[size=24]
إشارات في رحلة سيدنا موسى والخضر- عليهما السلام
-------------------------------
أولاً: إن خرق السفينة التي ركبها سيدنا موسى والخضر لتوصيلهما إلى مقصدهما، يشير إلى:
- ضرورة قيام السالك في طريق الله تعالى بخرق عوائده ومألوفاته، حتى لا تتحكم فيه عاداته ولا مألوفاته -
من الأكل والشرب واللبس، والراحة والنوم واللهو البريء، والأُنس بالخلق والتسلي بهم -
فلا تكون للسالك طريق الله ورسوله عادة تقطعه أو تحجبه عن الله عزَّ وجلَّ وعن رسوله صلى الله عليه وسلم،
لأن السالك يجاهد نفسه في التخلي عن هذه المألوفات والعوائد،
طلباً للترقي، وتحصيلاً للعلم النافع والعمل الصالح،
وترسماً لخطوات إمامه، واقتداءً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أن سيدنا الخضر خرق السفينة بآلة حادة كانت معه لمنعه سيدنا موسى،
أو حاول منعه - على الأقل - تحاشيا للضرر ومحافظة على السفينة وأصحابها،
ولكن سيدنا الخضر خرقها بأصبعه، فلم يشعر سيدنا موسى بالخرق إلا بعد أن وقع،
وكان مع سيدنا الخضر لفافة خاصة سد بها هذا الخرق حتى يمنع من تسرب الماء إلى السفينة،
ولم يعلم بهذا الخرق أحد من الركاب ولا من أصحابها،
وإلا لألقوا بهذين الرجلين في وسط البحر لأن أصحابَها أرادوا أن يكرموا هذين الرجلين الصالحين
فأنزلوهما في مكان خاص بهما بعيداً عن بقية الركاب حتى يتم ما أراده الله عزَّ وجلَّ.
- وكذلك يجب على السالك أن يصحب شيخه ولو بمقدار تصحيح أحواله ومشاهداته وخواطره،
وكذلك تصويب أعماله وأقواله ومعتقداته على كتاب الله وسنة رسوله وهدي الأئمة الراشدين.
ثانياً: في خرق السفينة أيضًا إشارة إلى أنه يجوز للشيخ أن يختبر أتباعه بأمور لا تشق عليهم،
تمكيناً لهم في مراتب السير والسلوك، ثم على الشيخ أن يخبرهم بنتيجة هذه الاختبارات والفائدة منها،
إذا لم يلحظوا معناها، ولم يدركوا مغزاها، حتى لا يتركهم في حيرة من أمرهم،
لأن بُغية الشيخ أن يكمُلَ أتباعه، وأن يزكي نفوسهم، وأن يوصلهم إلى المقامات الرفيعة والدرجات العالية،
أسوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته لأصحابه رضي الله عنهم،
قال البوصيري رضي الله عنه:
لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعِي العُقُولُ بِه ***** حِرْصًا عَلَيْنَا فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمِ
وقد اختبر بعض العارفين أبناءه، بأن أعطى كل واحد منهم حمامة،
وقال له اذبحها في مكان لا يراك فيه أحد، ثم تعال بها إليَّ،
فذبح كل واحد منهم حمامته وأتى بها إلى الشيخ، إلا رجلاً منهم جاء بحمامته إليه ولم يذبحها!!
فقال له الشيخ: لِمَ لَمْ تذبح حمامتك يا بُني؟!!
قال: لأنني كلما توجهَّتُ إلى مكان لأذبحها فيه وجدت أن الله يراني وينظر إلي،
وأنت أمرتني بذبحها في مكان لا يراني فيه أحد.
فقال له الشيخ أمام أصحابه: أنت صاحب الأمر من بعدي، ومثلك يصلح لإرشاد الناس.
وقد اختبر رجل آخر من العارفين أحد مريديه فوضع له حمامة في إناء، وغطى هذا الإناء،
وقال له: اذهب به إلى فلان وأعطه له ولا تكشف هذا الإناء،
فأخذت نفس المريد تراوده أثناء الطريق، ماذا عسى أن يكون في هذا الإناء؟
وألَحَّتْ عليه نفسه في ضرورة التعرف على ما فيه فكشفه .. فطارت الحمامة،
فلما رجع إلى شيخه وأخبره بالذي حصل منه، قال له: يا بني مثلك لا يؤمن على أسرار الربوبية.
