قام الفيلسوف
والمستشرق الفرنسي فولني"Volney" (1757-1820) خلال الأعوام (1783-1784-1785) برحلة هامة إلى الشرق ودوّن كتابه الهام "Voyage en Syrie et en Egypte"، واستوقفته في رحلته عادات البدو وأنظمتهم وحياتهم وسيطرتهم على الطرق المارة عبر الصحراء وحول الحياة العسكرية للبدو اقتطفنا ما يلي:
"تعدّدت الحوادث على مرّ الأزمان بين القبائل وتعدّدت نزاعاتها، وصار البدو يعيشون في حالة حربٍ دائمة، فضلاً عن أنّ نموذج عيش البدو جعل منهم شعباً ذا طابعٍ حربيّ، رغم أنهم لم يحرزوا تقدماً في هذا الفن.
تتخذ معسكراتهم شكلاً دائرياً منتظماً إلى حدِّ ما، متكوناً من خطٍ واحد من الخيام الواسعة نسبياً، وهذه الخيام منسوجة من شعر الماعز أو الجمال وبلونٍ أسود أو بنيّ، على عكس خيام التركمان التي تكون ذات لون مائل للبياض، وتُشدّ هذه الخيام على ثلاثة أوتاد أو خمسة أوتاد، وتكون بارتفاع ستة أقدام فقط، مما يمنحها شكلاً مسطحاً، وتبدو هذه المعسكرات للناظر إليها من بعيد وكأنها بقع سود، بيد أنّ عين البدوي الثاقبة لاتخطئها أبداً، وكل خيمة تسكنها عائلة مقسومة بستارة إلى قسمين يعود أحدهما إلى النساء والآخر للرجال، ويستخدم الفضاء الفارغ للدائرة الكبيرة لإيواء القطعان ليلاً، ولا يملك البدو معقلاً لهم، فالحراس الوحيدون والدوريات هي الكلاب، وتبقى الخيول مسرجة ومتأهبة للركوب عند أول إنذار، بيد أنّ عدم وجود النظام والتقسيم جعل هذه المعسكرات معرّضة للمباغتة، ومجردة من أية وسيلة للدفاع في حالة الهجوم عليها، ولذلك فإنّ الحوادث تقع كل يوم، ومنها خطف البهائم، وهكذا فإنّ حروب الإغارة هذه هي كل ما يشغل العرب. وللبدو الذين يعيشون بجوار الأتراك موقف أكثر خطورة، فقد أباح هؤلاء الغرباء لأنفسهم وبوصفهم غزاةً ملكية البلاد برمتها، وهم يعاملون العرب بوصفهم أتباعاً متمردين عليهم أو أعداء مقلقين وخطرين، وعلى هذا الأساس فهم لم يكفوا عن محاربتهم سراً أو علناً، ويستغل الباشوات جميع المناسبات لمضايقة هؤلاء البدو، فتارةً ينكرون عليهم أرضاً كانوا قد أجّروها لهم وتارةً أخرى يطلبون منهم ضريبةً لم يتم الاتفاق عليها، فإن أدى الطموح أو المصلحة إلى انقسام عائلة الشيخ قاموا بمدّ يد المساعدة إلى هذا الطرف مرة وإلى ذاك الطرف مرة أخرى، حتى ينتهي الأمر بهم إلى إبادة الطرفين، وغالباً ما يعملون على تسميم أو اغتيال القادة الذين يخشون شجاعتهم أو ذكاءهم حتى وإن كانوا حلفاء لهم. وينظر العرب من جهتهم للأتراك بوصفهم غزاةً مستغلين وخونة، ولا يفوتون الفرصة للإساءة إليهم، ولسوء الحظ فإن الوِزر يقع في الغالب على الأثرياء وليس على الجناة، إذ أنّ الفلاحين هم الذين يدفعون في الغالب ثمن ما ارتكبه رجال الحرب من أحداث، فعند وقوع أدنى إشارة إنذار يصار إلى تقطيع محاصيلهم ونهب قطعانهم وقطع طرق المواصلات عليهم وحجز تجارتهم، فيجمع المزارعون على اللصوص ولهم الحق في ذلك بيد أنّ البدو يطالبون بحق إعلان الحرب وهم ليسوا مخطئين، ومهما يكن الأمر فإنّ حالات النهب هذه تخلق بين البدو وسكان البلاد الزراعية خلافاً يجعل منهم أعداء لبعضهم البعض.
