ورد الشام

ورد الشام
عزيزي الزائر
هنالك فرق في التصفح كـ زائر والتصفح كــ صديق مسجل مع أننا أتحنا كل أقسام ورد الشام لكي يستفاد بها الجميع الزائرين
كثيرة المنتديات التي يسجل بها البعض ولكن قد يهمل دخولهم وتسجيلهم
هنا في ورد الشام
جرب أن تهتم وسوف نهتم


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ورد الشام

ورد الشام
عزيزي الزائر
هنالك فرق في التصفح كـ زائر والتصفح كــ صديق مسجل مع أننا أتحنا كل أقسام ورد الشام لكي يستفاد بها الجميع الزائرين
كثيرة المنتديات التي يسجل بها البعض ولكن قد يهمل دخولهم وتسجيلهم
هنا في ورد الشام
جرب أن تهتم وسوف نهتم

ورد الشام

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أجتماعي ثقافي أدبي ترفيهي


5 مشترك

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:01

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h





    سؤال السيادة .. والإجابات المتعثِّرة
    فهد بن صالح العجلان
    TD< tr>


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


    عرضنا في مقالة: (سؤال السيادة في الفكر الإسلامي المعاصر) لاتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في الجواب عن سؤال السيادة، وتبيّن من خلالها أن ثم رؤية واضحة في إجابة هذا السؤال لدى عامة الباحثين في الفكر الإسلامي المعاصر، مضمون هذا الجواب أن (السيادة للشرع والسلطان للأمة)، فسيادة الأمة سيادة تنفيذ لأحكام الشريعة ولها صلاحية اختيار من يحكمها ومراقبته، ولا يجوز اغتصاب هذا الحق منها بلا رضا ومشورة منها، وهو معنى تتفق عليه جميع الاتجاهات وإن اختلفت في اختيار الصياغة المناسبة.

    هذا الوضوح لدى عامة الباحثين يقابله حالة من التناقض والارتباك أحدثه (سؤال السيادة) مع عددٍ من الإسلاميين لم يتمكنوا من الجزم بوضوح بأن سيادة الأمة لا يمكن أن تتجاوز سيادة الشريعة، وأن صلاحيات الأمة مفتوحة الفضاء ما لم تخالف الشريعة، بل جعلوا لهذه السيادة مشروعية وقبولاً ولو رفضت الشريعة وتجاوزتها.

    فيقرّر أحدهم أن الشريعة ليست قيداً على السيادة، وإنما هي محل للسيادة!

    فـ (لا تمثل الشريعة الإسلامية قيداً على سيادة الأمة، وإنما هي محل لإعمال هذه السيادة أفاء بها الله لمخلوقاته، فسيادة الأمة مطلقة مستنيرة لا قيود عليها)[1].

    وشرعية القوانين إنما تحدّد بحسب قناعات الناس لا بحسب اعتبار الشريعة لها:

    فـ (شرعية الأحكام والقوانين لا تتوقف على اعتقاد فئة من الناس اتفاقها مع مبادئ الحق أو مخالفتها له، بل تتوقف على قدرة هذه الفئة على إقناع الجمهور بمصداقية رأيها وفاعلية اجتهادها)[2].

    فالأمر بالمعروف بالإلزام يكون بحسب ما هو معروف ومتّبع لدى الأمة، وليس بحسب ما هو معروف في الشريعة:

    (الائتمار بين الناس ينحصر فقط فيما أصبح معروفاً بينهم عرفاً متّبعاً عندهم، أما ما خرج عن العرف من الحق والخير فتتحدّد مسؤولية الأمة في الدعوة إليه وتبليغه إلى الناس بالحكمة والموعظة الحسنة)[3].

    ولأن المشروعية بيد الأمة بشكل مطلق فلا تفرض الشريعة إلا عبر إرادة الأكثرية:


    فـ (لا يحق لأي أقلية إسلامية في مجتمع ما أن تطالب بتطبيق الشريعة وفرضها على الناس بقوة الحديد، بل يلزمها العمل لجعل مبادئ الإسلام وقيمه عرفاً مقبولاً بين الناس)[4].

    حتى إن كان الحكم شرعياً مقطوعاً به:

    (فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين، فهو مكلف به ديناً، وذلك لا يكفي لجعله قانوناً عاماً في المجتمع، بل عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية)[5].

    فلا نقول إن الشريعة قيد على سلطة الأمة، بل إن الأمة لها مطلق التشريع وهي لن تخالف الشريعة!

    (لا حرج علينا لو قلنا إن الإسلام ديمقراطي وإن الشعب المسلم هو مصدر السلطات جميعاً وهو يغير القوانين ويسنها حسب ما يوحي إليه عقله، وكل ما لم يسوغه عقله يضرب به عرض الحائط ويخرجه من الدستور إخراجاً؛ لأن العقل المسلم لا يمكن أن يحيد عن شرع الله، ومن حاد عقله عن ذلك فهو ليس بمسلم وليس بداخل في الشعب)[6].

    فالحكم بالشريعة هو من حكم الشعب لأنها دين الشعب!

    (إن الحكم الذي يكون قولاً وفعلاً متجسد العدل هو حكم الشعب، والشرع الذي يكون قولاً وفعلاً شرع العدل هو شرع الشعب، وتتجلى سيادة الشعب أول ما تتجلى في حقه في اختيار نظام حكمه، وحقه في التشريع لهذا النظام، وحقه في اختيار حكامه، وحقه في المشاركة في الحكم)[7].

    (فهي التي تؤمن بأن ما يصدر عن الله هو الحق وما هو عن غير الله فبالشورى التي هي الحق أيضاً)[8].

    فالمشروعية في النهاية بيد الأكثرية، سواءً اختارت الشريعة أو غير الشريعة:

    (فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية مرجعية عليا وإطاراً للتشريع والقوانين، فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية، وإن اختارت تعطيل الشريعة فسيكون الموقف إعلان الإنكار والاعتراض الواضح لهذا الاختيار، مع القبول والإقرار السياسي به نتيجة للمسار التعاقدي الدائم)[9].

    حقيقة الخلاف مع هذا الاتجاه:


    إن كان الفكر الإسلامي قد شاعت فيه مقولات (السيادة لله، السيادة للأمة، السيادة المزدوجة)، فهذه الاتجاهات لا تختلف في المضمون، أما الخلاف هنا فهو خلاف حقيقي، فالإشكال هنا ليس في الصياغة ولا في تحديد مفهوم السيادة، إنما الخلاف هنا في الموقف من حاكمية الشريعة، فهي هنا تابعة لإرادة الأكثرية حتى تكون منسجمة مع مفهومها في الفكر السياسي الغربي.

    ولا يغب عن بالك أن الخلاف في كل ما سبق ليس في موقفٍ من حزب إسلامي أو شخصية إسلامية أو قضية اجتهادية، الحديث عن أصل الحكم بالشريعة بقطعياتها المجمع عليها.

    وحين تجعل سيادة الشريعة تابعة لسيادة الأكثرية فعدا ما فيه من إشكالات - سنتحدث عنها بعد قليل - فإن الشريعة نفسها ستكون محكومة بما لا يخالف المفاهيم المعاصرة التي جاءت بهذه السيادة.

    وهو معنى ظاهر، يقول د. رضوان السيد: (إصرار الإسلاميين على مرجعية الشريعة وليس الشعب له دلالته، فهناك أحكام قطعية في الشريعة في مسائل الحدود والقصاص والحقوق والواجبات لفئات المواطنين تعتبرها نخب اجتماعية وثقافية واسعة منافية لحقوق الإنسان وضرورات المساواة بين المواطنين، وهي كذلك بمقاييس العصر التي تسود العالم اليوم)[10].

    ولهذا ذهب أحد الباحثين إلى أن: (الإمبراطورية الإسلامية – شأنها شأن كل إمبراطورية - لم تتأسّس على عقد اجتماعي يسوي بين مواطنيها، وما كان فيها من تسامح ديني وسياسي - يستحق الفخر والإشادة في سياقه التاريخي - ليس قريباً مما نطمح إليه من تحقيق مفهوم المواطنة المعاصر)[11].

    فالنظام السياسي الإسلامي يجب أن (يعدل) وفق المواصفات الشائعة في الثقافة الغربية.

    لأن بناء الدولة الإسلامية الذي كان قائماً (على قانون الفتح وأخوة العقيدة كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية، لم يعد مناسباً أخلاقياً ولا ممكناً عملياً، فالدول المعاصرة لا تتأسّس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا)[12].

    (وليس يعني هذا أن العلمانية الغربية هي الحل لعقدنا السياسية الحالية، الحل هو الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية)[13].

    فحين تنزع عن الدولة رابطتها، وتجعل لها رابطة عقدية جديدة تتغير بسببها الأحكام الشرعية، فأي فرق بين (الدولة العلمانية) وهذه الدولة ذات المرجعية الإسلامية!

    ظاهرة (التلفيق) بين المفهوم الإسلامي والغربي:

    هذه الآراء المتعثرة تتفاوت فيما بينها، لكنها تنطلق من إشكالية موحدة، هي ظاهرة التلفيق بين المفهوم الإسلامي والغربي، فهي تريد تحقيق سيادة الأمة بمفهومها الغربي، وتريد في الوقت نفسه أن لا تتعارض مع الشريعة، وهذا التلفيق لا يمكن أن يستقيم إلا عبر الوقوع في عدد من المحاذير الشرعية.

    وليس هذا جديداً على الفكر الإسلامي، ففي ذاكرته عدد من النماذج التلفيقية وقعت في أوقات متباعدة وفي أبوابٍ مختلفة، إلا أن دافعها المحرك لها ثابت لم يتغير.

    أصول التلفيق في مفهوم السيادة:


    هنا عدد من الأصول التي تستند إليها فكرة التلفيق لتقريب مفهوم السيادة الغربي وتخريجه في صورةٍ يتوهم أنها لا تعارض الإسلام:

    الأصل الأول:
    أن حكم الشريعة إنما يكون من خلال تصويت الأكثرية، لأن أي حكم بخلاف ذلك فهو إكراه، والله تعالى يقول {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

    الأصل الثاني:
    أن المشروعية الدينية لا تستلزم المشروعية السياسية، فالسيادة للشريعة ديناً لا يجعلها مشروعة سياسياً، فالمشروعية السياسية تستند إلى رأي الأكثرية.

    الأصل الثالث:
    أن سيادة الأمة هي الطريق الأمثل لحكم الشريعة في عصرنا الحاضر، وليس بيد الناس استطاعة شرعية لتطبيقها من دون هذا الطريق.

    الأصل الرابع:
    أن سيادة الشريعة لا تطبق إلا عبر الناس أنفسهم، فإن لم تجعل السيادة بيد الناس فستجعلها بيد المتغلب، وكونها بيد الناس أضمن، كما أنهم هم المكلفون بتطبيق الشريعة.

    وعامة ما يقال في هذا السياق لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة.

    مناقشة الأصل التلفيقي الأول:


    يقول هذا الأصل أنه لا بد من رضا الأكثرية وإلا كان إكراهاً.

    وهذا التلفيق يخالف المنهج الإسلامي في أساسين:


    الأساس الأول:
    أن تسمية حكم الإسلام هنا (إكراهاً) هي تسمية منطلقة بحسب الرؤية الديمقراطية، وليست بحسب الرؤية الإسلامية، فالاختيار حسب المفهوم الديمقراطي الليبرالي يتحدد من خلال التصويت الانتخابي، وأي حرمان منه فهو إكراه، وأما الاختيار في التصور الإسلامي فهو تابع للإسلام، فالمسلم حين يدخل في الإسلام فقد اختار أن يحكم بالإسلام، فليس هناك درجة أخرى من الاختيار {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ} [النور: 47]، فالرضا بحكم الإسلام هو من لوازم إيمان المسلم، فكما أن المسلم لا يختار بعد إسلامه أن يصلي أو يصوم أو يبر والديه، فكذلك لا يختار حكم الإسلام.

    إذن، فحين تحكم المسلمين بالإسلام فهذا من اختيارهم، وليس فيه أي إكراه، فالاختيار يعرف بدخولهم في الإسلام، وليس بإجراء انتخابي معين، فقبل أن نستدل بآية الإكراه يجب أن نستوعب أن هذا الإكراه هو (إكراه ديمقراطي ليبرالي)، وليس هو (الإكراه الشرعي).

    الأساس الثاني:
    أن تحكيم الإسلام وخضوع الناس لحكمه وقوانينه ليس من الإكراه في شيء، ولا علاقة له بقوله تعالى {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فجعل هذه الآية ذريعة لتعطيل الشريعة غلط وفهم منحرف عنها، ويظهر هذا من وجوه:

    1 -
    أن علماء التفسير قد اختلفوا في تفسير هذه الآية إلى ما يزيد على ستة أقوال ليس فيها أي إشارة إلى أنها تشمل المسلمين، بل كل الأقوال ترجع إلى الكفار بعدم إكراههم على ترك دينهم والدخول في الإسلام قسراً أو التعرض لهم إن دفعوا الجزية، ولم يقل أحد بتاتاً إنها تشمل المسلمين[14].

    2 -
    أن تحكيم الشريعة ليس من الإكراه في الدين، فهو خضوع لقوانينها وأحكامها، وليس فيه إكراه أحد على مخالفة دينه.

    وعلى افتراض أن ذلك إكراه، فالعموم في الآية (عموم في نفي إكراه الباطل، فأما الإكراه بالحق فإنه من الدين، وهل يقتل الكافر إلا على الدين)[15].

    3 -
    أن أحكام الإسلام كانت تطبق في الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، تطبق على المسلم والكافر، وما كان يؤخذ آراء الناس لمعرفة رضاهم أو سخطهم، بل إن الفتوحات الإسلامية أخضعت بلداناً كثيرة ولم تخيرهم في حكم الإسلام وهم غير مسلمين، فكيف تخير المسلمين في حكمهم بالإسلام؟

    4 -
    والقول بأن تحكيم الشريعة من الإكراه في الدين يلزم منه نفي وجود أي إكراه في الدين، منافٍ لحقيقة الإسلام، ففيه واجبات ومحرمات وحدود وعقوبات، فلازم هذا القول أن يجعل الإسلام رسالة روحية محضة ليس فيها أي إلزام سياسي – كما هي الرؤية العلمانية -، وأما القول بأن الإسلام فيه إلزامات مع القول بعموم (لا إكراه في الدين) لكل إكراه، فظاهر التناقض!

    لهذا؛ لا تجد هذا الفهم عند أحدٍ من المتقدمين، فتفسيرهم للآية ينسجم مع فهمهم لأصول الشريعة وقطعياتها، فلا يمكن أن يقول بأن الآية مطلقة العموم في كل إكراه، لأن هذا ينقض أحكام الإسلام بوضوح، لهذا (لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها، لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد على دينه)[16].

    5 -
    لا إشكال لدى أصحاب هذه الدعوى من تطبيق الشريعة إن جاءت بتصويت الأكثرية، إذن كيف تكره الأقلية على ذلك ما دام أنه لا إكراه في الدين حسب تصوركم؟ ثم لو أراد بعض من صوت مع الأكثرية أن يتراجع فهل يكره على الدين لمجرد أنه شارك في التصويت؟

    فإذا كان تحكيم الشريعة إكراهاً، فلا يجوز تطبيقه على الأقلية ولو أرادت الأكثرية، فعجيب أمر هذا التطبيق، يكون إكراهاً ثم يزول الإكراه بمجرد تصويت الأكثرية! وكأن الآية تقول {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} إلا إن اختارت الأكثرية فأكرهوا الأقلية عليه!

    والظريف – والمؤسف - أن الأكثرية هذه متعلقة بنسبة غير محددة، فيمكن أن تكون 70% أو 60% أو أقل أو أكثر، فأي جرأة على الله فوق أن تحدد نسبة معينة تقول هي التي أعرف من خلالها أن هذا إكراه داخل في مراد الله في قوله تعالى {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

    فقاعدة (لا إكراه في الدين) أرادوا بها أن تكون (عذراً) في ترك تطبيق الشريعة إن رفضت الأكثرية، وهي في الحقيقة تلغي تطبيق الشريعة بالكلية ولو أرادت الأكثرية!

    أرأيتم كيف ظهرت إشكالية التلفيق؟

    يريد يحكم بالشريعة، ويريد حكم الأكثرية، فيأتي بمفهوم (لا إكراه في الدين) فيتورط معه لأنه يؤدي به إلى تعطيل الشريعة وعدم الحكم بها أبداً!

    ويجعل (لا إكراه في الدين) عاماً يشمل الحكم بالشريعة فيتورط لأنه يؤدي لإلغاء كل الإلزامات في الشريعة حتى تكون رسالة روحية علمانية!

    مناقشة الأصل التلفيقي الثاني:


    يقول هذا الأصل: إن سيادة الشريعة جانب ديني، وحتى يحمل صفة (المشروعية السياسية) لا بد له من الرجوع إلى رأي الأكثرية!

    من طبيعة أي تلفيق أنه يحتاج لحذف شيء من أحد الطرفين حتى يستطيع أن يلفق بينهما.

    والذي حصل هنا أنه حصل حذف في أحكام الإسلام فجُعلت دينية وليست سياسية، وهذا مفهوم لا تعرفه الشريعة..

    لماذا؟


    لأن الشريعة نظام حياة ونظام دولة وليست رسالة روحية منزوية عن الواقع، فالأحكام الدينية حسب تصور الإسلام، هي أحكام سياسية.

    فأي حكم في الواقع يخالف الشريعة فالمسلم مأمور بتغييره (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)[17]، وأحكام الإسلام يجب أن تكون هي الحاكمة والفيصل بين الناس في حقوقهم ومنازعاتهم {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]، وأي قرار سياسي يجب ألا يخالف الشريعة وإلا فلا اعتبار له (إنما الطاعة في المعروف)[18]، (ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)[19]، وأي نظام فمشروعيته مقيدة بالشريعة (إلا أن تروا كفراً بواحاً)[20].

    فحين تستحضر هذه الأحكام يتضح لك صورة الأحكام في الإسلام، فالأحكام الدينية هي أحكام سياسية، والأحكام السياسية لا مشروعية لها إن خالفت الأحكام الدينية، فتصور الحكم الديني منعزلاً عن الحكم السياسي هي رؤية علمانية لا علاقة لها بالشريعة[21].

    فحين يقول إن تطبيق الشريعة واجب ديناً، لكنه يحتاج لمشروعية سياسية، فهو يتحدث عبر منطق مختلف عن الشريعة، فوجوب تطبيق الشريعة هو تطبيقها سياسياً وتغيير أي مخالفة لها ورفض أي قرار ينافيها، وهذه كلها أحكام سياسية، أما مجرد الاعتقاد بوجوب التطبيق من دون تطبيق أي شيء، فهذا ليس هو الواجب ديانة، بل إن الخلاف مع الفكر العلماني إنما هو في تطبيق الشريعة وليس في اعتقاد تطبيقها، والأمر القرآني جاء في تطبيق الشريعة وليس في مجرد الاعتقاد {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤].

    مناقشة الأصل التلفيقي الثالث:


    يقول هذا الأصل: إن سيادة الأمة هي الوسيلة الممكنة لتطبيق الشريعة في العصر الحاضر.

    والخلل هنا أنه يقرر أن السيادة وسيلة إلى تطبيق الشريعة، وهذا يعني أنه مراعاة لظرف زمني معين، بينما حقيقة الرأي تقوم على تأصيل كلي لا يرتبط بضرورة أو حالة معينة.

    فهم يتحدثون أن الشريعة لا إكراه فيها، وأن المشروعية السياسية بحاجة لمشروعية دينية، ثم يرجعون فيفسرون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بما يتفق مع هذه الرؤية، فتقريرهم قائم على اعتبار (سيادة الأمة) أصلاً كلياً، والاستدلال هنا قائم على اعتبار أنها ظرف زمني معين!

    فليس محل الخلاف أن يشارك الإسلاميون في النظم التي لا تتخذ الشريعة مرجعية لها في سبيل أن يصلوا من خلال هذا إلى جعل السيادة للشريعة، إنما الخلاف في الأصل الكلي القائم على جعل المشروعية للأمة ولا حكم للشريعة إلا من خلالها مطلقاً، وليس لأجل ظرف زمني معين.

    فهو يعتذر بأنه مضطر لأجل واقع، بينما كلامه تأصيل كلي دائم، تماماً لو أن شخصاً شارك في بنك ربوي لأجل مصلحة راجحة ثم صار بعد ذلك يقول إن الربا حلال لأن لا فرق بينه وبين البيع والله تعالى يقول {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32]!

    فكما أن بعض الإسلاميين يشارك في بعض النظم العلمانية لأجل الإصلاح، فهذا لا يجيز له أن يقول بأن الشريعة جاءت بفصل الدين عن الدولة؛ لأنه هو الممكن في تلك المرحلة! ولا يمكن أن يقال إن الخلاف بين (الإسلامي) الذي يشارك في نظام علماني و(العلماني) الذي يرى فصل الدين عن الدولة؛ خلاف لفظي!

    مناقشة الأصل التلفيقي الرابع:


    أن أحكام الشريعة لا تطبق إلا عبر الناس، وهم أضمن للشريعة.

    وهنا حديث في البدهيات، فلا شك أن كل الأفكار والاتجاهات لا تطبق إلا من خلال الناس، هذه بدهية لا معنى للنقاش حولها، بل حتى الاستبداد والظلم يطبق من خلال الناس، فالخلاف هنا خلاف في (المشروعية) وليس في (التنفيذ) أو (الوجود).

    فعامة الباحثين في الفكر الإسلامي يقول إن سيادة الأمة سيادة تنفيذ، ولا إشكال، الخلل هنا أنهم جعلوها سيادة تشريع يمكن أن تشرع ما يخالف الشريعة، ولا تكون الشريعة نافذة إلا بعد رضاهم.

    وكونهم أضمن للشريعة، يعني أنهم يتحدثون عن (تنفيذ)، بينما الخلاف في (التشريع).

    حكم الفرد أم حكم الأكثرية؟

    ويأتي هنا عادة المقارنة بين حكم الفرد وحكم الأكثرية، فيقول كما أنكم تقبلون بحكم الفرد ولو خالف الشريعة، فكذلك نحن هنا نقبل بحكم الأكثرية إن خالفت الشريعة.

    وحقيقة هذا السؤال يكشف لك الإشكال بدقة.

    فالمتغلب الفرد إن خالف الشريعة فلا مشروعية لمخالفته ولا يجوز طاعته، وأي قرار يصدر منه مخالف للشرع فلا اعتبار له.

    بينما هم هنا يقولون إن الأكثرية حين تخالف الشريعة فهذا من حقها، ولها مشروعيتها، ولا مشروعية إلا من خلالها.

    وهنا يظهر أن إرادة الأكثرية حسب هذا المفهوم تأتي في معارضة الشريعة وليس في معارضة الفرد، لأنها تعطي الأكثرية صلاحية مخالفة الشريعة.. نعم، لو قالوا إن الأكثرية مقيدة بالشريعة – كما هو قول عامة الباحثين - لما كان ثم نزاع، ولأصبحت الأكثرية في مقابل الفرد، أما إن أعطيتها صلاحية تجاوز الشريعة فالأكثرية هنا صارت مرجعية في مقابل مرجعية.

    السؤال المركزي:

    من الأسئلة المركزية هنا: ماذا لو اختار الناس غير الإسلام؟

    وفائدة هذا السؤال أنه يكشف المرجعية العليا لمن؟ هل هي للأكثرية أم للشريعة؟ تماماً كبقية الأسئلة التي تورد على الأفكار والاتجاهات لكشف مضامينها وحقائقها.

    يتحاشى كثير منهم الجواب عنه ويقول الناس سيختارون الإسلام فلا معنى للخوف من اختيار غير الإسلام، وهذه صورة افتراضية جدلية.

    حسناً، ولماذا الخوف من التصريح بأنه لا اعتبار لهم إن خالفوا الإسلام؟

    لماذا التهرب من الإجابة عن هذا السؤال ما دام أنه غير متصور ومجرد فرضية؟

    بكل وضوح، لأن هذا السؤال يكشف حقيقة التشريع، هل هو للشعب أم للإسلام؟

    فلو قال سيحكم بالإسلام – ولو كانت مسألة افتراضية - فهو قد أسقط مرجعية سيادة الأمة، ونموذج التلفيق يقتضي أن يحافظ على هذه السيادة كما هي.

    فالقول بأن المشروعية للشريعة، ليس مثل القول بأن المشروعية للناس وهم سيختارون الشريعة، فأنت حين تجعلها للناس تجعل أحكام الشريعة غير ملزمة إلا بعد اختيار الأكثرية، كما أن اختيار الأكثرية لو خالف الإسلام فله مشروعيته، وكل هذا ينافي قطعيات الشريعة.

    والقول بأن هذا لا يمكن مغالطة واضحة بعيدة تماماً عن فهم واقع النظم المعاصرة.

    فالتصويت لن يجري على طريقة أن يدخل شخص على مجلس فيقول: (هل تريدون الإسلام)؟ بل هو مواد قانونية دقيقة في دستور عام، وتعتمد على النشاط الإعلامي والقدرات التأثيرية على الناس، فمن الممكن جداً أن يتم تجاوز الشريعة من خلالها، فلماذا الهرب عن الجواب؟

    ثم إن من يقول إن الناس لن يختاروا إلا الإسلام، لا يتفطن إلى أنه يفكر من حيث لا يشعر في واقع نظام سياسي غير إسلامي، لأن هذا معناه أن النظام يكفل للناس المطالبة بتغيير الشريعة، ولهم حق التعبير عن الرأي ضد الإسلام، وتكوين الأحزاب وتأليب الرأي العام والحشد الإعلامي الذي يشكك في الإسلام ويطالب بتغيير أحكامه، ثم بعد هذا كله يكفل لهم إمكانية تغيره، ثم يكفل التصويت من أجله، ثم بعد هذا ينظر في النتيجة.

    فصاحب هذا الكلام قفز على كل هذه المقدمات التي تناقض الإسلام مناقضة قطعية، وظن أنه قد أنهى الإشكال لما جزم أن الناس لا يختارون غير الإسلام.

    والقصة أن هذه الصورة يوردها رافضو الديمقراطية الليبرالية لإثبات منافاتها للنظام السياسي الإسلامي، والجواب الصحيح أن يقول من يدافع عن الديمقراطية بأنها لن تكون بهذه الصورة ما دامت ديمقراطية إسلامية كما يرون، لا أن يتعامل معها وكأنها من المسلمات، ويجعل الإشكالية فقط في كفة الأصوات الأكثر.

    الغفلة عن هذه المقدمات المهمة تجعل الشخص يتوهم أن الإشكال فقط في التعامل مع نتيجة الانتخابات! بل ما عاد هذا إشكالاً عليها، بل هو من محاسنها وفضائلها!

    (لنفرض فرضاً أن شيئاً من هذه المخاوف قد وقع وظهر بديمقراطية حقيقية أن غالبية المسلمين في قطر من الأقطار قد اختاروا ما يتنافى مع الإسلام وما يعد خروجاً عن الإسلام، فهل العيب في الديمقراطية أم العيب في الواقع القائم؟ فليست الديمقراطية هي التي أتتنا بهذا العيب، وإنما الديمقراطية كشفت لنا هذا العيب، فهذا سبب لشكر الديمقراطية والتمسك بها وليس سبباً لرفضها والقدح فيها واتهامها)[22].

    سيادة الشريعة أم سيادة الليبرالية؟


    من البدهيات في النظم السياسية المعاصرة أنه ليس هناك إرادة مطلقة للأكثرية، فلها صلاحية واسعة لكنها في النهاية محددة بقائمة من الحقوق لا يمكن أن تتجاوزها، فلا يمكن للأكثرية أن تنتهك أي حق من الحقوق المتفق عليها دولياً، ولا يمكنها أن تعتدي على أي حق من حقوق الأقلية أو تضيق عليها فيه، فهذه الحقوق هي من المبادئ فوق الدستورية التي لا يمكن التعرض لها وليست هي محلاً للتصويت.

    محل الخلاف مع أصحاب هذا الاتجاه أنه يقبل بهذه الحقوق والحدود ويرفض أن تكون (حاكمية الشريعة) ضمن هذه الحدود، فالشريعة لا بد لها من التصويت ولا يمكن أن تحكم من دون تصويت، ولا يمكن أن تكون مبدأ فوق دستوري، وأما الحدود التي وضعتها (الليبرالية المعاصرة) فهي حدود فوق دستورية ولا يمكن للأكثرية أن تتعرض لها.

    أرأيتم؟ فالحقيقة أن الخلاف ليس بين (سيادة الشريعة) و(سيادة الأمة)؛ لأن الأمة في النهاية سيادتها مقيدة وتعمل في إطار معين.. الخلاف هو بين (سيادة الليبرالية) على الأمة أو (سيادة الشريعة) على الأمة، فلا إشكال في القبول بقيود الليبرالية، وأما قيود الإسلام فيقف دونها ألف إشكال؟

    فحين يتحدثون عن (مسار تعاقدي) للأمة لا يمكن فرض أي شيء عليها، وإلا فهو تغلب واعتداء عليها؛ لا يتحدثون عن مسار مفتوح تفعل الأمة ما تشاء، بل هو مسار محكوم بإطار وحقوق وأعراف شائعة لا يمكن أن تتجاوزها، ومع هذا هو راضٍ خاضع مقر بكل ما فيها من حدود، وإنما تتحرك فقط في وجه حكم الشريعة، ثم يظن أن الخلاف ربما يكون لفظياً أو من مساغات الاجتهاد!

    ستعرف فداحة هذا الخلاف بأن تقارن الحكم بقطعيات الشريعة مع الحكم بحالة هامشية من الحقوق التي تقرها النظم المعاصرة، فالشريعة لا بد لها من تصويت واختيار ولا مشروعية لها إلا من خلاله وتسقط من خلاله، وأما هذا الحق الهامشي فلا يصوت عليه ولا يتعرض له لأنه من الحقوق الطبيعية، وجرب بنفسك فاسأل أصحاب هذا الاتجاه عن أقل حد من التضييق لأي حق هامشي وانتظر جوابهم!

    لهذا حين يقال: لا أحد يفرض شيئاً على (سيادة الأمة) و(حرياتها) و(قرارها)... إلخ، فهو لا يتحدث عن حرية وسيادة مطلقة، بل يتحدث عنها وهو مدرك أنها محكومة بـ (إطار ليبرالي) لا يمكن أن تتجاوزه، ولا يريدك أن تدخل فيه المكون الأساسي والتاريخي للأمة الإسلامية (الشريعة)، فالنزاع حينها ليس مع سيادة الأمة وحرياتها وقرارها، بل مع مفهوم هذه السيادة.

    مصدر الخلل:


    ماذا لو قالوا: السيادة للشريعة ولا مشروعية لما يخالفها.

    ما الذي يدفعهم لكل هذه الإشكالات؟ خاصة مع قناعتهم بوجوب تطبيق الشريعة، ومخالفتهم للتيار العلماني في لزوم أحكام الإسلام.

    التفسير الأقرب لها هو (إشكالية التلفيق والخضوع للمفاهيم الحداثية المعاصرة).

    فحين يأتي الشخص لمفهوم حداثي معين له فلسفته وسياقاته، ويريد إعماله كما هو، فإنه سيقع في إشكالات كثيرة، وكل ما ورد في هذه المقالة هو نموذج تطبيقي لأحد هذه المفاهيم.

    سطوة هذه المفاهيم على بعض العقول هي التي دعت أهل البصيرة من باحثي الفكر الإسلامي المعاصر إلى ضرورة الحذر في تقبل هذه المفاهيم، يقول محمد أسد ناصحاً: (إننا عندما نتحدث عن إرادة الشعب في حدود مفهوم الفكر السياسي في الإسلام، لا بد لنا من أن نفكر بحذر شديد كيلا نقع في الخطأ فنكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أي أننا يجب أن نحرص على ألا نحل محل الاستبداد الغريب عن الإسلام الذي حكمنا خلال القرون الماضية نظاماً لا صلة له هو الآخر بالإسلام، لأنه يدعو لسيادة مطلقة للشعب)[23].

    فخلل هذه المفاهيم لا يزول بمجرد تغيير المصطلحات:


    فـ (لا يكفي إذن لإصلاح الديمقراطية أن نغير اسمها ونصفها بأنها شورى، بل لا بد من أن تقوم على الأسس الشرعية للشورى الإسلامية، وأول هذه الأسس التزامها بمبادئ الشريعة الإسلامية وعدم فصلها عنها)[24].

