( هل يمكن للطفل الاسود عبده عيشة ان يدخل المدرسة ويتعلم مع التلاميذ ان اللون الاسود في العلم يرمز الى عهد الظلام البائد والى كل ما هو قبيح وبشع وسيء ؟
لماذا لا يجد رباش سوى الخيانة، خيانة كل شيء، الدين والوطن والتاريخ؟ فيما سرور، الذي يرفض أن يندمج في مجتمع طلّ يهمش ( الأخدام ) طويلاً، يقترح ان يحنطوا نموذجاً من الأخدام، ويضعوه في زجاج المتحف، ثم يتركوا من تبقى منهم ينقرضون؟ ألم يرَ يوماً زواج الخادمة جمعة والدكتور" انه يوم حلو .. أبيض وأسود" .؟ )
الرواية الجارحة والحادة كـ نصل سكين ..تلك التي برع فيها " علي المقري " بـ شدنا من ياقاتنا لـ عالم الأخدام .. عالم الطبقات الدنيا عوالم المنبوذين والمنغلقين على أنفسهم حين أبى العالم الخارجي أن يفتح لهم صدره .. ذلك العالم الذي يضج بالشقاء والبؤس والفجيعة .. عالم الأحرار الذين تم استعبادهم بطريقةٍ ما وعندما مُنحوا حريتهم لم يستطيعوا الخروج من وهم العبودية الذي سيطر عليهم وعلى نظرة باقي المجتمع لهم.
وتتضح الصورة جلية في حديث سرور " أتدري لماذا دخلت السجن؟ رحت أزور واحداً قريبي في التربة. شكّوا الأخدام فيّ، قالوا أنني أعامل من أجل أن أخذ حق الخدمة عنهم. وشكوني للدائرة أنني اعتديت على نسائهم. ومن هناك، مباشرة، أدخلوني السجن المركزي. نحن الأخدام حتى إذا أردنا امتلاك شيء نحاول امتلاك حقنا في العبودية. عندنا مستندات وعقود تعطينا الحق في خدمتنا لأمبو*، ونتشاجر فيما بيننا، عمن سيكون له السبق ويحظى بهذه المكرمة. "
* الرجل الأبيض في لغة الأخدام
الرواية تتعرض بشكلٍ لأحداثٍ على مر سنوات عديدة وبـ تقنية الفلاش باك .. حيث يتم استرجاع بعض الأحداث لـ يتم بناء الرواية على فكرة الطبقية والعنصرية الفادحة في ذلك الوقت .. وتأتي الأمثال لـ تعزز من هذه الفكرة كـ :
" من صاحب الخادم أصبح نادم"
" الخادم أنجس من اليهودي"
تبدأ أحداث الرواية بـوتيرة متسارعة من خلالها يهيأنا المقري لـ تقبل فكرة أن الجميع خونة .. وإن ممارسة الأخدام في استخدام حقهم السياسي والعاطفي هي خطأ كبير عليهم دفع ثمنه .. إذ أن الأخدام لا يحق لهم التعاطي السياسي أو حتى محبة أبناء أسيادهم وهذا ما يتضح في ترديد العبد " رباش " لهذه الكلمات خلال محاكمته لانتماءاته الحزبية مخاطباً القاضي:
" – حضرة القاضي، جرموني قبل أكثر من عشر سنوات بخيانة الوطن بسبب عضويتي في الحزب، وخيانة الأسرة التي عملت عندها لأنني أحببتُ ابنتهم. الآن تقولون خيانة فقط. ولا تذكرون خيانة مَن واغتصاب مَن، وكيف.
كلنا نمارس خيانة الوطن بشكلٍ من الأشكال، مادام يسمّى وطناً، كما هو يقوم بخيانتنا. الوطن هو الخيانة ، كل وطن خيانة، فكرة الوطن خيانة . الحدود الوطنية خيانة . التربية الوطنية خيانة، العلم الوطني خيانة ، المصلحة الوطنية خيانة. الأحزاب الوطنية خيانة ، الوطنيون خونة، المجتمع خيانة. الطبقة خيانة. العائلة خيانة. الزواج خيانة. القوانين خيانة. التقاليد خيانة حضرة القاضي. "
المدخل الفعلي للرواية يحكي خطيئة عبدالرحمن ( يسمى أمبو فيما بعد لـ بياض بشرته ) في سني مراهقته مع جمالة بنت المزين البنت التي تكبره بعدة سنوات وحين يفتضح أمر حملها لـ طِفله تعاقب بالرجم .. وبعدها بفترة يكرر فعلته مع الدغلو شقيقة جمالة .. ونتيجة خوفهما من المصير الذي لاقته جمالة يهربان معا لـ يصل بهم المطاف لـ " محوى زين " أو محوى الأخدام والعشش الخاصة بهم ومن هنا تبدأ أحداث الرواية .
