حكايات دمشقية - 2
حكاية جر مياه عين الفيجة إلى دمشق
أحمد بوبس
عندما يتملكنا الظمأ في دمشق.. ونسرع إلى الصنبور نفتحه بلهفة ونملأ منه كأساً من الماء الزلال يروي عطشنا، هل فكر أحدنا.. كيف وصل ماء الكأس هذا من نبع الفيجة في الضاحية الشمالية الغربية من دمشق إلى الصنبور؟.. إنها حكاية تستحق أن نتوقف معها، ونعرف سرها.
استحوذ نبع الفيجة على اهتمام الإنسان الدمشقي منذ آلاف السنين، لاسيما بعد أن وجد في مياه النبع أطيب المياه وأصفاها وأعذبها. وفكر في جر مياهه إلى دمشق لاستخدامها للشرب.
عبر التاريخ الطويل لدمشق جرت عدة محاولات فاشلة لجر مياه نبع الفيجة إلى دمشق، تلتها ثلاث نجاحات آخرها التي ننعم الآن بمائها. فنبع الفيجة قديم جداً. وتسميته (الفيجة) تعني المياه العذبة النقية ويدل على ذلك وجود بقايا آثار رومانية في البلدة.
ومن المحاولات الفاشلة لجر مياه نبع الفيجة إلى دمشق قامت بها الملكة زنوبيا ملكة تدمر. عندما قررت جر مياه الفيجة إلى تدمر وحاولت شق نفق من أجل ذلك لكن المشروع لم يحالفه النجاح. وفي بلدة الفيجة بقايا آثار لنفق منحوت من أيام زنوبيا.
أما أول عملية جر ناجحة فتمت منذ أكثر من ثلاثة آلاف من السنين على يد الرومان خلال حكمهم لسوريا. حيث تم حفر نفق من الفيجة إلى دمشق. وبإمكان المرء مشاهدة بقايا قناة الجر الرومانية، إذا ما ذهب إلى بلدة بسيمة على طريق عين الفيجة، وتأمل الجبل الذي يحتضن البلدة الجميلة فسوف يشاهد بقايا من القناة الرومانية ظاهرة بسبب حدوث فتحات في جدارها المطل على البلدة. ولقد صعدت أكثر من مرة إلى تلك القناة وسرت فيها. فوجدتها تغوص في أعماق الجبل من ناحية عين الفيجة، وتغوص مرة اخرى باتجاه دمشق. ولأهمية نبع الفيجة ومياهه كروح للحياة، فقد أحاطه الرومان بالقداسة. فأقاموا معبدأ لآلهة الينبوع فوق النبع، وكانوا يقدمون القرابين للآلهة من أجل حماية النبع واستمرار تدفقه. وتحول هذا المعبد إلى كنيسة بعد ظهور الديانة المسيحية، ومن ثم إلى (حصن عزتا) بعد الإسلام. لكنه دمر بفعل زلزال أصاب المنطقة ولم يتبق من الحصن إلا بداية القناة الرومانية لجر المياه إلى دمشق.
المرة الثانية التي تم فيها جر مياه الفيجة إلى دمشق، كانت عام 1906 في عهد الوالي التركي ناظم باشا. حيث تم جر مياه الفيجة وتوزيعها على أربعمائة سبيل موزعة في أنحاء دمشق. فقد أراد الوالي جر مياه النبع ليخلص المدينة من مياه فروع بردى (يزيد وتورا والقنوات) التي كانت دمشق تشرب مياهها المحملة بالأوساخ وما ينجم عنها من أمراض. ولعملية جر مياه الفيجة هذه إلى دمشق حكاية طريفة أوردتها مجلة (المضحك المبكي) في عددها رقم /829/ عام 1952. وهذا ملخص الحكاية:
عندما كان ناظم باشا والياً على الشام, أراد أن يسحب ماء الفيجة إلى دمشق , ليخلص المدينة من مياه يزيد وتورا وقنوات (فروع من نهر بردى) التي كانت تتسرب إلى بحرات البيوت بأوساخها, وتسبب الحميات المختلفة, لأن الدمشقيين كما هو معلوم كانوا يشربون منها.
لكن رئيس البلدية أنذاك محمود باشا العابد وأعضاء المجلس البلدي, عارضوا كثيراً الفكرة, اعتقاداً منهم أن المدينة في غنى عن مياه الفيجة بوجود أنهار يزيد وقنوات وتورا, ولا داعي لإسراف المال. وأخذ رئيس وأعضاء البلدية يفتشون عن حيل وحجج لمحاربة هذه المشروع. وأخيراً جاؤوا بحجة أن مياه الفيجة أكثر ثقلاً من مياه بردى. وقاموا بوزن تنكة من ماء الفيجة وأخرى من ماء بردى ليؤكدوا حجتهم. لكن الوالي ناظم باشا كان اكثر ثقافة منهم. فهو يعلم أن ثقل الماء وخفته لا تقاسان بالوزن بل بنسبة الأملاح الموجودة فيه, أي بتحليله وليس وزنه.