    فالمطلوب من الباحث أن يفهم الإسلام كما هو لا أن يسعى لتجميله وتحسين صورته:

    (وما درى هؤلاء أنهم يشوهون الإسلام لأنه لا بد لهم في محاولتهم هذه أن يميلوا إلى التصنع والتأويل حتى تتم لهم تلك المحاولات.

    ومن هنا يأتي التحريف والتزييف والوقوع في الزلل والأخطاء في الإسلام ونظمه، وتغليف جوهره الصافي بسحابات الضباب والأفكار الغربية.

    ولما كانت النظريات ليست في غالبها إلا مجرد انعكاسات للفلسفة التي يقوم عليها النظام السياسي الذي ظهرت في ظله أو انعكاساً لواقع هذه النظم ذاتها، فإن محاولة الباحثين في الإسلام لتفسير النظم السياسية الإسلامية على هدى تلك النظريات لن يجرنا إلى أخطاء في التطبيق، وإنما إلى أخطاء فادحة في منهج البحث والدراسة.

    فإن لكل نظام فلسفته وتاريخه ونظمه، والإسلام يستقل استقلالاً تاماً عن كل النظم وإن تشابه من وجه أو آخر مع بعضها أو في أجزاء منها، لكنه يظل متفرداً من حيث ذاتيته وأساسه الاعتقادي على وجه الخصوص، ولا يصح أن نفسر أي نظام من نظمه إلا على ضوء أسسه الفكرية الخاصة)[25].

    والتلفيق حالة من الوهن تحتاج لمثل هذه العزة والثقة:


    (دفعهم حماسهم للإسلام إلى أن يثبتوا فيه بغير دراسة متعمقة كل ما يرونه قد راج في أسواق العالم المتحضر، متوهمين أن في ذلك خدمة جليلة للإسلام، فكأنه في أعينهم طفل يتيم ذليل لا يعيش إلا إذا جعل تحت رعاية رجل ذي جاه ونفوذ، أو هم يخافون أن لا تكون لهم عزة من حيث كونهم مسلمين ولا ينالون من الشرف شيئاً إلا إذا أخرجوا للناس مبادئ وأصولاً من دينهم مثل مبادئ النظم السائدة في عصرهم.

    فإذا راجت الديمقراطية كان الإسلام ديمقراطياً، وإذا راجت الاشتراكية كان الإسلام اشتراكياً، وإذا راجت نظرية سيادة الأمة كانت هذه النظرية من نظريات الإسلام)[26].

    حينها لن يقع في مرض الخوف من: (أن يعاب على التفكير الفقهي الإسلامي أنه لا يوجد به مكان لكل نظرية سياسية أو دستورية قديمة أو حديثة)[27].

    هي جاذبية إعلامية.. ولكن؟


    حين تتحدث في الإعلام بلغة: إن الشعوب قد تحررت ونالت سيادتها كاملة، فلا يمكن فرض أي شيء عليها، فمن حقها اختيار أي منظومة تريدها، وإن اختارت الإسلام فهذا من حقها، وإن رفضته فهذا من حقها، والإسلام يكفل الحريات كاملة... إلخ.

    هو حديث له جاذبية، ويثير مكامن الرضا والاستحسان في وجوه فئات مختلفة لا تزال تحمل عداءً للمشروع الإسلامي، وسيريح المتحدث مزاجه من مسائل وإشكالات كثيرة تحاصر الإسلاميين، كما أنه هو الممكن في عددٍ من البلاد الإسلامية.

    لكنه في الحقيقة قلمٌ يجري على أحكام الشريعة بالتعديل والتغيير، ويجترئ على الله، فيجعل مراد الله تابعاً لما هو ممكن في الواقع، ويوجه الأحكام بحسب المتاح، ويكون السياق الإعلامي المناسب هو المعيار الذي يحدد تفاصيل الأحكام الشرعية!

    :: مجلة البيان العدد 304 ذو الحجة 1433هـ،أكتوبر-نوفمبر 2012م.

    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty سؤال السيادة في الفكر الإسلامي المعاصر

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:06



    سؤال السيادة في الفكر الإسلامي المعاصر
    فهد بن صالح العجلان
    TD< tr>


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    لمن السيادة في الدولة الإسلامية؟


    يعدُّ هذا السؤال من أشهر الأسئلة المثارة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ومنذ عشرات السنين ولا تزال الدراسات المعاصرة تجيب عن هذا السؤال، وبإمكان المستقرئ لهذه الدراسات أن يستخرج مادة علمية واسعة، وليس هذا كثيراً على هذه القضية، فهي من القضايا المركزية في الفكر السياسي، بل هي الأساس لمعرفة غاية النظام السياسي، وأساس المشروعية فيه، والقبلة التي تتجه إليها القوانين كافة في المجتمع.

    لم يكن لهذا السؤال حضور في التراث الإسلامي بسبب أنه أثير بعد شيوع مفاهيم الفكر السياسي الغربي، حيث إن السيادة تعني السلطة العليا التي لها حق إصدار القوانين وإلزام الناس بها جميعاً من دون أن تكون مقيدة بشيء ولا أن تستمد مشروعيتها من أحد، فهي سلطة واحدة مطلقة مقدسة[1].

    وقد نشأت فكرة السيادة نتيجة الصراع الذي جرى في القرن السادس عشر الميلادي في فرنسا بين الملوك من جهة، والإقطاعيين والباباوات من جهة أخرى، فكانت هذه النظرية سنداً فكرياً للملوك لفرض سيطرتهم الداخلية ضد الأمراء الإقطاعيين، ولفرض سيطرتهم الخارجية ضد الإمبراطور والبابا، وإذا كانت الكنيسة تتمتع بنظرية الحق الإلهي لشرعنة طاعتها وخضوع الناس لها، فإن الملوك اتخذوا نظرية السيادة سنداً شرعياً لفرض طاعتهم، حيث صار الانضواء تحت الملك في تلك الحقبة عند عدد من الفلاسفة طوق نجاة للخلاص من التشرذم والانقسام الذي أحدثته الحروب الدينية، ثم تحولت السيادة بعد ذلك فانتقلت من الملك إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية[2].

    لهذا؛ ذهب عدد من المعاصرين إلى عدم الحاجة إلى طرح هذا السؤال في الفكر السياسي الإسلامي، فهو نشأ في ظل ظرف تاريخي واجتماعي مختلف، وبغرض تحقيق هدف معين، ولهذا فلا معنى لتكرار إعادة السؤال بعد انتهاء الحاجة منه في ظل مجتمع إسلامي لا يعاني إشكالية الإقطاع ولا إشكالية السلطة الدينية التي كانت تسود التاريخ الأوروبي[3]، خصوصاً (أن النظرية الإسلامية لا تعرف مثل هذه السلطة المطلقة، وإنما السلطة طبقاً لها ترد عليها قيود مهمة)[4].. فالشريعة إنما عرفت السلطة والسلطان، أما السيادة بهذا المعنى فـ (إن الاعتراف بالسيادة لأي جهة إنسانية فكرة بعيدة عن الإسلام)[5].

    ومع دقة هذا الكلام وعمق نظرته، إلا أن أكثر المعاصرين فضلوا الإجابة عن هذا السؤال، والنظر في مضمونه وحقيقته، والبحث عن إجابةٍ شافيةٍ له؛ بحسب ما يعرفون من أصول الفكر السياسي الإسلامي وقواعده.

    ومن خلال تتبّع أجوبة المعاصرين نجدها تنحصر في ثلاثة اتجاهات رئيسية:


    السيادة لله أو للشريعة، السيادة للأمة، والسيادة مزدوجة.

    الاتجاه الأول:


    أن السيادة في الدولة الإسلامية لله أو للشريعة الإسلامية.

    وقد ذهب إلى هذه الرؤية عدد غفير من المعاصرين، فمن أقوالهم مثلاً:

    قال د. عبد الحكيم العيلي في الحريات العامة ص 215: (ومضمون ذلك التفرقة بين السيادة وبين سلطة الحكم، فالسيادة بيد الله وحده، أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة).

    وقال د. فؤاد النادي في نظرية الدولة في الفقه السياسي الإسلامي ص 410: (ذلك يؤدي إلى عدم تردّدنا في نقض القول بأن الأمة الإسلامية هي صاحبة السيادة، وأنها منبع ومصدر السلطات في الدولة الإسلامية، ولا يخفف من هذه النتيجة – وهي رفض رأي أن الأمة صاحبة السيادة ومصدرها - القول بأن هذه السيادة ترتبط بما قرره الشارع، بحيث تعد القواعد الشرعية الحدود الطبيعية التي لا يجوز لها أن تتخطاها؛ ذلك أن مثل هذا القول ينفي عن الأمة بداهة أنها صاحبة السيادة طالما أنها لا تستطيع بمقتضى إرادتها العليا أن تضع قانوناً ملزماً أو تقرر أمراً يخرج عن نطاق ما رسمه الشارع).

    وقال د. صبحي عبده سعيد في شرعية السلطة والنظام في حكم الإسلام ص 69: (لا محل ولا مجال في ظل الإسلام ونظام الحكم فيه، أن تثار مسألة السيادة لمن تكون في المجتمع؛ لأن هذه السيادة تنعقد لله وحده ولا يجترئ إنسان أن ينازعه هذا الاختصاص).

    وقال الأستاذ محمد أسد في نظام الحكم في الإسلام ص 81: (أما الدولة الإسلامية ولو قامت كنتيجة لإرادة الشعب فظلت خاضعة لإشرافه؛ فإنما تستمد سيادتها من قبل الله، فإذا سادت وفق الشروط الشرعية فلها على رعاياها حق الطاعة والولاء).

    وعدد غفير من الباحثين غيرهم[6].

    الاتجاه الثاني:

    أن السيادة أو مصدر السلطات هو للأمة، ومن أقوالهم هنا:

    قال د. محمد ضياء الدين الريس في الإسلام والخلافة في العصر الحديث ص 211: (فهي التي تقوم على الشورى في مبدئها في سيرها وقانونها، شرع الإسلام والحاكم ليس إلا منفذاً للشريعة، والأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات).

    وقال د. قحطان الدوري في الشورى بين النظرية والتطبيق ص 102: (الأمة هي صاحبة السلطة العليا في البلاد، فهي الموجب الأول في العقد للإمام ولأعضاء مجلس الشورى، وهؤلاء هم الذي يمثلونها وينطقون باسمها، وهم الذين يسنون القوانين على ضوء ما جاءت به الشريعة، ويسوسون الناس بما يرضي الله ورسوله، والأمة مشرفة عليهم ومراقبة لأعمالهم تعدّل الزيغ وتقوّم المعوج).

    وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي في حقيقة الإسلام وأصول الحكم ص 24: (ومن هنا تعلم أن المسلمين بعد وفاته # ومبايعتهم أبا بكر على الوجه الذي حصل؛ كانوا أول من سنّ أن الأمة مصدر جميع السلطات، وأنها هي التي تختار من يحكمها بدين الإسلام، وشريعة الإسلام هي القانون الإلهي الذي وضع ذلك وجعله متبعاً في كل إمام وخليفة).

    وغيرهم[7].

    أما الاتجاه الثالث
    فهو محاولة للتوفيق بين الرأيين والجمع بين الاتجاهين، فجعل هناك سيادة لله وسيادة للأمة في الوقت نفسه[8].

    حقيقة الخلاف بين هذه الاتجاهات:


    لن تجد عناءً حين تفحص هذه الاتجاهات لتصل إلى نتيجة ترى أنها متفقة في المضمون وإن اختلفت في الصياغة، فليس ثم خلاف حقيقي بين هذه الاتجاهات، فهي تتفق جميعاً على أن للأمة سلطة في اختيار الحكومة التي تتولى أمرها، ولها سلطة على مراقبتها ومحاسبتها وخلعها، وليس لأحد أن يفرض على الأمة ما لا تريد، غير أن هذه السلطة والسيادة مقيدة بحدود الشريعة الإسلامية، فلا تستطيع أن تخالفها، ولا مشروعية لهذه المخالفة، فهذه السيادة محكومة قانوناً بسيادة وسلطة أعلى منها.

    فهذه صورة المسألة عند الاتجاهات الثلاثة جميعاً، فمن قال السيادة لله قصد أن التشريع والطاعة المطلقة لله، وأما الأمة فلها السلطان والحكم فيما لا يعارض الشريعة. ومن قال إن السيادة للأمة فيعني أن لها الاختيار فيما لا يتعارض مع الشريعة، فالمضمون متفق عليه والخلاف بينهما في تحديد مصطلح السيادة على أي شيء يكون؟ فهو خلاف في تنزيل مصطلح السيادة لا غير.

    فقد (تناول الفكر الإسلامي المعاصر هذه المسألة فظهرت ثلاث نظريات، الأولى وترى أن السيادة للتشريع الإلهي، والثانية ترى أن السيادة للأمة، والثالثة أطلق عليها نظرية ازدواج السلطة تقودنا جميعاً إلى سيادة للأمة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة وهي سيادة التشريع المنزل من عند الله)[9].

    وقد نبه إلى كون الخلاف لفظياً عدد من الباحثين[10].

    وما دام أن الخلاف اصطلاحي، فهو مما يتوسع فيه، لهذا فـ (إذا أراد علماؤنا أن يصطلحوا على مفهوم جديد للسيادة لا يعرف الإطلاق ولا الأصالة ولا التفرد... إلخ ما عرف من السيادة في الفكر الغربي، فلا مشاحة في الاصطلاح، ويقال سيادة مقيدة بأحكام الشرع أو سيادة محكومة بضوابط الشريعة)[11].

    فما دام أن ثم اتفاقاً على المضمون، فإن من يقرر بأن السيادة للشريعة لا يعارض - في واقع الأمر - من يقول بأن السيادة للأمة، فهو يقول: (إذا كان لا بد من نسبة السيادة إلى جماعة أو هيئة من البشر فلا بد من التأكيد على أنها سيادة نسبية محدودة بحدود الشريعة الإلهية)[12].

    السيادة للشرع والسلطان للأمة:


    وهذه صياغة معاصرة تجمع الاتجاهات جميعاً، فهي عبارة محكمة توضح أن السلطة والحكم بيد الأمة، لكنها مقيدة بالسيادة والتشريع الإلهي فلا تتعداه، فحق الأمة في السلطة لا في السيادة؛ لأنها محكومة، لهذا تجد الحديث عن الحكم والاختيار والسلطة والشورى والبيعة والنظام والحرية والرضا، يقرن عند المؤلفين المعاصرين بأنه تحت شرع الله.

    (فلا تعتبر البيعة شرعاً إلا برضا المسلمين ومشورتهم واتفاق غالبيتهم؛ لأنها ابتداءً حق من حقوق الأمة الإسلامية ترك الشرع لها اختيار من تريد أن يحكمها بالشرع)[13].

    (ليس من شك في أن الأمة هي المكلفة برعاية ذلك وتنفيذه، ولهذا يجب أن يكون سلطانها مطلقاً وسيادتها على بنيها عامة غير مقيدة ولا محدودة إلا بما قيدها الله به وحدده لها)[14].

    (السلطة في النظام الإسلامي تخضع لقانون هو شريعة عامة لا يملك الحكام مخالفتها ولا تملك الأمة ذاتها تعديلها أو تبديلها، وبذلك كانت الدولة الإسلامية التي أقيمت في القرن السابع الميلادي أول دولة قانونية دستورية بالمعنى الصحيح)[15].

    (وإنما السلطة للأمة تعطيها لجماعة بقيود، فليست سلطة مطلقة، وإنما مقيدة بقيود مهمة شرعية ورقابية وتأهيلية)[16].

    (لا يستطيع الشعب تبديل وتعديل هذه القواعد؛ لأنها ليست من صنعه، وإن كان قد ارتضى الخضوع لها والإيمان بها)[17].

    فالأحكام الشرعية قيود قانونية لسلطة الأمة لا تملك الخروج عنها ولا تجاوزها؛ لأن سلطتها مقيدة بسلطة شرعية أعلى منها.

    حقيقة سيادة الأمة:


    فحقيقة سيادة الأمة التي تتفق عليها الاتجاهات جميعاً، أنها سيادة تنفيذ للشرع، وليست سيادة تعلو عليها أو تنافسها أو تتخذ بديلة عنها:

    (أساس حق الأمة في الاختيار يكمن في كونها هي المخاطبة أصلاً بتنفيذ الشرع، ولتعذر قيامها بهذا الواجب بصورتها الجماعية فإنها تنيب من يقوم بهذا التنفيذ نيابة عنها وتحت إشرافها ليقوم بتنفيذ ما هي مكلفة به شرعاً)[18].

    (هذه المسؤولية الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة تقتضي أن يكون السلطان من حق الجماعة نفسها لتستعين به على تنفيذ ما هي مسؤولة عنه، وهو تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها وفق هذه الأحكام)[19].

    (رضاها أساس في صحة الولاية العامة، فمصدر سلطة الحاكم الأعلى في الدولة مستمدة من الشورى السياسية هذه أو الانتخاب الحر، ونعني بالسلطة هنا سلطة تنفيذ شرع الله فيهم بما يستلزم ذلك من الاجتهاد التشريعي فيما لا نص فيه بالتفريع على مبادئه والمصالح الجدية الحقيقية المعتبرة)[20].

    ومن يملك سيادة التنفيذ يملك التفويض، فالسلطة عقد تفوض الأمة فيه من يحكمها بالشرع، فـ: (اختيار الخليفة من هذا الوجه يؤكد أن الخلافة ليست إلا عقد نيابة يتم بين الجماعة والخليفة، فتوكل الجماعة إلى الخليفة أن يقوم فيها بأمر الله وأن يدير شؤونها في حدود ما أنزل الله، ويقبل الخليفة أن يقوم بالأمر في الجماعة طبقاً لما أمر الله)[21].

    فهي المخاطبة بالشريعة: (إن أساس حق الأمة في انتخاب الخليفة لأنها هي المخاطبة في القرآن لتنفيذ أحكام الشرع وإقامة المجتمع السليم ونشر الإسلام في الآفاق، فالأمة إذاً مطالبة باختيار الحاكم من تحديد مسؤوليتها عن تنفيذ أحكام الإسلام، وهذه السلطة أوكلها إليها الشارع ثم كلفها أن تختار خليفة عنها ليقوم عنها بمباشرة السلطة في تنفيذ ما هي مكلفة به)[22].

    (إذا كان الله سبحانه وتعالى هو أساس السلطة ومنبعها، فإن السلطة لا تستبد بأمرها طبقة مخصوصة، بل هي بأيدي عامة المسلمين، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية، فالإسلام يتيح حاكمية شعبية مقيدة تعمل في حدود السيادة الإلهية ونطاقها)[23].

    (الحاكم نائب عن الأمة في تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى الذي اختارته وهي التي تملك عزله، وهي التي وكل إليها تقويمه إذا حاد وتسديده إذا أخطأ)[24].

    (البيعة عقد، ثم إن هذا العقد وكالة، فالوكيل فيه هو الإمام؛ لأن الناس يفوضون إليه وظيفة رعاية شؤونهم والنظر فيها بما يحقق مصالحهم على وفق ما جاء به الشرع)[25].

    وهذا يعني أن سيادة الأمة سيادة مقيّدة:

    (نادى القرآن بالحكم المقيد بأمر الله والمحكوم المنظوم بالشرعة الاجتماعية والأخلاقية، وأناط الرقابة على كل منهما لسلطة الأمة الشورية)[26].

    (والحاكمية ليست مقيدة لسلطة الدولة فقط، بل لسلطة الأغلبية في النظام الديمقراطي)[27].

    (لأن الحاكم والمحكومين فيها مقيدون بفكرة معينة وبمجموعة من القيم الخلقية والتشريعية التي تكوّن إطاراً قانونياً ملزماً للجماعة بأسرها، ما جعلهم يطلقون عليها المبادئ فوق الدستورية)[28].

    (أما عن حدود سيادة الدولة أو سيادة مجموع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية، فهي الحدود التي فرضتها الشريعة الإسلامية، وللأمة أن تضع أنظمتها وقوانينها في حدود هذه السيادة)[29].

    (السلطة في الدولة الإسلامية إن كانت تستمد مشروعيتها وأساس وجودها من رضا الشعب واختياره وتوكيله إياها بالسهر على شؤونه، إلا أنها مقيدة بأن تحكم بما أنزل الله)[30].

    (سياسة الدولة الإسلامية سياسة مقيدة بحكم الشريعة الإسلامية، ذلك التقييد الذي لا يؤدي إلى تعطيل نص أو الخروج عليه أو مجافاة قاعدة من القواعد الإسلامية)[31].

    (وأما حدود سيادة الأمة أو سيادة مجموع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية، فهي القيود والحدود التي فرضتها الشريعة الإسلامية على ممارسة هذه السيادة، وليس للأمة مجتمعة أو متفرقة، متفقة مع رئيس الدولة أو مختلفة معه، ممثلة في هيئة تأسيسية أو غير ممثلة؛ أن تتصرف فيما جعله الله حقاً للأفراد أو واجباً على الأفراد أو الجماعات.. وللأمة الإسلامية أن تكيف نظمها وتضع القوانين والدساتير في حدود هذه السيادة)[32].

    (جعل سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية صاحبة السلطان في شؤونها ما دامت تستعمل ذلك السلطان في حدود الكتاب والسنة)[33].

    وإذا كانت سيادة مقيدة، فإن مخالفة الشريعة تفقد السيادة شرعيتها، فلا يكون لها اعتبار:


    (وبذلك تكون سيادة الأمة مقيدة بهذا التشريع الإلهي، فإذا تجاوزته فقدت مشروعيتها، وفي التحليل النهائي فإننا نجد أنفسنا أمام سيادة للأمة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة، وهي سيادة التشريع المنزل من عند الله)[34].

    (يعتبر الالتزام بتحقيق ذلك الهدف في الدولة الإسلامية هو الحد الأدنى اللازم لوجوب طاعة القائم على السلطة)[35].

    (فلا تستطيع السلطة الحاكمة تجاوز الحدود المقررة في كتاب الله وسنة رسول الله #، ولا يستطيع الأفراد أن يتواطؤوا أو يمالئوا حاكماً على إهدار أحكام الشريعة)[36].

    (البيعة المرادة بالشرع انتخاب حقيقي يعبر فيه الناس عن اختيارهم شخص الخليفة الذي سيتولى أمورهم، وطبيعي أن يلتزم المبايعون بالطاعة ما التزم الخليفة بأحكام الدين وتقيد بها)[37].

    (لا شرعية لتصرف يخالف كتاب الله أو سنته ولا ينسجم معهما)[38].

    (لقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذا الأصل، وهو مبدأ مشروعية ما يصدر عن الإمام من أوامر، وأنه لا بد لها أن تكون مشروعة غير مصادمة للكتاب والسنة، وإلا فقدت قيمتها ووجب رفضها وعدم تنفيذها)[39].

    السيادة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي:


    لقد كان الفكر السياسي المعاصر واعياً بالفرق الجذري بين مفهوم السيادة في الفكر الغربي ومفهومها في الفكر الإسلامي، فالقائلون بأن السيادة لله أو السيادة للأمة أو السيادة مزدوجة كانوا واعين بأن هذه السيادة – أياً كانت - تختلف جذرياً عن السيادة في الفكر الغربي؛ لأنها سيادة مقيدة ليست مطلقة، وسيادة تستمد شرعيتها من الشريعة وليست سامية ومستقلة عنها، لهذا عقدوا المقارنة بين مفهوم السيادة في الفكر الغربي ومفهومها في الفكر الإسلامي، فأظهروا الفروق الجذرية التي تكشف اختلاف السيادة في المنظومتين:

    1- مصدر السيادة
    (فمصدر السيادة في العقيدة هو الله.. وفي النظريات الغربية فمردها إلى الإرادة العامة للأمة)[40].

    (الديمقراطية تصدر عن فكرة أن الشعب سيد نفسه ليحكم نفسه بالمنهج الذي يراه مناسباً، وهذا مغاير للإسلام رأساً؛ لأنه قائم على التسليم لله وحده بسلطة التشريع)[41].

    (السيادة في الديمقراطية الغربية تعني أن إرادة الشعب هي العليا، وأنها في أمور السياسة والحكم والتشريع تبرم ما تشاء وتنتقض ما تشاء، لا يحدها في ذلك حد.. أما السيادة في الفكر السياسي الإسلامي فإنها محدودة من جانب واحد ومطلقة من الجانب الآخر، ففي الجانب الأول يحدها القرآن والسنة اللذان يعتبران من القواعد فوق الدستورية التي تلتزم السلطة التأسيسية باحترامها حين تضع الدستور)[42].

    في (حين أن الحكام في الديمقراطية الغربية بإمكانهم أن يفعلوا باسم الأمة ما يشاؤون؛ لأن إرادة الأمة لا تعلوها إرادة)[43].

    2- أن سلطة الأمة السياسية
    في الفكر الإسلامي تعمل في إطار الأحكام الإسلامية ولا اعتبار لها فيما خالف ذلك: (فالمبدأ الإسلامي يعمل في إطار الأحكام الإسلامية التي وردت بها النصوص الصحيحة الصريحة وما أجمعت عليه الأمة بحيث لا تتعارض مع ما يمكن أن يطلق عليه النظام العام للإسلام، ولو تعارض فهو مجرد رأي مبدد الأثر جملة وتفصيلاً)[44].

    (ومن ثم، فاجتهاد المسلمين إنما هو داخل هذه المقاييس، ولكن الديمقراطية تترك للبشر حرية وضع هذه المقاييس)[45].

    بخلاف سلطة الأمة في الفكر الغربي، فإنها سلطة مطلقة لا يحدها شيء من خارجها: (فإذا كانت سلطة الأمة لا تملك الخروج عن هذه النصوص ولا التعديل أو التبديل فيها ولا الزيادة أو النقصان منها ولا نسخها؛ فإنها بذلك تختلف اختلافاً جوهرياً عن سلطة الأمة في الديمقراطيات الغربية، فسلطة الأمة في هذه الديمقراطيات مطلقة، فالقرارات التي يصدرها المجلس الممثل لها تصبح قانوناً واجب النفاذ وتجب له الطاعة حتى إن جاءت مخالفة للقانون الأخلاقي أو متعارضة مع المصالح الإنسانية العليا)[46].

    (منطلق الأساس الفكري لمصطلح الديمقراطية يعطي أفراد المجتمع السياسي سلطات شبه مطلقة في رسم مناهج حياة الشعب في مدلولها الاجتماعي بالصورة التي يرضونها وعلى الطريقة التي يرونها دون حدود أو قيود إلا حدود الدستور، وحتى هذا الأخير يكون قابلاً للتغيير والتعديل.. أما في ظل الأساس الشرعي لمصطلح الشورى، فإن الجماعة السياسية تكون مقيدة في ثبوتها وفي دلالتها بالكتاب والسنة بما يتلاءم مع متغيرات الزمان والمكان)[47].

    وأقوال كثيرة عند المعاصرين تقرر هذا المعنى[48].

    3- صلاحية التشريع
    في النظم السياسية المعاصرة تتسع لكل شيء لا يعارض الدستور، بل لها تعديل الدستور نفسه: (في الزمن المعاصر فإن السلطة التشريعية بإمكانها أن تشرع ما تشاء من الأحكام فيما لا يتعارض مع الدستور، بل هي تملك عادة هذا التعديل في مواد الدستور طبقاً لإجراءات معينة، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر أن الهيئة التأسيسية في الأمة لها الحق في أن تضمّن الدستور ما تشاء من الأحكام، ومعنى هذا أن الدستور ذاته عرضة للتعديل جزئياً أثناء الحياة النيابية وكلياً عندما ترغب الأمة في إيقاف العمل بالدستور ليحل محله دستور جديد.

    وفي المقابل فإن القرآن الكريم دستور الأمة الإسلامية إذا صح التعبير، وكذلك السنة النبوية الصحيحة؛ كلاهما ثابت لا تغيير فيهما ولا تبديل)[49].

    (ولكنه ليس كالنظام الديمقراطي الحديث في أن الشعب يملك التشريع وتعديل النظام كيف يشاء)[50].

    (أما سلطة البرلمان فهي مشرعة الأبواب، فمن حقها التشريع المطلق في كافة المجالات، وكل نظام فهو قابل للتغيير والتبديل)[51].

    (أما سلطات المجلس النيابي في الديمقراطية المعاصرة فمطلقة، وإذا كان الدستور يقيدها، فإن الدستور نفسه قابل للتغيير، ولذلك يقال إن الأمة مصدر السلطات في الديمقراطية المعاصرة على الإطلاق، ولكن في الدولة الإسلامية فمصدر السلطات الكتاب والسنة النبوية، أي أن مصدر السلطة هو الشريعة الإسلامية، وإذا قلنا إن الأمة الإسلامية مصدر السلطات فنضيف إلى ذلك أنها مقيدة بنصوص الشريعة)[52]. وأقوال أخرى كثيرة[53].

    4- أن الدولة في الفكر الغربي
    تنشأ أولاً ثم تضع ما تشاء من القوانين، وأما في الفكر الإسلامي فهي إنما نشأت طبقاً لمبادئ القانون الإسلامي، (فالدولة تنشأ أولاً ثم يدور البحث في تكييف ما يلائمها، أما الدولة في الإسلام فإنها نشأت طبقاً لمبادئ القانون الإسلامي)[54].

    (المفهوم الإسلامي يخالف الديمقراطية في أساس وجودها، فالتشريع في الإسلام سابق على الأمة وعلى الدولة، وهو يحكمها بتشريعه الإلهي ولا تحكمه هي بتشريعها الوضعي)[55].

    لهذا فسيادة الأمة في الفكر الغربي قائمة على تهميش الدين، بخلاف السيادة في الإسلام:

    (تقوم الديمقراطية أساساً على مبدأ فصل الدين عن المجتمع، وولادتها جاءت بعد مفارقة الدين)[56].

    (كما أن هذه الديمقراطية تسعى لحكم الدنيا بقوانين وضعية على خلاف شرع الله، بمعنى أنها تسعى لتعديل حكم الله، أما نظام الحكم في الدولة الإسلامية فيسعى لحفظ الدين ونشره وحمايته وحكم الدنيا به)[57].

    فـ (معيار الصواب في ظل هذه الشرعية يتمثل في مدى تعبير المشرع عن إرادة الأمة ومدى تلبيته لأهوائها ورغائبها ومدى خضوعه لقاعدة دستورية القوانين)[58].

    الخلاصة:


    هذه الاتجاهات والمواقف ترسم لنا معالم رؤية واضحة في فهم وإدراك (السيادة)، وأن عامة المؤلفين في الفكر السياسي الإسلامي كانوا يسيرون على جادة بيّنة ومتماسكة في التمييز بين السيادة في الفكر الغربي والفكر الإسلامي، غير أن ضغط المفاهيم الغربية قد شتت الرؤية عند بعض الإسلاميين، وأربك خطواتهم، فأصبحت تسير في طرق متناقضة، تسير على جادة الفكر الإسلامي حيناً، وتأخذ من الفكر العَلماني شيئاً آخر، وهي قصة سنرسم ملامحها ونحكي تفاصيلها في المقالة القادمة بإذن الله.

    :: مجلة البيان العدد 303 ذو القعدة 1433هـ،سبتمبر 2012م.

    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty إيمان الأمة قبل تطبيق الشريعة

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:10



    إيمان الأمة قبل تطبيق الشريعة
    ردًا على نظرية:
    "سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة"

    فؤاد أبو الغيث

    TD< tr>

    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    يرى القائل بأن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة: أن تطبيق الشريعة بدون إرادة الأمة؛ لا يصح؛ لأن الإسلام قرر حرية الإنسان في الدين، ونفى الإكراه في الدين؛ ولذلك فإن المسار الصحيح لتطبيق الشريعة هو: أن تُبَيَّن الشريعة للأمة؛ فتقرّ بها غالبيتها؛ وبالتالي يتم تطبيق الشريعة؛ بناء على الإقرار بها.

    وهذا فيه خطآن:

    الخطأ الأول: اعتقاده: أن تطبيق الشريعة بدون إرادة الأمة؛ ينافي حرية الإنسان في الدين، التي قررها الله سبحانه وتعالى بقوله: (لا إكراه في الدين).

    وهذا خطأ؛ لأن الإكراه المنفي في قول الله تعالى: (لا إكراه في الدين) الإكراه على الدخول في الدين بمعنى الإيمان به، وتطبيق الشريعة على من لا يقر بها؛ هو إجراء أحكامها عليه، وليس إكراهه على الإقرار بها، كما تجرى على الذميين والمستأمنيين.