وكثير من العارفين كان يختبر أبناءه ليستخرج ما بقي في نفوسهم من الحظ والهوى،
والاختبار يجب أن يكون على قدر المريد، وبقدر ما يصلح من حاله وشأنه.
وقد اختبر بعضهم أحد أبنائه فقال له: صل بنا إمامًا يا بني،
فلما وقف في المحراب دخل العجب في نفسه وقال:
إنما قدمني الشيخ إمامًا لما رأى فِيَّ من التقوى والصلاح أكثر من إخواني،
فلما انتهى من الصلاة قال الشيخ في أذنه:
((أعد صلاتك يا بني، فإن الله لا يقبل صلاةَ عَبْدٍ أُعجب بنفسه)).
ثالثاً: حادثة قتل سيدنا الخضر للغلام الذي لقياه في طريقهما،
إشارة إلى أن السالك في طريق الله تبارك وتعالى لا بد له من مجاهدة نفسه الأمَّارة بالسوء
حتى تستجيب وتنتهي عن مخالفة الله ورسوله.
وهناك كثير من أهل الله وخاصته، قتلوا هذه النفس، وتخلصوا منها
فأبدلهم الله بها نفسًا زكية وراضية مرضية، قال الله تعالى:
﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
[54 البقرة]
وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
نَفْسٌ لَقَدْ قُتِلَتْ بِالحُبِّ فَاتَّحَدَتْ ***** بِالحُبِّ أَشْرَقَ نُورٌ مُشْرِقٌ عَالِ
وإن النفس الأمَّارة لها ولع بالمعاصي والسيئات كولع الغلمان باللهو واللعب،
وإن النفس الأمارة لها دلال وتأثير على صاحبها
كتأثير الغلمان ودلالهم على آبائهم وأمهاتهم وأهليهم.
وقديماً قال الإمام البوصيري رضي الله عنه:
والنَّفْسُ كالطِّفْلِ إِنْ تَهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ***** حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
وهكذا تشير هذه الرحلة الكريمة إلى معان تسامت عن البيان، وجلت عن التبيان
اللهم إلا ما يلهمه الحق تبارك وتعالى لبعض عباده الذين علَّمهم الله من لدنه علماً
فترجموا به لإخوانهم المؤمنين على قدر قواهم الروحانية قال تعالى:
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
[76 يوسف]
فليس كل ما يُعْلم يُقال.
رابعًا: بناء الجدار الذي بناه سيدنا الخضر وسيدنا موسى وإقامته للغلامين اليتيمين،
فإنه إشارة عجيبة جدًا!!!
وهي أن السالك في طريق الله تعالى بعد أن خرج من عوائده ومألوفاته وانتصر على نفسه الأمَّارة بالسوء،
وبعد أن تخلَّص من جميع العقبات، يقيم حقيقته الإنسانية الباقية،
وهيكله المعنوي الروحاني الذي يعيش به العيشة الهنية، والحياة السعيدة السرمدية،
في معيَّة الأخيار من عباد الله المقربين،
بل في معيَّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الطاهرين.