ورداً على مكيدة رئيس البلدية ومجلسه، دعاهم الوالي إلى اجتماع في مكتبه. وبعد أن استمع منهم إلى حججهم الواهية، قام إلى غرفة المكتوبجي (كاتب قرارات الوالي)، وطلب منه أن يعد قراراً فورياً بعزل رئيس وأعضاء المجلس البلدي. وعاد الوالي إلى المجتمعين يلاطفهم، حتى انتهى القلم من كتابة القرار وطبعه، فأبلغهم الوالي القرار، فخرجوا خائبين.
طبعاً قام ناظم باشا بجر مياه الفيجة عبر أنبوب بقطر (250) مم . وانتهى المشروع عام (1908) وكان هذا التاريخ هو أول وصول لمياه الفيجة إلى مدينة دمشق.
المرة الثالثة التي جُرّت فيها مياه الفيجة إلى دمشق كانت عام 1922. عندما تشكلت لجنة من عدد من وجهاء دمشق برئاسة لطفي الاسطواني. وانبثق عن هذه اللجنة جمعية تعاونية قررت تنفيذ نفق من الاسمنت المسلح. وأوكلت تنفيذه إلى شركة (THEG) الفرنسية. ورصد للمشروع مبلغ /271737/ ليرة سورية. جمعت بالمساهمة من سكان مدينة دمشق. مقابل حصص شهرية مجانية، بحيث يستفيد المساهم من متر أو نصف متر حسب مساهمته. وتم تدشين المشروع عام 1932. وبلغ طول النفق من عين الفيجة إلى دمشق (16،600) كم، وبتصريف أعظمي (3،5) متر مكعب في الثانية.
وفي عام (1981) تم إقامة نفق جديد بطول (14.400) كم وبتصريف (10) متر مكعب بالثانية من قبل شركة (Bouygues) الفرنسية أيضاً, وسمي فيما بعد بالنفق الجديد, وسمي النفق الذي دشن في عام (1932) بالنفق القديم.
حكاية جر مياه عين الفيجة إلى دمشق
أحمد بوبس
عندما يتملكنا الظمأ في دمشق.. ونسرع إلى الصنبور نفتحه بلهفة ونملأ منه كأساً من الماء الزلال يروي عطشنا، هل فكر أحدنا.. كيف وصل ماء الكأس هذا من نبع الفيجة في الضاحية الشمالية الغربية من دمشق إلى الصنبور؟.. إنها حكاية تستحق أن نتوقف معها، ونعرف سرها.
استحوذ نبع الفيجة على اهتمام الإنسان الدمشقي منذ آلاف السنين، لاسيما بعد أن وجد في مياه النبع أطيب المياه وأصفاها وأعذبها. وفكر في جر مياهه إلى دمشق لاستخدامها للشرب.
عبر التاريخ الطويل لدمشق جرت عدة محاولات فاشلة لجر مياه نبع الفيجة إلى دمشق، تلتها ثلاث نجاحات آخرها التي ننعم الآن بمائها. فنبع الفيجة قديم جداً. وتسميته (الفيجة) تعني المياه العذبة النقية ويدل على ذلك وجود بقايا آثار رومانية في البلدة.
ومن المحاولات الفاشلة لجر مياه نبع الفيجة إلى دمشق قامت بها الملكة زنوبيا ملكة تدمر. عندما قررت جر مياه الفيجة إلى تدمر وحاولت شق نفق من أجل ذلك لكن المشروع لم يحالفه النجاح. وفي بلدة الفيجة بقايا آثار لنفق منحوت من أيام زنوبيا.
أما أول عملية جر ناجحة فتمت منذ أكثر من ثلاثة آلاف من السنين على يد الرومان خلال حكمهم لسوريا. حيث تم حفر نفق من الفيجة إلى دمشق. وبإمكان المرء مشاهدة بقايا قناة الجر الرومانية، إذا ما ذهب إلى بلدة بسيمة على طريق عين الفيجة، وتأمل الجبل الذي يحتضن البلدة الجميلة فسوف يشاهد بقايا من القناة الرومانية ظاهرة بسبب حدوث فتحات في جدارها المطل على البلدة. ولقد صعدت أكثر من مرة إلى تلك القناة وسرت فيها. فوجدتها تغوص في أعماق الجبل من ناحية عين الفيجة، وتغوص مرة اخرى باتجاه دمشق. ولأهمية نبع الفيجة ومياهه كروح للحياة، فقد أحاطه الرومان بالقداسة. فأقاموا معبدأ لآلهة الينبوع فوق النبع، وكانوا يقدمون القرابين للآلهة من أجل حماية النبع واستمرار تدفقه. وتحول هذا المعبد إلى كنيسة بعد ظهور الديانة المسيحية، ومن ثم إلى (حصن عزتا) بعد الإسلام. لكنه دمر بفعل زلزال أصاب المنطقة ولم يتبق من الحصن إلا بداية القناة الرومانية لجر المياه إلى دمشق.