    يبين ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم (2/539): (تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب بحسب الإمكان؛ لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبه، ولم ينتقم ممن فعل ذلك؛ لم يكن الدين ظاهرًا، ولا كلمة الله عالية، وهذا كما
    يجب تطهيرها من الزناة والسراق وقطاع الطريق بحسب الإمكان، بخلاف تطهيرها من أصل الكفر؛ فإنه ليس بواجب، وجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة؛ ملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم؛ لا ينافي إظهار الدين، وعلو الكلمة، وإنما يجوز مهادنة الكافر، وأمانه؛ عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك).

    وهذا النص لم يورده صاحب كتاب"سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة" في كتابه؛ وهو (أي هذا النص) يجمع بين قول الله تعالى: (لا إكراه في الدين)، وقوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، ويبين معنى (إظهار دين الله) في قول شيخ الإسلام الذي أورده صاحب السيادة: (القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله) الفتاوى (28/354).

    فإظهار دين الله هو أن يكون الدين كله لله، وهو أن يُحكم بما أنزل الله على الناس كافة، ومن أهم المهمات في ذلك: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله تعالى، ومنع إظهار الكفر والشرك، ومعصية الله، وإقامة حد الزنا، والسرقة، والسحر، وشرب الخمر...

    فمن لم يلتزم جريان حكم الله عليه - ومن ذلك: أن لا يمنع الدعوة إلى دين الله = لابد إذا كانوا جماعة ذوي شوكة أن يقاتلوا من يريد إظهار دين بهذا المعنى، وصاحب السيادة وقف عند قول شيخ الإسلام: (القتال هو لمن يقاتلنا)، ولم يلق بالاً لمقتضى قوله: (إذا أردنا إظهار دين الله).

    كما أنه لم يورد قول شيخ الإسلام في الفتاوى (35/159): (وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين).

    وقوله في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/239): (ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين؛ فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعًا واختيارًا بغير سيف، لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات، ثم أظهره بالسيف، فإذا
    وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداءً ودفعًا؛ فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه، ابتداء ودفعًا، لمن يطعن فيه؛ بطريق الأولى والأحرى).

    والفرض والإجبار والقهر والإكراه قد يكون بحق، وقد يكون بباطل؛ فإذا كان بحق؛ لم يكن شرًا؛ كالإكراه على قضاء الديون التي يقدر على قضائها، وعلى أداء الأمانة التي يقدر على أدائها، وإعطاء النفقة الواجبة عليه التي يقدر على إعطائها، وشرب الدواء مع كراهته ...
    وقد أوردت هذا على صاحب السيادة في مقال" مصدر شرعية الحقيقة متضمن لفرض السلطة"، ولكنه لم يورده في القسم الذي عقده للرد على الاعتراضات الواردة عليه.

    الخطأ الثاني:
    اعتقاده بالتالي: أن المسار الصحيح لتطبيق الشريعة؛ هو: أن تبين الشريعة للأمة؛ فتقر بها غالبيتها؛ وبالتالي يتم تطبيق الشريعة؛ بناء على الإقرار بها.

    وهذا خطأ؛ لأنه لا يلزم لتطبيق الشريعة أن تقر بها غالبية الأمة، والشريعة ليس فيها هذا الشرط، بل إن فيها شروطًا؛ خالفها المسار الذي رسمه صاحب السيادة، ولم يلتزم بها؛ منها: منع الدعوة إلى ما يناقض الشريعة؛ فلا حرية فيما يناقض الشريعة، ومنها: فرض أن يقتصر تداول السلطة على من يقر بالشريعة؛ ولذلك يجب على من يشارك فيما يسمى "العملية الديمقراطية" أن يشترط أنه إذا وصل إلى الحكم: قَصْر تداول السلطة على من يقر بالشريعة؛ لأن من لا يلتزم بشريعة الله عز وجل كافر، وقد قال الله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).

    كما يشترط: منع الدعوة إلى ما يناقض الشريعة؛ لقول الله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض؛ لهدمت صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض؛ أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور).

    وإلا فلا يجوز أن يشارك فيما يسمى "العملية الديمقراطية" أو "اللعبة الديمقراطية"!! متنازلاً عن بعض ما أمر الله به؛ فهي تشبه ما روي في سبب نزول سورة الكافرون: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة) فجاء الوحي من الله تعالى أن: (قل: يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).

    والروايات في سبب نزول هذه السورة متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه.

    وقد صرَّح صاحب السيادة بأنه سيدافع عن هذا العقد الباطل (الديمقراطية) من يروم إبطاله وإزالته، وإظهار دين الله على الدين كله؛ بحجة أنه يدافع عن الحرية!!
    وأقر مبدأ الديمقراطية والعلمانية والمرجئة: أن الإيمان لا يستلزم العمل؛ حيث قرر (ص164) أن (الديمقراطية تقول للمؤمن: لست معنية بكون الشريعة لازمة في اعتقادك، فليكن كذلك، إنما أنا معنية بالكشف عن إرادتك أنت: هل تريد أن تلتزم بهذا الاعتقاد أو لا تريد؟).

    ولا يصح الاعتقاد (وهو الإيمان) إلا بالتزام الشريعة، فمن لم يلتزم حكم الله ورسوله؛ فهو كافر.

    واختيار الإسلام يلزم منه اختيار تطبيقه أو العمل به؛ فهذا ليس اختيارًا تاليًا منفكًا عن اختيار الإسلام، كما يفهم من كلام صاحب السيادة.

    وهو يصور المسار المقابل لمسار الديمقراطية - الذي يصفه بالمسار الصحيح والفضاء الأمثل لتطبيق الشريعة!! - بأنه عمل تنظيم سري ثم الانقلاب على النظام المخالف بالقوة، ويُمثِّل له بعمل الجماعات التي انحرفت في منهج الدعوة والتكفير والجهاد، ولا يعرض - في مقابل هذا وذاك - مسار الدعوة إلى الله على بصيرة؛ بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والتربية على دين الله، والصبر على المخالف إلا أن تصل مخالفته إلى الكفر البواح الذي فيه من الله برهان؛ فيُخْرج عليه؛ إذا توفرت القدرة العَددية - بفتح العين - من الرجال، والعُددية – بضم العين – المعنوية والمادية؛ من الصلاح والسلاح، ولم يترتب على الخروج عليه مفسدة أعظم من مصلحته.
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty على هامش حوارات نماء: المالكي والعبث الفكري

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:12



    على هامش حوارات نماء: المالكي والعبث الفكري

    عبد الوهاب بن عبد الله آل غظيف

    TD< tr>

    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    حينما تروّج لفكرة وتعيب على الآخرين عدم القناعة بها وتسخر منهم ، ثم إذا حانت ساعة المحاقة والمناظرة صرفت وجهك عن إقامة بنيانها ونقض ما يقابلها فجديتك مع فكرتك محل نظر، ومن العابثين بالأفكار ضرب ليس مناداته بالفكرة عبارة عن مزحة، لكنه في ذات الوقت لا يهمه إن كانت حقاً أو باطلاً تعرف ذلك حينما لا تراه يهتم بالحديث عن صلب فكرته !
    مناظرة غير متكافئة تلك التي جرت في برنامج (حوارات نماء) على قناة دليل حول سيادة الشريعة، بين فضيلة الشيخ د. بندر الشويقي والأستاذ عبدالله المالكي، ففي حين زانها الأول بعلمه ووضوحه ومعرفته نقطة الحوار وفيم سيتكلم، شانها الثاني بقلة فهم وتخبط وانصراف عن النقطة الرئيسة في الحوار إضافة إلى عدم انضباطه بقانون الحلقة وكثرة مقاطعته وهتافه الشعاراتي.
    لقد هرب المالكي إلى ثلاثة مناطق كلها خارجة عن الموضوع، وبدد كثيراً من الوقت فيها ليضيق الوقت عن الحديث الموضوعي الذي لا يقدر على تكاليفه:
    1- الخلط بين المبدأ الذي هو موضوع الحوار وبين أشكال النظم السياسية .
    2- الخلط بين القدر والواقع وبين التشريع.
    3- التهويل بفزاعة العنف الساقطة!

    • موضوع الحوار :

    كان موضوع الحوار متعلقاً بمبدأ من مبادئ الحكم السياسي، هو عند المالكي: (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) وعند الشويقي: (سيادة الشريعة) وبغض النظر عن التفصيل فيما وراء هذه الشعارات إلا أن المالكي لم يستوعب أنه يناقش حول (مبدأ) وضيع كثيراً من وقت الحلقة - وشغب كثيراً أيضاً - باستجرار الحديث حول شكل النظام السياسي.

    لقد أعطاه الشويقي ما يشبه الشيك المفتوح حول هذا الشكل الذي ظل يشغب حوله، ونبهه كثيراً إلى أن القضية تتعلق بمبدأ ودين فحواه حاكمية الشريعة قانوناً دون افتقار لتصويت ولا غيره، وسيادتها على الحاكم والمحكوم، فما الذي منع المالكي أن يستوعب هذه النقطة؟
    هل يجهل المالكي قصة (المبادئ فوق الدستورية) و (الحقوق غير القابلة للتصويت) حتى يكون الكلام في مبادئ الحكم أكبر من مستواه؟ الواقع أنه لا يجهل هذه الأشياء وهو الذي صرح بأن قيادة المرأة للسيارة (حق غير قابل للتصويت) رغم أنه يدرك أن أغلبية مجتمعه يرفض هذه القيادة، أو قل يخمن أن الرافضين لها قد يفوزون بالتصويت لو طرح، ومع ذلك أسعفه تفكيره أن يستوعب أنها (حق) للمرأة غير قابل للتصويت بل هو مما تقتضي مبادئ السياسة العادلة منحه، وحينما تغفله السياسة فسيكون هذا منها مصادرة غير مشروعة لحق مشروع، ولو تمت هذه المصادرة عبر تصويت فلا عبرة بها، فالحقوق لا يصوت عليها، هذا المثال السخيف الذي شرحته بعد أن قرأته من كلام المالكي نفسه يثبت أن المالكي غير عاجز عن استيعاب موقف الشويقي، الذي كان يتحدث عن (مبدأ) حاكمٍ على الأشكال السياسية بغض النظر عنها، فظل المالكي يطارد الأشكال ويشغب حولها ويزعم أنه لم يفهم الشكل الذي يريده الشويقي، بينما تكررت على لسان الشويقي كل الأشكال المتصورة الشوري منها والاستبدادي، وبيّن غلط الاستبدادي منها، لكنه يتسامى عن الشكل بتوضيح المبدأ الحاكم (شريعة الله عز وجل الملزمة للمسلمين من غير افتقار للتصويت) وهذا المبدأ هو ما أخل به المالكي في كتابه.

    تفسير هذا الخلط بين موضوع المبدأ والشكل السياسي : أنه خلط متعمد، ليس فارسه المالكي وحده، بل كل جاهل من التنويريين، أو قل ضعيف الموقف أمام جنايته بحق الشريعة، لا يملك تبريراً تتقبله النفس الإسلامية يقدّمه لمشاهد مسلم ، ويؤكد هذا التفسير أنه تم طرح السؤال الجوهري على المالكي ( لماذا لا تجعل الشريعة من جملة الحقوق التي لا تقبل التصويت عندك) فتجاهل هذا السؤال ولم يجب عليه !
    لقد أجاب العلمانيون على هذا السؤال، وكانوا صرحاء حينما قالوا: إن جعل الشريعة مبدأ فوق دستوري (غير قابل للتصويت) سيعني منح حصانة لعلماء الشرع الذين يفسرون هذه الشريعة، وهذه الحصانة ستكون (كهنوتاً) ، وهذا الجواب العلماني يغفل أن (الحقوق فوق الدستورية) التي لا تقبل التصويت عندهم، ينطبق عليها ذات الشيء فسيظل تفسيرها وشرحها حكراً على رجال الحقوق والدستور، وهم قلة في الأمة الإسلامية (أقل) من علماء الشريعة، ولن يكون ذلك كهنوتاً لأن الرجال سيكونون محكومين بمصادر ومدونات حاكمة عليهم لا يمكنهم العبث بها، فكذلك الوضع مع الشريعة الإسلامية التي لا يملك العلماء تحريفها ولا العبث بها وإنما بيانها فحسب، بخلاف شريعة الكنيسة التي كان زمامها بيد الأحبار والرهبان تبديلاً وتحريفاً.
    والخلاصة : أن موضوع الحوار (قابلية الشريعة للتصويت من عدمه) لم يحظ باهتمام المالكي فصرف جل وقته في التشغيب بأشكال الحكم السياسي، وبكلام بدهي حول هذه الأشكال، ما كان لينصرف له لولا ضعف موقفه في (النقطة الرئيسة) ، بل ولما أعطاه الشويقي شيكاً على بياض حول الشكل السياسي ملتزماً الكلام عن المبدأ الحاكم: غرق في مطالبات وتشغيبات مؤداها بيان شكل محدد ، هذا الشكل لم يكن قضية الحوار .

    • الواقعية التنويرية:

    من المناطق التي هرب إليها المالكي منطقة القدر، فيما يمكن تسميته (الواقعية التنويرية) التي تشبه إلى حدٍ ما واقعية الاشتراكيين الذين كانوا يزعمون أن (الواقع المادي) هو ما يصوغ الأفكار والنظريات والأديان، فجاء التنويريون بصنيعٍ يحذو صنيع هؤلاء، والتزم المالكي منه مظهرين في حواره :
    1- قوله : (لا يمكن تطبيق الشريعة دون إرادة بشرية) وكررها في الحلقة الأولى والثالثة، وهذا مبحث الإرادة القدرية التي اختلف فيها أهل السنة مع الجبرية والقدرية، فطرف لا يثبت للإنسان إرادة ويقول بالجبر، وطرف يثبت له إرادة لا مخلوقة بل خالقة عازبة عن علم الله وقدرته، وكلاهما ضال، وأهل السنة يثبتون للإنسان إرادة تحت إرادة الله، ولكن ليس هذا الموضع البدهي هو موضع الحوار، فالكلام عن الاختيار الشرعي، أو نقل هذه الإرادة القدرية إلى حيز التشريع، فتصير إرادة تشريعية لها آثار ملزمة قانوناً، وإذا كان المالكي سيرتب الآثار القانونية - كما في نظريته - بالاختيار البشري محتجاً بأنه (لا يمكن تطبيق الشريعة إلا بإرادة واختيار) فسيلزمه ترتيب الآثار القانونية على كل إرادة واختيار بشرية مهما كانت ظالمة مستبدة شريرة ...إلخ ، وهو ما لا يلتزمه، ولا يعجز عن فهم أن مخالفه لا يلتزمه أيضاً، لأن منطقة القدر غير الكلام في الشرع، ولا تفسير لهذا الخلط بين المنطقتين إلا ضعف موقفه وعدم وضوحه وجديته.
    2- ومما يتكرر كثيراً على ألسنة التنويريين وفاه به المالكي في الحوارات : الاحتجاج بما يشبه الصيرورة، فيزعمون أن فكرتهم فرضت نفسها في الواقع وأن الدول تجاوزت هذا النقاش، وكأن هذا الأمر دليل على كونها حقاً بهذه الصيرورة، ولقد كانت العلمانية ضاربة أطنابها في بلاد العالم الإسلامي بالأمر الواقع وباستبدادٍ غاشم لم يسبق له في التاريخ مثيل، وكان المؤمنون بها يحتجون بالواقع الأتاتوركي والناصري والبعثي والقذافي ... إلخ على أن العلمانية فرضت نفسها والرافضون لها تجاوزهم التاريخ، وهكذا يسلك سبيلهم التنويريون، ولا غرو فقد استوردوا منهم كثيراً من الأدوات والتقنيات والفهوم والأفكار، وفي النهاية: صار الواقع يصوغ الحق عندهم ويثبته، وهذا صنيع من لا يقيم لدين الله وزناً .

    • قصة جماعات العنف المسلح :

    منهج المالكي في هذا الحوار أنه يبدل اسطوانة مشروخة مكان اسطوانة مشروخة، الأولى مشروخة في عقلها والثانية مشروخة في عقلها وأخلاقها أيضاً:
    فيبتدئ بشرح بدهيات (الشريعة لا تطبق نفسها ، والشريعة لا تكون إلا عن اختيار، والبرلمان تحت الدستور، والدستور فوق البرلمان ... إلخ) فإذا ما جوبه بأنها بدهيات وأنها خارج محل النزاع، والكلام في قابلية الشريعة للتصويت وافتقارها قانونياً له، انتقل إلى مصادرة سخيفة : ما تقبل بالتصويت إذن تؤيد جماعات العنف المسلح !!
    والمالكي ليس عاجزاً عن فهم موقف مخالفه وأنه لا كما يتصور، لكنه بكل تفاعل أخلاقي يحبذ أن يقع مخالفه في ورطة على أن يحتاج هو إلى برهنة وكلام موضوعي لا يطيقه.
    الحقوق لا تطبق نفسها - ومنها حق القيادة للمرأة- ولا تطبق إلا بإرادة بشرية ( وهذا كلام بدهي ما فتئوا يلوكونه) ولكنها عند المالكي ثابتة بنفسها غير مفتقرة لتصويت، أفتراه حينما صرح أنها (غير قابلة للتصويت) صار من مؤيدي جماعات العنف المسلح ؟ !

    فما بال الشريعة إذن ؟!

    إنني لا أغفل أن بين المالكي وبين الرؤية الإسلامية خلاف في القتال ومسوغاته، فالقتال سائغ في الإسلام لإعلاء الدين وحمايته، بينما المالكي لا يجيزه إلا لإعلاء الديمقراطية الليبرالية، وهذا ما بينه الشويقي وقطع به تشغيبات العنف الساقطة في الحوار، إن هذا الخلاف حول مسوغات القتال سيكون تحصيل حاصل لو التزم المالكي الموضوع الرئيس : (لمن السيادة والإلزام القانوني ، ألشريعة الله تعالى؟ أم للحقوق الليبرالية اللادينية التي يمررها تحت مسمى سيادة الأمة؟ ) ولو التزم هذا البحث ودلائله وبراهينه لحصّل (القوة في الإلزام بالحق) التي يسميها عنفاً من جملة ما سيحصله من فوائد وترتبات، لكنه آثر التذرع بخطاب إعلامي يداعب صورة ذهنية معينة عن (العنف) ولدّتها ديكتاتوريات وحكومات طاغوتية، ومزاج إعلامي مبنٍ على هذه الصورة .

    • لماذا هذا الخلاف ؟

    طرح سؤال في الحلقة: ما دام الاتفاق حاصل على خوض غمار النظم السياسية القائمة، فلماذا الاختلاف على أمور نظرية ؟ وكان جواب المالكي حلقة في سلسلة العبث الذي مارسه في الحلقة، لقد قال: إنهم هم الذين افترضوا علينا صورة تنحية الشريعة فاضطررنا لجوابهم !
    والعاقل لا يحتاج لطول تأمل حتى يعلم كذب هذه القضية في هذا السياق، فإذا كان الاتفاق حاصل على الصورة الواقعة فماذا يستدعي الافتراض أصلاً؟ وإذا كانت الفتوى بالمشاركة في النظم السياسية الديمقراطية تخفيفا لشرها صادرة من زمان الشيخ السعدي ومن بعده ابن باز وابن عثيمين - قبل ظهور الفكرة الليبرالية بعقود بل وقبل ولادة المالكي - فأي افتراض مزعوم بدئ به؟
    إن المواقف التي أحدثت الخلاف بمخالفتها للشرع: إنكار العقوبات الشرعية، وإنكار الاحتساب الشرعي، وتأييد الزنديق الذي قال بنقص القرآن، وتأييد الذي كذب مفهوم التوحيد في القرآن لما أوقف عن الكتابة، وتأييد حرية تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه تحت ذريعة عدم الإيمان به، والقول بحرية المنافقين في السب والاستهزاء والطعن في الدين...إلخ، و كل هذه المواقف المنحرفة التي تصدر من نظرية لادينية فردانية تتجانف عن التحاكم إلى شريعة الله وإلزام الأهواء وتقييد الحريات بها : وقائع عين ومواقف فكرية وعملية محدثة امتثلها التنوير واستوجبت النكير على هذا الفكر والبراءة منه، وحماية القضايا الشرعية والإسلامية من تلاعبه وعبثه.

    • مشهد من المناظرة :

    (( الشويقي : أصبحتَ غداً ووجدت انقلاب لشخص يريد تطبيق الشريعة عبدالله المالكي سيحمل سلاحه ويقاتله.
    المالكي: صح .
    الشويقي: سيقاتل هذا الذي يريد الشريعة ، سيصطف مع النابذين للشريعة لمقاتلة من يريد فرض الشريعة، وربما نصفهم كفار .
    المالكي: تماماً.
    الشويقي: الأستاذ عبدالله يقول يقاتل، وهنا هو يؤمن بالعنف !
    المالكي: لا خطأ .
    الشويقي: هذا الذي انقلب في البلد الديمقراطي الذي لم نصل فيه للشريعة وأقام الشرع قلت قبل قليل: الأستاذ عبدالله سيصطف ويقاتله قال: نعم !
    المالكي: خطأ. ))
    هكذا بمنتهى العبث !
    ولو كان عندي وقت لمراجعة الحلقات مرة أخرى لأخرجت من أمثال هذا المشهد عشرات المشاهد التي تقف بك على العبث والتقلب الذي لا يناسب إلا الأفكار المتهافتة.

    • خاتمة:

    إن الخلاف بين الرؤية الإسلامية ورؤية التنوير الليبرالية (في موضوع سيادة الأمة) ليس في قضايا بدهية من جنس : ( أن الشريعة تطبق بإرادة واختيار ، وأن الشريعة لا تطبق نفسها ) وليس اختلافاً حول شكل الدولة ونظامها، ولا خلاف حول عمل مسلح أو مسار سلمي، إنما هو بكل اختصار:
    خلاف حول حاكمية الشريعة بذاتها، فالإسلاميون يقولون: بحاكميتها الملزمة ديانة وقانونا من غير افتقار لتصويت، والتنويريون: مركب قولهم من موقفين : 1- فيسلبونها هذه الحاكمية القانونية 2- في حين ينيطون الإلزام القانوني غير المفتقر لتصويت لجملة من المعاني الليبرالية يسمونها (حقوق) .
    ولذلك لم يقتصر انحرافهم على نزع الحاكمية عن الشريعة في الحيز القانوني ابتداءً، حتى حرفوا ذات الشريعة وأنكروا ما يتعارض منها مع (الحقوق الليبرالية الملزمة) التي جعلوها سقفاً مكان سقف الشريعة، فحتى لو صوت الناس لشريعة الإسلام، فلن تكون الشريعة التي يعرفها المسلمون منذ مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل الثورة الفرنسية، التي لا يسوغ فيها ردة وكفر بالإسلام وطعن فيه في مجتمع المسلمين، بل ستكون شريعة ليبرالية عاجزة عن حماية نفسها وإقامة الهيبة لمرجعيتها ضد الكافرين بها، ولو صوت لها الناس!
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty هل يصح تطبيق الشريعة بالإكراه؟ أم لا بد من الاختيار؟

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:13



    هل يصح تطبيق الشريعة بالإكراه؟ أم لا بد من الاختيار؟

    د.فهد العجلان


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    سؤال شائع، تتلاحق الإجابات عليه: نعم/ لا. لكن القليل من توقف قليلاً فأخذ يفكك هذه العبارة، ما معنى الإكراه، والاختيار هنا؟ معناها هو التحاكم إليها والإلزام بها من غير تصويت يسبقه حملات إعلامية لمن يقبل أو يرفض ثم بعد ذلك ينظر في رأي الأغلبية، فإذا ظهر عدد معين عرفنا وجود الاختيار، وبدون هذا يكون إكراهاً. فالإكراه هنا والاختيار مبني على رؤية وفلسفة مسبقة. فقبل الجواب، أو الحديث عنها، أو البحث عن دلائل وترتيب أحكام عليها. الواجب أن نعرف ما هو الاختيار والإكراه في المفهوم الإسلامي؟ هل هذا يعد إكراهاً؟ من أسلم فقد رضي بأن يحكم بالإسلام، فلا يوجد في الشريعة بالنسبة للمسلم شيء اسمه الرضا بحكم الإسلام، حكم الإسلام تابع ولازم لإعلان المسلم شهادة أن لا إله إلا الله: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت). فحكم الإسلام تابع للإيمان به، ليس هناك درجة أخرى تتعلق باختيار حكم الإسلام، فكما أن من أسلم فقد رضي أن يصلي ويصوم ويحج فقد رضي أيضاً أن يكون احتكامه إلى الإسلام، فلا يحتاج إلى إيمان جديد أو اختيار جديد، الظن بوجود مشروعية جديدة هنا غير مفهوم في السياق الإسلامي. وعليه، فخضوع المسلم لأحكام الإسلام خضوع اختياري لازم لإيمانه، لا معنى لأن يخير في ذلك، ولا يقال هو إكراه، فتسمية هذا (إكراهاً) هو مبني على أن الشخص يفكر عبر منطق مختلف. لهذا كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم وحكم خلفائه الراشدين وحكم من بعدهم خلال قرون طويلة قائماً على صورة مختلفة لو طبقنا عليها معيار (الإكراه والاختيار) هذا لأصبحت إكراهاً بلا اختيار! وأما مراعاة رضا واختيار كل أحد مع كل حكم فهذه مما لا يقول بها أحد، إلا عند الاتجاه العلماني الذي ينفي أصل الإلزام. لهذا فسؤال حكم تطبيق الإسلام من خلال الإكراه، سؤال فيه مغالطة، فهو يستحضر في (الإكراه) و (الاختيار) مفاهيم خارجة عن الإسلام ويريد محاكمة الإسلام إليها
    والله أعلم.
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty مدخل مهم .. لفهم إشكال سيادة الأمة والشريعة

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:15



    مدخل مهم .. لفهم إشكال سيادة الأمة والشريعة

    فهد بن صالح العجلان


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    من المداخل المهمة التي تكشف لك محل الخلل في سجال سيادة الأمة والشريعة، ومن خلالها تسقط كثير من الإشكالات والإيرادات، المدخل التالي:
    يقول لك:
    لا يوجد في النظم السياسية المعاصرة شيء اسمه إرادة مطلقة للأمة أو للأكثرية، كل النظم السياسية المعاصرة لديها قائمة طويلة من الحقوق والحريات والمفاهيم تقيد هذه الإرادة، إرادة الأكثرية ليست مطلقة، بل مقيدة بفلسفة ومنظومة حاكمة عليها، تجعل إرادتها مقيدة بما لا يخالف هذه المنظومة، فهذه المبادئ تشكل مبادئ فوق دستورية، لا يحق لأي دستور أن يتجاوزها.
    فلا يمكن للأكثرية أن تصوت على حرمان الأقلية من أي حق من حقوقهم تحت أي مبرر، بل وثم تفصيلات دقيقة لا يمكن تجاوزها لأنها من الحقوق الطبيعية المستحقة للإنسان لا يمكن للأكثرية أن تتجاوزها.
    أما الدين، فلأن هذه المنظومة تقوم على مرجعية لا تعتمد الدين، فليس من ضمن المنظومة الملزمة للأكثرية أحكاماً دينية، بل وهذه الأحكام مبعدة لأن من المنظومة الملزمة فصل الدين عن السياسة.

    فهم هذا المدخل يضع يدك على محل الخلاف جيداً، وتعرف من أين جاء الخلل:
    من يقول بسيادة الأمة ولو أقصت الشريعة، ويجعل الشريعة منوطة برأي الأمة، يجعل إرادة الأكثرية مقيدة بالحقوق حسب المنظومة الليبرالية، وأما أحكام الإسلام فلم يدخلها ضمن هذه الحقوق لأنه غير مدرج في المنظومة الليبرالية.
    فلديه إشكال كبير مع فرض الإسلام، ويستغرب كيف تفرضه بدون إرادة؟
    ومن الذي يفرضه؟
    ولماذا تتعدى على حق الأمة؟
    ولماذا تخالف العقد؟
    وإذا خالف الناس هل تقاتلهم؟
    الخ هذه الأسئلة.
    جميل ..
    جرب أن تقلب هذه الأسئلة على ما تؤمن (المنظومة المعاصرة) بضرورة إدراجه، فما كان جوابه عنه، فهو بالضبط نفس جواب المسلم عن الإلزام بالإسلام.
    هل يمكن للأكثرية أن تطالب بحرمان الأقلية من بعض – لاحظ بعض- الحقوق اليسيرة للأقلية؟
    هل يمكن للأكثرية أن تمنع الأقلية من التصويت؟
    هل يمكن للأكثرية أن تضع حدوداً تضيق على حريات الناس؟
    بالتأكيد: لا.
    جميل.

    هات ذات الأسئلة التي تواجه بها الشريعة هنا:

    كيف تخالف إرادة الأمة؟
    هل ستقاتلهم؟ هل ستشكل انقلاباً عسكرياً؟
    كيف تخالف عقد الناس؟
    من الذي سيفرض هذه القيود على الأمة؟
    الخ.

    هل عرفتم الآن محل الإشكال؟

    محل الإشكال أن الحكم الإسلامي يراد تطبيقه في ظل منظومة فكرية مختلفة، فيخرج لك نموذج مشوهاً، لا هو الحكم الإسلامي، ولا هو الحكم الديمقراطي الليبرالي.
    نعود للسؤال التي تكرر في الحلقة:

    ماذا لو أن 90% اختار غير الإسلام؟

    قبل الجواب على هذه السؤال، فهذا السؤال أصلاً مبني على أنك تريد تحكيم الإسلام بناءً على منظومة مختلفة.

    كيف؟
    لأنه حتى يأتي لك مثل هذه النسبة، لا بد أولاً أن تقرر أن من حق الناس أن يختاروا الشريعة أو يرفضوها، وهذه مخالفة قطعية للإسلام.
    ثم تجعل من حق رافضي الشريعة أن يجتمعوا ويتحزبوا وتفتح لهم المنابر والإعلام حتى يؤثروا على الرأي العام ويوجهوا الناس نحو وجهتهم المعارضة للشريعة، وهذه مخالفة مركبة قطعية للإسلام.
    ثم بعد هذا يجري التصويت، ويكون ملزماً، وتترك الشريعة وتكون المشروعية لغيرها.
    وكل هذه مخالفات قطعية، صار فيها الإسلام محكوماً بمنظومة مختلفة، ومقيداً بفلسفة منافرة له تماماً.
    فقبل الجواب على هذا السؤال، لا بد أن تفهم أن السؤال لم يطرح إلا في ظل نظام لا يؤمن بالإسلام ولا يطبقه.

    لهذا، هات هذا السؤال في المبادئ التي لا يقبل التصويت عليها،

    ماذا لو أن الأكثرية أرادت حرمان الأقلية من حقوقها؟
    سيقول لك مباشرة: لا يحق لهم ذلك.
    بل ولا يمكن أن يقع هذا أساساً، لأن النظام لا يعطي الأكثرية هذا الحق، ولا يمكن لهم أن يصوتوا، بل وثم إشكال كبير في مجرد الحديث عنه، فلن يكون له الحرية الكافية في أن ينشر مثل هذه الأفكار لأنها تضر المجتمعوتعرض المبادئ الدستورية للخطر.
    فمحل الإشكال أننا نلتزم ونرضى بكافة القيود التي تضعها النظم المعاصرة – وهي مستمدة من ثقافة مختلفة- ولا نجد أي حرج في الالزام بها وعدم التصويت عليها وجعل العقد بديهي بها ولا يتصور بدونها، وأما أحكام الإسلام التي هي من صميم دينننا وثقافتنا وتاريخنا فلا بد له من تصويت وكلام كثير!
    إذا فهمتَ هذا فلا تتعجب إذا علمتَ أن بعض من يجادل في لزوم الشريعة من دون اختيار وتصويت، هو نفسه يقرر أن قيادة المرأة للسيارة حق طبيعي لا يجوز التصويت عليه!
    وآخر يقرر أن عمل المرأة في وظيفة مختلطة حق طبيعي يجب فرضه ولو خالف الأكثرية!
    هذا هو المدخل، وفي الموضوع تفصيلات وإشكالات عديدة، سبق نقاشها وتحريرها – من عدد من الأفاضل - في مقالات عدة سابقة، خصوصاً الخلط بين موضوع المشاركة لأجل تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وبين جعلها أصلاً شرعياً محكماً.