ويبني جداره من لبنات أكرم وأغلى من لبنات الذهب والفضة، والجواهر الكريمة والدُّرر اليتيمة،
وهي لبنات المعارف الإلهية، واللطائف القدسية، والآدابِ المحمدية، والأخلاق النبويَّة،
والأسرار القرآنيَّة، ومصاحبة العارفين، ومجالسة الصالحين،
وبذلك يكون قد بني بيت المجد والعز والشرف،
بل بنى هيكل الربِّ المقدس الذي هو أجلُّ من بيت المقدس، بل ومن الكعبة المشرفة،
فإن حرمة هذا العبد عند الله أكبر من حرمة البيت العتيق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ إن حرمة المؤمن عند الله أكبر منك }
خامسًا: إن بناء هذا الجدار بالليل يشير إلى حقيقة من حقائق السير والسلوك،
وهي أن السالك في طريق الله تعالى ينتهز فرصة صفاء الليل وسكونه، وخلوه فيه من الأعمال الكونية،
فيقوم لله عزَّ وجلَّ بما يتيسر له من العبادات والقربات والصالحات،
حتى يستكمل بناء ذاته، وإقامة كيانه الروحاني والجسماني
قال الإمام علي رضي الله عنه:
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ***** فَأَنتَ بِالنَّفْسِ لا بِالجِسْمِ إِنْسَانٌ
وقال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
وَطَافَ سَاقِي الوُصُولِ لَيْلاً ***** يَسْقِي السَّهَارَى رِضَا السَّمَاحِ
وإن السالك يحنُّ إلى الليل أكثر من حنين العشاق إلى أحبابِهم،
وأعظم من هيام النشاوى إلى أنسهم وطربهم، ل
أن في صفاء الليل وسكونه أكبر دافع له على الإخلاص والصدق في العبودية لله،
والوفاء له عزَّ شأنه بحقوقه وواجباته
قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
يَا لَيْلُ يَا عَيْنُ هَيَّا وَفِّيا دَيْنِي ***** وَاللَّيْلُ سِترٌ وَلَكِنْ حِجْبَةُ الزَّيْنِ
فالليل في الشطرة الأولى هو الجسم، والعين فيها أيضًا هي الروح،
ولذلك طلب الإمام منهما الاتحاد والتعاون في القيام بشئونه وفي تسديد ديونه.
أما الليل في الشطرة الثانية فهو المقابل للنهار،
ولذلك كان ستراً يستر أهل الله وخاصته عن أعين الناس عند مناجاتهم لله عزَّ وجلَّ،
وتملقهم إليهم، وحنينهم وأشواقهم عليه جلَّ جلاله.
وأيضًا كان هذا الليل حجابًا يحجبهم عن السمعة والتظاهر والرياء،
وعن كل ما يدخل على النفس الإنسانية من العوارض والقواطع التي تؤثر على علاقتهم بالله عزَّ وجلَّ.
نسأل الله من فضله أن يجعل لنا حظاً ونصيباً من هذه المقامات السنيَّة، والمنازل العليَّة
إنه مجيب الدعاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
*********
-------------------------------
أولاً: إن خرق السفينة التي ركبها سيدنا موسى والخضر لتوصيلهما إلى مقصدهما، يشير إلى:
- ضرورة قيام السالك في طريق الله تعالى بخرق عوائده ومألوفاته، حتى لا تتحكم فيه عاداته ولا مألوفاته -
من الأكل والشرب واللبس، والراحة والنوم واللهو البريء، والأُنس بالخلق والتسلي بهم -
فلا تكون للسالك طريق الله ورسوله عادة تقطعه أو تحجبه عن الله عزَّ وجلَّ وعن رسوله صلى الله عليه وسلم،
لأن السالك يجاهد نفسه في التخلي عن هذه المألوفات والعوائد،
طلباً للترقي، وتحصيلاً للعلم النافع والعمل الصالح،
وترسماً لخطوات إمامه، واقتداءً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أن سيدنا الخضر خرق السفينة بآلة حادة كانت معه لمنعه سيدنا موسى،
أو حاول منعه - على الأقل - تحاشيا للضرر ومحافظة على السفينة وأصحابها،
ولكن سيدنا الخضر خرقها بأصبعه، فلم يشعر سيدنا موسى بالخرق إلا بعد أن وقع،
وكان مع سيدنا الخضر لفافة خاصة سد بها هذا الخرق حتى يمنع من تسرب الماء إلى السفينة،
ولم يعلم بهذا الخرق أحد من الركاب ولا من أصحابها،
وإلا لألقوا بهذين الرجلين في وسط البحر لأن أصحابَها أرادوا أن يكرموا هذين الرجلين الصالحين
فأنزلوهما في مكان خاص بهما بعيداً عن بقية الركاب حتى يتم ما أراده الله عزَّ وجلَّ.
- وكذلك يجب على السالك أن يصحب شيخه ولو بمقدار تصحيح أحواله ومشاهداته وخواطره،
وكذلك تصويب أعماله وأقواله ومعتقداته على كتاب الله وسنة رسوله وهدي الأئمة الراشدين.