المرة الثانية التي تم فيها جر مياه الفيجة إلى دمشق، كانت عام 1906 في عهد الوالي التركي ناظم باشا. حيث تم جر مياه الفيجة وتوزيعها على أربعمائة سبيل موزعة في أنحاء دمشق. فقد أراد الوالي جر مياه النبع ليخلص المدينة من مياه فروع بردى (يزيد وتورا والقنوات) التي كانت دمشق تشرب مياهها المحملة بالأوساخ وما ينجم عنها من أمراض. ولعملية جر مياه الفيجة هذه إلى دمشق حكاية طريفة أوردتها مجلة (المضحك المبكي) في عددها رقم /829/ عام 1952. وهذا ملخص الحكاية:
عندما كان ناظم باشا والياً على الشام, أراد أن يسحب ماء الفيجة إلى دمشق , ليخلص المدينة من مياه يزيد وتورا وقنوات (فروع من نهر بردى) التي كانت تتسرب إلى بحرات البيوت بأوساخها, وتسبب الحميات المختلفة, لأن الدمشقيين كما هو معلوم كانوا يشربون منها.
لكن رئيس البلدية أنذاك محمود باشا العابد وأعضاء المجلس البلدي, عارضوا كثيراً الفكرة, اعتقاداً منهم أن المدينة في غنى عن مياه الفيجة بوجود أنهار يزيد وقنوات وتورا, ولا داعي لإسراف المال. وأخذ رئيس وأعضاء البلدية يفتشون عن حيل وحجج لمحاربة هذه المشروع. وأخيراً جاؤوا بحجة أن مياه الفيجة أكثر ثقلاً من مياه بردى. وقاموا بوزن تنكة من ماء الفيجة وأخرى من ماء بردى ليؤكدوا حجتهم. لكن الوالي ناظم باشا كان اكثر ثقافة منهم. فهو يعلم أن ثقل الماء وخفته لا تقاسان بالوزن بل بنسبة الأملاح الموجودة فيه, أي بتحليله وليس وزنه.
ورداً على مكيدة رئيس البلدية ومجلسه، دعاهم الوالي إلى اجتماع في مكتبه. وبعد أن استمع منهم إلى حججهم الواهية، قام إلى غرفة المكتوبجي (كاتب قرارات الوالي)، وطلب منه أن يعد قراراً فورياً بعزل رئيس وأعضاء المجلس البلدي. وعاد الوالي إلى المجتمعين يلاطفهم، حتى انتهى القلم من كتابة القرار وطبعه، فأبلغهم الوالي القرار، فخرجوا خائبين.
طبعاً قام ناظم باشا بجر مياه الفيجة عبر أنبوب بقطر (250) مم . وانتهى المشروع عام (1908) وكان هذا التاريخ هو أول وصول لمياه الفيجة إلى مدينة دمشق.
المرة الثالثة التي جُرّت فيها مياه الفيجة إلى دمشق كانت عام 1922. عندما تشكلت لجنة من عدد من وجهاء دمشق برئاسة لطفي الاسطواني. وانبثق عن هذه اللجنة جمعية تعاونية قررت تنفيذ نفق من الاسمنت المسلح. وأوكلت تنفيذه إلى شركة (THEG) الفرنسية. ورصد للمشروع مبلغ /271737/ ليرة سورية. جمعت بالمساهمة من سكان مدينة دمشق. مقابل حصص شهرية مجانية، بحيث يستفيد المساهم من متر أو نصف متر حسب مساهمته. وتم تدشين المشروع عام 1932. وبلغ طول النفق من عين الفيجة إلى دمشق (16،600) كم، وبتصريف أعظمي (3،5) متر مكعب في الثانية.
وفي عام (1981) تم إقامة نفق جديد بطول (14.400) كم وبتصريف (10) متر مكعب بالثانية من قبل شركة (Bouygues) الفرنسية أيضاً, وسمي فيما بعد بالنفق الجديد, وسمي النفق الذي دشن في عام (1932) بالنفق القديم.
صديقة مقربة