" لم تمر إلا أيام قليلة منذ اللقاء الصاخب لـ جسدينا، حتى بدأت الشكوك والمخاوف تنتاب الدغلو من أن يكون مصيرها مثل مصير جمالة. لكنها لم تُطل في بث شكوكها ومخاوفها لي إذ سرعان ما قرّرت: ( علينا أن نهرب بسرعة من الوادي. نروح إلى قرية أو مدينة بعيدة لا يعرفنا فيها أحد، ونعيش هناك.) "
لو كنا سـ نعمل على تقسيم الرواية لـ ركائز لكان الفقر والطبقية ركيزة ولكان الجنس المفرط بالرواية ركيزته الأخرى .. وبتصوري أن الإفراط بالجنس لدى هذا العالم المنبوذ والانسياق له بشكل انغماسي حيواني إن صح القول ما هو إلا هرباً من واقعية الحياة التعسة وردة فعلهم تجاه الإحساس بالضعف والمهانة .. فـ الاتجاه للجنس يعكس الصورة القوية للرجل كـ " الحرتوش " مثلا مقابل الشعور بالنبذ والدونية .
الحياة في المحوى / العشش كانت شكلاً آخر من أشكال البؤس لأناس تكيّفوا مع العيش وسط القذارة والعفن والأمراض ، أناس أجبرتهم الطبقية المقززة للتعايش مع كل شيء مع الموت مع المرض والقبول بفكرة أن الأخدام يجب أن لا يتجاوزا سن الشباب ..
"ابن شموس مات بعد أن بقى يبول دما لمدة أسبوعين وكان في الثامنة من عمره تقريبا. كاذية بنت المسفوح في العشة المجاورة لعشة شموس كانت أكبر -ربما في العاشرة- ماتت بعد سعال دام لأشهر وقالوا إنه السلّ. بدأت سنة حزينة كان الشتاء كعادته مليئا بأخبار موت الأطفال المفزعة. الصيف جاء أيضا ومعه البلهارسيا والملاريا.
لم يكونوا في العشش يرهبون الموت حين يعلمون موت رجل أو امرأة بلغا الثلاثين من عمرهما أو أقل من ذلك ببضع سنوات. يعتقدون أنها كافية لعمر الخادم وأفضل له من بقائه وهو يعذب من الأمراض التي تهاجمه طوال عمره وتصبح صعبة الاحتمال بعد سن الخامسة والعشرين وأصعب بعد الثلاثين"
في الفصول النهائية من الرواية يتطرق المقري للزحف العمراني نحو العش .. وانتهاك أراضي الأخدام دون استئذانهم .. وكيف إن ذلك سبب للجميع قلقاً مزعجاً..
" حدثت نفسي إذا ما كانوا سيذكرون يوماً ما أنه كان يوجد هنا محوى للأخدام، اسمه محوى زين؟ ما نفع الذكرى؟ هل سيعوضونهم بـ أبنية أخرى صالحة للسكن تمهيداً لـ دمجهم في المجتمع، كما يقال؟
اقترح سرور أن يحنطوا نموذجاً من الأخدام، ويضعوه في زجاج بمتحف، ثم يتركوا ما تبقى منهم ينقرضون: عليهم أن يتحولوا إلى حشرات، صراصير، أو فئران، إلى أي شيء؛ أفضل من أن يتكيّفوا ويعاد تشكيلهم، لـ يصبحوا كمثل هؤلاء، الذين لم يقبلوا بهم في يومٍ من الأيام."
أما النهاية فقد جاءت كـ خلاصة لـ عدم تقبل سرور للحياة بهذا الشكل البائس..
" كان سرور يتحدث.. يسأل ولا يجيب.. كأنه أنا وكأنني هو.. كأنه آخر تخلى عن سرور أو سرور تخلى عن آخر.. كأنه غيره أو لا شيء.
( أنا قرطاس في ارض.. حفنة غبار.. كومة قش.. انه هو أنا.. أنا لا شيء. أنا حذاء معلّق. حذاء مقطّع مرمّي في زُبالة. أنا زُبالة. البقايا إخوتي. العُلب الفارغة بيوتي. لا، أنا بيتها. أنا عُلبة فارغة. عُلبة مدعوسة في طريق ) "
من هو البطل إذن بالرواية؟
البطل هو المكان .. هو الوضع .. هو الطبقية الفادحة
ليس أمبو ولا الدغلو ولا سرور ولا عيشة ولا أي أحد!
البطل هو المكان .. هو الوضع .. هو الطبقية الفادحة
ليس أمبو ولا الدغلو ولا سرور ولا عيشة ولا أي أحد!