    خاتمة/

    في أثناء مراجعتي لكتب الفقه السياسي المعاصر في الفترة الأخيرة كنت أتتبع كلام المعاصرين في السيادة، وكنت أظن قبل البحث أن ثم خلافاً سيكون بينهم ولو محدوداً، فتعجبت من كون هذه المسألة ظاهرة جداً بحيث عجزت من تقصي البحث، فعندي الآن أكثر من 90 مؤلفاً معاصراً كان لهم رؤية واضحة في الموضوع، سأعود لها في مقالة مفردة بإذن الله.
    تقبل الله منا ومنكم.
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty هل الحرية قبل الشريعة ؟

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:18



    هل الحرية قبل الشريعة ؟

    عمر بن عبد المجيد البيانوني


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    الحمد لله لا يُحصَى له عَدَدُ، ولا تحيط به الأقلامُ والمُدَدُ، وصلاةُ الله وسلامُه على أشرف الخلق صلاةً ما لها أمَدُ، وبعد،
    فقد كَثُرَ الحديث عن الحرية وأهميَّتها، وذلك كردَّة فعل عن الاستبداد والظلم ومصادرة الحرِّيَّات، وبالغ بعضهم في الحرية حتى قال: الحرية قبل تطبيق الشريعة، وكأنَّ الحريةَ والشريعةَ خصمان لا بد من تقديم أحدهما على الآخر، فهل الحرية قبل الشريعة؟

    هناك فرق بين من يقول ذلك معالجةً لواقع معين خاص وليس تقريراً لمبدأ عام، فالشعوب التي سُلبت حرِّيتها وانتهكت كرامتها لا بدَّ من استرداد حقِّها في الحرية والكرامة الإنسانية، أما من يقول: (الحرية قبل الشريعة)، مقرِّراً لمبدأ عام وجاعلاً الحرية أصلاً يحاكم عليه ما عداه ويقدِّمه على الشريعة فهذا مردود غير مقبول، وبيان ذلك من أربعة أوجه:

    الوجه الأول:
    أن الشريعة لا تناقض الحرية ولا تعتدي عليها، بل إنَّ نظامَ الإسلامِ هو الذي يحقِّق حرِّيةَ الإنسانِ بأكمل صورة حين يقرِّر أنَّ هناك عبوديةً واحدةً لله الواحد الأحد، ويلغي العبوديات الباطلة في كافَّة صورها وأشكالها من عبوديَّة البشر للبشر، ومن عبوديتهم لأهوائهم وشهواتهم.
    والإسلام أعطى الحرية لاعتقادات الناس على أن يظلوا تحت نظام الإسلام وإن لم يعتنقوه عقيدةً، فإقامة النظام الإسلامي لا يعني إكراه الناس على الدخول في الدين فقد قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، لكن يكونوا خاضعين لنظام الإسلام، فالحرية هي جزء من الشريعة، فلا معنى ولا مبرِّر لتقديم الحرية عليها.
    والقول بأن الحرية قبل تطبيق الشريعة يوهم بأن الشريعة تناقض حريات الناس مع أنَّ من شروط التكليف أن يكون الإنسان حرَّاً مختاراً، فالمكره غير مؤاخذ على ما أكره عليه.
    ليس معنى أن الشريعة قبل الحرية، وقبل كل شيء، وأنها الحاكمة على غيرها: إقصاء كل من يختلف معه أحد، أو اتهامه وتضليله، فقد قال تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً}، وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا البَلَاغُ}.
    وليس معنى ذلك أيضاً: استبداد أحد بالحكم، فقد قال تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقال مخاطباً نبيَّه عليه الصلاة والسلام: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ}، أو قيام دولة دينية وليس إسلامية، والبعض ممن يقول: الحرية قبل تطبيق الشريعة يخشى من استبداد الإسلاميين وإقصائهم، مع أنَّ هذا كله ليس من الإسلام في شيء، وتصرفات المسلمين المخالفة للإسلام لا تمثل إلا من يقوم بها ولا تمثل الإسلام.
    وبعضهم لا يعرف من الشريعة إلا تطبيق الحدود، مع أن تطبيق الحدود لا يكون إلا بعد أن تكتمل الشروط وتنتفي الموانع، وعندما يُطَبَّق الإسلامُ ويُرَبَّى الناسُ على مبادئه، فلن تحصل الجرائم التي توجب حداً على مرتكبها إلا في حالات نادرة جداً، بل إنَّ العقوبات الموجودة في القوانين الوضعية إذا اقتصروا على تطبيقها وحدها من غير تنمية للوازع الديني وتربية للناس فستظل الجرائم في ازدياد مستمر، كما حصلت المفارقة العجيبة بين الامتناع المباشر عن شرب الخمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وبين فرض قانون في أمريكا لمنع الخمور، وصرفت الكثير من الأموال وبذلت الكثير من الجهود، ثم تم إلغاء القانون ولم تفلح في منع الخمر.

    الوجه الثاني:
    القول بتقديم الحرية على الشريعة يعني أنه لو وصل أحد الإسلاميين إلى الحكم فلا يجوز أن يحكم بالشريعة إلا إذا خيَّر الناس بين الشريعة وغيرها، ومتى كان الناس هم الحَكَم على شرع الله؟
    ألم يقل الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً}.

    الوجه الثالث:
    هل يقول أحد: الحرية قبل الالتزام بقوانين الدولة، أم أنَّ قوانينَ الدولةِ تسري على الجميع؟ أليس نظام الإسلام هو الأَوْلى بذلك.
    فنظام الإسلام هو أكمل نظام عرفته البشرية لإصلاح الفرد والمجتمع، وأفضل تصوُّر للوجود والحياة، فقد اعترف بحاجات الناس ومطالبهم الدينية والدنيوية، الروحية والجسدية، فهو دين جاء لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، دينٌ يحارب الظلم والطغيان ويؤيد العدل والإحسان، دينُ الفطرة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
    قال الدكتور محمد راتب النابلسي: (يتوهم الإنسان أن التحريم الواضح في القرآن مثل تحريم الربا والزنا قيود وضعها الدين عليه، لكنها في الحقيقة حماية لسلامته، تماماً كوضع لوحة "ممنوع الاقتراب ـ حقل ألغام" ). قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
    ـ والإسلام دين يتوافق مع العقل، فلا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح القطعي الثبوت والدلالة، وإذا ظهر شيء من التعارض فإما أن النقل غير صحيح ثبوتاً أو غير صريح دلالة، أو العقل غير قطعي صريح، أو هو تعارض في فهم مَنْ قَصُرَ فهمُه عن إدراك المسألة إدراكاً سليماً.
    فالعقل من آيات الله الكونية والنقل من آيات الله الشرعية، وآيات الله تنسجم مع بعضها ولا تتعارض ولا تختلف.
    ـ والإسلام لا يتعارض مع مصالح الناس، فحيثما وُجِدَتْ المصلحة فثَمَّ شرع الله، لكن المصلحة لا يحدِّدها إلا أهلُ العلم بدين الله، ولها شروطها المذكورة في كتب أصول الفقه ومن شروطها:
    1ـ أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية. وأن تكون المصلحة عامة وليست شخصية.
    2ـ اندراجها في مقاصد الشريعة.
    3ـ أن لا تعارض المصلحة حكماً ثبت بالنص أو الإجماع، فما ثبت بالنص أو الإجماع هو المصلحة وإن ظهر للبعض خلاف ذلك.
    4ـ أن لا تؤدي المصلحة إلى مفسدة مساوية لها أو أعظم منها. فـ (الضَّرَرُ لا يُزَال بمِثْلِه)، و(دَرْءُ المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جلب المصالح)، فعندما تتعارض المصلحة والمفسدة بنسبة مساوية يقدم درء المفسدة، وأيضاً من باب أَوْلى إذا رجحت المفسدة، أما إذا كانت المصلحة أعظم فيقدم جلب المصلحة.
    فإذا أخطأ أحد الإسلاميين وتصرف بما يناقض المصلحة والعدل فهو يمثل اجتهاده وفهمه عن الإسلام ولا يمثل الإسلام، قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة جامعة تصلح أن تكون قاعدةً فقهيةً: (كلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشَّريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل) إعلام الموقعين: 3: 3.
    وإذا كان في المسلمين من هو بعيد عن التقدم والحضارة، فذلك ليس بسبب إسلامه، وإنما بسبب ابتعاده عن تطبيق الإسلام أو عدم فهمه للإسلام فهماً سليماً، فالمسلمون الأوائل كانوا في تقدم باهر تفوقوا به على كثير من الأمم والحضارات، ثم خسر العالمُ الكثيرَ بسبب تراجعهم عما كانوا عليه وكتب الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله كتابه: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟).

    الوجه الرابع:
    أن الشريعة هي الأصل الذي يحاكم عليه ما عداه، ولا يصح أن تجعل قيمة من القِيَم كالحرية وغيرها حاكمة على الشريعة.
    فهل يقول أحد ممن يعتز بإسلامه أنه إذا تعارضت الحرية مع الشريعة تُقَدَّم الحرية؟ ومتى كانت الحرية هي الأصل الذي يحاكم عليه ما عداه حتى أنْ تُحاكَم الشريعةُ عليه؟ فالشريعة هي التي تحكم على الحرية وعلى غيرها، وليست الحرية ولا غيرها مَنْ تحكم على الشريعة.
    والخلاصة: أنَّ الشريعةَ التي جاءت من عند الله قد أعطت الحرية مكانة عالية، والشريعةُ هي التي تحكم على الحرِّيَّات هل هي مقبولة أم غير مقبولة، ومن الخطأ أن تُجْعَل الحرية هي الأصل وتُحاكَم الشريعةُ عليه.
    وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty لمن السيادة ؟

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 4:21



    لمن السيادة ؟

    د. توفيق الشاوي


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    (إن من يتكلمون عن سيادة الأمة أو سيادة الدولة إنما يرددون اصطلاحاً جرى عليه الفقه العصري أما الفقه الإسلامي فإن لفظ السيادة ذاته غير معروف فإذا تجاوزنا اللفظ إلى المعنى وهو السلطة العليا المطلقة فإن شريعتنا لا تعرف إلا السيادة لله وحده).[1]

    (إذا كان لا بد من استعمال كلمة السيادة التي لم يعرفها الفقه الإسلامي ونقلناها عن الفقه الأوربي فيجب أن نكتفي بنسبتها إلى الشريعة وحدها).[2]

    (إن الاعتراف بالسيادة لأي جهة إنسانية فكرة بعيدة عن الإسلام ولا يتمتع بها على الأرض وفي المجتمع الإنساني إلا الشريعة السماوية فهي وحدها التي يمكن أن يكون لها سلطان لا معقب عليه أما البشر أفراداً وجماعات فسلطانهم لا يجوز أن يسمى سيادة لأن معنى ذلك أنها سلطة لا معقب عليها ولا تقر شريعتنا بذلك لأحد).[3]

    (الإسراف في استعمال كلمة السيادة في الفقه الأوربي يثير حولها غموضاً ويوجد بلبلة في الفقه الدستوري، فكان الأولى أن لا تنسب السيادة المطلقة إلا إلى جهة واحدة وهي في نظرنا الشريعة باعتبارها التشريع الملزم للجميع أما الجهات الاخرى فيكفي أن توصف بأنها لها سيادة نسبية أي سلطات محدودة مقيدة).[4]

    (إن صدور الدستور والقانون عن الأغلبية ليس في نظر دعاة الشورى الإسلامية ضمانة كافية لعدالته إذ لا بد من وجود مبادئ أعلى من الدستور تفرضها الشريعة ويخضع لها المجتمع كله بما فيه الأغلبية التي تضع الدستور أو التي تضع القوانين والأجهزة التي تنفذها والأفراد والهيئات والجماعات التي تمثلها أو تتكلم باسمها).[5]

    (لا بد إذن من وجود قيود – حدود- شرعية تحد من سلطات الحكام سواءً أكانوا يمثلون الأقلية أم الأغلبية وهي حدود مستمدة من مصادر سماوية لا يستطيع الحكام سواء أكانوا ممثلين للأغلبية أم الأقلية إلغاءها أو تقييدها).[6]

    (إن عقيدة التوحيد التي هي أساس شريعتنا تتنافى مع إعطاء صفة السيادة لأي فرد أو هيئة او جماعة ولا تعترف لها بأي سلطة إلا إذا كان بتفويض من الأمة وكانت محدودة في نطاق الأصول والمبادئ الدستورية التي تستمد من المصادر الإلهية الشرعية).[7]

    (لا يكفي إذن لإصلاح الديمقراطية إن نغير اسمها ونصفها بأنها شورى، بل لا بد من أن تقوم على الأسس الشرعية للشورى الإسلامية وأولى هذه الأسس التزامها بمبادئ الشريعة الإسلامية وعدم فصلها عنها).[8]

    (عندما نتكلم عن الشريعة إنما نقصد فقط الشرعية الإسلامية التي تعني عدم الخروج على أحكام شريعتنا، أما مخالفة القانون أو الدستور الوضعي أو معارضته فلا يصح أن يوصف بأنه خروج عن الشرعية بل أقصى ما يقال عنه إنه خروج عن القانون أو مخالفة قانونية بل إن نصوص القانون أو الدستور الوضعي التي تتعارض مع مبادئ الشريعة وأحكامها في نظرنا غير شرعية).[9]

    (الشورى تتفق مع النظم المعاصرة في أن الذي يمارس السلطة ويصدر القرار السياسي هو الأغلبية، إلا أنها تمتاز بأنها تفرض على المجتمع قبل ذلك مجموعة من القيم العليا الإلهية والمبادئ السامية للشريعة والتي يجب على السلطة التي يقيمها النظام السياسي احترامها ويلتزم بها المجتمع والامة كلها بما فيها الحكام جميعاً سواء أكانوا من الأغلبية أم من الأقلية وسواء أكانت الاغلبية التي يتحدثون باسمها حقيقية أم مزعومة صحيحة أم زائفة واعية أم مضللة مخدوعة).[10]

    د. توفيق الشاوي
    زهرة النرجس
    زهرة النرجس
    مديرة ورد الشام
    مديرة ورد الشام


    البلد : دمشــقية الهــوى
    انثى
    العمر : 43
    صديق مقرب صديق مقرب : ورد الشام
    أخت أخت : زهرة الشام
    عدد الرسائل : 7730
    تاريخ التسجيل : 17/08/2010
    مستوى النشاط : 24996
    تم شكره : 31
    الدلو

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty رد: سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    مُساهمة من طرف زهرة النرجس الخميس 1 نوفمبر 2012 - 11:46

    الموضوع يستحق القراءة
    بدأت به ولم اكمله لضيق الوقت
    لكن بالتأكيد لي عودة لمتابعة قراءة الموضوع والاستفادة منه
    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد 629859
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty رد: سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    مُساهمة من طرف waell الخميس 1 نوفمبر 2012 - 20:34

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Raaae3
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty السيادة مفهومها ونشأتها ومظاهرها

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:10

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h


    السيادة مفهومها ونشأتها ومظاهرها

    زياد بن عابد المشوخي


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    يستعمل السياسيون والإعلاميون كلمة "السيادة" في كثير من خطاباتهم وتحليلاتهم، فما مفهومها وكيف نشأت وما مظاهرها؟!! يجيب هذا المقال عن هذه الأمور بإيجاز.

    ابتداءً لابد من الإشارة إلى أن قيام الدولة المعاصرة بأركانها الثلاثة: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية، يترتب عليه تميزُها بأمرين أساسيين؛

    الأول:
    تمتعها بالشخصية القانونية الاعتبارية،

    والأمر الثاني:
    كون السلطة السياسية فيها ذات سيادة[1]،

    ولأهمية السيادة في الدول فقد جعلها البعض الركن الثاني من أركان الدولة[2].

    ومن المهم تعريف السيادة وبيان مظاهرها لأمرين؛
    الأول: أهمية بيان المصطلحات السياسية وتطبيقاتها في الدولة الإسلامية، الأمر الثاني: كون السيادة "أساس التفرقة بين دار الحرب ودار الإسلام"[3].

    والحديث هنا من خلال خمسة أفرع:

    الفرع الأول: تعريف السيادة لغة

    السيادة لغة: من (س و د)، يقال: فلان سَيِّد قومه إذا أُريد به الحال، وسائد إذا أُريد به الاستقبال، والجمع سَادَةٌ[4]، ويقال: سادهم سُوداً وسُودُداً وسِيادةً وسَيْدُودة: استادهم، كسادهم وسوَّدهم، والمَسُودُ الذي ساده غيره والمُسَوَّدُ السَّيّدُ.

    والسَّيِّدُ يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحْتَمِل أَذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم، وأَصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد، والزَّعامة السِّيادة والرياسة[5].

    وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله تبارك وتعالى"[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ الناس يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[7].
    وخلاصة المعنى اللغوي للسيادة أنها تدل على المُقدَّم على غيره جاهاً أو مكانة أو منزلة أو غلبة وقوة ورأياً وأمراً، والمعنى الاصطلاحي للسيادة فيه من هذه المعاني.

    الفرع الثاني: تعريف السيادة اصطلاحاً

    عُرِّفت السيادة اصطلاحاً بأنها: "السلطة العليا التي لا تعرف فيما تنظم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها"[8].

    وعرفت بأنها: "وصف للدولة الحديثة يعني أن يكون لها الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها وعلى ما يوجد فوقه أو فيه"[9].

    وعرفت أيضاً بأنها: "السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال"[10].

    والتعريفات السابقة متقاربة، ولعل أشملها لمفهوم السيادة هو التعريف الأخير؛ لوصفه السيادة بأنها: سلطة عليا ومطلقة، وإفرادها بالإلزام وشمولها بالحكم لكل الأمور والعلاقات سواء التي تجري داخل الدولة أو خارجها.

    الفرع الثالث: نشأة مبدأ السيادة في الفكر الغربي

    السيادة بمفهومها المعاصر فكرة حديثة نسبياً مرت بظروف تاريخية، إذ كان السائد أن الملك أو الحاكم يملك حق السيادة بمفرده، ثم انتقلت إلى رجال الكنيسة فكانت سنداً ودعماً لمطامع البابا في السيطرة على السلطة، ثم انتقلت إلى الفرنسيين ليصوغوا منها نظرية السيادة في القرن الخامس عشر تقريباً في أثناء الصراع بين الملكية الفرنسية في العصور الوسطى لتحقيق استقلالها الخارجي في مواجهة الإمبراطور والبابا، ولتحقيق تفوقها الداخلي على أمراء الإقطاع[11].

    وارتبطت فكرة السيادة بالمفكر الفرنسي "جان بودان" الذي أخرج سنة 1577م كتابه: الكتب الستة للجمهورية، وتضمن نظرية السيادة[12].

    وفي 26 أغسطس 1879م صدر إعلان حقوق الإنسان الذي نص على أن السيادة للأمة وغير قابلة للانقسام ولا يمكن التنازل عنها، فأصبحت سلطة الحاكم مستمدة من الشعب، وظهرت تبعاً لذلك فكرة الرقابة السياسية والقضائية لتصرفات السلطة التنفيذية[13].

    وقد قرر ميثاق الأمم المتحدة مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول الأخرى الأعضاء في الأمم بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها، إلا أن الدول الخمس العظمى احتفظت لنفسها بسلطات، ناقضة بذلك مبدأ المساواة في السيادة[14]، وقد حل محل كلمة السيادة في العرف الحديث لفظ استقلال الدولة[15].

    من ثم فالظروف التي نشأت بسببها نظرية السيادة وغيرها من النظريات ليست كالظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية، فلا يمكننا أن نأتي بتلك النظريات ونطبقها بكل ما فيها على الدولة الإسلامية، أو أن نَعُد عدم وجودها لدينا نقصاً، فقد توجد لدينا الفكرة ولكن بشكل آخر، أو لا توجد أصلاً استغناءً عنها بأنظمة وقواعد عامة في الشريعة الربانية ليست عندهم.

    الفرع الرابع: السيادة في الدولة الإسلامية

    بعد معرفة مفهوم السيادة ونشأتها، بقي معرفة من يملِك السيادة في الدولة الإسلامية، أهو الحاكم أو الأمة أو غيرهم، إذ ذهب البعض إلى أن السيادة تكون للأمة، واستدل بالنصوص التي تخاطب الأمة بمجموعها وبمبدأ الشورى في الإسلام[16]، وهذا مردود لأمرين: الأول: لأنه يعني إمكان التنازل عن السيادة، والثاني: لأن السيادة سلطة غير مقيدة.

    فالأدلة الشرعية حددت الإطار العام لجميع التصرفات سواء أكانت صادرة من الحكام أم المحكومين؛ فالكل خاضع لها وملزم بطاعة أحكامها، فالشريعة حاكمة لغيرها ولا يجوز تجاوزها أو إلغاؤها أو تبديلها أو تعديلها[17].

    يقول تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[18]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}[19]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[20]، وقال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله تبارك وتعالى"[21].

    فالسيادة في الدولة الإسلامية لله عز وجل، فالتشريع له وحده سبحانه، وهذه السيادة متمثلة في شريعته كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدولة إنما تستمد سيادتها من خلال التزامها بالأحكام الشرعية وتنفيذها لها، وللأمة بعد ذلك حق تولية الإمام ومحاسبته وعزله ومراقبة السلطة الحاكمة في التزامها حدودَ الله، وليس لها ولا للسلطة الحاكمة الحق في العدول عن شريعة الله[22].

    "فلا عبادة إلا لله. ولا طاعة إلا لله، ثم لمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه. فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تُتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد.. من الله.. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حراًَ إزاء كل من عدا الله، طليقًا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزًا على كل أحد إلا بسلطان من الله"[23].

    وقد ذهب البعض إلى تقسيم السيادة إلى قسمين أحدهما: السيادة المطلقة وهي لا تكون إلا لله عز وجل، والثاني: السيادة النسبية وهي تكون للأمة ضمن حدود أحكام الشريعة الإسلامية[24].

    ولعل الأنسب أن يقال: إن السيادة لشريعة الله، وهذا لا يسلب الأمة الحق في التخريج على أصول الشريعة والاجتهاد في تطبيق أحكامها على النوازل، ومن ثم فالسيادة لله وحده، أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة[25].

    "فإذا كانت بعض الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون والتمسك بالدستور، فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع، ولا تخرج عنه، وهو قانونها الذي يَلزَمها العملُ به والرجوع إليه، حتى تستحق رضوان الله وقبول الناس. وهو قانون لم تضعه هي، بل فُرِض عليها من سلطة أعلى منها، ومن ثم لا تستطيع أن تلغيه أو تجمده إلا إذا خرجت عن طبيعتها ولم تعد دولة مسلمة"[26].

    فنظرية السيادة في الإسلام ليس لها الطابع السلبي الذي عُرفت به نظرية السيادة بوجه عام؛ لكون الدولة الإسلامية لا سيادة فيها على الأمة لفرد أو طائفة؛ فالأساس الذي تبني عليه نظامَها هو كتابُ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا تتجاوز نظرية السيادة في الإسلام المشكلات والتناقض التي وقعت فيها نظرية السيادة الغربية[27].

    فـ"السيادة العليا والسلطان المطلق هو لما جاء من عند الله -عز وجل- لا غير، وإن المنازعة في ذلك كفر وشرك وضلال"[28].

    الفرع الخامس: مظاهر السيادة في الدولة

    بعد الحديث عن مفهوم السيادة ونشأتها فمن المهم بيان مظاهرها، وللسيادة مظهران:
    الأول: المظهر الخارجي: ويكون بتنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في ضوء أنظمتها الداخلية، وحريتها في إدارة شئونها الخارجية، وتحديد علاقاتها بغيرها من الدول وحريتها في التعاقد معها، وحقها في إعلان الحرب أو التزام الحياد.

    والسيادة الخارجية "مرادفة للاستقلال السياسي، ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، فتنظيم العلاقات الخارجية يكون على أساس من الاستقلال"[29]، وهي تعطي الدولة الحق في تمثيل الأمة والدخول باسمها في علاقات مع الأمم الأخرى[30].

    ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذا المظهر لا يعني أن تكون سلطتها عليا، بل المراد أنها تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدول ذات السيادة، ولا يمنع هذا من ارتباطها وتقييدها بالتزامات أو معاهدات دولية مع غيرها من الدول[31].

    الثاني: المظهر الداخلي:
    ويكون ببسط سلطانها على إقليمها وولاياتها، وبسط سلطانها على كل الرعايا وتطبيق أنظمتها عليهم جميعاً، لكن الدولة الإسلامية ولما تتميز به من سماحة، ووفقاً للأحكام الشرعية تمنح الذميين حق تطبيق أحكامهم الخاصة في جانب حياتهم الأسرية، إلا أن هذا لا يكون امتيازاً لهم ولا يُقيد أو يحُد من سلطان الدولة أو سيادتها، ويكون قابلاً للاسترداد[32]، فلا ينبغي أن يوجد داخل الدولة سلطة أخرى أقوى من سلطة الدولة[33].

    وينبغي أن تكون سلطة الدولة على سكانها سامية وشاملة، وألا تعلو عليها سلطة أخرى أو تنافسها في فرض إرادتها[34].

    وكلا المظهرين في الدولة مرتبط بالآخر، فسيادتها الخارجية هي شرط سيادتها الداخلية[35].

    وهذه المظاهر للسيادة سواء أكانت في الخارج أم في الداخل أقرها الإسلام وفقاً للأحكام الشرعية[36]، فمن جهة السيادة الخارجية ينبغي أن تكون للدولة الإسلامية هيبتُها ومكانتُها بين الدول، وألا تتبع أو تخضع لغيرها، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[37]، "أي: في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة... وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال"[38]. فالآية تحرم منح الكافر أية سلطة على المسلم، فكيف الحال إن تسلطت دولة كافرة على دولة مسلمة!!

    ومسألة تطبيق الأحكام الإسلامية على المسلمين والذميين أينما وجدوا ما هي إلا مظهر من مظاهر سيادة الدولة الإسلامية على رعاياها[39].

    ومن جهة السيادة في الداخل فقد جاءت النصوص التي تحث على طاعة الله ورسوله وولاة الأمر والنهي عن الخروج عن طاعته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[40].

    وقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الخروج بغياب مظهر من مظاهر سيادة الأحكام الشرعية وهو إقامة الصلاة، بقوله: "ستكون أُمراءُ فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُون، فمن عرف بَرِئَ، ومن أَنْكَرَ سَلِمَ، ولَكِن من رَضِيَ وَتَابَعَ. قَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُمْ قال: لا ما صَلَّوْا"[41]، ودل الحديث "أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام"[42]، "وإنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عنوان الإسلام حذراً من هَيْجِ الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نُكْرِهِمْ والمصابرة على ما يُنْكِرُونَ منهم"[43].

    وعن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ إذا طلع الفجر، وكان يَسْتَمِعُ الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار"[44]، ودل الحديث على أن الأذان شعار لدين الإسلام لا يجوز تركه، فلو أن أهل بلد أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه، وفيه دليل على أن مجرد وجود المسجد في البلد كاف في الاستدلال به على إسلام أهله وإن لم يسمع منه الأذان[45].

    مما سبق يتضح أن ظهور شعائر الإسلام وأحكامه وخاصة الصلاة والأذان هي جزء من مظاهر السيادة الداخلية في الدولة الإسلامية، "وليس المراد بقيام الصلاة أداء أفراد من الناس لها، بل المراد أن تكون جزءًا من عمل الإمام"[46].

    فتعريفات الفقهاء لدار الإسلام والضوابط التي وضعوها تشير إلى مظاهر السيادة الداخلية في الدولة الإسلامية.

    وتنقسم الدول من جهة السيادة إلى قسمين:

    - القسم الأول: دول ذات سيادة كاملة لا تخضع ولا تتبع في شؤونها الداخلية أو الخارجية لرقابة أو سيطرة من دولة أخرى، ولها مطلق الحرية في وضع دستورها أو تعديله.

    - القسم الثاني:
    دول منقوصة السيادة لا تتمتع بالاختصاصات الأساسية للدولة لخضوعها لدولة أخرى أو تبعيتها لهيئة دولية تشاطرها بعض الاختصاصات، كالدول التي توضع تحت الحماية أو الانتداب أو الوصاية وكالدول المستعمرة[47].

    وهذا الاستقلال أو التبعية لا يؤثران في وجود الدولة الفعلي[48]، وهو ليس تقسيماً مؤبداً، بل هو قابل للتغيير والتبديل تبعاً لتغير ظروف كل دولة[49].

    وخلاصة ما سبق
    أن السيادة في الدولة الإسلامية لله تعالى متمثلة في شريعته، فهي تختلف عن غيرها من الدول، فسيادتها بسيادة شرع الله فيها وتطبيقها لأوامره في كافة شئونها، وإن أي تدخل لتعطيل الأحكام الشرعية سواء كان من جهة في داخل الدولة أو خارجها، هو إخلال بالسيادة في الدولة الإسلامية.

    ---------------------
    [1] انظر: نظرية الدولة في الإسلام، ص47.
    [2] انظر: القانون الدستوري والأنظمة السياسية، ص29.
    [3] موسوعة الفقه السياسي ونظام الحكم في الإسلامي، ص147.
    [4] انظر: مختار الصحاح، مادة: [سود].
    [5] انظر: صحاح اللغة، ولسان العرب، مادة: [سود]، ولسان العرب، مادة: [زعم].
    [6] أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، رقم: 4806، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/180: صحيح، قال في عون المعبود، 13/112: "إِسْنَاده صَحِيح"، والمعنى: أَي هُوَ الحَقِيق بِهَذَا الاسم والذي تَحِقُّ له السيادةُ المالك لنَوَاصِي الْخَلْق، وهذا لا ينافي سيادته صلى الله عليه وسلم المجازية الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية، حيث قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.
    [7] أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، رقم:3162، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: 194، واللفظ له، وإنما قال هذا صلى الله عليه وسلم لأمور منها: أن هذا من باب التحدث بنعم الله، ومنها أن الله أمره بهذا نصيحة لنا بتعريفنا بحقه، وهو سيد الناس في الدنيا والآخرة وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيه، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/66.
    [8] الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية، ص126.
    [9] معجم القانون، ص637: "وهو من المبادئ الرئيسة التي يقوم عليها النظام الدولي المعاصر".
    [10] قواعد نظام الحكم في الإسلام، ص24.
    [11] انظر: الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، ص 23-55.
    [12] انظر: أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص123، والإسلام والعلاقات الدولية في السلم والحرب، ص96.
    [13] انظر: معالم الدولة الإسلامية، ص119.
    [14] أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص148-149.
    [15] العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ص118.
    [16] انظر: الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، ص 188- 213، ومعالم الدولة الإسلامية، ص119-120، والنظرية العامة للدولة في الديمقراطية الغربية والديمقراطية الماركسية والإسلام، ص312، وموسوعة الفقه السياسي ونظام الحكم في الإسلام، ص384-412، وانظر: الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، ص215.
    [17] انظر: السيادة في الإسلام، ص125- 129، وآثار الحرب في الفقه الإسلامي، ص178-179.
    [18] سورة الأنعام، آية: 57.
    [19] سورة الأحزاب، آية: 36.
    [20] سورة النساء، آية: 59.
    [21] سبق تخريجه.
    [22] انظر: السيادة في الإسلام، ص168، و السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية، ص28، ومعالم الدولة الإسلامية، ص95، والحريات العامة في الإسلام، ص206، ومنهاج الإسلام في الحكم، ص81.
    [23] في ظلال القرآن، 1/341.
    [24] انظر: الإسلام والقانون الدولي، ص251-253.
    [25] انظر: الحريات العامة في الإسلام، ص207.
    [26] من فقه الدولة في الإسلام، ص33.
    [27] انظر: الدولة الإسلامية بين التراث والمعاصرة، ص 57- 62، وخصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، ص185-186.
    [28] نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، ص39.
    [29] العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ص117.
    [30] انظر: نظرية الدولة والمبادئ العامة للأنظمة السياسية ونظم الحكم، ص106.
    [31] انظر: النظم السياسية [تطور الفكر السياسي والنظرية العامة للنظم السياسية]، ص193.
    [32] انظر: معالم الدولة الإسلامية، ص118، والعلاقات الدولية في الإسلام، ص57- 58، وأحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص124، والإسلام والعلاقات الدولية في السلم والحرب، ص 87.
    [33] نظام الحكم في الإسلام، ص25.
    [34] انظر: نظرية الدولة في الإسلام، ص49.
    [35] انظر: نظرية الدولة والمبادئ العامة للأنظمة السياسية ونظم الحكم، ص107.
    [36] انظر: العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ص118-119.
    [37] سورة النساء، من الآية:141.
    [38] تفسير ابن كثير، 1/568.
    [39] سبق بحثها، وانظر: العلاقات الدولية في الإسلام، ص 60-61.
    [40] سورة النساء، آية: 59.
    [41] أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، رقم: 1854.
    [42] شرح النووي على صحيح مسلم، 12/243-244
    begin_of_the_skype_highlighting 12/243-244 end_of_the_skype_highlighting.
    [43] تحفة الأحوذي، 6/449.
    [44] أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر، رقم: 382.
    [45] انظر: عون المعبود، 7/214.
    [46] الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، ص335.
    [47] انظر: النظم السياسية – الدولة والحكومة، ص161- 164.
    [48] انظر: الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، ص 34.
    [49] انظر: النظم السياسية والقانون الدستوري، ص181.