هذه هي حياة العرب خارج المدن، إذ أنها تخضع للعديد من التقلبات وإلى حسن أو سوء تصرف القادة، ويحدث أحياناً أن تنهض قبيلة وتتسع في حين تؤول أخرى قوية إلى الانحطاط أو حتى إلى التلاشي، ولا يعني هذا أنّ جميع أعضائها قد هلكوا بل يعني أنها اندمجت مع قبيلةٍ أخرى، ولهذا صلة بالتكوين الداخلي للقبائل، فكل قبيلة مؤلفة من عائلة أو عدد من العائلات الرئيسية التي يحمل أعضاؤها صفة الشيوخ أو الأسياد، تمثل هذه العائلات إلى حدٍّ بعيد ما يشبه طبقة الأشراف في روما، أو طبقة النبلاء في أوربا، وينصب أحد هؤلاء الشيوخ قائداً على الباقين ويصبح قائداً عاماً لهذا الجيش الصغير، ويحمل في بعض الأحيان لقب أمير، وكلما كبر عدد أفراد عائلته وعدد أبنائه وحلفائه ازدادت قوته ونفوذه، ويلحق به عدد من الخدم الذين يربطهم معه على نحوٍ خاص ملبياً جميع حاجاتهم، علاوة على هذا يلتفّ حول هذا القائد عدد من العائلات الصغيرة التي لا تملك ما يكفي من القوة تؤهلها للعيش على وجه الاستقلال، وهي بحاجة إلى الحماية والتحالف، ويسمّى هذا التجمع بالقبيلة والتي بالإمكان تمييزها عن غيرها باسم رئيسها أو باسم العائلة التي تحكم فيها، وعندما يتم الحديث عن أفرادها بشكلٍ عام، فنسمّيهم أولاد فلان على الرغم من أنهم ليسوا جميعاً من دمه، أو أن يكون قد توفي منذ زمنٍ بعيد، وهكذا يُقال بنو تميم، وأولاد طي، وجرت هذه الطريقة في التعبير على نحوٍ استعاري على أسماء البلاد، فالجملة العادية المستعملة للإشارة إلى السكان هي أن نقول أولاد المكان الفلاني، وهكذا يقول العرب أولاد مصر أي المصريين وأولاد الشام أي السوريين أو لعلهم يقولون أولاد فرنسا أي الفرنسيين وأولاد موسكو أي الروس وهذا لا يخلو من أهمية نسبة للتاريخ القديم".
والمستشرق الفرنسي فولني"Volney" (1757-1820) خلال الأعوام (1783-1784-1785) برحلة هامة إلى الشرق ودوّن كتابه الهام "Voyage en Syrie et en Egypte"، واستوقفته في رحلته عادات البدو وأنظمتهم وحياتهم وسيطرتهم على الطرق المارة عبر الصحراء وحول الحياة العسكرية للبدو اقتطفنا ما يلي:
"تعدّدت الحوادث على مرّ الأزمان بين القبائل وتعدّدت نزاعاتها، وصار البدو يعيشون في حالة حربٍ دائمة، فضلاً عن أنّ نموذج عيش البدو جعل منهم شعباً ذا طابعٍ حربيّ، رغم أنهم لم يحرزوا تقدماً في هذا الفن.
تتخذ معسكراتهم شكلاً دائرياً منتظماً إلى حدِّ ما، متكوناً من خطٍ واحد من الخيام الواسعة نسبياً، وهذه الخيام منسوجة من شعر الماعز أو الجمال وبلونٍ أسود أو بنيّ، على عكس خيام التركمان التي تكون ذات لون مائل للبياض، وتُشدّ هذه الخيام على ثلاثة أوتاد أو خمسة أوتاد، وتكون بارتفاع ستة أقدام فقط، مما يمنحها شكلاً مسطحاً، وتبدو هذه المعسكرات للناظر إليها من بعيد وكأنها بقع سود، بيد أنّ عين البدوي الثاقبة لاتخطئها أبداً، وكل خيمة تسكنها عائلة مقسومة بستارة إلى قسمين يعود أحدهما إلى النساء والآخر للرجال، ويستخدم الفضاء الفارغ للدائرة الكبيرة لإيواء القطعان ليلاً، ولا يملك البدو معقلاً لهم، فالحراس الوحيدون والدوريات هي الكلاب، وتبقى الخيول مسرجة ومتأهبة للركوب عند أول إنذار، بيد أنّ عدم وجود النظام والتقسيم جعل هذه المعسكرات معرّضة للمباغتة، ومجردة من أية وسيلة للدفاع في حالة الهجوم عليها، ولذلك فإنّ الحوادث