوبةٍ، فأدخل فيها كتاباً صغيراً منه إلى شهر براز: أما بعد، فإني كتبت إليك كتابي هذا واستودعته العصا. فإذا جاءك فحرق دار مملكة الروم، واقتل المقاتلة، واسب الذرية، وانهب الأموال، ولا تتركن عيناً تطرف، ولا أذناً تسمع، ولا قلباً يعي، إلا كان لك فيه حكم. واعلم أني واثب بملك الروم يوم كذا وكذا. فليكن هذا وقتك الذي تعمل فيه ما أمرتك.

    قال: وأمر للنصراني بمالٍ، وجهزه، وقال: لا تعرجن على شيءٍ، ولا تقيمن يوماً واحداً. وإياك ثم إياك أن تدفع العصا إلا إلى شهر براز، من يدك إلى يده! ثم ودعه، ومضى النصراني. فلما عبر النهروان، اتفق أن كان عبوره مع وقت ضرب النواقيس. فسمع قرع عشرة آلاف ناقوسٍ أو أكثر. فانهملت عيناه، وقال: بئس الرجل أنا إن أعنت على دين النصرانية، وأطعت أمر هذا الجبار الظالم! فأتى باب ملك الروم، فاستأذن عليه، فأذن لله، فأخبره بقصة أبرويز حرفاً حرفاً، ثم دفع إليه العصا، فأخذها ونظر فيها. ثم استخرج الكتاب منها، فقريء عليه، فنخر وقال: خدعني شهر براز! ولئن وقعت عيني عليه، لأقتلنه! وأمر، فقوضت أبنيته من ساعته؛ ونادى في الناس بالرحيل، وخرج ما يلوي على أحدٍ.

    ووجه أبرويز عيناً له يجيئه بخبره؛ فانصرف إليه، فأخبره أن الملك قد مضى ما يلتفت لفتةً، فضحك أبرويز وقال: إن كلمةً واحدةً هزمت أربعمائة ألفٍ لجليل قدرها، ورفيع ذكرها!
    محمد منسى
    محمد منسى
    أسرة ورد الشام
    أسرة ورد الشام


    البلد : مصــــــــــــــــر
    ذكر
    العمر : 45
    صديقة مقربة صديقة مقربة : مــآآآري
    صديقة مقربة صديقة مقربة : سما فكري
    عدد الرسائل : 5243
    العمل/الهواية : الشعر * الشطرنج * كرة القدم
    تاريخ التسجيل : 09/06/2009
    مستوى النشاط : 23907
    تم شكره : 24
    القوس

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف محمد منسى الجمعة 17 مايو 2013 - 21:53

    النهاية


    و قد انتهينا إلى هذا الموضع من كتابنا هذا، وأخبرنا بأخلاق الملوك في أنفسها وما يجب على رعاياها لها، بقدر وسع طاقتنا، فلنختم كتابنا هذا بذكر من بعثنا على نظمه، وكان مفتاحاً لتأليفه وجمعه.

    ولنقل إنا لم نر في صدر هذه الدولة المباركة العباسية، ولا في تاريخها وأيامها إلى هذه الغاية، فتىً اجتمعت له فضائل الملوك وآدابها ومكارمها ومناقبها، فحاز الولاء من هاشمٍ والخصيص من خلفاء بني العباس الطيبين، والتبني من المعتصم بالله، وإخوته الأبرار من أئمة المؤمنين، وورثة خاتم النبيين، عدا الأمير الفتح بن خاقان، مولى أمير المؤمنين.

    فلتهنئة هذه النعمة المهداة! وبارك له واهبها، وزاده إليها الدأب عليها حتى يبلغ به ارفع يفاعها، وأسنى ذروتها، وأعلى درجاتها، في طول من العمر، وسلامةٍ من عوادي الزمان وغيره، ونكباته وعثراته، فإنه رحيم كريم!
    مآآآري
    مآآآري
    المشرفة العامة
    المشرفة العامة


    البلد : سوريا
    انثى
    العمر : 42
    عدد الرسائل : 8386
    العمل/الهواية : مهندسه زراعيه
    تاريخ التسجيل : 22/11/2012
    مستوى النشاط : 24312
    تم شكره : 33
    الاسد

    ((  التاج في أخلاق الملوك  ))  للجاحظ - صفحة 4 Empty رد: (( التاج في أخلاق الملوك )) للجاحظ

    مُساهمة من طرف مآآآري الجمعة 17 مايو 2013 - 23:08


    فلتهنئة هذه النعمة المهداة! وبارك له واهبها، وزاده إليها الدأب عليها
    حتى يبلغ به ارفع يفاعها، وأسنى ذروتها، وأعلى درجاتها،
    في طول من العمر، وسلامةٍ من عوادي الزمان وغيره،
    ونكباته وعثراته، فإنه رحيم كريم!

    امين
    شكرا لك محمد
    بارك الله فيك

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت 23 نوفمبر 2024 - 20:16