    المصدر : شبكة الألوكة
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty تمييز ابن تيمية بين (إرادة الشعب) و (التدرج

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:15

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h


    تمييز ابن تيمية بين (إرادة الشعب) و (التدرج)

    إبراهيم السكران


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    الحمدلله وبعد،،

    التدرج في تطبيق الشريعة للمصلحة الراجحة أصل شرعي محكم مشهور، نص عليه كل من أعرف من أهل العلم في بلدنا، ومن ذلك –على سبيل المثال فقط- أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ألف رسالة مشهورة اسمها (منهاج أهل السنة في العقيدة والعمل) وكانت من مؤلفات الشيخ التي كتبها بيده، لا إملاءً في دروسه، وعقد الشيخ في هذه الرسالة فصلاً سماه (طريقة أهل السنة في إصلاح المجتمع) ومما جاء في هذه الفصل قول الشيخ ابن عثيمين:

    (جاءت الشريعة الإسلامية بالتدرج في التشريع شيئاً فشيئاً، وهكذا المنكر لابد أن نأخذ الناس فيه بالمعالجة حتى يتم الأمر)[مجموع فتاوى ابن عثيمين، جمع فهد السليمان: ص 5/210].

    وثمة موضع جميل بديع تحدث فيه الإمام شيخ المحققين ابو العباس ابن تيمية –جمعنا الله به جميعاً في قصور الفردوس اللهم آمين- مميزاً بين مسألتين بشكل واضح، حيث ميّز بين (إرادة الشعب) وبين (التدرج في إقامة الشرع للمصلحة الراجحة).

    يقول الإمام ابن تيمية في التمييز بين قاعدة (التدرج) وبين مبدأ (إرادة الشعب) :

    (فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن"، وقال تعالى للصحابة "واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم"، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه، ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه"، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول "والله إني لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف أن ينفروا عنها فاصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه")[مجموع الفتاوى:28/364].


    فتأمل كيف قرر قاعدة التدرج والرفق في التطبيق، لكنه في نفس الوقت قرر أن المناط في الحكم بالشرع ليس رغبة الشعب وعدم رغبتهم، فقال "ولو كرهه من كرهه" ومن ألطف ما في عرضه هو استنباطه من النصين القرآنيين "لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" وقوله تعالى "ولو اتبع الحق أهواءهم" وهاتان الآيتان العظيمتان تقتلعان من الجذور نظرية إناطة الشرع بصناديق الاقتراع دون اضطرار.

    وقد قرأت لبعض أهل العلم والفضل مقالة في سيادة الشريعة أصاب فيها مرةً، وأخطأ فيها أربع مرات، فأما صوابه فإنه قرر أن السيادة للشريعة لا للأمة، وقرر أن سيادة الأمة تابعة وخاضعة لسيادة الشريعة، لا العكس كما يقرر أهل الأهواء، بل جعل هذه المسألة من مسائل الإجماع التي لا يتصور الخلاف فيها، وهذا تقرير بديع موافق لأصول أهل السنة، وليس بمستغرب على عالم تقي له خبرة في كتب الفقه لا ينكرها إلا مكابر.

    وأما الخطأ ففي أربعة مواضع:

    الخطأ الأول
    : أنه توهم أن النزاع إنما هو في (التدرج في تطبيق الشريعة) وأنه ليس ثمة نزاع في لزوم الشريعة بالقدرة والإمكان، وهذا وهم وذهول، فمسألة (التدرج) خارج محل النزاع أصلاً، ولعل سبب هذا الوهم الاستعجال وعدم وجود وقت كافٍ لقراءة المقالات التي انتصرت لسيادة الشريعة، فكل من انتصر لسيادة الشريعة من أهل العلم والفضل أشار إلى مشروعية التدرج صراحةً أو ضمناً، وأنه ليس هو موضع النزاع.

    وسأذكر نماذج من ذلك:

    فمن ذلك قول فضيلة الشيخ د.سعد مطر -حفظه الله- في مقالته الدقيقة عن سيادة الشريعة:
    (حالات الضرورة الاستثنائية ، لا تخرم مبدأ سيادة الشريعة بحال ؛ وإنّما قد ترفع الإثم عن التأخر الاضطراري في إعلان تحكيم الشريعة، أو التدرج في تطبيقها ؛ وهذه مسألة خارجة عن محل الإشكال)[مقال: سيادة الشريعة من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، موقع رؤى فكرية].


    فتلاحظ أن الشيخ د.سعد مطر وفقه الله قرر مشروعية التدرج، وأنه خارج محل النزاع.

    وقال الشيخ سعد مطر أيضاً:
    (وبناء على رأي جمهور فقهاء العصر في مشروعية التدرج في تطبيق العدل الإسلامي "الشريعة الإسلامية"، تمت مشاركة الحركات الإسلامية بالدول العلمانية في العمل السياسي ببلادهم)[المصدر السابق].


    وقال الشيخ فهد العجلان في مقالته عن تحرير محل النزاع في مسألة سيادة الشريعة:
    (ولا إشكال مع من يريد الوصول إلى الحكم بشكل تدريجي.. هذا كله خارج محل النزاع)[مقال: الإلزام بالشرع وتحرير محل النزاع، موقع رؤى فكرية].


    وقال الشيخ عبد الله العجيري في مقالته عن سيادة الشريعة مؤكداً مشروعية مسألة التدرج وأنها خارج محل النزاع:
    (ليست المشكلة.. في أن الأمر قد يستدعي أناةً، وطول نفسٍ، وتدرجٍ، لفرض هذه الهيمنة الشرعية في الواقع)[مقال: على هامش سجال السيادة، موقع رؤى فكرية].


    وهكذا كل من دافع عن سيادة الشريعة يقرر مشروعية التدرج، وأنه ليس موضع الاستنكار.

    الخطأ الثاني
    : أنه عرّض بأهل العلم والفضل الذين نصروا سيادة الشريعة، أنهم يطعنون في من يتبنى التدرج بأنه "قد أتى زورًا، وغشي فجورًا، وأنهم ظنوا به ظن السوء، ورموه بأنه منكر لوجوب الحكم بما أنزل الله، وأنه منافق".

    وهذا كله –والله- ظلم فادح، وبغي على أهل العلم والفضل، فكيف يقال عن الدعاة أنهم يطعنون في من يتبنى التدرج، وهم يقررون التدرج وينصون أنه خارج محل النزاع! والله تعالى يقول (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)[الزخرف:19] ويقول الله سبحانه (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ)[المعارج:33].

    وإنما موضع النزاع هو: هل تطبيق الشريعة في الإسلام منوط بالقدرة والإمكان أم منوط باختيار الشعب؟ وصورة المسألة تتحقق في السؤال التالي: من حصلت له من ولاة الأمر القدرة والإمكان في تطبيق حكم شرعي فهل يلزمه استفتاء إرادة الشعب عليه، أم يلزمه تطبيقه مباشرة لأن الأصل هو وجوب الشرع؟

    فأصحاب مذهب (سيادة الشريعة) يعتقدون وجوب تطبيق الحكم الشرعي إذا وجدت القدرة والإمكان وهو الذي تنتفي فيه المفسدة الراجحة، وأصحاب مذهب (سيادة الشعب) يعتقدون أن الحكم الشرعي لا يطبق حتى يستفتى الشعب، مهما وجدت القدرة والإمكان، وإذا طبق ولي الأمر الحكم الشرعي دون استفتاء شعبي فقد ظلم واعتدى ولا يشكر في مسعاه، بل يجب نقده لأنه ضد الحرية!

    هذه هي صورة المسألة التي تمعرت لها قلوب المؤمنين، وفزعوا، وصاروا يكتبون فيها مجمعين على الاستنكار والاستبشاع دون تشاعر ولا تواطؤ، بل بعض من يحسن الظن ببعض هذه الشعارات وأصحابها انكشف له خطورة هذه الأفكار الليبرالية، إذ لأول مرةٍ تتم الجرأة على وضع سيادة الشريعة مقابل سيادة الشعب، بل وتوضع صورة رمزية على شكل ميزان فيه انتصار كفة الحرية على كفة الشريعة، وهي ليست صورة عفوية التقطت من الشبكة، بل واضح أنها صورة مصممة على وقع هذا السجال.

    فالمراد أن إناطة الشريعة بـ(القدرة والإمكان) هو قول فقهاء الإسلام قاطبة، وإناطة الشريعة بـ(صناديق الاقتراع) دون اضطرار؛ هو قول الليبرالية الذي تسلل إلى عقول بعض أبناء المسلمين للأسف بسبب ضغط عواصف الروح الليبرالية الغربية التي تكسرت أمامها مجاديف الإيمان في كثير من القلوب.

    فأهل العلم والفضل الذين كتبوا في هذه المسألة يستنكرون إناطة الشريعة باختيار الشعب من حيث الأصل، وهي التي قالوا فيها العبارات الحازمة المناسبة لهذا المقام، فكيف ينسب إليهم أنهم يطعنون في من يرى التدرج؟! يا رحم الله العدل والإنصاف.

    الخطأ الثالث:
    التحدث عن قاعدة (التدرج في تطبيق الشريعة) في سياق الاعتذار عن من يقرر أن (سيادة الشعب مقدمة على سيادة الشريعة)؛ ومن فعل ذلك فقد استعمل معنى صحيحاً في الاعتذار عن من يقرر معنى باطلاً، وهذا كمن يتحدث عن أهمية تنزيه الله في الاعتذار لمن يعطل الصفات، أو كمن يتحدث عن قاعدة الرجاء في الاعتذار لمن يقرر الإرجاء، أو كمن يتحدث عن قاعدة "أنتم أعلم بأمر دنياكم" في الاعتذار عن من يقرر العلمانية، أو من يتحدث عن قاعدة "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" في الاعتذار عن من يقرر الاشتراكية، ونحو ذلك، وهذا سلوك خاطيء شائع، وهو أن يذكر المرء معنى صحيحاً في الاعتذار عن من يقرر معنى باطل، وهذا السلوك الخاطئ قد يقع فيه بعض أهل العلم والفضل، والله يغفر لهم.

    -الخطأ الرابع:
    هو سوء التفهم لمقالات أهل العلم والفضل الذين يذبون عن سيادة الشريعة، وحملها على غير محاملها، في مقابل حسن التفهم لمقالات أهل الأهواء، والتعسف في وضع أفكارهم الباطلة تحت معنى شرعي صحيح! وهذه من أكثر الأمور إيلاماً لي بشكل خاص، ويعلم الله أنها كانت السبب الرئيس لكتابة هذا التعليق، فلا شيء في هذه الساحة الفكرية أبغض لي ممن يشتري رضا الليبراليين والمتلبرلين بالطعن في إخوانه، هذا والله خلاف المروءة، والله يغفر لشيخنا.

    أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرزقنا الحمية للشريعة والإسلام، والرحمة واللين مع دعاة الإسلام، والحزم مع أهل الأهواء الذين يوهنون أمر الشريعة في نفوس الناس، وأن لا يجعلنا بضد ذلك، قساة على الدعاة، رحماء بأهل الأهواء.

    وأوصي نفسي وإخواني جميعاً بنصيحة ابن القيم التي قال فيها:
    (وأي دين؟ وأي خير؟ فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يُرغب عنها؛ وهو بارد القلب، ساكت اللسان.. فإن القلب كلما كانت حياته أتم؛ كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل)[إعلام الموقعين:2/221]


    فإنني صرت أرى في نفسي، وفي كثيرٍ من إخواني من حولي تناقص الغيرة والغضب لله ورسوله، وقد بوب البخاري باباً نفيساً سماه (باب الغضب في الموعظة والتعليم) وساق فيه ثلاثة أحاديث فيها غضب النبي لله، وساق في غير هذا الموضع أحاديث أخرى مماثلة.
    والله أعلم
    ابوعمر

    محرم 1433ه
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty سـيـادة الـقـهــر

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:20

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h


    سـيـادة الـقـهــر

    الشيخ عايض الدوسري


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    أطلقت إحدى الشخصيات العلمانية السعودية تغريدة على موقع (التوتير) قبل يومٍ تقريبًا قالت فيها: "أنا أرضى بالعدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى".

    أجده من المناسب جدًا أن أفتتح مقالي بهذه المقولة الجوهرية التي تختصر مساحات شاسعة وصفحات عديدة للتعبير عما يريده الليبرالي المستلب أو التنويري المقهور.


    أعتقد أنَّ سيادة الواقع، المحكوم بالقهر والغلبة والظلم واستلاب الحقوق، هو العامل الأساس في الضغط على عقول فئة من العقول الشابة الذكية والنابهة للبحث عن مخرجٍ سريع من هذا الواقع، وربما لأن النماذج والأمثلة الدينية المعاصرة التي يعرفونها لا تسمح باستنباط ملامح ذلك المخرج، لذا وجدوا أنَّ الحرية هي الحل الناجع والمثالي للخروج من واقع القهر والغلبة والأثرة. ولأنَّ هذا الحل هو الحل الوحيد -في نظرهم- فكان ولا بد من إلتزام لوازمه ومقتضياته وفق مبدأ "تحت أي مسمى".

    ولا بد أن يتنبه المصلحون وعلى رأسهم علماء الشريعة أنَّ القهر يولد قناعات جديدة، واعتقادات حادثة، وهذه الاعتقادات تجر بدورها التزامات أخرى، وهكذا يجد الإنسان نفسه مضطرًا للالتزام بها حتى لا يخسر المبدأ الذي قرره، ليجد نفسه في نهاية المطاف محاطًا بتصورات مخالفة لما كان عليه في أول الأمر.

    وهذا التأثر ليس وليدة العصر الحاضر، بل هو وليدة كل عصر يكون فيه الإنسان تحت ضغطٍ ما. ففي القرنين الهجريين الأول والثاني نجد أنَّ جملة من الأذكياء والعقلاء ، الذين كانوا مدفوعين بحمى النضال عن الإسلام تجاه خصومه من أبناء المِلَل والنِحَل الأخرى، وجدوا أنفسهم مُلزمين بمجموعة مبادئ لا بد لهم من التزامها إن أرادوا المضي قُدمًا في نضالهم "العظيم". فمن أجل إبطال معتقدات الخصوم لا بد وأن يبطلوا مجموعة من الأمور منها على سبيل المثال: "قضية التقليد"، حيث قرروا أنه لا يُعرف بالتقليد الحق أو الباطل، ولأجل إلزام الخصوم بذلك التزموا بهذا المبدأ، فآل أمرهم -كما يقول الحافظ ابن حجر- إلى تكفير من قلد الرسول
    r في معرفة الله تعالى، ولزمهم القول بعدم إيمان أكثر المسلمين.

    ومن أخطر العوامل الواقعية التي يمكن أن تُولد عقائد جديدة "العامل السياسي"، حتى قيل إن "مذهب القدرية" كان أشبه بالمعارضة السياسية التي تشكلت كحركة مضادة للدولة المستبدة. ومثله قد يُقال عن "مذهب الجبرية" أو "المرجئة" أنها أيضًا حركات جاءت نتيجة ضغط الواقع لكن في اتجاهٍ عكسي. الخلاصة هنا هي أن العقول الذكيَّة المضطربة -على وجه الخصوص- تريد أن تتحرر من قهر الواقع بما تراه مناسبًا و"تحت أي مسمى".

    وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، من باب "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فسوف نجد أن التاريخ السياسي-الديني للمسيحية قد يُقارب ما حصل ويحصل بين المسلمين. فقد كانت "الكنيسة"، كممثلٍ رسمي وواجهة دينية للدين المسيحي، تخوض حرباً شرسةً مع الإلحاد والهرطقة التي أخذت في الانتشار في أرجاء أوروبا. لكن بسبب ممارسات خاطئة واعتقادات ضالة دخلت الكنيسة في عصر "الأزمات الداخلية" أي بين رجال الدين أنفسهم، وبشكل أدق بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!

    لم يعد ممكنًا إنكار الخلل العقدي والمنهجي والسلوكي "للكنسية"، ليس من نظرة إسلامية بل من نظرة نقدية مسيحية داخلية، فبدأت تظهر حركات نقدية وتصحيحية تركز بشكل أساسي على الخلل السلوكي الذي كان يمارسه رجال الدين والباباوات. فكانت الاعتراضات تتركز على بيع وشراء ترقيات الكنيسة، ومناصبها، وغنى رجال الدين الفاحش، وإقطاعيات الكنيسة، وبقية المخازي السلوكية المادية والأخلاقية، فكان موقف الكنيسة واضحًا وهو الحرمان من حقوق الكنيسة لمن يتعرض لمخازيها بالنقد، ولم تكن "الكنيسة" راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد، ولمواجهة الخطر قام تحالف بين "الكنيسة" و"الملوك"، أي تحالف بين الإقطاعيين لمواجهة حركة التمرد والنقد الديني والشعبي.

    ونتيجة طبيعة لذلك زاد النقد، وظهرت حركات تصحيحية كثيرة أخرى، منها المؤمن ومنها المتشكك ومنها الحركات الإلحادية. وما إن ظهر "مارتن لوثر" حتى تلقت الكنيسة الضربة الكبرى على يده وعلى يد "جون كالفن"، وحدث أن تحالفت الحركة الإصلاحية مع بعض الملوك ضد الكنيسة، وأراد هؤلاء الملوك أن يستقل بسيادته عن سيادة الكنيسة وعن سلطة بقية الملوك، ووجد بعض الإصلاحيين الأمر أسهل حينما تحالفوا من الملكيات ضد المرجعية الدينية، فمثل لهم ملاذً آمن وفرصة عظيمة لضرب الأسس الفلسفية والدينية للنظام الإقطاعي، وهذا ما لم تدركه الملكيات آنذاك.

    لم يكن بكل تأكيد "مارتن لوثر" ملحدًا أو مهرطقًا أو متشككًا، بل كان مؤمنًا قسيسًا متشددًا إلى أبعد الحدود، ولذا لم يكن يتخيل أن حركته الإصلاحية فيما بعد ستكون إحدى الأسس التي سوف تشيد العلمانية الملحدة صرحها عليها. وهذا ينسحب أيضًا على مجموعة من الأذكياء، الذين يمكن أن يحسبوا على المؤمنين مثل: "رينيه ديكارت" و"ليبتز" و"إيمانويل كانط"، الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، فحاول الجمع بين منهج العقلانيين والكنسيين، وذلك من أجل الحفاظ على الإيمان بصورة وسطية تنويرية!

    لكن محاولتهم الصادقة والبريئة تلك كانت بكل جدارة الضربة الأخيرة للكنيسة، فجاءت ضربة التغيير من داخل الكنيسة لا من خارجها.

    هذا التاريخ الكنسي يُحاول البعض جره إلى البيئة الإسلامية، ومن خلال محاولة صناعة أو تبني "عمائم ليبرالية" تنشط بفعاليَّة من داخل أسوار الدين، ولذا ليس من المستغرب أن يقول الدكتور "جورج طرابيشي": "ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم"!، فهو يربط -بشكل له مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي وما يجب أن يُكرر في الدين الإسلامي. خصوصًا إذا عرفنا أن الدكتور "طرابيشي" دعاء بكل صراحة إلى علمنة الإسلام مثل المسيحية بواسطة إعادة قراءة التراث الإسلامي الديني من خلال عيون عَلمانية، أي من خلال "مذبحة التراث". فهؤلاء -كطرابيشي وأمثاله- يريدون بكل وضوح تطبيق المقولة المنسوبة "لجمال الدين الأفغاني" القائلة: "لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه"!

    وهذا قد لا ينطبق على كثير من الأخوة الفضلاء الذين يُسمون بالتنويريين، حيث إن دافعهم هو الغيرة على الدين والشغف بالحرية والعقل والحقوق، لكن تضخمت قضية "الحرية" بشكل كبير ومفزع، بسبب تضخم القهر واستلاب الحقوق، حتى التزموا جعل الشريعة أو "تطبيق الشريعة" محكومة بــ "صندوق الاقتراع" وفق مبدأ "سيادة الأمة".

    فما هو مبدأ "سيادة الأمة" المقدم على "سيادة الشريعة"؟
    هل يُمكن القول إن المقصود بـ "سيادة الأمة"، الذي يحكم "سيادة الشريعة"، هو اختيار الأمة بكاملها، أي توافق كل أفرادها على شيءٍ ما؟ لا أظن عاقلاً يمكنه أن يزعم ذلك، فلا يُمكن بحال أن تتفق أمة من الأمة بكل أفرادها على أمرٍ ما حتى ولو كان من أعظم الأصول، وهذا أمرٌ بدهي. وإنني أزعم أنه لو طرح موضوع "الإيمان وجود الله" في "صندوق الاقتراع" في السعودية على وجه التحديد فلا أظن أن تكون النتيجة 100%.

    إذن، المقصود من "سيادة الأمة"، وهو "سيادة الأكثرية" أي اختيار الأكثرية، وأن تقوم السيادة على مبدأ اعتبار الأكثرية في تقرير الشرعية، فالشرعية ذاتية في "الناس الأكثر"، و"الشريعة" هي الممنوحة الشرعية بواسطة "الأمة" أو بالأصح -علميًا وواقعيًا- بواسطة الأكثرية. وهذا حكم تقريري بانعدام الشرعية الذاتية "للشريعة" أو "لحكم الله"، وانتقلت "الشرعية" أو "السيادة" لمجموعة من الناس يُسمون "الأكثرية".

    و"مبدأ الأكثرية" مبدأ سياسي يُشير إلى فوز مجموعة أو تكتل "مهما كان" بأكثر من نصف أصوات النـاخبين، أو بتعبير آخر، "مبدأ الأكثرية" أو "السيادة" هي نفس "مبدأ الغلبة" لكن بواسطة الاقتراع. وهو مبدأ قديم عرفه اليونان وأشار إليه "أرسطو"، ونصَّ "جان جاك روسو" أنَّ "الأكثرية" ملزمة للآخرين.

    هذا المبدأ "الأكثرية" يقوم على إدعاء الحق في إعطاء صفة الحق والصواب لمبدأ العدد؛ لمجرد أنه عدد، فما يقره العدد الأكثر يصبح هو الحق والصواب والحقيقة، وهذا بلا شك مخالفة صريح للإسلام الذي لا يعتبر بمسألة العدد أو "الأكثرية" في مسألة تحديد الأمور القطعية أو تحديد ماهية الحق أو الصواب والحقيقة، فضلا عن تقرير قبول الشريعة أو رفضها. قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).

    وإنه من الصعوبة -على الأقل بالنسبة إليَّ- فهم قول القائل الفاضل: "فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية. وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، لأنه لا خير في قيم ومبادئ لا تؤمن بها الشعوب ولا تتمثلها وتطبّقها إلا خوفا ونفاقا وتقيّة".

    ثم قوله بعد ذلك مباشرة: "لا يعني أن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق كما يتصور البعض. بل المعيار من حيث المنطق المعرفي هو المرجعية التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت دينية عقدية/ أو فلسفية وضعية، ومعرفة الحلال والحرام في الإسلام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة".

    حقيقة أجد صعوبة بالغة في رؤية التوافق بين التقريرين السابقين، ففي الأول "الأكثرية" هي من تعطي الشرعية لمنظومة القيم الإسلامية بل للشريعة نفسها، أي بكل وضوح "الأكثرية" هي معيار شرعية الأخلاق والقوانين والقيم. لكن في التقرير الثاني "الأكثرية" ليست هي معيار المبادئ والقيم والأخلاق! حقيقة احتاج إلى مساعدة لفهم كيفية التوافق بين هذين التقريرين.

    فإذا كانت الأمة لها الحرية والحق في اختيار الشريعة [منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين] أو نبذها، فكيف لا يكون "الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق"؟! وهو نفسه المعيار في تحديد المرجعية نفسها، وهي مرجعية الأخلاق والقانون! وحينما يُقال: إن "معرفة الحلال والحرام في الإسلام لا تكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة". فما المقصود من هذا الكلام؟ نحن بين خيارين اثنين: الأول: أن يكون هذا الكلام مجرد محاولة تعريف القارئ أنَّ الحلال والحرام في الإسلام يكون من خلال الكتاب والسنة، وهذا في الحقيقة تعريف للمعروف لا فائدة منه. والثاني: أن يكون الكلام تقريرًا لكون الاستفتاء الشعبي ليس مصدرًا للحلال والحرام عند المسلمين أنفسهم، ومن ثمة فلا يجوز للأمة أن تختار منظومة القيم والمبادئ المخالفة للإسلام كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين. فإذا تقرر هذا فقد نُقض الكلام كله ومن أساسه!

    إنَّ القوانين إنما تصدر في أغراضها وغاياتها عن القيم والمبادئ الأخلاقية، فمحيط القانون جزء من محيط الأخلاق، أو كما أوضح "مونتيسكيو" في كتابه "روح القوانين" أن الشرائع في كل مجتمع وليدة عاداته وهي مصدره. فالقوانين تأتي لتنقل القيمة أو الخلق إلى حيز التنفيذ أو الاحترام أو الاعتبار. وعليه، فإن من شرَّعَ قانوناً يحرِّمُ أمراً ما، فمن المفترض أنه يفعل هذا لأنه رأى هذا الأمر قبيحاً يستحق الحظر والمنع. فمن هنا صار الذي يعلق التشريعات على نتائج التصويت قد أعطى الناسِ حقَّ التحريم والتحليل، وجعلهم هم المرجع في تعيين الحلال والحرام على مستوى الجماعة.

    إن مبدأ "سيادة الأمة" ليس مبدأ إسلاميًا من الأساس، بل هو من مبادئ الأنظمة الوضعية التي أعطت "الحاكمية العليا" "للأمة=الأكثرية"، وهذا ما يتصادم مع الإسلام. ولما لم تكن أوروبا المسيحية محكومة "بسيادة الشريعة"، فقد كانت محكومة "بسيادة الكنيسة" أو"سيادة الملكيات"، والجميع يدعي الحكم باسم "الحق الإلهي"، فما كان من الشعوب الأوروبية إلا أن استبدلت ذلك بسيادتها على نفسها، وأعطت نفسها صفة الحاكمية المطلقة، فهم الذين يُقررون ويشرعون القوانين، وهم معيار ما هو خُلقي وما هو غير خُلقي، فالشذوذ مثلاً كان غير شرعي لكن الشعب قرر أن يجعله مباحًا فكان مُباحًا، فصار الشعب هو الشريعة.

    هذا الواقع الأوروبي المبهر صار له ضحايا من المسلمين، وأصبحوا مرتهنين لمنظمة المفاهيم الغربية، وأصبحت قراءة المراجع الدينية تتم بعيون غربية، حتى يُخيل إليك وأنت تقرأ ما سرد بعضهم من الآيات للتدليل على "سيادة الأمة" وكأنك تقرأ كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق وهو يُقرر أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي للحكم!

    قهر الواقع بالإضافة إلى الانبهار بالغرب والنموذج الغربي "أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب...كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته، وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة"، كما يقول المفكر المسيحي المصري "رفيق حبيب".

    إن أخشى ما أخشاه على هؤلاء الأخوة الفضلاء أن يكون الحق السياسي والإنساني دافعًا لهم، من حيث لا يشعر بعضهم، إلى تحطيم الشريعة، وتكرار ما حصل بشكل متكرر في تاريخنا الإسلامي بل والإنساني، وذلك من خلال لجوء الإنسان المقهور إلى تحطيم أقل العدوين خطرًا عليه، المرجعية الدينية لا السلطة السياسية. فهو لا يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة السلطة السياسية، فيتوجه بسهامه إلى المرجعية الدينية بل للشريعة نفسها، تحت أسماء مختلفة مثل: السلفية، أهل السنة والجماعة، تطبيق الشريعة.

    ثم يجعل هدفه الأول، أو سمه التكتيكي، نقض وتفكيك المرجعية الشرعية التي تُعطي -كما يزعم- السلطة السياسية القاهرة الشرعية الإلهية، ففي هذه المرحلة، كما صرح البعض، يجب التوجه لتفكيك ونقد ونقض السلفية كإطار مرجعي شرعي، أما السلطة السياسية فلا يشملها الآن التفكيك، لأنه كما يُقال فكك الإطار وسوف تسقط الصورة حتمًا. لكن ماذا لو كانت النتيجة تحطيم الإطار ثم بقاء الصورة منحوتة على الجدار!

    إن العاقل يفهم لماذا أصبحت "سيادة الأمة" هي السلطة العليا في الغرب، فالغرب يفصل بين الدين والدولة، فلا بد حينئذ من أقرار سيادة الشعب، إذ أن الدولة ليست دينية ولا محكومة بشريعة الله. لكن الدولة المسلمة مهمتها هي حراسة الدين وحراسة الشريعة، لا تخيير الشعب أو الاستناد إلى اختياره في تقرير شرعية أو عدم شرعية الشريعة.

    في مبدأ "سيادة الأمة" تكون الأمة أو "الأكثرية" هي السلطة العليا التي لا تعرف سلطة أعلى منها، حتى الشريعة نفسها، فلو قررت الأكثرية إباحة المحرمات وتحريم الحلال، بل نبذ الشريعة جملة وتفصيلاً فلها الحق في ذلك، فهي السلطة العليا ولا يوجد أعلى منها. أو كما عبر أحد الفضلاء من أنصار مبدأ "سيادة الأمة" بكل وضوح أنه إذا "اختارت الأمة غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".

    وفي الأنظمة السياسية الوضعية تكون الصفة الأصلية للسيادة هي سلطة وضع القوانين، أي التشريع، ولا يُمكن أن يُفرض عليها أي التزامات من قبل أي سلطة، ولذا لا يُمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة، والسيادة لا تقبل التجزئة، فالسلطة العليا واحدة، وهي أيضًا غير قابلة للتنازل، فلا يحق لصاحبها أن يتنازل عنها. وأظن أن بعض الذين يرون "سيادة الأمة" خلطوا بين السيادة كسلطة عليا لا شيء فوقها، وبين بعض مهام الأمة السياسية في الإسلام، فطردوا سلطة "سيادة الأمة" حتى جعلوها-دون مبالغة- نفس سلطة الله سبحانه وتعالى في التشريع.

    إن الأمة ليست حرة بمجموعها أو بإفرادها بل الجميع مقيد بأحكام الشريعة لا يسعه الخروج عنها فضلا أن يجعل الشريعة محلا للاقتراع. فالشريعة حاكمة على المسلم فردًا أو دولة لا يسع أحد منهم سن قانون يُخالفها فضلاً عن أن يطرحها بالكلية!

    قال الحق سبحانه وتعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) أي أن السلطة العليا والسيادة هي لحكم الله، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي المرجع السيادي لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل سبحانه فحكمه إلى الشعب أو "سيادة الأمة"، ولم يقل ردوه إلى "سيادة الأمة"، فضلاً أن يقول سبحانه وتعالى إذا "اختارت أمتكم غير كتابي وسنة نبيي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".

    في الختام، هذه كلمة موجهة للعلماء وطلاب العلم للالتفات إلى أهمية هذه المواضيع وخطورة الواقع وما يفرزه على الشباب والنابهين، وهذا يحتم على العلماء وطلاب العلم أن يتصدر اهتمامهم هذا الموضوع دراسة وتحليلا وتقييم ونقدًا، فأثمن ما لدى المسلم هو شريعة الإسلام، وهي مقدمة على أي مصلحة دنيوية، وإذا لم يوجد من العلماء وطلاب العلم من يتصدى بعلم وحكمة لمثل هذه المواضيع فإن الوضع خطر، وهو كما قال "ابن قيم الجوزية" أنه حينما تنزل بالأمة فتن عقائدية أو فكرية ولم يجدوا من العلماء فكرًا أو سيرة يتخذونه نموذجًا، فإن أذكياء الأمة قد يصبحون زنادقة.
    وحقيقة لا بد من الاعتراف بها هنا، وهي أنه بسبب قهر الواقع واستلاب الحقوق والظلم وعدم وجود نماذج دينية نزيهة كافية، فإنَّ أعداد الشباب الذين لديهم الاستعداد "لقبول العدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى" تزداد، وأصبحت "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" الثالوث المقدسة لدى بعضهم، وهي مقدمة على الشريعة نفسها، والله المستعان.