ثانياً: في خرق السفينة أيضًا إشارة إلى أنه يجوز للشيخ أن يختبر أتباعه بأمور لا تشق عليهم،
تمكيناً لهم في مراتب السير والسلوك، ثم على الشيخ أن يخبرهم بنتيجة هذه الاختبارات والفائدة منها،
إذا لم يلحظوا معناها، ولم يدركوا مغزاها، حتى لا يتركهم في حيرة من أمرهم،
لأن بُغية الشيخ أن يكمُلَ أتباعه، وأن يزكي نفوسهم، وأن يوصلهم إلى المقامات الرفيعة والدرجات العالية،
أسوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته لأصحابه رضي الله عنهم،
قال البوصيري رضي الله عنه:
لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعِي العُقُولُ بِه ***** حِرْصًا عَلَيْنَا فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمِ
وقد اختبر بعض العارفين أبناءه، بأن أعطى كل واحد منهم حمامة،
وقال له اذبحها في مكان لا يراك فيه أحد، ثم تعال بها إليَّ،
فذبح كل واحد منهم حمامته وأتى بها إلى الشيخ، إلا رجلاً منهم جاء بحمامته إليه ولم يذبحها!!
فقال له الشيخ: لِمَ لَمْ تذبح حمامتك يا بُني؟!!
قال: لأنني كلما توجهَّتُ إلى مكان لأذبحها فيه وجدت أن الله يراني وينظر إلي،
وأنت أمرتني بذبحها في مكان لا يراني فيه أحد.
فقال له الشيخ أمام أصحابه: أنت صاحب الأمر من بعدي، ومثلك يصلح لإرشاد الناس.
وقد اختبر رجل آخر من العارفين أحد مريديه فوضع له حمامة في إناء، وغطى هذا الإناء،
وقال له: اذهب به إلى فلان وأعطه له ولا تكشف هذا الإناء،
فأخذت نفس المريد تراوده أثناء الطريق، ماذا عسى أن يكون في هذا الإناء؟
وألَحَّتْ عليه نفسه في ضرورة التعرف على ما فيه فكشفه .. فطارت الحمامة،
فلما رجع إلى شيخه وأخبره بالذي حصل منه، قال له: يا بني مثلك لا يؤمن على أسرار الربوبية.
وكثير من العارفين كان يختبر أبناءه ليستخرج ما بقي في نفوسهم من الحظ والهوى،
والاختبار يجب أن يكون على قدر المريد، وبقدر ما يصلح من حاله وشأنه.
وقد اختبر بعضهم أحد أبنائه فقال له: صل بنا إمامًا يا بني،
فلما وقف في المحراب دخل العجب في نفسه وقال:
إنما قدمني الشيخ إمامًا لما رأى فِيَّ من التقوى والصلاح أكثر من إخواني،
فلما انتهى من الصلاة قال الشيخ في أذنه:
((أعد صلاتك يا بني، فإن الله لا يقبل صلاةَ عَبْدٍ أُعجب بنفسه)).
ثالثاً: حادثة قتل سيدنا الخضر للغلام الذي لقياه في طريقهما،
إشارة إلى أن السالك في طريق الله تبارك وتعالى لا بد له من مجاهدة نفسه الأمَّارة بالسوء
حتى تستجيب وتنتهي عن مخالفة الله ورسوله.
وهناك كثير من أهل الله وخاصته، قتلوا هذه النفس، وتخلصوا منها
فأبدلهم الله بها نفسًا زكية وراضية مرضية، قال الله تعالى:
﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
[54 البقرة]
وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
نَفْسٌ لَقَدْ قُتِلَتْ بِالحُبِّ فَاتَّحَدَتْ ***** بِالحُبِّ أَشْرَقَ نُورٌ مُشْرِقٌ عَالِ
وإن النفس الأمَّارة لها ولع بالمعاصي والسيئات كولع الغلمان باللهو واللعب،
وإن النفس الأمارة لها دلال وتأثير على صاحبها
كتأثير الغلمان ودلالهم على آبائهم وأمهاتهم وأهليهم.