تقع كل يوم، ومنها خطف البهائم، وهكذا فإنّ حروب الإغارة هذه هي كل ما يشغل العرب. وللبدو الذين يعيشون بجوار الأتراك موقف أكثر خطورة، فقد أباح هؤلاء الغرباء لأنفسهم وبوصفهم غزاةً ملكية البلاد برمتها، وهم يعاملون العرب بوصفهم أتباعاً متمردين عليهم أو أعداء مقلقين وخطرين، وعلى هذا الأساس فهم لم يكفوا عن محاربتهم سراً أو علناً، ويستغل الباشوات جميع المناسبات لمضايقة هؤلاء البدو، فتارةً ينكرون عليهم أرضاً كانوا قد أجّروها لهم وتارةً أخرى يطلبون منهم ضريبةً لم يتم الاتفاق عليها، فإن أدى الطموح أو المصلحة إلى انقسام عائلة الشيخ قاموا بمدّ يد المساعدة إلى هذا الطرف مرة وإلى ذاك الطرف مرة أخرى، حتى ينتهي الأمر بهم إلى إبادة الطرفين، وغالباً ما يعملون على تسميم أو اغتيال القادة الذين يخشون شجاعتهم أو ذكاءهم حتى وإن كانوا حلفاء لهم. وينظر العرب من جهتهم للأتراك بوصفهم غزاةً مستغلين وخونة، ولا يفوتون الفرصة للإساءة إليهم، ولسوء الحظ فإن الوِزر يقع في الغالب على الأثرياء وليس على الجناة، إذ أنّ الفلاحين هم الذين يدفعون في الغالب ثمن ما ارتكبه رجال الحرب من أحداث، فعند وقوع أدنى إشارة إنذار يصار إلى تقطيع محاصيلهم ونهب قطعانهم وقطع طرق المواصلات عليهم وحجز تجارتهم، فيجمع المزارعون على اللصوص ولهم الحق في ذلك بيد أنّ البدو يطالبون بحق إعلان الحرب وهم ليسوا مخطئين، ومهما يكن الأمر فإنّ حالات النهب هذه تخلق بين البدو وسكان البلاد الزراعية خلافاً يجعل منهم أعداء لبعضهم البعض.
هذه هي حياة العرب خارج المدن، إذ أنها تخضع للعديد من التقلبات وإلى حسن أو سوء تصرف القادة، ويحدث أحياناً أن تنهض قبيلة وتتسع في حين تؤول أخرى قوية إلى الانحطاط أو حتى إلى التلاشي، ولا يعني هذا أنّ جميع أعضائها قد هلكوا بل يعني أنها اندمجت مع قبيلةٍ أخرى، ولهذا صلة بالتكوين الداخلي للقبائل، فكل قبيلة مؤلفة من عائلة أو عدد من العائلات الرئيسية التي يحمل أعضاؤها صفة الشيوخ أو الأسياد، تمثل هذه العائلات إلى حدٍّ بعيد ما يشبه طبقة الأشراف في روما، أو طبقة النبلاء في أوربا، وينصب أحد هؤلاء الشيوخ قائداً على الباقين ويصبح قائداً عاماً لهذا الجيش الصغير، ويحمل في بعض الأحيان لقب أمير، وكلما كبر عدد أفراد عائلته وعدد أبنائه وحلفائه ازدادت قوته ونفوذه، ويلحق به عدد من الخدم الذين يربطهم معه على نحوٍ خاص ملبياً جميع حاجاتهم، علاوة على هذا يلتفّ حول هذا القائد عدد من العائلات الصغيرة التي لا تملك ما يكفي من القوة تؤهلها للعيش على وجه الاستقلال، وهي بحاجة إلى الحماية والتحالف، ويسمّى هذا التجمع بالقبيلة والتي بالإمكان تمييزها عن غيرها باسم رئيسها أو باسم العائلة التي تحكم فيها، وعندما يتم الحديث عن أفرادها بشكلٍ عام، فنسمّيهم أولاد فلان على الرغم من أنهم ليسوا جميعاً من دمه، أو أن يكون قد توفي منذ زمنٍ بعيد، وهكذا يُقال بنو تميم، وأولاد طي، وجرت هذه الطريقة في التعبير على نحوٍ استعاري على أسماء البلاد، فالجملة العادية المستعملة للإشارة إلى السكان هي أن نقول أولاد المكان الفلاني، وهكذا يقول العرب أولاد مصر أي المصريين وأولاد الشام أي السوريين أو لعلهم يقولون أولاد فرنسا أي الفرنسيين وأولاد موسكو أي الروس وهذا لا يخلو من أهمية نسبة للتاريخ القديم".