    قال تعالى: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty ليبرالية بقشرة إسلامية

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:22

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h


    ليبرالية بقشرة إسلامية

    بندر بن عبد الله الشويقي


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    (ماذا لو قرَّرُ الشعبُ تنحيةَ الشريعة؟). دعونا الآن نؤجِّل هذا التساؤل المفترَض رُغمَ أهميته شرعاً، وخطورته عقدياً. ولنتحدَّث عن أمثلةٍ واقعيةٍ، تشرحُ الخلل الجليَّ والانحراف الضَّخم، لدى من يطلقُ قاعدة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة)، ومن يعُدُّ الحكمَ بشرعِ الله دون تصويتٍ واستفتاءٍ اعتداءً على الناسِ وانتهاكاً لحقوقهم، ومن يقولُ: إن اعتمادَ مرجعيَّة الشريعة دون تصويتٍ واستفتاءٍ سوف يحوِّلُ الناس إلى منافقين.
    وقبل الدخُول في التفصيل، أجدُ من الضروريِّ هنا التنبيهَ إلى الفرقِ الشاسع بين البحثِ في أصل الحكم الشرعي، وبين البحثِ في مشروعية الخروج عن هذا الحكم لاعتبارات الضرورة، أو عدم الاستطاعة.
    أقولُ هذا لأني رأيتُ من أبعد النجعة فاستدلَّ بحال النجاشيِّ في الحبشة، حين لم يحكم في بلده بشريعة الإسلام، فجعلَ ذلك دليلاً على قاعدة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة).
    مثلُ هذا الاستدلال يجعلك تتوقف كثيراً عند أهلية أصحابه لمناقشة مثل هذه المسائل؛ إذ من المعلومِ -عند من يعرف التأريخ- أن النجاشيَّ كان مستضعفاً لا نصيرَ له، فكان يخفي إسلامه عن قومه مداراةً لهم، وخوفاً منهم، فكيف يطلبُ من مثله الحكمُ بشريعة الإسلام؟! وكيف يصحُّ الاستدلال بحاله، على حالة الدولة المسلمة المستقرة.
    أعجبُ من هذا وأغربُ مسلك من يستدلُّ بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم دولته بمكة، ولم يفرض على الناس حكمَ الشريعة! فكيف يمكن أن يخطر هذا الاستدلالِ ببال من يدركُ أن النبيَّ كان بمكةَ في بلاءٍ وشدةٍ، وكان أصحابه يؤذون أمامه، ويعذبون، ويفتنون عن دينهم، فلا يستطيع الدفعَ عنهم، ولا يملك إلا أن يأمرهم بالصبر. بل كان هو نفسه يؤذى ويوضع القذر على رأسه الشريفة وهو ساجدٌ عند الكعبة. فالحديثُ هنا عن إقامة دولة وعن تطبيق الشريعة يطرح علامات استفهام حول مصداقية المستدلِّ. وإن بالغنا في إحسان الظنِّ فسنقولُ: إننا أمامَ فقهٍ وفهمٍ يبلغ الغاية في الهشاشةِ والضَّعف.

    حسناً...دعونا الآن نطوي مثل هذه الاستدلالات الهزيلة، ولنؤجل البحثَ في الصور والتساؤلات المفترضَة، ولنشرع في الحديثِ عن الآثار الواقعية لقاعدة (سيادة الأمة، قبل تطبيق الشريعة)...فما الذي يعنيه هذا التقعيد؟ وهل يعي أصحابه مآلات قولهم ؟
    لنأخُذ مثالاً نعايشه هنا في السعودية يشرحُ الإشكال والخلل في مثل هذا التنظير:
    نحن لدينا مرجعية قضائية معلنة هي (شريعة الإسلام). وأدركُ -كما يدركُ غيري- أن ثمةَ خروقاتٍ واسعةً لتلك المرجعية المعلَنَة. وقد كنَّا إلى وقتٍ قريبٍ نحسبُ أن من أهمِّ واجبات المصلحين الإلحاح والمطالبة بتصحيح واستدراك ما نقصَ، كي يصحَّ لنا أن نقول بحقٍّ: (إن مرجعيتنا في الحكم شريعةُ الإسلام).
    لكن حسب نظرية (سيادة الأمة، قبل تطبيق الشريعة)، فإنَّ على المصلحين أن يعيدوا النظر في شرعية مطلبهم هذا. فمن الآن وصاعداً: سيكونُ من الخطأ ومن الإثم ومن الجُرم والاستبداد مطالبة الحكومة عندنا بالتزام شرع الله، لأنها لا تملك الحقَّ في ذلك أصلاً؛ إذ ليس لها إكراه الناس على حُكم الشرع دون عمل تصويتٍ واستفتاءٍ! فما دامت السلطةُ ترفُض إجراء هذا التصويتِ، وتأبى القيامَ به، فإنه لا يحقُّ لها إطلاقاً اعتمادُ الشريعة مرجعيةً للحُكم، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يطالبها بهذا!
    ليس هذا فحسبُ...بل إن من توابع تلك النظرية الجديدة أن من الواجب على المصلحين الصادقين الناصحين أن يقوموا بوظيفةٍ معاكسةٍ لوظيفتهم الحالية. فما دامت سيادة الأمة مغيبةً، وما دام هناك إصرارٌ على تغييبها، فإن على المصلحين أن يطالبوا بهدم وإلغاء القسم المتبقي لدينا من مرجعية شريعة الإسلام، بدل أن يسعوا في استكماله وتسديده! لأن هذا القسم في الواقع يمثل انتهاكاً لسيادة الأمة، وإكراهاً على الدين!
    أصحاب النظرية الجديدة يقولون: حكمُ الشريعة لا يجوز أن يأتي إلا عبر (سيادة الأمة) من خلال نظام التصويتِ الحرِّ. ولا يجوزُ الإتيان بالشريعة عبر الفَردِ المتغلِّب، أو الفئة المتغلِّبة. فما لم تتحقَّق سيادة الأمة، وما لم يُفسَح لها المجالُ لتعبِّرَ عن نفسها وتختارَ مرجعيتها، فليس لأحدٍ أن يستبدَّ فيفرض على الأمةِ الحكمَ بشريعَةِ الإسلامِ. لأن القرآن ينصُّ على أنه (لا إكراه في الدين)، ولأن فرضَ الشريعة دون تصويتٍ سوف يؤدي إلى تحويل السعوديين إلى منافقين!
    بل إن النظريةَ الجديدةَ تقتضي -وإن لم ينتبه أصحابها لذلك- أنَّ السعوديين تحوَّلواً منذ زمنٍ بعيدٍ إلى أبناء سَلولٍ؛ إذ من المعلوم أنه لم يُتَح لهم التصويت على مرجعية الشريعة، بل اتخذ هذا القرارُ وأُعلنَ دون الرجُوع إلى أصواتهم، فوجدوا أنفسهم يلتزمون أحكاماً لم يختاروها. فهم -إذن- منذ عقودٍ منغمسون في النفاق إلى آذانهم!

    إذا ذهبنا خارجَ السعودية، وأرَدْنا تصدير تلك النظرية المبدعةِ إلى الدُّعاة والمصلحين في الخارج، فجئنا -مثلاً- إلى إمارةِ (دبي). فيفترض أن نشرحَ للناسِ هناك أنه مع الإصرار على تغييب سيادة الأمة في بلدهم، فإن من الواجب عليهم ألا يتورَّطوا في المطالبة بسنِّ أيِّ قانونٍ يحدُّ من مظاهر انتهاك شرع الله هناك. لا بُدَّ أن يفهموا أنه لا يحقُّ لهم مطالبة حاكمهم المتغلِّب بحظر الخمور -مثلاً- أو منع التعري على الشواطئ. لأن الله قال: (لا إكراه في الدين). ولأن الفردَ المتغلِّبَ ليس له فرضُ الشريعة دون تصويتٍ واستفتاءٍ، ولأن منع الخمور سيحوِّلُ السُّكارى إلى منافقين، والعرايا إلى منافقاتٍ. وهذا يتنافى مع مقاصد الشريعة!

    خلاصة النظرية أننا دائماً:
    ينبغي أن نطالبَ فقط بشيءٍ واحدٍ: (سيادة الأمة)، وما لم يُجَب مطلبنا، فإن واجبنا يقضي أن نجتهدَ جميعاً في نبذ الشريعة وإقصائها ما أمكن، لئلا نخالف أمر الله الذي قال: (لا إكراه في الدين). ونحن -في فعلنا هذا- مأجورون عند الله، لأننا راعينا الأولويات الشرعية، فحرصنا على أن تكون (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة)!
    تلك حقيقةُ ما يقرِّره ويدعو إليه -دون وعيٍ- أولئك المتصدون لتجديد النظرية السياسية الإسلامية بزعمهم. فهذا معنى قولهم إن الشريعة لا يجوز أن تُفرَضَ إلا عبر التصويت، وهذا معنى قولهم: (سيادة الأمة) قبل (تطبيق الشريعة). فتشريعات الإسلام-حسب تنظيراتهم- يجب أن يلتزمها الفردُ في نفسه فقط، أما على مستوى الدولة، فلا شريعةَ إلا بتصويتٍ، ومع غياب التصويت، لا بُد من تعطيل التشريعات الإسلامية كلها، إلى أن تستعيد الأمة سيادتها عبر صناديق الاقتراع!

    بين حكم المتغلب، وسيادة الأمة

    مشكلةُ أصحاب تلك النظرية الأخيرة أنهم حين يناقشون مسألة الإلزام بمرجعية الشريعة، يتحدَّثُ أحدُهم وكأنَّ لديه دولةً سوف يعيد تركيبها من الصِّفر. هو يتحدثُ وكأنه جالسٌ على كرسي، وبين يديه أرضٌ فضاءٌ لا يوجد فيها دولةٌ، ولا سكان، ولا سُلطة لأحدٍ عليها، وعن يمينه يجلس الشعب الذي سوف يسكن هذه الأرض بعد تشكيل نظامها، وعن يساره صندوقٌ فيه مفاتيح السلطة التشريعية. فيأتي أحدُهم ليفتح الصندوق، ويخرج منه مفاتيح السلطة بأطراف أصابعه، ثم يسأل من حوله بذكاءٍ وفطنهٍ: أيهما أحسن وأضمن أن نعطي مفتاحَ السلطة للشعب كلِّه، أو أن نختار فرداً واحداً نمنحه حقَّ فرض الشريعة؟
    ترى أحدَهم يحدِّثُ من حوله مُفاخراً: أنا أرى منح سلطة التشريع للشعب. بينما أنتم ترون منحها لفَردٍ متغلبٍ. هذا هو الفرق بيني وبينكم. فكلُّنا نؤمن بمرجعية الشريعة. لكن نختلف في تحديد الطرف الذي سوف نمنحه حقَّ الحكم بالشرع!
    ما لم ينتبه له هذا القائلُ أن النقاشَ والبحثَ ليس عن دولةٍ سوف نبنيها على أرض المريخ أو زُحَلٍ. بل الكلامُ يتعلقُ بأوضاعٍ ودُوَلٍ قائمة لم تأتِ باختيار أحدٍ ولا مشورته. فحين يكون أمامك بلدٌ محكومٌ بنظامٍ فرديٍّ متغلبٍ مستأثر بالسلطة، ولا ينوي التنازل عنها، أو إشراك غيره فيها، والناسُ خاضعون له (طوعاً أو كرهاً)، وهو يحكمهم بقانونٍ وضعيٍّ لم يشاورهم فيه. فهل هناك إشكالٌ لو سعينا في إقناعه بتحويل نظامه، أو تقريبه -على الأقل- إلى المرجعية الإسلامية ؟
    حسب نظرية (سيادة الأمة) لا يجوز ذلك. لأن هذا من الإكراه في الدين. فإذا لم يقبل المتغلبُ الاحتكامَ لسيادة الأمة والتصويت على مرجعية الشرع، حرُم علينا السعيُ إلى تحكيم الشريعة من خلاله! ومن نصح هذا الحاكم المتنفِّذَ بالتزام شرع الله في حكمه، فإنه يكون آثماً عند الله -عز وجلَّ-، لأن الشريعة لا يجوز أن تأتي إلا عبرَ سيادة الأمة!
    وقد تعب جملةٌ من الأفاضل كي يشرحوا: أنهم لا يؤمنون بصحة وجود فردٍ مُتغلِّبٍ يملك حقَّ نصب الشَّريعة ونزعها متى شاء. لكنَّهم يعالجونَ أوضاعاً قائمةً، ويجتهدون في الاقترابِ من حكم الشرع حسبَ السبُل المتاحَة. فإن كانوا يعملون في ظلِّ نظامٍ يحتكم للتصويت والانتخاب ويلتزم نتائجه، فسوف يسعون لمرجعية الشريعة من خلال هذا النظام إن رأوا المصلحةَ في ذلك. وإن كانوا يعملون في ظل نظام حكمٍ فرديٍّ يرفض التنازُل عن السلطة، فسوف يسعَون لتحقيق مرجعية الشريعة من خلاله أيضاً. ولو أن هذا الفردَ المتغلبَ سمع وأطاعَ لهم فالتزم شرعَ الله في قضائه وحُكمه وتشريعاته، فلا يعني هذا أن القصة انتهت، فتفرُّده بالسلطة المطلقة وإن كان واقعاً مفرُوضاً بالقوةِ، فليس هو الوضع الصحيح الذي ينشدونه، لكنَّه خيرٌ من وضعٍ يجمعُ بين تفرُّدٍ بالسلطةِ، وإقصاء لمرجعية الشرع.
    هذه النقطة ظلت عصيةً على فهم أصحاب تلك النظرية المتفرِّدة، فظلُّوا يردِّدُون ويتساءلون بذكاءٍ: أيهما أحسن أن يناط تطبيقُ الشريعة بالفَرد أم بالأمة؟

    تناقضٌ غير مفهومٍ

    عزيزي القارئ حاول أن تجمع بين هاتين الفكرتين، علَّك تفلحُ فيما عجزتُ عنه.
    يقولُ أحدُهم:
    "وظيفة الاستفتاء هو الاحتكام إلى إرادة الناس حين تتصارع القيم والإرادات، فيتمُّ حسمُها بمسارٍ سلميٍّ وحضاريٍّ، لا بمسارِ الحرُوب والاقتتالِ والإرهابِ والقَمْعِ والإقصاء وسَفك الدِّماء وانتهاك الحرمات...".
    تأمَّل معي -أيها القارئ الكريم- كيف يتمُّ تصوير نتيجة إقرار مرجعية الشريعة دون تصويت: (اقتتالٍ)، (إرهابٍ)، (قمع)، (إقصاء)، (سفك دماءٍ)، (انتهاك حرماتٍ).
    ففي رأي صاحب تلك النظرية، أن حكمَ الشريعة في بلاد المسلمين إذا لم يأتِ عبر صناديق الاقتراع، فالنتيجةُ شلالاتٌ منسكبةٌ من الدماء، وركامٌ من الجماجم والأشلاء، وليس هناك أيُّ فرصة لخيارٍ ثالثٍ. مع أن صاحبَ هذه المقولة هو نفسُه الذي كان يقول: إن الشعوبَ إذا خُيِّرت، فهي قطعاً لن تختارَ إلا الإسلام!
    هل هناك في التناقُضات أوضح من هذا؟!
    أين يمكنُ أن توجد هذا الصورة: شعبٌ نقطعُ ونوقنُ ونجزمُ أنه متى خُيِّر، فلن يختار مرجعيةً غير شريعة الإسلام، ولا يمكنُ أبداً أن يبتغي عنها بديلاً. لكنَّ هذا الشعب نفسه سوف يُشعل الأرض، ويزلزلُ الأرجاء، ويحوِّل البلاد إلى أنهارٍ وبحارٍ ومحيطاتٍ من الدماء، فيما لو أعلن حاكمه التزامه شريعة الإسلامِ دون استفتاءٍ وتصويتٍ!
    ألا يمكن أن يتصوَّر هؤلاء شعباً مسلماً يفرح ويستبشر لو سمعَ قراراً بالتزام حكومته المتغلِّبة بدين الله وشرعِه ؟!

    هل الشريعة كائنٌ حيٌّ ؟

    أن يتبنى أحدٌ وجهة نظرٍ خاطئةٍ، فليس ثمة ما يستغربُ؛ إذ الجميع يخطئ. لكن البليَّة حين يكون الخطأ مبنياً على تصوُّرٍ بالغ السذاجة لمسألةٍ اقتحمها الكاتبُ بجُرأةٍ دون أن يفهم أبعادها وحدودها.
    وتزدادُ الصورةُ قُبحاً حين يُصَاغُ ذاك التصوُّر الساذج ثم يُطرَحُ بلغة الأستاذ الخبير، الذي سوفَ"يحرِّك المياه الراكدة"، ويعلِّمُ الآخرين كيفيَّة "إعادة تنظيم وترتيب النظرية السياسية في التصوُّر الإسلامي".
    يقولُ صاحبُ مقالة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) معترِضاً على من حاول أن يشرح له سُوءَ فهمه: "تستغربُ أن يأتي بعضُ المعترضين ويقول: (السيادة لا تكونُ لأحدٍ من الخلق.السيادة للشريعة فقط). حسناً: أتعلمونَ ما معنى هذا الكلام؟ وأرجو أن يتحملَّني البعضُ، لأني سأبدأ بشَرح البدهيات العقليَّةِ ومآلات إنكارها. وشرحُ البدهيات ثقيلٌ على نُفوس العقلاء. ولكن ما الحلُّ مُكرَهٌ أخاك لا بطَل!!".
    هو هنا وضع نفسه في صورة الأستاذ المحنَّك، والقانوني الخبير الذي وجد نفسه مكرهاً على ممارسة مهمةٍ ثقيلةٍ على نفسه؛ مهمة شرح البدهيات العقلية لمن لا يفهمها.
    وحين شرعَ الخبيرُ في الشرح قال:
    "إذا قلنا (السيادة للشريعة) فهذا يعني أن الشريعة كائنٌ حيٌّ يملك القدرة والإرادة. يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق، ويجلس على عرشه، ويأمُر وينهى! وبالتالي: الشريعة هي التي تطبقُ نفسها في الواقع! وهي التي تنقُل نفسها من كونها منظومةً من القيمِ والأحكام والمبادئ إلى كونها دستُوراً..وليست بحاجةٍ إلى تصويت واستفتاء الأمة كما يقول التنويريون (هداهم الله).
    ثم يضيف شارحاً غباء المعترضين عليه:
    "بناءً على هذا المنطق، إذا أردْنا أن نطبقَ الشريعة في ولاية (لاس فيغاس) بأمريكا مثلاً. فيكفي أن نرسِل القرآن وصحيح البخاري -زادهما الله تشريفاً- إلى (لاس فيغاس)، ونضعهما في أحد البيوت الفخمة، وعلى أحد الرفوف المذهَّبة. وبإذن الله لن تمرَّ سنةٌ إلى ولاس فيغاس بدون ملاهي وفنادق للدعارة والقمار".
    هذا ما قاله صاحبُ النظرية. وسوف أعترفُ أن الرجُل بحقٍّ كان يشرحُ بدهيةً ومسلمةً عقليةً. وقد كان بإمكانه أن يريح نفسه من هذه المهمة الثقيلة عليه، لو أنه أعطى نفسه فرصةً لفهم معنى (السيادة) التي يتحدَّث عنها الجميعُ.
    واختصاراً للوقت سوف أشرح له المسألة بنفس طريقته، وأقول له:
    إن كنت تظنُّ أن (سيادة الأمة) كائنٌ حيٌّ يأكل الطعامَ، ويمشي في الأسواق، ويجلس على العرش، ويفرِضُ نفسه بنفسه. فما عليك إلا أن تتصل هذه الليلة بسيادة الأمة، وتطلب منها أن تحجُز مقعداً على أقرب رحلةٍ، فتأتي إلينا، أو تذهب إلى أي بلدٍ يوجد فيه حكمٌ فرديُّ متغلِّبٌ. وبمجرَّد وصولها إلى هناك، تتغافل عين الرقيب، فتتسلل في ظلمة الليل، وتتربَّع في المادة الأولى من الدستور. وفي الصباح ينتهي الاستبداد، وتنكشف الغمة، وتنعم الأمة في ظلِّ حكمٍ ديمقراطيٍّ رشيدٍ!

    هل هذا منطقٌ مقبولٌ ؟

    أصلُ الإشكال هنا أن الكاتب عاجزٌ عن التمييز بين (السيادة العليا)، وبين من ينفِّذ مُستلزمات ومقتضيات هذه السيادة ويطبق القوانين الناشئة عنها. هو يظنُّ أن السيادة الشرعيَّة العليا هي لذاك يُنفِّذ القوانين ويطبقِّها، ويتصوَّر أن من يطبق الشريعة وينفِّذها في الواقع، لا بُدَّ أن يكون هو صاحبُ السيادة التشريعية!
    هو يقول: الشريعة لن تحكم بنفسها، ولا بُدَّ لها من عملٍ بشريٍّ يجسِّدُها على الأرض. فإذا لم ترضوا بأن تكون الأمةُ هي التي تختارُ مرجعيَّة الشريعة، فليس أمامكم إلا أن تقولوا: إن فرداً أو جماعةً يملكون ذلك الحقَّ. فأنتم تهربون من سيادة الأمة، إلى سيادة الفرد المتغلِّب. أنتم توهمون الناس أنكم تدعُون لسيادة الشريعة، بينما الواقع أنكم تنادون بسيادة الفرد. أنتم ترفضُون أن يصوِّت الشعبُ على اختيار حكم الشريعة، ثم تقبلون إسناد حقِّ الاختيار للحاكم المتغلِّبُ، فتجعلون حقَّ الحكم بالشريعة ونبذها منوطاً به.
    هكذا تمَّ تصوير المسألة ... وربما جاء الآن دوري لأمارس تلك العملية الثقيلة على العقلاء، عملية شرح البدهيات العقلية والمسلَّمات الشرعية:

    معنى سيادة الشريعة

    حين يقولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". أو يقولُ "إنما الطاعة في المعروف". و"على المرءِ المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ أو كرِهَ، إلا أن يؤمرَ بمعصيةٍ. فإن أُمِرَ بمعصيةٍ، فلا سمعَ و لا طاعةَ".
    حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فهو يؤسِّسُ لمبدأ سيادة الشريعة. لأنه في كلامه هذا لا يقرِّرُ حُكمَاً فَردياً والتزاماً شخصياً وحسب، بل قد أسَّسَ -أيضاً- لمعنى سيادة الشريعة سيادةً قانونيةً. فحين يأتي التشريعُ المناقضُ صراحةً لدين الله، فلا سمعَ ولا طاعةَ. سواءٌ جاء هذا التشريع عبر فردٍ متغلِّبٍ، أو عبر تصويتٍ عامٍ، أو بواسطةٍ برلمانٍ منتخَبٍ. فكلُّ هؤلاء مخلوقون، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
    فليس لأحدٍ أن يلتزمَ التشريع المناقض صراحةً للدين إلا مع الإكراه.
    ولا يجوزُ للقاضي أن يحكُمَ بهذا التشريع، أو يعاقبَ من خالفه.
    وإن حكَم به القاضي، فليس لصاحب السلطة التنفيذية إنفاذ هذا الحكم.
    فإن فعلوا ذلك: فلن نقولَ أنهم آثمون شرعاً فقط. بل نقول -أيضاً-: أنهم مستحقُّون للعقوبة الدنيوية. فلو ذهبت تلك الحكومة ومجلسُها التشريعيُّ، فمن حقِّ المتضرِّر مقاضاة القاضي الذي حكم عليه بما يخالف الشرعَ، ومقاضاة من أنفذ الحكم مع معرفته بمناقضته للشرع. ولا يُعفي هؤلاء من المسؤولية استنادهم لقرار مجلسٍ تشريعيٍّ ناشيءٍ عن (سيادة الأمة). لأن تشريعاتِ الإسلام وتكاليفه لا تبطلها مجالسٌ ولا أصواتٌ. لكن حسبَ نظرية (سيادة الأمة)، فإنه لا مسؤولية على من أنفذ حكماً مخالفاً للشرع، فأراق دماً أو استباحَ مالاً أو عِرضاً. لأن هذا لم يزد على امتثال ما يجبُ عليه (شرعاً!).
    حسناً...لقائلٍ أن يقول: هل يمكن أن تنجح دولةٌ بهذا الطريقة ؟ يقرِّرُ المجلس التشريعي، فيرفض القضاةُ تنفيذَ قراره. ويحكم القاضي، فترفض السلطة تنفيذ حكمه؟
    بالتأكيد: لا يمكنُ أبداً أن تنجحَ دولةٌ هذا نظامُها. لأجل ذلك قلنا: لا يسوغ شرعاً ولا يجوزُ -في حال الاختيار- طرح أحكام الشرع المطهَّر للتصويت. لأن ثمرة هذا التصويت لن يكون لها قيمة في حكم الإسلام، وليس لها أيةُ أثرٍ قانونيٍّ إلا بحُكم القوةِ والإكراه.
    وهذا كلُّه في التصويت على قانونٍ واحدٍ مناقضٍ للشرعِ. أما التصويت على نبذِ مرجعيَّة الشريعة كلِّها فذاك أمرٌ أنكَرُ وأبطَلُ. ومتى حصل هذا، فإن الدولة تفقِدُ شرعيَّتها أصلاً، والمجلس التشريعي يفقد شرعيَّته أيضاً. فلا فرقَ بين حاكمٍ فَرْدٍ ينبُذ الشرعَ، أو مجلس تشريعيٍّ يمارسُ العملية نفسها. وهذا مقتضى قول الله تعالى: (إن الحكمُ إلا لله).
    تلك هي البدهية الشرعية التي لم يدرك بعضُ الناسِ آثارها القانونية في نظام الإسلام. فالحكومات حين تنبذُ مرجعية الإسلام بالقوةِ أو بالتصويت، ثم تحولُ بين الناس وبين الاحتكام إلى دينهم، فالنتيجة سقوط شرعية الحكومة، لا سقوط سيادة الإسلام.
    ولمزيدٍ من التوضيح، دعونا نسأل أصحاب نظرية (سيادة الأمة): حين يأتي التشريع المناقض لدين الله من خلال تصويتٍ نزيهٍ يعبِّرُ عن ذاك الشيء الذي تسمُّونه (سيادة الأمة)، فما موقفكم منه؟
    هم يقولون: سنسعى لإبطاله عبر تصويتٍ آخر. لكن ما موقفهم إذا لم يستطيعوا ذلك. هل سيتركون ما أمرهم الله به، ويلتزمون القانون الناشيء عن (سيادة الأمة)، فينتهكون به الدماء والأعراض والأموال المعصومة ؟

    وإذا كان أحدُهم في موقع السلطة التنفيذية، هل سيُلزِمُ الناسَ بهذا التشريع المناقض لدين الله والمستند إلى (سيادة الأمة)؟
    وإذا كان في موقع القضاء: هل سيقضي بسجن ومعاقبة من اختار دينه، فأطاع الله وعصى القانون الصادر عن مجلسٍ تشريعيٍّ منتخَبٍ يمثِّلُ (سيادة الأمة)؟
    هذه التساؤلات هي ما سيقرِّبُ ويشرحُ الخلل الضخم في فكرة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة). وهذا المعنى هو ما قصدتُ تقريبه في مقالة (مهزلة العقل "التنويري" ).
    مرجعية الشريعة وسيادتها، تعني أن شرعية الأفعال والتصرفات والدول، وحدود الحقوق والالتزامات تقاسُ بالشريعة، وليس بقرار بشرٍ، فرداً كان أو جماعةٍ. مرجعية الشريعة في الدولة المسلمة مادةٌ دستورية أو (فوق دستورية) كتبها الله في كتابه، فلا يغيرها تصويتٌ ولا اقتراعٌ. وتعطيل هذه المادة (بالقوَّةِ أو بالتصويت)، لا يعني أن آثارها القانونية انتهت. فالتشريع الذي يعطلُ عقوبة القصاص من قاتل العمدِ -مثلاً- ويكتفي بسجنِه، لن يكونَ له أثرٌ في إثبات عصمة دماء القتلة. فمتى سقط هذا التشريع، أو سقطت الدولة التي فرضته، وجاءت دولةٌ تلتزم مرجعيَّة الشرع، فحقُّ القصاص ثابتٌ، وليس لأحدٍ أن يقول: إن الجريمة وقعت قبل اعتماد الشريعة مرجعاً. وقس على ذلك سائر الأحكام والتشريعات الإسلامية. فتعطيلها عملياً، لا يعني أن آثارها في عصمة الدماء والأموال وإثبات الحقوق انتهت.

    نقطة أخرى حصل فيها خلطٌ كثيرٌ:

    أصحابُ فكرة (سيادة الأمة) يحسبون أنا إذا قلنا إن على الحاكم المتغلِّب أن يلتزم شرع الله في حكمه، فنحن نمنحه حقَّ اختيار الشريعة أو نبذها، فلذلك صاروا يقترحُون ويقولون: لماذا لا نجعل حقَّ اختيار الشرع ونبذه منوطاً بالأمة بدل أن نجعله لفردٍ متغلبٍ؟!
    ما لم يفهمه هؤلاء: أننا نحنُ حين نطالب المتغلِّب بالتزام شرع الله، فإنما نطلبُ منه التزام أمرٍ واجبٍ عليه ولازمٍ له، ولسنا نخيره كي يحكمَ بدين الله أو ينبذه. فلا يصلح أن يقارَن حالُنا بحالِ من يريدُ إقرار حقِّ رفض مرجعية الإسلام عبر التصويت.
    نحن نقول للمتغلِّب: لا خيار لك سوى الحكم بشرع الله. وإن لم تفعل فلا شرعية لنظامك عندنا. بل إن الشرعية ستكون لمن يقدرُ على خلعك واقتلاعك من كرسيك، ومحاكمتك على جنايتك العُظمى حين حرمتَ المسلمين من الاحتكام لدينهم.
    فهل هذا التصوُّر الشرعيُّ الواضحُ، يماثلُ موقف الآخرين من ذلك الشيء الذي يسمونه (سيادة الأمة)، حين جعلوا له حقَّ اختيار الشريعة، وحقَّ رفضها ووطئها بالأقدام ؟
    هم يريدون مجلساً أو صناديقَ تملك الحقَّ في نبذ دين الإسلامِ، ثم يكون على الناس السمعُ والطاعة، بعدما يرتبون على قرار الصناديق الحقوق والالتزامات.
    فرقٌ كبيرٌ بين من يطالب الحاكمَ المتغلب بالتزام الشرع، وبين من ينصبُ -باختياره- مجلساً تشريعياً أو استفتاءً يملك الحقَّ القانوني في نبذ وإقصاء دين الله بطريقةٍ (حضارية!!).
    حسناً...لقائلٍ أن يقول: لكن هذا الفرد المتغلِّب قد يحكم بالشريعة اليومَ، وينبذها غداً؟
    نرجع لنقول ونكرِّر: ومن قالَ إننا منحناه الحقَّ في ذلك، أو فوضناه فيه...فهل نسيتم أنكم تتحدثون عن (متغلِّب)؟ ... هل تفهمون ما معنى (متغلبٍ)؟
    أنتم تتحدثون عن حاكمٍ فرضَ سلطانه بالقوَّةِ، ولم يكن لأحدٍ خيارٌ في نصبه وتمكينه. فإذا أمَرْناهُ بالتزام شرعِ الله في حكمه وقضائه وتشريعاته، فهل يعني هذا أنا منحناه تفويضاً بنبذ الشريعة متى شاء ؟ هل يمكن لعاقلٍ أن يفكر بهذه الطريقة ؟
    إن قلتم: نريدُ ضمانات تقطع على هذا المتغلِّب السبيل كي لا يجعل الشرع ألعوبةً بيده، فيأخذ به متى شاء، وينبذه متى شاء؟
    مرةً أخرى سنقول: تذكروا أنكم تتحدثون عن (متغلِّبٍ) لا يرى نفسه ملزماً بمطالباتكم. فإن استطعتم إقناعه أو إلزامهُ بضماناتٍ تحفظ شرع الله من عبثه، فنحن معكم، بل سنكون قبلكم في هذا الطريق ... لكن في الواقع أنتم لا تفعلون هذا.
    أنتم لو أطاعكم هذا المتغلِّبُ، فلن تطلبوا منه تصويتاً لتشكيل مجلسٍ يراقب التزامه بشرع الله. بل ستطلبون منه تصويتاً أو مجلساً يملك الحقَّ في نبذ شرع الله!
    أنتم تريدون نقلَ حقَّ العبث بالشرع، من قصر الرئاسة إلى قبة البرلمان!
    أما نحنُ فلو أطاعنا هذا المتغلِّب، أو قدرنا على إلزامه، فسوف ننصبُ فوقه مجلساً يراقب التزامه بالشرع، ويملك حقَّ عزله ومحاسبته لو نبذ مرجعية الإسلامِ ورفض الاحتكام إليه.
    فهل أدركتُم الفرقَ بيننا وبينكم الآن ؟
    نحن مرجعية الشرع لدينا محسومةٌ، وإنما نبحثُ عمَّن يحولها إلى واقعٍ عمليٍّ. أما أنتم فمرجعية الشريعة عندكم محلُّ بحثٍ ونظرٍ، وتصويتٍ واقتراعٍ.
    نحن نريدُ مرجعية الإسلام. وأنتم تريدون مرجعية صناديق الاقتراع.
    نحن نريدُ (كلمةَ الله) هي العليا. وأنتم تريدون (الحرية) هي العليا.
    بكلمةٍ أوضح: أنتم شربتم الكأس الليبرالية دون شعورٍ، فأسكرت عقولكم وقلوبكم، فصرتم تطالبون بحرية (نبذ الشرع)، تحت شعار (المحافظة على الشرع)!