وقديماً قال الإمام البوصيري رضي الله عنه:
والنَّفْسُ كالطِّفْلِ إِنْ تَهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ***** حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
وهكذا تشير هذه الرحلة الكريمة إلى معان تسامت عن البيان، وجلت عن التبيان
اللهم إلا ما يلهمه الحق تبارك وتعالى لبعض عباده الذين علَّمهم الله من لدنه علماً
فترجموا به لإخوانهم المؤمنين على قدر قواهم الروحانية قال تعالى:
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
[76 يوسف]
فليس كل ما يُعْلم يُقال.
رابعًا: بناء الجدار الذي بناه سيدنا الخضر وسيدنا موسى وإقامته للغلامين اليتيمين،
فإنه إشارة عجيبة جدًا!!!
وهي أن السالك في طريق الله تعالى بعد أن خرج من عوائده ومألوفاته وانتصر على نفسه الأمَّارة بالسوء،
وبعد أن تخلَّص من جميع العقبات، يقيم حقيقته الإنسانية الباقية،
وهيكله المعنوي الروحاني الذي يعيش به العيشة الهنية، والحياة السعيدة السرمدية،
في معيَّة الأخيار من عباد الله المقربين،
بل في معيَّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الطاهرين.
ويبني جداره من لبنات أكرم وأغلى من لبنات الذهب والفضة، والجواهر الكريمة والدُّرر اليتيمة،
وهي لبنات المعارف الإلهية، واللطائف القدسية، والآدابِ المحمدية، والأخلاق النبويَّة،
والأسرار القرآنيَّة، ومصاحبة العارفين، ومجالسة الصالحين،
وبذلك يكون قد بني بيت المجد والعز والشرف،
بل بنى هيكل الربِّ المقدس الذي هو أجلُّ من بيت المقدس، بل ومن الكعبة المشرفة،
فإن حرمة هذا العبد عند الله أكبر من حرمة البيت العتيق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ إن حرمة المؤمن عند الله أكبر منك }
خامسًا: إن بناء هذا الجدار بالليل يشير إلى حقيقة من حقائق السير والسلوك،
وهي أن السالك في طريق الله تعالى ينتهز فرصة صفاء الليل وسكونه، وخلوه فيه من الأعمال الكونية،
فيقوم لله عزَّ وجلَّ بما يتيسر له من العبادات والقربات والصالحات،
حتى يستكمل بناء ذاته، وإقامة كيانه الروحاني والجسماني
قال الإمام علي رضي الله عنه:
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ***** فَأَنتَ بِالنَّفْسِ لا بِالجِسْمِ إِنْسَانٌ
وقال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
وَطَافَ سَاقِي الوُصُولِ لَيْلاً ***** يَسْقِي السَّهَارَى رِضَا السَّمَاحِ
وإن السالك يحنُّ إلى الليل أكثر من حنين العشاق إلى أحبابِهم،
وأعظم من هيام النشاوى إلى أنسهم وطربهم، ل
أن في صفاء الليل وسكونه أكبر دافع له على الإخلاص والصدق في العبودية لله،
والوفاء له عزَّ شأنه بحقوقه وواجباته
قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
يَا لَيْلُ يَا عَيْنُ هَيَّا وَفِّيا دَيْنِي ***** وَاللَّيْلُ سِترٌ وَلَكِنْ حِجْبَةُ الزَّيْنِ
فالليل في الشطرة الأولى هو الجسم، والعين فيها أيضًا هي الروح،
ولذلك طلب الإمام منهما الاتحاد والتعاون في القيام بشئونه وفي تسديد ديونه.
أما الليل في الشطرة الثانية فهو المقابل للنهار،
ولذلك كان ستراً يستر أهل الله وخاصته عن أعين الناس عند مناجاتهم لله عزَّ وجلَّ،
وتملقهم إليهم، وحنينهم وأشواقهم عليه جلَّ جلاله.
وأيضًا كان هذا الليل حجابًا يحجبهم عن السمعة والتظاهر والرياء،
وعن كل ما يدخل على النفس الإنسانية من العوارض والقواطع التي تؤثر على علاقتهم بالله عزَّ وجلَّ.
نسأل الله من فضله أن يجعل لنا حظاً ونصيباً من هذه المقامات السنيَّة، والمنازل العليَّة
إنه مجيب الدعاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
*********