    فإن أردتم برهاناً إضافياً بشرحُ الإشكال لديكم، فاقرأوا معي الفقرة الآتية:
    أنتم تستدلون بآية: (لا إكراه في الدين) كي تسندوا رأيكم في عدم جواز الحكم بشريعة الإسلام دون تصويتٍ واستفتاءٍ. فهلا أخبرتمونا من أين تسرَّب إليكم هذا الفهمُ للآية ؟
    تلك الآيةُ الكريمةُ إنما يستدلُّ بها في هذا الموضع ذاك الليبرالي والعلماني الذي يأبى أن يستندَ نظامُ الدولة لمرجعية دينيةٍ، سواءٌ جاءت هذه المرجعيَّة عبر فردٍ متغلِّبٍ، أو عبر صناديق الاقتراع، لأنه يرى الدين التزاماً شخصياً لا يجوز إقحامه في مرجعيَّة الحكم بأي طريقٍ.
    تلك هي الرؤية الليبرالية العلمانية المعروفة، ومنها انطلق أصحابها في تفسير خاطئ لآية (لا إكراه في الدين)، كي يثبتوا أنه لا يجوز أن يستند نظامُ الحكم لمرجعية دينيةٍ.
    لكن ماذا عنكم أنتم يا من تريدون فرضَ مرجعيةِ الدين عبرَ صناديق الاقتراع ؟ هل يصلح لكم أن يستندَ لمثل هذه الآية ؟
    أصحاب نظرية (سيادة الأمة) متى حصلوا على أغلبية الثلثين مثلاً، ونجحوا في تثبيت مرجعية الشريعة في الدستور، فهم -في النهاية- سوف يُلزِمُون الثلث المتبقي بمرجعية الشريعة الإسلامية. أي أنهم سيمارسون ( الإكراه في الدين )! ولا مفرَّ لهم من هذه الحقيقة إلا أن يراجعوا فهمهم للآية الكريمة، فيكفُّوا عن قراءتها بأعينٍ ليبراليةٍ علمانيةٍ.

    تلك الآية الشريفة لا علاقة لها بنصب الشريعة مرجعيةً لنظام الحكم. فهي إنما تتحدثُ عن إكراه الكافر على اعتناق دين الإسلام. وأما اعتمادُ مرجعية الشرعِ، فليس هذا من الإكراه الممنوع في الآية. ومن أصرَّ على هذا الفهم، فإن عليه ألا يحكم بشريعة الإسلام حتى يحصل على تأييدٍ كليٍّ يبلغ نسبة (100%) من الأصوات! وحتى بعد الحصول على هذه النسبة الخرافية، فليس للقاضي في المحكمة أن ينزل أيَّ عقوبةٍ شرعيةٍ إلا بعد إقناع الجاني بقبُولها، كي لا يمارس عليه الإكراه في الدين باسم سيادة الأمة!
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty سيادةُ الأمةِ بين الحق والضَّلالِ

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:28

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h



    سيادةُ الأمةِ بين الحق والضَّلالِ

    أ .النميري بن محمد الصبار


    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

    الحمدُ لله وحدهُ ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبيَّ بعده ، أمَّا بعدُ :
    فقد نَشَرَ الأخُ الكاتبُ : (عبد الله المالكي) مقالاً له عبر الشبكة العنكبوتية تحت عنوان :(سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) ؛ مِمَّا أثار جدلاً واسعاً في الساحة الفكرية الثقافية ؛ إذ انبرى له مجموعةٌ من الكُتَّابِ : نقداً وتحليلاً وتعقيباً وما إلى ذلك .
    وبعد قراءةٍ فاحصةٍ للمقال المذكورِ ؛ لاح لي أنه-بحقٍّ- جديرٌ بأنْ تُسلَّطَ عليه الأضواءُ : نقداً وتحليلاً ومناقشةً ، وسأنطلقُ في ذلكَ كُلِّه-بعون الله ومدده- من خلالِ المحورينِ الآتيينِ :
    أولهما : بيانُ الأخطاءِ الصادرةِ عن مقالِ الأخ عبد الله ، والتي هي في حقيقةِ الأمر تقع في دائرةِ الأخطاء الجوهرية التي لا يُستهان بها والتي لا يجوزُ غضُّ الطرف عنها بحالٍ من الأحوال .
    الآخر : سيادةُ الأمة بين الحقِّ والضلال : متى تكون سيادة الأمةِ حقًّا معتبراً مكفولاً في إطارِ الشريعة الإسلامية ؟ ومتى تكونُ ضلالاً وعبثاً وبعداً عن الحقِّ والرُّشدِ والسَّداد ؟

    أما الأخطاء الجوهرية التي وقع فيها الكاتب ؛ فهي تتمثَّلُ في خطاءينِ اثنينِ :

    أولهما : الكاتب-هداه الله- احتفى حفاوةً بالغةً بالديمقراطية الغربية ؛ حيثُ قرَّرَ فيما كتبه أنَّ الديمقراطية هي السبيل إلى تحقيق العدالةِ والتنمية والحرية وما تتشَّوفُ إليه الشعوب المضطهدة من القيم الأخلاقية العالية التي ظلَّتْ دهراً طويلاً مُغيَّبةً عنها !!
    والسؤال الكبير الذي يُطرحُ هاهنا :
    أينَ موقع الشريعة الإسلامية من ذلك كُلِّه ؟ وهل غفلَ الكاتبُ أو تغافلَ عن أنَّ تلك القيم الأخلاقية العالية لا يُمكنُ ألبتة أن ترى النور في هذا الظلام الدَّامس من الظلم والاستبداد إلا من خلال شريعة الله ؟
    وإنَّهُ لحقيقُ بي في هذا السِّياقِ أنْ أُنبِّهَ الكاتبَ وكُلَّ قارئٍ على هذه الحقيقة القطعيةُ من خلال إيرادٍ جملة من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة :
    -{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[النحل : 90] .
    - {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد : 25] .
    -{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }[الرحمن : 9] .
    قال الحافظ ابنُ كثير-رحمه الله- في :"تفسيره" : (4/326) : ((أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل)) .
    -قال صلى الله عليه وسلَّمَ : « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » .[ أخرجه البخاري ومسلمٌ واللَّفظ لمسلمٍ] .
    - عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَتْ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ .[أخرجه ابن حبَّان في :"صحيحه" وإسناده قويٌّ] .

    الخطأُ الثاني : جعل الكاتب-هداه الله- سيادة الأمة هي المرجعية العليا في قضية تطبيق الشريعة في حياة الناس وتنزيلها على أرض الواقع ؛ وفي ذلك يقول : ((يعني.. أنه لا يحق لأحد – بعد تحقيق سيادة الأمة – أن يفرض شيئا على هذه الأمة دون الرجوع إلى الاحتكام إلى إرادتها وإلى الدستور الذي اختارته عبر صندوق الاقتراع. فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية.
    وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به)) .
    و هذا الخطأُ سيكونُ الرَّدُّ عليه-بإذن الله- من خلال المحور الثاني-بإذن الله- غيرَ أَنَّ ثمَّتَ إشكاليةً خطيرةً وقع فيها الكاتب في هذا السِّياقِ من حيثُ استدلالُهُ على حريةِ المسلم في اختياره للشريعة من عدمها بجملةٍ منَ الآياتِ القرآنية :
    -{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[يونس : 99] .
    -{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ }[الرعد : 40] .

    ولنا أنْ نَردَّ على هذا الاستدلالِ من وجهينِ :

    أولهما : أنَّ الكاتب-للأسف الشديد- لا يُفرِّق بين حرية المعتقد قبل الدخول في الإسلام ، وبين إلزام المسلم بتعاليم الإسلام وتطبيق الحدود الشرعية على المخالفين من المسلمين . وقد اتخذ من هذه الآيات دليلاً على عدم مشروعية إلزام المسلمين بتعاليم الإسلام وأن الإنسان له الحرية فيما يفعل ويختار .
    وهذا استدلال في غير محله ، لأن هذه الآيات تعطي الإنسان الحرية في اختيار المعتقد من حيثُ البداياتُ ؛ فلهُ أنْ يختارَ ما شاءَ من الأديانِ قبل أن يعتنق الإسلامَ ؛ أمَا وقد دخلَ الإسلامَ ؛ فيجب عليه الإذعانُ لشريعته ؛ كما يجبُ على ولي أمر المسلمين إقامة الحدود على المخالفين من المسلمين وتطبيق شرع الله عليهم.
    الثاني : من العجيب حقًّا أنْ ينتقي الكاتبُ الآيات الدَّالة على حرية المعتقد ، ويتغاضى عن الآيات والأحاديث التي تلزم المسلمين بالإتباع وإقامة شرع الله مثل قوله تعالى : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }[المائدة : 49] .

    المحور الثاني :
    سيادةُ الأمة بين الحقِّ والضلال : متى تكون سيادة الأمةِ حقًّا معتبراً مكفولاً في إطارِ الشريعة الإسلامية ؟ ومتى تكونُ ضلالاً وعبثاً وبعداً عن الحقِّ والرُّشدِ والسَّداد ؟

    الجواب عن هذا أنْ يُقالَ :

    إنَّ سيادة الأمةِ تعتبرُ حقًّا معتبراً مكفولاً في إطارِ الشريعة الإسلامية ؛ إذا كانَ ذلكَ في إطار التشاور معها في اختيار السلطة الحاكمةِ القائمةِ عليها والحقِّ في ترشيح ولِيِّ أمرها دون ضغطٍ أو استبدادٍ ؛ ومِمَّا يدلُّ على ذلكَ ما يلي :
    -قالَ عُمرُ-رضي الله عنه- : (( مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا)) .[ أخرجه البخاري في :"صحيحه" من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما] .
    ولما فوَّض الصحابة عبد الرحمن بن عوف-رضيَ الله عنه- في شأن الخلافةِ بعد مقتلِ عمرَ-رضي الله عنه- أخذَ يطوفُ في الناس لأخذ رأيهم ؛ فقد أخرج الإمام البخاريُّ في :"صحيحه" بسنده : ((أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ قَالَ الْمِسْوَرُ طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَقَالَ أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ ادْعُ لِي عَلِيًّا فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي عُثْمَانَ فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا...)) .
    فهذا نص رواية البخاري وفيها أن عبدالرحمن مكث عدة ليالي، وأن "الناس" وليس طائفة معينة اجتمعوا على عبدالرحمن لتنفيذ الشورى، كما في النص السابق " ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي".
    وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل : (( (أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول "هذا إمام" فهذا معناه)).[منهاج السنة:1/529].
    وقد علّق الإمام ابن تيمية على إمامة أبي بكر وعمر، كلاهما، تعليقاً وضح فيه أن إمامتهما لم تنعقد وتستقر باختيار طائفة معينة ولا بعقد، بل انعقدت واستقرت باختيار ورضا جمهور المسلمين، يقول ابن تيمية عن خلافة أبي بكر-رضي الله عنه-:((ولو قُدِّرَ أنَّ عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة)).[منهاج السنة:1/530].
    فاعتبر ابن تيمية أن انعقاد البيعة لأبي بكر لم يحصل بمجرد بيعة خاصة الصحابة، بل بمبايعة جمهور الصحابة.
    وقال الإمام ابن تيمية أيضاً : ( (وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إماماً لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّرَ أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماماً، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز) .[منهاج السنة:1/530].

    و إذا كانت سيادة الأمة تعني أن تكونَ هي المرجعية العليا في تطبيق الشريعة في حياة الناس وتنزيلها على أرض الواقع ؛ بحيث إذا اختارتِ الأمة ذلك وأرادته كان لها ذلك ؛ وإلا فلا ؛ فهذا هو الضلال بعينه ؛ والفسادُ في أوْجهِ-عياذاً بالله- إذ إِنَّ من أعظم محكمات الإيمان التسليم والخضوع (علماً وعملاً) لشريعة الإسلام في المنشط والمكره، والرضا والغضب، وعدم تقديم أي أمر من الأمور على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والإقرار بهيمنة الشريعة وحاكميتها وتقديمها والقبول بها قولاً وعملاً دون أي شرط أو استثناء هو قاعدة الإيمان وأصله ؛ وإليك جملةً من النصوصِ الدَّالةِ على هذه الحقيقة الكبرى :
    -{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }[المائدة : 48] .
    - {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }[المائدة : 49] .
    - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }[الأحزاب : 36] .
    - {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[النور : 51] .
    - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[الحجرات : 1] .
    - {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الجاثية : 18] .
    -{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[يوسف : 40] .
    - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }[النساء : 65] .
    والله أسألُ أنْ يرزقنا جميعاً الهدايةَ والسَّدادَ-بفضله وكرمهِ- ، وأنْ يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ..
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:33

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h



    سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة

    د. سعد بن مطر العتيبي


    بسم الله الرحمن الرحيم
    سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة [1]

    (1)

    لعلّ من حكمة العليم الحكيم : أنَّ ثمة أخطاء ترتكب ، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة ، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خفت ذكرها بينهم ..
    وكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس ، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري ، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح . وقد دونتُ أمثلة عصرية لذلك في موضع آخر .. نعم كان لها ضحايا .. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه للأصول وحمايتها من نجاة واسعة ، وبقاء الحق متوارثا بصفاء ، ولو خلى الزمان ممن يطبقه .
    ولذلك لا أجدني قلقاً حين يثار شيءُ من هذا القبيل ، لا حباً لإثارته – معاذ الله – ولكن طمعاً في نفع مآله فيما يحدثه من حراك نافع ، إذا ما هبّت له القلوب الحيّة ، فأحيته في النّاس على جميع المستويات .
    يقول جوستاف لوبون : " إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق - تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها " [2].
    ومن ذلك موضوعات تثار - عاطفة حيناً ، ومناكفة أحياناً - دون تمحيص ودراسة ، غاية ما توصف به أنَّها : أفكار وحديث نفس عارض ، وقد يصحبه – في أحسن الأحوال- استدلال لا يخلو من سطحية ، في سياق تقعّر – لا تعمّق - في الطرح ، وتكلف في التقسيم ؛ تسوق من ينساق لها بعيداً عن الأصول والثوابت ، ومن ثمّ تقذف أمامه شبهة لتوهِمه أنَّها قدمت له شيئاً ذا بال !
    والشبهات التي تنطلق ممن لديه ثقافة إسلامية ، لا تكاد تخلو من تلبيس – قد لا يكون مقصودا - بذكر آية أو حديث أو أثر .. ومن هنا ينبغي التعامل معها بمنهج التعامل مع الشبهات ، ومن أصول ذلك : الردّ إلى المحكمات ، وهو ما لخصته في عنوان هذه المقالة المقتضبة ..
    وقبل بضعة عقود ، طُرحت في العالم الإسلامي بضعة أفكار ، ورميت في بحره الطهور الطاهر بضعة أحجار ، كان من بينها : فكرة غربية غريبة يعبّر عنها بمبدأ أو نظرية (سيادة الأمَّة) ؛ زُعِم أنَّها من الإسلام ، وليست منه في شيءٍ !
    وقد تصدَّى لتفنيد هذه الشبهة آنذاك وبعده ، عددٌ من علماء الشريعة ، وأهل السياسة من عربٍ وعجم ، وشرق وغرب ، وأساتذة قانون من أهل الإسلام ؛ في عشرات المصادر ، وما لا أحصي من المراجع ، و المقالات .
    وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله وعفى عنه ، أنَّ جرثومة تسلل تلك الأفكار تكمن في: نزعة " التقليد لدول الغرب (ونحن إنما نعني بداهة بوجه خاص دوله الكبرى) وذلك فيما يتعلق بالمبادئ أو النظريات والمذاهب والأنظمة الدستورية ( أو السياسية) "[3]؛ وبيّن أنَّهم يقلّدون في الظواهر، دون أن يعرفوا الحقائق؛ كما سأشير إن شاء الله.
    وهذه الجرثومة عينها ، هي التي وصفها (شيخ الإسلام) مصطفى صبري رحمه الله بالتطفَّل للأمم ، الذي يورث الوهن في العقيدة !

    (2)

    وإذا ما عدنا إلى أصل الموضوع ، ابتغاء ردّ ومحاكمة مفهوم السيادة إلى الكتاب والسنّة ؛ فإنَّ مما ينبغي بيانه بين يدي ذلك : التفريق بين مسألتين : الأولى : معنى السيادة . والثانية : نظريات السيادة . وفي كلِّ منها مؤلفات عديدة ، ودراسات كثيرة . غير أنَّ الذي يعنينا منها هنا ، هو الأول ، أعني : معنى السيادة .

    فما معنى السيادة ؟ وما الموقف الشرعي من معناها ؟

    وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي –أيضاً- أن نفرق بين مصطلحين دارجين[4] :

    الأول : سيادة الدولة ؛ و الثاني : السيادة في الدولة .

    فسيادة الدولة :
    صفة تنفرد بها السلطة السياسية في نشاطها الداخلي بحيث تكون آمرة على الأفراد والجماعات ؛ والخارجي بحيث تدير علائقها الخارجية دون خضوع لإرادة دولة أخرى، وإن التزمت المواثيق الدولية فبالتزامها . وهذا ظاهر؛ فلكل دولة حرية في ممارسة سلطاتها وعلاقاتها . وليست هذه محل الحديث هنا .

    وأمَّا السيادة في الدولة : فهي التي تعنينا ، وهي محل الحديث في موضوعنا .


    وأول من استخدم مصطلح السيادة هذه في الفكر السياسي الأجنبي المعاصر ، هو المفكّر الفرنسي جان بودان
    Jean Bodin [5] . فقد ألف كتاباً بعنوان : "ستة كتب عن الجمهورية" نشره عام1576م ، عرّف فيه السيادة بأنَّها : " سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدّها القانون " .
    وفي توضيحه لمعنى السيادة ، فرّق بودان بين السيد (صاحب السيادة) وبين الحاكم ؛ " فالسيد أو صاحب السيادة ، هو من كانت سلطته دائمة . أمَّا الحاكم فسلطته مؤقتة ؛ ولذلك فلا يمكن وصفه بأنَّه صاحب السيادة ؛ وإنَّما هو مجرد أمين عليها " [6].

    ومن خصائص السيادة لديه :
    أنَّها مطلقة ، لا تخضع للقانون . وأنَّها تُمكِّن سلطة التقنين من وضع القوانين ، دون موافقة الرعايا [7].

    ومن خصائصها :
    أنَّه لا يمكن أن يفرض عليها أيّ إرادة من قبل إرادة أخرى[8] .

    وممن تحدث عن حقيقة معنى السيادة العميد دوجي
    Duguit فيما عُرف بالقانون الأعلى وسيادة القاعدة القانونية الأعلى . حيث بيّن أنَّها سلطة حاكمة للسلطات . وقد أفاد منه د. عبد الحميد حيث أشار إلى أنَّ السيادة هي : " السلطة العليا التي لا نعرف فيما تنظّم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها " [9] .
    وممن بيّن مفهوم السيادة هوبز ، إذ وضح أنَّها : " سلطة عليا متميزة وسامية ، ليست في القمة بل فوق القمة ، فوق كل الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كلّه ؛ ولهذا السبب فإنَّ هذه السلطة تكون مطلقة ، وبالتالي غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها ، وبدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض " [10] .
    ومع أنَّ بودان بيّن فكرة السيادة ، لكن بيانه لها قد خلا من بيان أساس لهذه السيادة ، ولاسيما مع استبعاده للتأسيس على نظرية التفويض الإلهي في المفهوم الكنسي ، وهو ما جعل فكرة السيادة لديه لا ترقى إلى مستوى النظرية ؛ مما فتح المجال لتدخل غيره في استكمال بناء نظرية السيادة وفق الفلسفة الوضعية [11] ؛ ثم شاع هذا المصطلح في الفكر الديمقراطي بعد كتاب " العقد الاجتماعي" للفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو ، حين شارك في استكمال النظرية وفق فلسفته ؛ فطبق معنى السيادة الوضعي من خلال نظريتي : سيادة الأمّة ، وسيادة الشعب .
    والذي يهمنا هنا كما أسلفت ، هو معنى السيادة وحقيقته المؤثرة في الحكم المتعلق بديننا ونظامنا الإسلامي ، لا بغيره ؛ إذْ هو المعيار والحكم على غيره لا العكس ؛ لأنَّ الشرعي حين يُبيِّن حكم مصطلح ما ، من المصطلحات المحدثة أو الوافدة ، فإنَّه يبحث عن معنى المصطلح وحقيقته ، سواء وجد في الواقع أو لم يوجد ، وهو لا يرهن الحكم باللفظ والنشأة على حساب المعنى ، ولا برؤية من حاول تطبيقه وفق فلسفته .


    وبعبارة أخرى :
    أن يفرق بين البحث في نشأة المصطلح بوصفه مصطلحا بلفظه ومعناه ، فهنا في الأمر سعة . وبين البحث في حقيقة المصطلح ومعناه بغض النظر عن لفظه ونشأته وتاريخه ، وهنا لابد من بيان الحكم الشرعي فيه .

    وعليه فخلاصة القول هنا : أنَّ السيادة في نظرية الدولة ونظام الحكم ، تعني في أصل فكرتها : السلطة العليا المطلقة التي تقيٍّد سلطة الأمّة ، وسلطة الحكومة بسلطاتها ، ومن ثمّ تقيد تبعاً لذلك القواعد القانونية التي يتشكل منها الدستور ، والذي تقوم بوضعه سلطة عليا تمثل المجتمع .

    وممن عرفها بلغة الشرعيين ، الدكتور صلاح الصاوي ، إذ قال :
    " السيادة هي : السلطة العليا المطلقة التي تفرّدت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال " [12] .

    (3)

    وبناء على هذا البيان لحقيقة السيادة الذي خلاصته وجود سلطة عليا مطلقة لا تحكمها سلطة أخرى لا بجانبها ولا أعلى منها ؛ فإنَّنا نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح : تلك حقيقة لا توجد في غير نظام الإسلام ، وهي ظاهرة في نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص ؛ فإنَّه محكوم باتفاق المسلمين بسلطة عليا مطلقة حقا ، تتمثل في : كتاب الله تعالى وسنة رسوله .

    يوضح ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالته العلمية (الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة) حين يبين ذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة :
    الأول : أنَّ السيادة ونظريات السيادة ، لم تستطع تقديم أساسٍ قانونيٍ أعلى للسلطة ، سوء كان ذلك في الفكرة الأولى للسيادة ، أو بعد انتقالها إلى الأمَّة أو الشعب ؛ وهذا ما دفع بعض كبار أساتذة القانون الفرنسيين (دوجي) إلى أن يقرِّر أنَّ فكرة السيادة بمفهومها الحقيقي ، " غير قابلة لأي حلّ بشري ! لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يُفسِّر من الناحية الإنسانية – أن إرادة إنسانية يمكن أن تسمو أو تعلو على إرادة إنسانية أخرى " [13].
    ولهذا يقرّر أستاذ آخر هو (لافاريير) أنَّه : " إذا كانت النية تتجه إلى تقديم السيادة على أنَّها حق في الأمر ، فإنَّه لا يوجد سوى نظرية واحدة منطقية ومقبولة ، وهي : النظرية الدينية ، تلك التي تُقرِّر أنَّ السلطة السياسية ترجع في مصدرها إلى الله ؛ وفي هذه الحالة إذا ما وجد في السيادة عنصر إلهي ، فإنَّ الإرادات البشرية سوف تخضع لقرارات صاحب السيادة ؛ لأنَّ هذه السيادة سوف تكون إعلاناً عن سلطة تعلو سلطة البشر " [14] .

    الثاني : أنَّ سلطة السيادة مطلقة ؛ وهذا يعني أنَّه لا يصح أن ترد عليها قيود ؛ لأنَّ ورود القيود عليها يخالف جوهر النظرية ، ولا تتفق مع طبيعتها كما يقول د. فتحي عبدالكريم، الذي يقول " ولهذا السبب وجدنا أحد كبار المفكرين (جورج سل) يقرر بحق أنّ نظرية السيادة غير مفهومة في ظل شخصية الدولة القانونية التي تحيا في ظل نظام قانوني؛ لأنَّ السيادة تعني قدرة العمل الإرادي المطلق في حين أنَّ الدولة كشخصية قانونية– تعني قدرة العمل الإرادي المحدّد وفق النظام القانوني،ويرى سل أنَّ فكرة السيادة تؤدي إلى هدم فكرة الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون .
    أمَّا طبقاً للنظرية الإسلامية ، فإنَّ السلطة مقيدة بأحكام القرآن والسنة ، والتي تُشكِّل نوعاً سامياً من القانون الدستوري الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي ؛ لأنَّ الأمَّة كلّها لو اجتمعت لا تملك أن تغيّر أو تعدّل فيه . وبذلك كانت دولة الإسلام أول دولة قانونية في التاريخ ، يَخضع فيها الحكّام للقانون ويمارسون سلطانهم وفقاً لقواعد عليا تُقيدهم ولا يستطيعون الخروج عليها " .

    الثالث :
    من حيث ضمانات تقييد السلطة بالسيادة ؛ فإنَّ " نظرية السيادة حسب مفهومها الأصلي الصحيح ، تأبى أي تقييد للسلطة ، ولا تعرفه ، وأنَّ السلطة فيها مطلقة من أيّ قيود ؛ لذلك فإنَّه يكون من المنطقي أن لا تعرف هذه النظرية فكرة الضمانات اللازمة لتقييد السلطة ؛ وبالتالي فلا يمكن القول بوجود أيّة ضمانات لهذا التقييد .
    أمَّا بالنسبة للنظرية الإسلامية ، فإنَّ الوضع مختلف ، ذلك أنَّ رسالة الإسلام لم تكتف بوضع نظام الحكم المقيد ؛ وإنَّما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد ... ولقد رأينا من من دراسة النظرية الإسلامية أنَّ هذه الضمانات على نوعين : يتمثل أولهما في الشورى ، وما تمثله من ضرورة رجوع الحكّام إلى الأمَّة في الأمور الهامّة . ويتمثل الثاني في رقابة الأمّة نفسها على تصرفات الحكّام ، وحقّها في عزلهم إن صدر منهم ما يُبرِّر ذلك "[15] قلت كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه : ( دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ؛ فكان فيما أخذ علينا ، أن بايعنا على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا . وأن لا ننازع الأمر أهله . قال (( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)) ) رواه الشيخان .

    ومن له معرفة بالنظام الإسلامي ، لن يجد معاناة في تحديد حقيقة السيادة العليا في النظام الإسلامي كلِّه بما فيه النظام السياسي ، فما هي إلا تلك التي يعبّر عنها العلماء والمفكرون المسلمون المعاصرون بتعبيرات من مثل :
    مبدأ المشروعية العليا ، و الحاكمية ، و الشرعية العليا ، والحكم بما أنزل الله ؛ ونحوها من التعبيرات المألوفة لدى الشرعيين والمتخصصين ، بل ولدى عموم المسلمين .

    (4)

    ومن هنا فلا غرابة في اتفاق العلماء والباحثين المعاصرين - ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية - على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة ؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية .

    والحقيقة أنَّك عندما تضطر لتوضيح الواضحات، ستجد معاناة تشبه معاناتك عندما تحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها ! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية ؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام ، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها[16] ، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها .

    وهنا أكتفي بعبارات كافية شافية
    - لمريد الحق دون مكابرة - في تأكيد حقيقة أنَّ سيادة الشريعة من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ بعضها للمتقدمين ، وبعضها للمعاصرين .

    فمن عبارات المتقدمين الممزوجة بالاستدلال :
    قول أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- منبها إلى دليل الإجماع هنا في أقوى صوره : " قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس : عربهم وعجمهم ، ملوكهم وزهادهم ، وعلمائهم وعامتهم ؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة ، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين ، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات ؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته .. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... فكيف بمن دونهم ، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام : أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى ؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره ، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل ؟! " [17] .

    ومنها قول ابن القيم رحمه الله : " والصحيح أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة ، فهذا كفر أصغر .
    وإن اعتقد أنَّه غير واجب ، وأنَّه مخيّر فيه مع تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر . وإن جهله و أخطأه ، فهذا مخطئ ، له حكم المخطئين " [18] .

    وقال ابن أبي العز الحنفي : " ... إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنَّه مخير فيه ، أو استهان به بعد تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر " [19] .
    ولاحظ التصريح بنفي التخيير في العبارات السابقة .

    ومن عبارات المعاصرين الممزوجة بالاستدلال : قول الشيخ محمد شلتوت رحمه الله : " العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة ، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة ، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة ، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة ؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس ، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية ، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها ، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس .
    وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة ، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة ، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين .
    وعليه فمن آمن بالعقيدة ، وألغى الشريعة ، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله ، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة " [20] .

    ومن العبارات الأكثر دقة في وصف الواقع بحكم المعاصرة ، قول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله : " هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم (المعلوم من الدين بالضرورة) ، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام ، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها ، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي .
    وهذه الأشياء تمثل الركائز أو (الثوابت) التي تجسّد إجماع الأمَّة ، ووحدتها الفكرية والشعورية والعلمية .
    ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساساً بين المسلمين ، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته!

    وأعتقد أنَّ من هذه الأمور :
    أنَّ الله تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، للتبرك بها ، أو لقراءتها على الموتى ! أو لتعليقها لافتات تزيّن بها الجدران ؛ وإنَّما أنزلها لتُتَّبع وتنفّذ ، وتحكم علاقات الناس ، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر الله ونهيه ، وحكمه وشرعه .
    وكان يكفي هذا القدر عند من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن منهاجا ؛ لأن يقول أمام حكم الله ورسوله : سمعنا وأطعنا ، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة " [21] ؛ ثم سرد جملة من الأدلة التي جعلت لزومية الحكم بما أنزل من الأحكام المعلومة بالضرورة من دين الإسلام تحت عنوان تالٍ: " كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله " .


    -----------------------------
    [1] وضعت هذه المقالة بناء على اقتراح عدد من الإخوة والأخوات ؛ قصد كشف موقف العلماء الشرعيين ممن لهم عناية بالفقه السياسي والسياسة الشرعية، وغيرهم من أهل الشأن - من إشكالية أجنبية مستوردة ألصقت بالإسلام! وهي إشكالية وشبهة ليست بجديدة ؛ بل وجدت منذ عقود فأسقطت في حينها ، لكنها تجدد على نحو ما ، أحيانا تلبيسا ومناكفة من خصوم الشريعة، وأحيانا التباساً من بعض مريديها ، والنتيجة واحدة .
    [2] الأسس العلمية لفلسفة التاريخ،لجوستاف لوبون:17-18(بواسطة:أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث،د.عبد الحميد متولي:248) .
    [3] أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي :248 . وفصَّل القول في ذلك بالمثال في ص: 198 وما بعدها .
    [4] السيادة في الإسلام – بحث مقارن ، د. عارف أبو عيد :25-26 .
    [5] ينظر : نظرية الدولة ، د. محمد كامل عبيد :292 ، بواسطة : مبادئ نظام الحكم في الإسلام ، د. فؤاد محمد النادي :25 ؛ وأصول نظام الحكم في الإسلام ، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد : 108.
    [6] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :85 ؛ و أصول نظام الحكم في الإسلام ، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد : 108.
    [7] المرجع السابق .
    [8] ينظر : السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية : ، د.محمد مفتي و د. سامي صالح الوكيل :13 .
    [9] المرجع السابق ، نقلاً عن : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، لمتولي :29 .
    [10] فكرة السيادة لجاك ماريتان ، المجلة الدولية للتاريخ السياسي الدستوري :13، بواسطة : الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :85 ؛ وينظر: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية : ، د.محمد مفتي و د. سامي صالح الوكيل :16 .
    [11] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :88-89 .
    [12] نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية ، له :14 .
    [13] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :463 .
    [14] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :463 .
    [15] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :464-465 .
    [16] ويمكن أن يراجع فيها – إضافة إلى كتب العقيدة والتفسير والأصول والرسائل والفتاوى لكبار علماء الأمة ومفكريها المؤصلين من السابقين والمعاصرين- بعض الأطروحات العلمية المتخصصة ، ومن أجمعها : الحكم والتحاكم في خطاب الوحي ، ، للشيخ عبدالعزيز مصطفى كامل ، وهو يقع في مجلدين ، من مطبوعات دار طيبة عام 1415 .
    [17] مجموع الفتاوى :11/424 .
    [18] مدارج السالكين :1/365 .
    [19] شرح العقيدة الطحاوي ، لابن أبي العز الحنفي ،تحقيق الشيخ أحمد شاكر ص :304 ط 1418.
    [20] الإسلام عقيد وشريعة :11 .
    [21] من فقه الدولة في الإسلام : 102 .
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:42

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h



    سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية )

    د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
    فإن من أعظم محكمات الإيمان التسليم والخضوع ( علماً وعملاً ) لشريعة الإسلام في المنشط والمكره، والرضا والغضب، وعدم تقديم أي أمر من الأمور على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات:1) ومعنى ذلك أنه لا يقدم على الشريعة أي أمر من الأمور مهما رآه صاحبه أمراً حسناً سواءً كان عقلاً، أو حرية، او أمة أو غير ذلك.

    والإقرار بهيمنة الشريعة وحاكميتها وتقديمها والقبول بها قولاً وعملاً دون أي شرط أو استثناء هو قاعدة الايمان وأصله كما قال تعالى: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)

    ومع وضوح هذه الحقيقة الشرعية وانعقاد الاجماع عليها فقد حاولت التيارات العلمانية والتنويرية الانتقاص من ذلك بجعل السيادة للبشر، وعدم القبول بالشريعة حاكمة بالفعل في حياة الناس إلا بشرط التصويت عليها لتنال الشرعية في التحكيم، ويرون التفريق بين الإيمان بالشريعة اعتقاداً قلبياً، وتحكيمها واقعاً عملياً، وهذا هو الفصل العلماني الشهير بين الدين القلبي الإيماني، والدين العملي الحاكم والمهيمن على حياة الناس، وهي فكرة خارجة عن النسق الاسلامي ومخالفة لإجماع المسلمين ولم تعرف إلا بعد أزمنة الاستعمار على يد العلمانيين.
    ولا يتعارض - حسب التصور العلماني - الاجتماع بين الاعتقاد الشخصي بالحلال والحرام، والتشريع المبدل لأحكام الشريعة، لأن الأول اختيار شخصي، والثاني حق من حقوق الأمة، وعندما تختار الأمة الشريعة فإن شرعية تطبيقها وتحكيمها لم يأت من كونها ربانية الأمر والنهي، وإنما لكونها تحققت فيها السيادة المعتبرة، وهي سيادة الأمة.
    وهذا التصور في غاية التناقض فما هي فائدة اعتقاد الحلال والحرام إذا أقرّ بشرعية تبديله في حال حصول ذلك من الأمة ؟، هذا اعتقاد لا قيمة له لأنه معارض باعتقاد آخر وهو شرعية التبديل إذا تم من خلال الأمة !!.

    مفهوم السيادة

    السيادة في اللغة والاصطلاح مرجعها واحد فهي مأخوذة من السيد وهو المتصرف المطلق، وصاحب الأمر والنهي والذي تعود اليه كافة السلطات الثلاثة، ومنها سلطة التشريع، وقد ظهرت في الفكر الغربي لدى المدرسة القانونية الفرنسية المعبرة عن العقد الاجتماعي كما يراه جان جاك روسو، والسيادة هي المعبرة عن الإرادة العامة عند روسو، وهي السلطة العليا التي لا توجد فوقها ولا تحكمها ولا تهيمن عليها أي سلطة مهما كانت.

    و" سيادة الأمة " في الفكر السياسي المعاصر هو التعبير القانوني للنظام الديمقراطي، فهو الوجه القانونيوالمبرر العقلاني لاستحقاق السلطات، وهو يعطي الأمة أو الشعب السلطة العليا في التشريع، فلا قانون إلا ما اقرته الأمة، وما اتفقت عليه الأمة فهو القانون الشرعي الذي يجب الاذعان له لأنه نابع من سيادة الأمة واستحقاقها للتشريع المطلق.

    وعليه فلو أحلت الأمة حراماً او حرمت حلالاً فهذا ما يجب القبول به، ولا يجوز الخروج عن سيادتها، وبهذا تكون الامة هي صاحبة التشريع والحاكمية لامتلاكها السيادة المطلقة، وبغض النظر عن نوع الاختيار الذي تختاره الأمة، ففكرة السيادة تجعل المرجعية العليا للامة وليس للإسلام والشريعة الربانية.

    وبهذا يتبين ان سيادة الامة تجاوزت اختيار الافراد للحكم كآلية من خلال الانتخاب الى ان اصبحت السلطة العليا التي بيدها السيادة المطلقة ومنها تشريع القوانين، وهذا هو جوهر الفلسفة الديمقراطية التي كان يرفضها بعض التنويريين قديماًلأنها تعطي حق التشريع لغير الله تعالى.

    ومن الخداع والمغالطة تسمية اختيار الناس لمن يحكمهم من خلال الانتخابات " سيادة "، وتقديمها على الشريعة، ثم حكاية كلام من يبيحها على أنه يرى " السيادة للأمة " !!، لأنه يمكن أن يتم اختيار من يحكمهم مع كون الشريعة هي صاحبة السيادة والهيمنة والحاكمية، فالأول عمل اجرائي تنظيمي مجرد له صور مختلفة منها الصحيح ومنها الزائف، أما منازعة سيادة الشريعة وحاكميتها فهو مناقض لأصل الايمان.

    كما ان من المغالطة قول القائل " سيادة الامة بمرجعية الشريعة "، فالسيادة هي المرجعية العليا للسلطات الثلاثة ( التشريعية، والقضائية، والتنفيذية )، فكيف تكون سيادة بمرجعية وهي ذاتها المرجعية ؟! وبهذا يتميز من يجعل المرجعية للشريعة ممن يجعل المرجعية للأمة.

    ومن يجعل السيادة للأمة لا يمانع من الإيمان القلبي والنظري بأحكام الشريعة، ولكنها لا تكون نافذة الا من خلال مرجعية الأمة، وهو يرى أن من حق الامة ان تختار ما تشاء، فهذا حقها وهذه حريتها، وعليه فلو اختارت الامة اباحة المحرمات الظاهرة، وعدم الالتزام بالواجبات الظاهرة فهو حق مشروع لها لأنها صاحبة السيادة، وهذا التأسيس لاستحقاق الامة السيادة المطلقة هو الحكم بالطاغوت لأنه استحلال للمحرمات الظاهرة، وترك الواجبات الظاهرة حتى لو لم يفعلها، وهذا هو الحكم بغير ما انزل الله، واستحلال القوانين الوضعية، وهي الاشكالية الكبرى بين الاسلام والعلمانية في العصر الحديث.
    يقول الدكتور عبدالرزاق السنهوري ( وهو أحد كبار القانونيين العرب، وغير محسوب على التيار السلفي ):" روح التشريع الإسلامي يفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في كل المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم ثم إجماع الأمة" ( فقه الخلافة وتطورها ص 70 )

    سيادة الشريعة وهيمنتها أصل الإسلام

    تأمل قول الله تعالى )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)

    فلو قارنا بين هذه الآية وفكرة تقديم سيادة الأمة على تحكيم الشريعة فإننا سنجد أن دعوى سيادة الامة المقابلة للشريعة هي المعبر عنها في قوله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) وقوله عنهم (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) وهذا يدل على ان من قدم اهواء الناس على شريعة رب العالمين فقد عرض إيمانه للتلف وإسلامه للبطلان.

    فالمناقض لأصل الإسلام أن تكون الشريعة مرهونة بأهواء الناس قبولاًأو رداً، وتكون آراء الناس هي الحاكمة بشرعية النظام الذي يحكمهم، ويقضي بينهم.
    وحاكمية الشريعة و القبول بالإسلام والتسليم له لا يجوز ان تكون مرتهنة لأحد بل وجوب العمل بها متقدم على كافة الحقوق الفطرية والانسانية، وحاجة الانسان إليها أكبر من حاجته إلى الطعام والشراب والهواء.

    وحقيقة الاسلام الاستسلام، والقبول، والتسليم لخبر الله وأمره، ومن جعل تحكيم شريعة الله مشروط بالأمة فهو كمن جعل تصديق خبره مشروط بالأمة، وهذا التعليق يدل على عدم التسليم والتصديق للأمر والخبر.

    يقول أبو حامد الغزالي في المستصفى: " وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ".

    فالغزالي هنا لا يتحدث عن اعتقاد وجوب الواجبات وتحريم المحرمات بل يتحدث عن " نفوذ الحكم " وهو " تطبيق " و " تحكيم " الشريعة، وهذا أمر متقرر عند كافة علماء الإسلام بكل طوائفهم وفرقهم.
    يقول ابن تيمية: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتدا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله – على أحد القولين – " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " ( الفتاوى 3/ 267 )، والنصوص في هذا كثيرة جدا.

    وقد أجمع العلماء على كفر من سوغ وأجاز الخروج على الشرع، ومن قواعد الإسلام الكبرى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، واتفق العلماء على أنه لا طاعة للوالدين إذا كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فكيف يقال بجواز أن يختار الناس ما يحكمون به ولو مخالفاً للشرع حتى ولو كان ذلك أمراً مفترضاً، فالافتراض هو تجويز الشيء إذا وجد وليس بالضرورة أن يوجد.
    وقد أجمع علماء الإسلام على أن الشورى لا تكون إلا في المباحات، أما الواجبات والمحرمات فلا شورى ولا اختيار فيها، وهذا هو مقتضى العبودية كما قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: من الآية36 ) . فكيف تجعل الشريعة كلها بكل واجباتها ومحرماتها لا تحكم حتى تجاز من قبل الأمة، وإذا لم تجز فلا يجوز تطبيقها وتحكيمها ؟!
    يقول ابن كثير: " والآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول "

    سيادة الأمة بين العلمانيين والتنويريين

    لم يعد هناك فرق جوهري بين الفكر العلماني والتنويري حول الموقف من سيادة الشريعة، فالأمر المحوري بينهما أن السيادة ترجع للامة وليست للشريعة، وهي السلطة العليا التي تعود اليها جميع السلطات الثلاث، وبهذا فهي تملك حق التشريع، والجهة المخولة في إصدار القوانين سواءً وافقة الشرع أم خالفته، وهذا يشمل التشريعات الإدارية التنظيمية كما يشمل التشريعات القضائية التي تشمل التشريعات الجنائية والشخصية والمالية وكافة أنواع التشريعات التي تخص الحكم بين الناس، كما تشمل السياسات العامة التي تعود إليها كافة أنشطة الدولة .. وهذه التشريعات صاحب السلطة والسيادة فيها هو الله جل جلاله، وإعطاء الامة حق التشريع فيها هو الحكم بغير ما انزل الله، وهو التحاكمإلى الطاغوت، لأن الحكم لله تعالى، وتحقيقه من العبادة لله تعالى، يقول تعالى: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(يوسف: من الآية40) ، ويقول تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59) ، وهذه النصوص هي في الحكم بين الناس، وليس في العقائد الإيمانية القلبية، وهي في التطبيق للشريعة وليس في اعتقاد الشريعة.

    وقد كان الخلاف مع التنويريين أول الأمر حول آليات الديمقراطية ومدى موافقتها للمقاصد الشرعية، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى المطابقة التامة للعلمانيين في جعل السيادة للأمة وهي الجهة العليا التي تعطي الشرعية للشريعة أو غيرها، وبهذا لم يعد هناك فرق بينهم وبين العلمانيين إلا في الاسم، وهذه نتيجة طبيعية لمن يجعل المفاهيم الوضعية حاكمة على الشريعة ثم يقوم بتحريف الشريعة لتتوافق معها، وهذا مخالف للمنهج الاسلامي الذي يجعل الشريعة هي الحاكمة، ثم يحكم من خلالها على المفاهيم الوضعية، كما انها نتيجة طبيعية لمن جعل زاده الثقافي دراسات العلمانيين العرب، بل يروجها ويبيعها وينصح بها باسم الانفتاح !!
    وقد هالني تمدح بعضهم وافتخاره بالانتقال الجديد في الخطاب التنويري من الكلام حول آليات الديمقراطية الى الجدل حول سيادة الشريعة، وظنه انهم احدثوا نقلة في الخطاب السلفي حسب زعمه، وما درى انها انتكاسة فكرية، وسقوط منهجي، وتحول خطير نحو العلمنة !! فأي فخر للانتقال الى الأسوأ، وأي مدح في الحط من سيادة الشريعة ؟!!

    وهذه المنهجية المنحرفة هي التي جعلت التنويريين ينطلقون من منطلق علماني في اغلب المفاهيم السياسية الجديدة كمفهوم المواطنة، والحرية، والطائفية وغيرها، ففي هذه المفاهيم وغيرها يتم شرحها بما يتطابق مع الفكر العلماني تماما، فالمواطنة هي التعامل مع المكونات المجتمعية على اساس وطني مصلحي وليس على اساس ديني، والحرية هي عدم المنع للاختيارات الشخصية للأفراد ولو كانت محرمات ظاهرة، ويحق للفرد ان يعبر عن رأيه ومعتقده ويدعو اليه ولو كان كفرا صريحا ( حرية المنافقين )، والطائفية هي التعامل مع التيارات الفكرية والفرق المخالفة للسنة من منطلق عقدي، وهذه المفاهيم المنحرفة يجمعها استبعاد المنطلق الديني، وتحجيم المنهج الاسلامي في التعامل الاجتماعي، وجعله اختيارا خاصا لا يتحرك في الحياة ويحكمها، وأخص مكونات الفكر الليبرالي العلماني نزع الالزام في الشريعة الربانية، ولهذا فاخصر تعريف لليبرالية ( منع المنع )، فماذا ابقى هذا التيارللفكر العلماني والليبرالي؟!

    الامة بين اختيار الحاكم والسيادة المطلقة

    يصر بعض التنويريين ممن لم يحدد خياره العلماني بعد على الخلط بين السيادة للأمة المتضمنة لحق التشريع المطلق كما قدمناه، وبين رفض الاستبداد والتغلب والتوريث، فيجعل من يرفض ارجاع تحكيم الشريعة الى موافقة الامة، وعدم استحقاقها للهيمنة على المجتمع الا بعد اجازتها من الامة .. يجعل ذلك في صف الاستبداد والتغلب والتوريث، وهذه مغالطة لان من يجعل اختيار الحاكم حق للامة يجعل - ايضا - الحاكم والامة التي اختارته تحت سيادة الشريعة وحكمها، فالحاكم وكيل ونائب عن الامة في اقامة الدين وتحكيم الشريعة في الناس، ومعيار تحقيقه لمقتضى الوكالة هو التزامه بحكم الشرع في شؤونهم العامة والخاصة، واذا لم يفعل ذلك يجب عزله وفسخ حكمه، وهذه قضية في غاية الوضوح في المنهج الاسلامي، وهي الفارق المنهجي بين دور الامة في المنهج الاسلامي والمنهج العلماني.


    المصدر : مركز التأصيل للدراسات والبحوث
    waell
    waell
    مدير الموقع
    مدير الموقع


    البلد : الشام
    ذكر
    العمر : 64
    صديقة مقربة صديقة مقربة : بنت القدس
    صديقة مقربة صديقة مقربة : لمووووش
    صديقة صديقة : مينيرفا
    إبن عم إبن عم : Dr.abdo
    إبنة عم إبنة عم : ام التوت
    إبنة أخ إبنة أخ : سمورة
    إبنة أخت إبنة أخت : بـ الشام ـــنـت
    أخت أخت : yasmin
    عدد الرسائل : 29437
    العمل/الهواية : بالديكورات واللوحات الشرقية
    تاريخ التسجيل : 27/09/2007
    مستوى النشاط : 65571
    تم شكره : 59
    الجوزاء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة

    مُساهمة من طرف waell الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 5:45

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Syadh-alshre3h


    من سيادة الأمة إلى هيمنة الشريعة

    عبد اللطيف بن عبد الله التويجري


    الحمدُ لله الذي جعل شريعته مهيمنة على كل الشرائع، أمَّا بعد:

    فقد شهدت الساحة الفكرية المحلية هذه الأيام صراعاً مفتعلاً حول مسألة: (سيادة الشريعة)، وهي مسألة أساسية محسومة في النظام السياسي الإسلامي، غبَّرت عليها بعض المقالات التي كتبت مؤخراً في بعض المواقع، صاحَبَها سجالات ما زالت متواصلة إلى الآن عبر الشبكات الاجتماعية، تنبئ عن وجود إشكالات منهجية في العقلية التنويرية حول تقرير مبدأ هيمنة الشريعة وإلزاماتها الشرعية.

    إنَّ من يتابع هذه السجالات يحزن أشد الحزن على الحماس الشديد من بعض المنتسبين للاستنارة في تقرير مثل هذه النظريات والدفاع عنها، وبالمقابل يفرح ويبتهج بشعور عامة طلبة العلم والإسلاميين الرافض لها، وقيام بعضهم في الرَّد والدفاع عن حياض الشريعة.

    وفي تقديري أن هذه الانتقالات المتوالية في الخطاب التنويري غير مستغربة؛ ففي السابق ثاروا على خطاب الصحوة الإصلاحي، ثم صاروا يدعون لأسلمة الديمقراطية، والآن - وللأسف - ينقلون الطوب في بناء الجسر إلى العَلمانية، فاللهم رحماك!

    ومساهمةً في هذه الحوارات جاءت هذه الأُطروحة موضحة بعض القضايا المنهجية التي وقع فيها من كتب في هذا الموضوع مقرراً: (أن سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة)، ولقد انتظمت هذه القضايا في ما يلي:

    تصديرُ الحكم من خلال النظم الديمقراطية:


    من الإشكالات في الطرح التصوري لهذه القضية أنها حاولت التفكير في السياسة الشرعية داخل برلمان الديمقراطية، لا العكس، فعندنا الآن شريعة وقيم ديمقراطية، فبدلاً من أسلمة الديمقراطية (الشعار القديم) أصبح العكس (دَمَقْرَطة) الشريعة، وتطويعها لهذه النظم الديمقراطية، فأُخضِعت الشريعة بكاملها للنظم الديمقراطية، ومن ثمَّ بدأ بعده التكييف الشرعي وحشد النصوص، فخرج هذا الرأي حسب هذه المنظومة (تطبيق الشريعة مقيد بموافقة الأكثرية!) بعد أن كانوا يقولون قبل زمن يسير (خيار الأكثرية مقيد بقطعيات الشريعة).

    من هنا وقع أصل الإشكال؛ حيث أُخضعت الشريعة، وأصبحت هيمنتها وسيادتها تحت نظم هذا النظام، والسؤال البدهي هنا: السيادة أصبحت لمن؟ أصبحت للديمقراطية على حساب الشريعة؛ بحيث خُلط النظام الشرعي مع النظام الديمقراطي، وفي الوقت نفسه سُيِّد الديمقراطي على الشرعي في الاحتكام والتحاكم، فأصبح يسودها بنظمه ويعطلها أو يعملها بآلياته!

    أَعُرِف الآن لماذا انزعج بعض العلماء وطلبة العلم من هذه المقالات؟ لأنها رضيت أن تجعل الديمقراطية مهيمنة على الشريعة، تُخضِعُها للتصويت وتلتزم بنتيجتها، رفضاً أو قبولاً.

    تأمل! بعض الإخوة ذكر أن سيادة الأمة لا يمكن أن تنبثق إلا عبر الاستفتاء وصناديق الاقتراع! والخيار الثاني الذي ذكره مسار التغلب الذي يختاره كثير من المعترضين، وأكثرهم بدون وعي!

    ثم قال - لاحظ الحصر- خياران لا ثالث لهما. بعدها ذكر زبدة المقالة حسب تعبيره مرجحاً أن الأفضل والأضمن لإلزامية الشريعة أن نجعلها مرهونة بإرادة الأمة التي تتم عبر الاستفتاء وصناديق الاقتراع! أي: إمَّا أنكم ترهنون إلزامية الشريعة بالنظام الديمقراطي، وإلا -حتماً- مالكم إلا خيار المتغلب؟! فالأستاذ نظر هنا للشريعة وإلزاماتها بنظارات الديمقراطية الملونة؛ حيث جعلها خاضعة للتصويت أولاً، ثم جعلها قابلة للرفض إن رفضتها الأكثرية ثانياً! وبعدها استبعد جميع الخيارات؛ فلا نظام شوروي ولا نظام سياسي إسلامي راشد ولا شيء.. خياران لا ثالث لهما!!

    هنا يقال بكل وضوح وقبل هذا التقرير: لا يُسلَّم لكم أصلاً إخضاع الشريعة لهذا النظام البشري الذي لم تعترف به الشريعة ولم تقره؛ (هناك حالات واقعية طارئة جاءت ليس للاعتراف به؛ بل للمصلحة وتخفيف الشر، وهذا يحكمه الواقع على حسب الأحوال والأزمنة) لكن لماذا قلنا لا يُسلَّم بذلك؟ لأن هذه التشريعات ليست حقاً لنا أصلاً فهي حق خالص لله، والأمة هنا لا تملك أن تحل حراماً أو تحرم حلالاً أو تبدل شرعاً بإخضاعها للتصويت أو بغيره، فهي مطالبة أصالةً بالتعبد لله بهذا الأمر لتظل الشريعة دائماً هي الحكم، وتظل الربوبية دائماً لله وحده، الذي رضي لنا الإسلام، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). [آل عمران، 85]

    أين العَلمنة في هذه القضية؟


    انحصر الخلاف والنقاش حسب تعبير بعض الإخوة على التصور الآتي: لو أن الأغلبية في بلد مسلم ما رفضوا الشريعة الإسلامية من خلال التصويت، ما حكم فعلهم هذا؟ لا حظ هنا مسلمون يرفضون الشريعة!

    بالله عليكم افتحوا دواوين العقيدة والفقه وانظروا في حكمهم! قبل هذا وذاك ماذا يعني أن يخضع مجتمع مسلم (الشرع المنزَّل) للتصويت من أجل قبوله أو عدمه؟

    أيضاً يأتي التساؤل نفسه عن الحاكم المسلم المأمور بإقامة شرع الله؟ هل يقال له: لا تقم شرع الله وأحكامه لأن إرادة الأمة رفضت ذلك! وهي مقدمة على الالتزام بتطبيق أحكام الإسلام! لا تمنع الربا ولا الخمر ولا الزنا.. لأن إرادة الأمة مخالفة لذلك!

    هنا وقع الإشكال في التقارب مع العَلمنة حيث جُعلت السيادة في مجتمع مسلم للجهة العليا (الأمة) التي تعطي الشرعية - سواء للشريعة أو غيرها – فحيدت (الشريعة) تماماً عن سيادتها وجعل مكانها (الأمة).

    وهنا نص لابن تيمية يبين حساسية هذه المسألة وخطرها حيث يقول: (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نَزَلَ قوله - على أحد القولين - (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)؛ أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله). [مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/ 267]

    هذا الحُكم من ابن تيمية لا يختلف علماء الشريعة فيه، ولذلك ذكر هو هنا اتفاق الفقهاء عليه، وهناك عدد من العلماء ذكر ذلك أيضاً بنصوص أخرى تؤدي إلى المعنى نفسه منهم: ابن حزم وابن القيم والشاطبي وغيرهم.

    إنَّ الذي يتأمل قوله -تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). [الأحزاب، 36] يلحظ أن شعار المفاصلة بارز في هاتين الآيتين بين القبول والرفض، حيث لا خيار، فقد نفى نفياً قاطعاً أي خيار، بل وأي تردد من قبل الحرية الشخصية فخيار (التصويت) منتفي تماماً هنا، بينما نسق العلمانية قد يشترط على الناس التصويت للشريعة وإلزاماتها لجعلها حاكمة ونافذة؛ من أجل أن تنال شرعيتها في التحاكم.

    فالأمر - أيها الإخوة - أخطر بكثير من إعطاء الحرية لهذا الجموع المسلمة لرفض الشريعة أو قبولها.. فالمسألة لها توابع ولوازم كثيرة وخطيرة على مستوى إيمان الفرد والأمة.

    تحقيق المناط في النصوص المُستدل بها:


    هنا صورة أخرى: إذا كان المجتمع كافراً أو أكثريته كافرة ورفضت الشريعة فهذه مسألة مختلفة تماماً عن الأولى مرتبطة بشرط (القدرة والإمكان)كما نص عليه أهل العلم، فمن الخطأ أصلاً افتراض صورة لا يتحقق فيها شرط القدرة والإمكان، ثم يعمم حكمها على مواضع القدرة والإمكان، وعلى الصورة السابقة يردُ بعض كلام العلماء الذين نقل عنهم البعض، وهنا من الخطأ أن تُخضع للنظم الديمقراطية أو الليبرالية بل تخضع لمنهاج سيد المرسلين في سيرته ومنهجه في تفاوت (الضعف والقوة) و (القدرة والعجز) كما يقرِّره علماء الشريعة كابن تيمية بقوله:

    (..وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعلمون في آخر عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة؛ لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام.

    فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأمَّا أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). [الصارم المسلول، 244، دار الكتاب العربي]

    من هذا النص الثمين يتبين أن أكثر النصوص التي اُستدل بها في تقرير هذه المسألة تُنزَّل على الواقع السابق الذي ذكره ابن تيمية، تُنزَّل على واقع المسلم الضعيف أو الأقلية المسلمة الضعيفة في مجتمع كافر. أمَّا في حال القوة فلا خيار ولا إيمان لمن لم يتحاكم إلى شريعة الرحمن.

    بعض الإخوة - مثلاً - استدل على ذلك في حال النجاشي (وأنه كان ملكاً وبيده السلطة والقوة، ومع ذلك لم يُحاول أن يفرض تطبيق الشريعة بالإجبار)! انظر ماذا يقول علماء الشريعة من أمثال ابن تيمية عن هذا التقرير: (وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم.. وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدِّ الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم.. والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها). [منهاج السنة النبوية، 5/111،112،113] أظن أن الأمر هنا أوضح بكثير من التعليق عليه!

    فالمقصود من هذه المسألة أن كثيراً من الآيات التي اُستدل بها لم يتحقق بها مناط الاستدلال؛ بل إن عدداً من المفسرين كالقرطبي وابن الجوزي وغيرهم ذكر أنها آيات مكيَّة نزلت قبل الهجرة، ومن ثمَّ فهي في واقع مجتمعي مختلف عما يراد أن يقرَّر له.

    من وحي السجالات:


    من المقالات التي طرحت ورقة وسمت (بالأجوبة..) على الاعتراضات، ومن خلال قراءتها لم يرَ الباحث فيها أي جواب! بل جاءت متممة لشرح فكرة سابقة، مع حصر الحقائق والإلزام بها، ولمز المخالفين بعدم الاستيعاب والفهم، والأولى مراعاة أصول المناظرة في أخذ اعتراضات المخالفين والإجابة عليها. فهناك أكثر من (8) مقالات كتبت في الموضوع لم يتم نقاشها ولا والإجابة على تساؤلاتها! بل اكتفى الكاتب باللجوء لمخرج "لم يفهمني أحد".

    أيضاً بعض الإخوة ممن كتب أراد أن يقوي وجهته بحشد الأسماء، وبلمحة تذاكٍ جعل المعارضين في وجه المدفع أمام هذه الأسماء، وعند التدقيق لا تسليم بما قال، فهناك مثلاً أقوال للقرضاوي تخالف ما ذكر عنه كما ذكرها بعض المعترضين من المشايخ من مثل: (أحكام الإسلام القطعية لا مجال فيها لشورى ولا يملك برلمان ولا حكومة إلغاء شيء منها لأن ما أثبته الله لا ينفيه الإنسان، وما نفاه الله لا يثبته الإنسان ). [من كتابه فقه الدولة] وكذلك الددو والقرني كلامهما له تفصيل مختلف وفي شأن آخر! وليس المقصود هنا موافقة هؤلاء في الرأي؛ بل المقصود التأكد من مناط القول، إضافةً إلى عدم جعلهم سلطة في الخلاف أو الحوار مع المخالف فهم بحاجة لمن يحتج لهم.

    وبعد؛ فإنَّ هيمنة الشريعة الغرَّاء على شؤون الحياة لا يعنى بها الإيمان القلبي فقط، بل هي هيمنة كاملة على كل شيء لا تقبل التجزء أو الخلط، هيمنة في القلب والعمل والتطبيق، دلَّ عليها قوله - تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). [النساء، 65] حيثُ نفى الإيمان بالشريعة بقسم عظيم (فلا وربك لا يؤمنون) حتى يتم التطبيق (حتى يحكموك)؛ بل جاء الأمر بالزيادة على هذا من خلال كامل التسليم، ومن امتلأ قلبه بذلك فلن يعطي لأحد كائناً من كان - لا فرد ولا أمة ولا مجلس- صلاحية (التشريع) وتحديد المشروعية.

    فإن قال المعترض: أنا أوافق تماماً على هذا الكلام لكنني أريد تطبيق هذه الشريعة من خلال سيادة الأمة التي أخذت مشروعيتها من خلال الصناديق والاقتراع؟

    هنا نقول: أعدت القضية جَذَعة! وفعلك هذا ينافي الهيمنة الكلية للشريعة؛ لأنك وضعت النظام الآخر بآلياته مهيمناً عليها يعطلها تارة، ويعملها تارة، وهذا ميزان لا تقبله الشريعة وينافي أصل ما شُرعت له.

    أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

    هنا أضع القلم. وفي الخاطر أشياء وأشياء، وقد يكفي من الخريطة ما يخص الطريق! اللهمَّ أصلح من في صلاحه صلاحاً لأمة محمد. والسلام.



    عبد اللطيف بن عبد الله التويجري

    ذو الحجة – 1432هـ
    asmaa Al yasin
    asmaa Al yasin
    صديق نشيط
    صديق نشيط


    البلد : الموصل
    انثى
    العمر : 32
    عدد الرسائل : 60
    تاريخ التسجيل : 26/10/2012
    مستوى النشاط : 8519
    تم شكره : 20
    العذراء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty رد: سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    مُساهمة من طرف asmaa Al yasin الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 15:30

    بارك الله فيك لكن من خلال قرأءتي لما نشرته
    كان في بالي سؤال وهو
    أين نحن من السيادة الشرعية وهل حكومتنا التي تحكمنا شرعية ؟
    اذا لم تكن شرعية ؟ أليس من حقنا أن نطالب بشرعيتها ؟؟؟؟؟؟؟


    وشكرا وائل وموضوع جدااااااااااااا مهم

    شكر
    عبد الوهاب الريس
    عبد الوهاب الريس
    المشرف العام


    البلد : مصر
    ذكر
    العمر : 54
    عدد الرسائل : 408
    تاريخ التسجيل : 05/03/2012
    مستوى النشاط : 10299
    تم شكره : 27
    العذراء

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty رد: سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    مُساهمة من طرف عبد الوهاب الريس الثلاثاء 13 نوفمبر 2012 - 13:14

    a6
    ملكة الاحساس
    ملكة الاحساس
    صديق مبدع
    صديق مبدع


    البلد : سوريا
    انثى
    العمر : 50
    صديقة مقربة صديقة مقربة : أم التوت
    صديقة مقربة صديقة مقربة : زهرة النرجس
    عدد الرسائل : 230
    تاريخ التسجيل : 06/11/2012
    مستوى النشاط : 8905
    تم شكره : 20
    العقرب

    سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد Empty رد: سيادة الشريعة / من موقع صيد الفوائد

    مُساهمة من طرف ملكة الاحساس الأربعاء 14 نوفمبر 2012 - 22:17

    تسلم ايدك

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء 7 مايو 2024 - 5:06